الاثنين، 12 مايو 2025

مراجعة كتاب: مهندسو الفوضى

 بقلم / تسنيم طه 


"مهندسو الفوضى"، للمؤلف "جوليانو دا إمبولي"، من الكتب التي أحدثت ضجة في الوسط الفرنسي، عبر منصات الاعلام، وبين القراء في منصات مراجعة الكتب وخاصة منصتي "Goodreads " و"Babilio".

صدر الكتاب في نسخته الفرنسية عام 2019، عن دار" JC Lattès "،  في 250 صفحة، مركزًا على مواضيع الشعبوية والاتصال السياسي، والبيانات الضخمة ووسائل التواصل الاجتماعي، والديمقراطية والتلاعب بالشعوب.

في هذا الكتاب التحليلي الحاد، يفك جوليانو دا إمبولي"  شفرة صعود الشعبوية من خلال شخصيات غير معروفة ولكنها مؤثرة، ساهمت في صعود زعماء مثل دونالد ترامب، ماتيو سالفيني، جايير بولسونارو، وكذلك مهندسي البريكسيت. ويطلق المؤلف على هؤلاء الاستراتيجيين اسم "مهندسو الفوضى"، والذين يقصد بهم خبراء التلاعب الإعلامي ومشايخ الخوارزميات وخبراء علم البيانات، الذين يتلاعبون بالعواطف الشعبية، وخاصة المخاوف من خلال استغلال الأدوات الرقمية. 

كما يستعرض الكاتب هيكل وأساليب حركة الخمس نجوم الإيطالية، التي أسسها جيانروبرتو كازاليجو وبيبّي غريلو، والتي يعتبرها بمثابة مختبر للشعبوية الرقمية.

في أطروحته، يوضح المؤلف أن الشعبوية المعاصرة ليست عفوية ولا غير عقلانية، بل يتم تنظيمها بشكل منهجي من قبل تقنيي المعلومات الذين يتقنون آليات التأثير النفسي والسردي والتكنولوجي في المجتمعات الرقمية.

يبدأ الكتاب بمقدمة تحمل عنوان "الكرنفال"، حيث يعقد فيها المؤلف مقارنة بين الكرنفال التخريبي القديم والمناخ السياسي الحالي حيث تنقلب الأدوار، وتتحول الاحتفالية إلى أسلوب حكم.

ثم تتالى الفصول، لتقدم بورتريهات تعريفية لأشهر مهندسو الفوضى، وهم:  ستيف بانون (الولايات المتحدة): منظّر ترامب، ومؤسس "أممية شعبوية".... دومينيك كامينغز (المملكة المتحدة): العقل المدبر لحملة البريكسيت، ومستخدم استراتيجي للبيانات....جيانروبرتو كازاليجو (إيطاليا): مهندس حركة الخمس نجوم، ورائد مفهوم "الحزب-الخوارزم".... ميلو يانوبولوس وآرثر فينكلشتاين: شخصيات استفزازية ومهندسو سرديات متمردة.

وتقدم هذه الفصول تحليلًا نقديًا يوضح الدور المركزي للعواطف في الاتصال السياسي، تلاشي الانقسام بين اليمين واليسار لصالح ثنائية "الشعب مقابل النخب"، وازدواجية الديمقراطية الرقمية، وأخيرًا وعود المشاركة مقابل التلاعب الخوارزمي.

وقد تعرض المؤلف لتطوير مفاهيم رئيسية مثل الشعبوية التكنولوجية (تحالف بين التكنولوجيا الرقمية والخطاب الشعبوي)، وسياسة "الإعجاب" (هيمنة معايير التفاعل العاطفي على الأفكار والمحتوى السياسي)، والسرد مقابل الحقيقة (أولوية تماسك السرد على حساب صحة الوقائع (مثال: الأخبار الكاذبة تُعتبر دليلاً على الأصالة)، وأخيرًا تفكيك الوساطة التقليدي (وسائل التواصل الاجتماعي تلغي دور الوسطاء التقليديين مثل الصحفيين، الأحزاب، والخبراء).

امتلك الكتاب نقاط قوة عديدة، منها أسلوب التقديم وسلاسة اللغة ووضح الأفكار، وقدرته الفائقة على تلخيص حركات سياسية وتكنولوجية واسعة ومعقدة، مما أعطاه طابعًا توثيقيًا دقيقًا وأصيلًا. لكن رغم  هذه المميزات، أرى أن الكاتب انتهج نهجًا تشاؤميًا في الطرح بطريقة قدرية لم يعرض فيها سبل المقاومة. كما أنه لم يُعالج بشكل كافٍ دور المواطنين أنفسهم بطرحه للسؤال المهم: هل هم فعلًا مجرد ضحايا للتلاعب؟

الكتاب جذاب ومرعب في آن معًا؛ لأنه يكشف عن كواليس ثورة سياسية تغذيها التكنولوجيا الرقمية. تحليل دا إمبولي ذو صلة ويثير الضوء على العديد من القضايا، خصوصًا في زمن أصبحت فيه الأخبار الكاذبة والمعلومات المضللة تشكل بشكل متزايد النقاش العام.

يُعتبر هذا الكتاب مهمًا لكل من يسعى لفهم العصر الجديد للسياسة الرقمية، من خلال تفكيك المؤلف للسرديات التبسيطية حول الشعبويين، موضحًا أنهم ليسوا نتاج «عصر اللاعقلانية»، بل نتيجة لهندسة محكمة خفية، قوية وفعالة.

فمن خلاله تمكن جوليانو دا إمبولي من إظهار كيف أن العصر الرقمي قد أتاح شكلًا جديدًا من الشعبوية، يعتمد على التلاعب العاطفي وتجزئة الآراء، موضحًا أن هؤلاء الاستراتيجيين لم تنبأوا فقط بالتغيرات الاجتماعية والتكنولوجية، بل تمكنوا أيضًا من الاستفادة منها لإعادة تشكيل اللعبة السياسية. مقارنته للكرنفال، حيث يتم عكس النظام الاجتماعي، ساهمت في فهم الديناميكية التخريبية للشعبوية الحديثة بشكل أفضل.

 

 نبذة عن المؤلف:





  

  نبذة عن المؤلف:

ولد جوليانو دا إمبولي- Giuliano da Empoli ، في عام 1973 في ضاحية نويي-سيوغ سين، الباريسية. وهو كاتب ومثقف ومستشار سياسي إيطالي-سويسري، ورئيس مؤسسة "فولتا"، وهي مجموعة تفكير مقرها ميلانو، ويُدرّس في معهد العلوم السياسية في باريس. عُرف بأعماله حول السياسة الرقمية، والشعبوية والتحولات المعاصرة في المجتمع في عصر التكنولوجيا، يكتب بالفرنسية والإيطالية.  

ومن أشهر مؤلفاته باللغة الفرنسية:

  مهندسو الفوضى (2019)

يستعرض هذا الكتاب صعود الشعبوية في العصر الرقمي، من خلال تحليل الشخصيات الرئيسية التي تقوم بالتلاعب بالجماهير عبر التقنيات الحديثة، ووسائل التواصل الاجتماعي، والبيانات الضخمة.

 غزو السلطة غير المرئية (2023)

في هذا الكتاب، يواصل المؤلف استكشاف تأثير التقنيات الحديثة على السياسة، خاصة كيفية استخدامها لتشكيل الحركات الشعبوية والتلاعب بالرأي العام.

  ساحر الكرملين (2022)

في هذا الرواية، يروي قصة خيالية لخبير استراتيجي روسي رفيع المستوى، الذي من خلال اتقانه للتقنيات الحديثة وتلاعبه بالرأي العام، يلعب دورًا رئيسيًا في الحفاظ على سلطة فلاديمير بوتين. يستعرض الكتاب كواليس السياسة الروسية المعاصرة ويسلط الضوء على كيفية تأثير التلاعب الرقمي وإدارة المعلومات في الساحة السياسية الدولية. هذا العمل، الذي يمزج بين الخيال والتحليل السياسي، لقي استقبالًا نقديًا إيجابيًا بسبب عمقه وإضاءته على السياسة الحديثة.

  تُرجمت روايته " ساحر الكرملينإلى اللغة العربية بواسطة الكاتب والمترجم المغربي "عبد المجيد سباطة، ونشرت عن المركز الثقافي العربي.






ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق