بقلم / ليلى
أبو العلا
ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
أفضى ذلك
التَضَاؤُل والانكماش للعيش حياة مُتَوَاضِعة، بل فاشلة في الواقع. فتحت بابا سريا
على ما خلت أنه أقل مني قدرا. بالوعة من الجريمة المريرة المسعورة. كان خطيبي قد
أعتقل الشهر المنصرم بتهمة غسيل الأموال. لا أعلم عن ذلك الأمر… ليست لدي أدنى
فكرة عنه. قال لي الناس إنه من حسن حظك أنك لم تعتقلي معه. لم يشغلوا أنفسهم بحال
قلبي.
ولما انفصلت عنه، دأبت أمي على أن تبعث لي بخُطَّاب بديلين. من
الأسهل لي أن أقابلهم هنا في لندن. في “أبو ظبي” لا بد أن يكون معنا شخص ثالث، أو
على الأقل نتظاهر بذلك. هنا يمكنني أن أقابله بمفردي. هنا كل شيء أسرع: من اللقاء
المُحْرَج الأول، إلى معرفة حقيقة الشخص رغم قشرة المظهر الكاذب، ورعاية شرارة (الحب)،
وإيقاف مشروع قبل أن يعلن رسميا. مسموح لنا هنا ببداية أكثر خصوصية وحيويةً.
صحوت على
رَنَّة رسالة قصيرة منها. وتحدثت معها عن طريق (اسكايب) وأنا أتناول خبزي المحمص.
كان توقيتها متقدما على الوقت عندي بثلاث ساعات، وكان واضحا أنها في مزاج مرح.
قالت لي: “بعد تجربتنا التراجيدية الأخيرة، يجب أن نلزم العائلات التي نعرفها.”
كان لطيفا منها أن تستخدم كلمة (تجربتنا) لتضم نفسها لي في الذل
والمهانة التي حاقت بي. غير أن ذلك من الممكن أن يكون مجرد خُدْعَة من جانبها
لتليين موقفي. أعرف حيلها جيدا.
واصلت الحديث في ثقة: “أتذكرين هشام، ولد دكتور سعاد؟ لا بد أنك
تتذكرينه منذ ذلك الوقت الذي التقيت به في الإسكندرية. كم كان عمرك وقتها؟13 أو 14
سنة؟ أعطيته رقمك. هو في لندن لعدة أيام فقط. لا بد أن تلتقي به.”
عاد بي
عقلي لعقدين من الزمان إلى صورة هشام … شاب نحيل يرتدي زي سباحة داكن الزرقة. كان
يردد وهو يزيح قطعا من الأعشاب البحرية: “هذا يمكن أن يؤكل! هذا يمكن أن يؤكل!”.
ولم يشاركه أحد في إثارته تلك. وكنت أعرف وأنا في الرابعة عشر من العمر شيئا عن
الوله والتعلق. وكنت أعرف من يعجبني ومن لا يعجبني. وفي تلك السن قيمت هشام هذا
وخلصت إلى أنه ليس من نوعي ولا يناسبني.
قلت لأمي: “أنا مشغولة.”
“أنت في الرابعة والثلاثين.”
“ثلاثة وثلاثين.” عيد ميلادي سيكون في نوفمبر.
تغير مزاجها. قالت لي: ” بعد قليل من السنوات سوف لن يكون
الموقف مزحة.”
كنت قد
سمعت تلك القصة مرارا وتكررا. تطير السنوات، وتقل الخصوبة. كم صرت أكثر استقرارا
في حياتي، وكم صرت لا أرى أن هنالك رجلا مثاليا.
سألتها: ” وما هي الخدعة مع هذا؟”. كنت أجد عيبا ما
في كل الخُطَّاب. فأول خاطب بعثت به كان قصيرا جدا، والثاني لا يتحدث معي إلا
ليقول لي إنه يكره لندن. أما الثالث فلا بد أن يكون جيدا – فرقم ثلاثة رقم جيد،
على كل حال. ولكنه أعترف لي بأن عائلته هي من ضغطت عليه ليقابلني، رغم أنه في
الواقع يحب فتاة أخرى. وكان في الرابع غلو مفرط في التدين.
تنهدت
أمي وقالت: “العَرْقَلَة منك. أنت العائق الوحيد.”
****
اِتَّصَلَ
بي هاتفيا وأنا أدلف لهايد بارك. قبل أن أبدأ رياضة الرَكْض التي أمارسها بعد
العمل، وأشرع في التنفس بشدة. اليوم مشمس. تَبَطَّحت الفتيات على العشب، وبدأ
دِمام شفاههن يسيل من حر الشمس. خطوت عبر أجهزة الراديو والسي دي المحمولة،
والكلاب ذات الرائحة الكريهة، والآيس كريم الفاتر الذي يقدم للأطفال. أخبرني هشام
إنه يقيم بفندق في بيز ووتر، وإنه قد ترك وظيفته في إحدى منظمات المجتمع المدني
العاملة في دارفور بعد أن قضى فيها 18 شهرا. وسيسافر بالقطار لأدنبرا بعد أيام
قليلة لزيارة شقيقه الذي يدرس هناك.
قلت له: ” أنا في المساء أعطي دروسا خاصة في اللغة العربية. قد
تعجب من كثرة الطلب على تعلم العربية. يدفعون جيدا ليتعلموها!”
رد ضاحكا
بأن هذا أمر جيد ومثير للاهتمام. وقفت ساكنة في مكاني وأنا أنظر للمُنْتَزَه. صبي
عربي بدين يلهث وهو يلعب في حفرة رملية، تراقبه مربيته الفلبينية وهي تضع يديها
النحيلتين على وركيها. كانت وظيفتها هذه قد أخذتها من بلادها الشديدة الخضرة عبر
الدوحة أو البحرين. غير أنها ستسير الآن فوق عشب لندن المُرْهَق. وستغدو في صور
العطلة ومقاطع وفيديوهاتها زهرةً أجنبية غريبة في خلفية المشهد.
قال لي:
“أسفت عندما سمعت بخبر فسخ خطوبتك.”
أجبته
بالهمهمة بشيء ما.
بدا صوت
هشام يبتعد وكأنه ينظر بعيدا وهو يقول لي: “يمكن أن تضيق الحياة بسبب الحاجة
للمال. غير أن بعض الناس ليس لديهم مُثل وأخلاق، أو حتى ضبط للنفس.”
كان آخر
ما أود مناقشته هو أمر خطيبي السابق. لذا حاولت أن أجعل صوتي أقل حدةً وأنا أقول
له: “لقد صرت فيلسوفا يا هشام.”
“نعم.
وأعجب من “خط ميترو الأنفاق الدائري”، وكل الأشياء التي تعطى أسماءً غير دقيقة.”
“معذرة؟
ماذا تقصد؟”
” في
ميترو الأنفاق. أخذت الخط الدائري، ولم يرجعني إلى المحطة التي بدأت منها. يبدو أن
القطارات لم تعد تكمل الدائرة، بل تسير لنصف دائرة فقط، وهنالك الآن في الواقع
خطين.”
تذكرت الآن الغرابة التي لمستها عند هشام. فكان أحيانا يبدو
عبقريا غريب الأطوار، وفي أحيان أخرى يكون مفعما بالعاطفة. وكان يقوم أحيانا، في
جدية تامة، بذكر معلومات أو ترديد أشياء لا بد أنه قرأها في مكان ما، أو تذكرها من
التلفزيون. فيقول مثلا دون مناسبة “الميرلين هو نوع من الصقور” أو “نهر النيل هو
أطول الأنهار في العالم” و”الأعشاب البحرية تؤكل.”
والآن يريدني أن أريه معالم لندن.
اتفقنا
على اللقاء في اليوم التالي. ربما لن يكون يوما حارا مثل اليوم. في مثل هذا اليوم
الحار أشتاق أكثر شيء لابي ظبي. أفتقد تلك المولات الضخمة وهبات النسيم البارد
الآتية من المكيفات الضخمة. هنا تبدو شمس الإمبراطورية الآن وكأنها أتت لتزور
المدينة وتعبر عن احترامها وتقديرها لها. وتفيض لندن وتتضخم بأعداد مهولة من
السائحين تحملهم إليها مئات الطائرات. سُيّاح لهم شهية عالية، ونقود كثيرة،
ولعابهم يسيل وأعينهم تتسع من الدهشة.
سمعت أماً تقول مغمغمة: ” يا للأجانب الأوغاد … كل صيف لعين!”
بعد أندفع عدد كبير من السواح نحو الحافلة في شارع أكسفورد وأزاحوها هي وبنتها من
باب الحافلة.
كانت الحافلة مليئة بالنساء. نساء يدفعن عربات الأطفال ونساء
عجائز صغيرات الحجم يرتعشن. وطالبات مدارس حالمات يعاكسهن بعض الشباب
المُتَنَمِّرٌين. والحافلات الحمراء البطيئة مبجلة مكرمة كما الملكة.
مدينة
تتميز بكرم لا مثيل له في الاستيعاب: استيعاب نساء كبيرات في عباءاتهن السوداء
وحجاب أوجههن وهن يقمن بزيارة الأطباء الأخصائيين في شارع هارلي، ومراهقين
مُشَاكِسين يبحثون في متحف مدام توسو عن بعض ما يلهيهم ويسليهم. وذهب مصر القديمة
يرقد باردا في متحف. والتنس في ويمبلدون، والحَمَامُ في ميدان الطرف الأغر.
والانصاف، وإلزام النفس بفعل ما يصلح من الأشياء والأحوال ولو قليلا بطريقة بسيطة
ما. وتحت “قوس الرخام / ماربل آرش” أحس بثِّقَل التاريخ.
وترى في
الشوارع حلقات الأنف، وضفائر الشعر المجدل، وحليقي الرؤوس، ودبابيس محفورة خلال
الحاجب، ورجلا يرتدي ملابس نسائية، وكلبا أُلبس ملابس رجل، ولافتة مرفوعة عاليا
مكتوب عليها “المسيح عائد”.
ولكنها
أيضا مدينة صَرْعَات الأزياء. يبدو السواد الأعظم من سكان المدينة حسني المظهر.
يهتمون بالشعر والملابس الجديدة، فاللندنيين يبذلون مجهودا، ويولون صفحات المجلات
الصقيلة الأوراق كامل ثقتهم. إما هذا أو الساري والعمائم: والنيجيريات في ملابس
الجنة الخضراء وأغطية الرأس الضخمة التي لا تستطيع سواهن حملها.
وفي
الأسفل كان الطّقْسُ في محطة قطار الأنفاق أكثر دفئا. يا ترى ما هو شكل هشام الآن
بعد مرور كل تلك الأعوام. تعجبت من كوني لم أبحث عنه في الفيس بوك. خط اليوبيل ثم
خط العاصمة (ميتروبولتان). كريستال بلاس وماربل آرش. وماذا أقول له عن الخط
الدائري، وكيف أن “سيرك أكسفورد” ليس بسيرك؟
لا يمكنه
أن يعرف لندن حقا حتى يعيش فيها في فصل الشتاء، بضبابه، والقفازات، وأضواء عيد
الميلاد. وهنالك أيضا الأسرار المخبوءة تحت تلك المعاطف السوداء والأشجار
العارية من الأوراق، وخطوط الدخان المنبعث من الأنفاس وأضواء الشارع. ومن المهم
أيضا تذكر أن ليس كل من يتحدث أو يقف في “ركن المتحدثين” هو مخبول. ليس كل فرد
هناك.
غمرتني
فجأة مشاعر حنين لزج عندما وقعت عيني عليه لأول مرة. كتفاه الآن أعرض، وشعره أقصر.
ولبرهة قليلة تاقت نفسي لجنون سنوات صبانا الباكر، وسَفْعَة الشمس، وأزياء السباحة
التي تثير في أجسامنا حكة، وتلاطم أمواج البحر، وآباءنا وأمهاتنا في الخلفية
يتسامرون ويضحكون. يا ترى ماذا سيكون حالي إن لم أرزق أبدا بأطفال؟
نُشر في موقع الراكوبة، بتاريخ 16 أكتوبر، 2019
لقراءة القصة من مصدرها:
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق