الأربعاء، 16 ديسمبر 2020

قِصَّة قَصِيرَة: كِسْرَة فَتَرِيتَة

بقلم/تسنيم طه

  

عندما نهض وأمسك بالطنبور، صفق أصدقائه بحماسٍ، تصفيقًا دفع برؤوس المجموعات المجاورة تلتفت نحوهم.

 مجموعاتٌ متنوعة: رجال ونساء وشباب، جاؤوا إلى "الساحة الخضراء" (التي سيتغير اسمها إلى "ساحة الحرية" لما تنجح الثورة بعد عامٍ ونصف)، ليروحوا أنفسهم في الهواء الطلقِ بعيدًا عن ضيق المنازل والشقق وينسوا همومهم ومعاناتهم بسبب تدهور أحوال البلد، وليتناسوا سوء أوضاع المعيشة وغلاء الأسعار ويتشاغلوا عن قهرهم وربط مصائرهم بارتفاع سعر الدولار، ليكفوا ولو للحظات عن تكرار التذمر والشكوى من انتشار البطالة والفقر وهجرة الشباب هربًا من الوضع الاقتصادي الذي أبى أن يتحسن.

بنظرةٍ خاطفةٍ مسح الوجوه حوله، قبل أن يفتتح الغناء:

"بلادي أنا، بلاد ناسًا في أول شيء، مواريثهم كتاب الله

وخيل مشدود، وسيف مسنون حداه دِرِع

وتقاقيهم تسرج الليل مع الحيران،،، وشيخًا في الخلاوي ورِع"

فامتزج التصفيق والتصفير بحماس جوقة الأصوات المرددة معه " ﺑﻼﺩﻱ أنا، ﻳﺎ ﺑﻼﺩﻱ،،،أﻟﻒ ﺗﺤﻴﺔ ﻟﻴﻜﻲ ﻣﻦ ﺍﻟﻔﺆﺍﺩِ"، ليغمره شعور بالزهو، ذكره بعمه الذي علمه العزف على آلة الطنبور تحت أشجار النخيل على ضفاف النيل، فور أخذه لكافلته وهو طفلٌ في الخامسة، بعد استشهاد والده في مدينة كَبُويْتا، في واحدة من معارك حرب الجنوب الأهلية، أعنف وأطول حروب القرن العشرين، راح ضحيتها قرابة مليوني من المدنيين، ونزوح أكثر من أربعة ملايين.

 تشاغل بحنينه القوي لعمه بالترحم على روحه في سره، مجبرًا نفسه على عدم الانغماس في حنين أقوى لجروف البصل والفاصوليا والبامية ونخلات البلح "البَرَكاوي"، حتى يستطيع التركيز في الغناء والتواجد في اللحظة مع أصدقائه.

 لكن ما أن تغنى بمقطع "والله وكم نخلات تهبهب فوق جروف الساب، وبقرة حلوبة تِتْضَرَّع ولِيها ضَرِع"، حتى عاد يشعر بأنهار الحنين تسيل في روحه جداولًا حتى كاد يغرقه فيضانها عند تذكره لطفولته وذكريات لحظات لهوه مع الثيران أثناء دورانها مع السواقي لرفع المياه من النيل وسقاية جروف القرية، حيث رباه عمه.

وكاد يتوقف عن الغناء، عندما أحس بأنه سيقط صريع الحنين، مع سريان قشعريرة في كامل، ما أن تغنى بمقطع:

وساقيةً تَصَحِّي الليل مع الفّجْراوي،،،يِبْكِي الليل ويِدْلِق في جَداوْلو دَمِع،،، يِخَدِّر في بلادي سلام ".

واحتار هو يحاول فهم سبب تضاعف خفقات قلبه، دون أن يدري أيعزيها لكلمة "سلام" التي أيقظت تلهفه لأن يعم السلام بلاده وتتوقف كل تلك الحروب، أم لقوة حنينه لذكرياته مع عمه، ونخلاته وجروف حقوله ورائحة هبوب الولاية الشمالية.

وفي أثناء بحثه لفهم ما اعتراه من اضطراب، لمحها تنهض بأريحيةٍ وتنتصب كنخلةٍ شامخةٍ في وسط الدائرة، قبل أن تتمايل بثقة وجسم لين كغصن شجرةِ بانٍ، بينما ثغرها الباسم يواصل الترديد مع الأصدقاء:

" خُدُرْةٍ شارْبي مُوية النيل،،،تزرد في البوادي زَرِع"

وتضاعفت ضربات قلبه أثناء تفرسه في وجهها، الذي أعملته مَلاحَتَه بأن صاحبته ليست من طلاب كلية الاقتصاد، ولا بقية كليات جامعة الخرطوم المجاورة لقاعات دراستهم، وإلا لما كانت لتمر من أمامه دون أن يلاحظ سحرها. 

وتناسلت الأسئلة في رأسه عن أصلها وفصلها وقبيلتها. وتمنى أن تكون منحدرة، مثله، من قبال النوبة في الشمال، آملًا أن تفهم وتتقبل مغازلته عندما يعبر لها وقوعه في سحر جمالها بكلمة "آشْرِي"[1]

وأثناء انغماسه في حواره الداخلي لإيجاد مدخلٍ لحوارِ مع فاتنته، انتبه أن العيون تحدق في وجهه باستغراب، وبعض الأصوات تتهامس عن سبب توقفه عن الغناء. فأصدر نحنحة لتساعده على الخروط من ثمالته ليواصل الغناء. لكنه اكتشف أن التمعن في جمال الفتاة المتمايلة بلين قد أنساه أين توقف.

في تلك اللحظة، حلقت قريبًا من سماء الساحة الخضراء، طائرة "طيران الخليج" أثناء استعدادها للهبوط في مطار الخرطوم الدولي، فتلاشت في صخب محركاتها ضجة احتجاجات الأصدقاء على توقف الغناء، فوجدها فرصةً لالتقاط أنفاسه، والميل بتردد نحو فاتنته ليسألها عن اسمها. ولما أجابته بدلال "لمياء"، وسمع الجميع إجابتها بعد ابتعاد الطائرة، ليعيد الحياء اليه ذاكرته المسلوبة، ليستأنف الغناء فتستأنف الليماء رقصها المتمايل.

ومع استئناف أجواء الطرب، وملاحظة انضمام شباب من مجموعةٍ مجاورةٍ، كانوا يناقشون رواية "قواعد العشق الأربعون"، إلى مجموعته، غمره شعور بالفخر لرؤيته لحماسهم ومشاركتهم في الترديد التصفيق بانسجام مع أصدقائه، بينما أعينهم ترمقه بنظرات اعجاب. فواصل الغناء بحماسٍ وزهوٍ متلذذًا في نطق كلمات مقطع: "ﺑﻼﺩﻱ ﺍﻟﺠﻨﺔ ﻟﻠﺸﺎﻓﻮها، أﻭ ﻟﻠﺒﺮﺓ ﺑﻴﻬﺎ ﺳِﻤِﻊ،،،بلاد ناسًا تكرم الضيف".

 لكنه لم يكد يُنهي مقطع: ﻭﺣﺘﻰ ﺍﻟﻄﻴﺮ ﻳﺠﻴﻬﺎ ﺟﻌﺎﻥ،،،وﻣﻦ أﻃﺮﺍﻑ ﺗﻘﻴﻬﺎ شِبِع"، حتى تفاجأ بلكمة قوية أردته ساقطًا أرضًا بجوار طنبوره، ومنعته عن من الرد على صاحب الصوت الجهوري الغاضب:

-        يا زول إنت مجنون؟ كيف تغني لبلادك وتقول إنو الطير يجيها "جعان"، والرغيفة بقت بي جنيه؟ هسة عليك الله إنت لاقي عيش تشبع فيهو عشان تفضل منه للطير؟

ولما أفاق من صدمته وفتح عينيه، وجد اللمياء قد راكعة بجواره على الأرض، تطالع بهلعٍ قطرات الدم السائلة من فمه، لتبقع قميصه الأبيض.

-       أنا من العَصُر قاعد أقنع في الشباب عشان يواصلوا المظاهرات احتجاجًا على حالة الغلاة الضاربة البلد. وتجي إنت بي أغنية غبية زي دي تفسد عليَّ كل حاجة؟

غاب عازف الطنبور في عيني اللمياء البندقيتين وهما تطالعانه بخوف، ليدرك عدم استطاعته تلقين هذا المعتدي درسًا يستحقه في وجود هذه الرقة بجواره.

-       ده منو ده؟ وعندك معاهو شنو؟ تحب ننادي الشرطة؟

وقبل أن يجيب على سؤال الليماء، رأى مجوعة من أصدقائه ينهضون مندفعين نحو بالمعتدي، ليحكموا قبضتهم عليه، قبل أن يسألوه: 

-       تحب نسقيهو من نفس الكأس ونسيح ليك دمه؟ أو ننادي الشرطة؟

بصعوبةٍ، نهض العازف بعد أن التقط طنبوره، ثم أدار بصره برهة بين وجوه الأصدقاء المترقبة لإجابته، ووجه الللمياء الهلع، ووجه الجاني المتوعد، قبل أن يطالبهم بهدوء: 

-        فكوه!

-        كيف يعني نفكو؟ ده سيَّح دمك؟ وعايز تسيبوا يمشي بالبساطة دي؟

تجاهل عازف الطمبور جوقة صرخات أصدقائه المستنكرة، والتفت ناحية فاتنته اللمياء، ليزداد شعوره بالزهو عند ملاحظة تضاعف الهلع في وجهها، زهوًا أنساه آلام فكه، دافعًا به لتوجيه كلامه إلى الجاني بنبرة هادئة:

-       ح نفكك عملاً بنصيحة المسيح: " إذا ضربك أحدهم على خدك الأيمن، فأدر له خدك الأيسر"، وقدورة بسيدنا محمد "ص" وترديده للآية القرآنية: "خذ العفو وأمر بالمعروف وأعرض عن الجاهلين".

فاستشاط الجاني غضبًا، وسعى للفكاك من مطوقيه أثناء زمجرته:  

-       قصدك شنو؟ يعني أنا جاهل؟

لكن الشباب أحكموا قبضتهم عليه أكثر، ليمنعوه من التقدم نحو صديقهم، عازف الطمبور الذي رد على حثهم له القرار في أمر الجاني، بتكرار أمره بأن يفكوه.  فأطاع الأصدقاء مكرهين، تاركين الجاني يفلت قبضاتهم بضجرٍ، ويتقدم بوعيد نحو العازف مصوبًا نحوه نظرات كراهيةٍ قبل أن يهدد: 

-       لو سمعتك تاني تغني الأغنية ح أكسر ليك رأسك. فاهم؟

ولم تكد تمر لحظات، بعد ابتعاد الجاني الغاضب، حتى استعاد عازف الطمبور وقفته الواثقة محتضنًا طنبوره بذراعه اليسرى، قبل أن تستعيد أنامله اللعب على آلته بسلاسةٍ، تمهيدًا لاستعادة أجواء الطرب.

-       ما خايف يجي يكسر ليك رأسك؟، سألته اللمياء بقلق.

-       ما تخافي! أنا عارفه كويس، ده من شُلَّة المتقمصين لدور "تشي جيفارا"، وأغلبهم حاليًا يتلظون بنيران الزنازين في السجون، أجابها بكل هدوء.    

ولما رمقته بنظرةٍ مرتابة، اتسعت ابتسامته قبل أن يطالبها بدلال:

-         يلا نواصل غناءنا، وليك عليَّ أعزمك على العشاء!

فطال صمتها، فتردد ثم انحنى ناحيتها ليهمس شارحًا بأنه بعد تفاقم أزمة دقيق القمح وشحيح الخبز في المخابز، أرجعتهم أمه إلى أيام حياتهم القديمة في الريف، فعادوا يستمتعون بأكل "كِسرة الفَتَريتة".  ولما لاحظ التماع عيني الفاتنة وهي تصغي إليه وهي يسترسل في ذكريات طفولته في الولاية الشمالية، أضاف بفخرٍ ليؤكد لها أن والدته ستكون في قمة السعادة أن تَعُوسْ[2] لهما هذا المساء كسرة لتقدم لهما وجبة مفيدة من لدقيق الذرة الأحمر، إن وافقت على دعوته على العشاء معها في البيت. فوضعت الليماء يدها على فمها خجلًا، واستنكرت في سرها أن يدعوها من أول يوم تعارف إلى بيتهم ليقدمها لوالدته. وعندما طال صمتها، عمد لطمأنتها:

-       صدقيني "كِسرة الفَتَريتة" طعمها حلو.

وقد كان يظن أنها من بنات العاصمة المرتاحات، اللواتي تربين على أكل الخبز الأبيض الآلي المخبوز بالدقيق الأسترالي، ومعجنات البيتزا والحلويات الشرقية والغربية. ولما أخبرته بأنها هي أيضًا عاشت في الولاية الشمالية، وخبرت "كِسرة الفَتَريتة"، كما خبرت مثله، ركوب الحمير، واللعب بالطين والركض بين الجروف، وصيد اليرقات قرب حقول الذرة الشامية والفاصوليا والبصل، لم تسعه الفرحة، هتف بسعادة: 

-       يلا نواصل الغناء، وأوعدك ح تأكلي الليلة لمن تشبعي.

فابتسمت الليماء بسخاء، ثم أجابته بدلالٍ:

-       أكيد ح أشبع طال ما ح اقابل أمك.  وبعدين الفَتَريتة مالها؟ أهو نعمل "ريجيم" ونوفر قروش العيش الغالي المعدوم من الأفران.

تسنيم

باريس/ 16يناير 2018

**-**

اللوحة:  للفنان التشكيلي السوداني طارق نصر عثمان


[1]  كلمة "آشْرِي" تعني جميل باللغة النوبية الحلفاوية.

[2] العُواسة هي عملية (صُنع) الكِسْرَة (أشهر الأكلات الشعبية في السودان)، ويطلق على المرأة التي تصنع الكسرة "عَوَّاسة".

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق