السبت، 7 يونيو 2025

صُقُورُ الجِدْيَانِ واللَّقَب (فَصْلٌ مِنْ رِواية)

بقلم/تسنيم طه 

مسودة التهجير...أو الشتات

الخرطوم-فبراير 1970

 كنتُ أعلم أن رغباتي الانتقامية ليست منطقية؛ ليس لأن اغتيالي لرئيسٍ سابقٍ سيجعلني -إن نجوتُ من الشنق في ميدان عام-أقضي بقية حياتي متعفنًا داخل زنزانة في سجن "كُوبَر"، ولكن لأن قتله لن يداوي جراح أرواحنا وقلوبنا العليلة. ولكن غضبي من "عَبُّود" كان عظيما، رغم أن عهده قد ولى، وجاء رئيس جديد فرحنا به رغم وصوله للسلطة بانقلاب عسكري على حكومة مدنية منتخبة.

فرحنا بنِميري لأنه نوبي، وتعشمنا فيه أن يعوضنا حقوقنا الضائعة. لكن عشمنا الكبير، لم يُنسنا حزننا على ترك "وادي حَلْفَا"، ومعاناة صعوبة الاندماج مع سكان أرض "البُطَانة"، بسب اختلاف ثقافتهم وعاداتهم وتقاليدهم عنَّا: ينهبون ويسرقون، فأجبرونا على اغلاق أبواب بيوتنا التي كنا نتركها مفتوحة حتى الصباح في "وادي حَلْفَا"، ومناخهم الممطر أغلب أوقات السنة عديم الصلة بمناخنا الجاف في الشمال نادر الأمطار، أرعبنا بكثرة رعوده وبروقه وصواعقه.

 فقد كان والدي، عندما ترسل السماء صواعقها في موسم الامطار الطويل، يهرب من فزعه بالاحتباء تحت السرير. والأدهى وأمر، ذلك التأثير السلبي الذي سيدفع البعض صحته بل حياته ثمنًا له، بسبب مواد بناء مسرطنة دخلت في صنع أسقف المنازل التي هُجرنا إليها، ومنهم والدي، كما افترض الطبيب في الخرطوم. ربما أخطأ الطبيب التقدير، وأن سبب مرض والدي وتدهور صحته هو مجرد انسدادات في مجاري الطاقة الداخلية أنتجت ذلك الورم، عند تفاقم أحزانه على أمي التي فارقتنا قبل التهجير، وكأنها قررت أن تدفن بجوار والديها في أرض ستطمرها المياه، ليظل أبي يبكيها ليل نهار وهو يعانق شاهد قبرها وحفنة التراب التي ظل يشمها إلى آخر يومٍ في حياته. وربما هي تلك الحفنة ما ستؤخر عودتي إلى "وادي حَلْفَا" لأكثر من خمسين عامًا.

ورغم وهنه الجسدي من تكرار جلسات العلاج الكيماوي، وقلقي عليه بعد تقرير الطبيب بأن المرض الخبيث المنتشر في رئتيه قد لا يمهله طويلًا، انهزمتُ أمام رغبتي ثنيه خشية أن تنتكس صحته، واستسلمتُ لعلامات الفرح على ملامح وجهه، اثناء مراهنته على فوز فريق السودان.  

ذلك الفرح على وجهه المتعب، ذكرني بحماسه قبل عامين لما قدمتُ معه إلى الخرطوم لحضور حفلة أم كلثوم في الخرطوم أثناء زيارتها للسودان قبل عامين ضوء جمعها لأموال دعم المجهود الحربي في أعقاب نكسة "5 يونيو 1967"، لما جاءت لتغني بمسرح "أُمْ دُرْمان القومي"، بعد تلقيها دعوة من وزير الإعلام السوداني، فأحيت حفلة ارتدت فيه الزي السوداني، وانتقت بعدها أشعارًا سودانية، لتصبح كلمات قصيدة "أغداً ألقاك" للهادي آدم، أشهر أغنياتها. وكنتُ ألتفت نحوه اثناء جلوسي بجواره على مقاعد نادي الرياضة كل فينة وأخرى، واستشعر أملًا في شفائه التام عن رؤية الشباب الناضح من وجهه ومن جسده وهو يقف ثم يجلس هاتفًا مشجعًا فريق المنتخب القومي "صقور الجديان" الذي أصر على حضور مباراته النهائية، ونيل شرف رؤيته يتسلم كأس الأمم الافريقية هذا العام.

 وقد حصل.

واثناء انغماسي بمراقبة والدي وهو يشارك الجموع ويهتف بفرح هستيري أثناء تسلم الفريق للكأس، وصل إلى أسماعي صوتٌ من ورائنا مناديًا: عم الصاوي!  بفضولٍ استدرتُ، بحثًا عن ذلك الذي يعرف والدي في العاصمة التي ليس لنا فيها أهل ولا أقارب، لتصدم عيناي بنظرة مألوفة لعينين زرقاوين، تعرفتُ على صاحبها على الفور، بالرغم من مرور قرابة ثلاثين عامًا.

 بلهفةٍ تقدمتُ نحو "عبد الجليل"، الذي لم يعد ذلك الطفل أسرني ذلك اليوم بشعره الطويل كشعر الفتيات.  وعانقته بحرارة، وذكرته بلقائنا الأول ذلك النهار عند مرافقتنا لوالدينا لأداء التعازي لأهل "معاوية محمد نور"، وعن تقاسمنا الحلم في أن نصبح صحفيين عندما نكبر.

في ذلك المساء، وبعد تبادل الأخبار والإجابة على سؤاله بـ"أين تسكون؟"، بأننا ننزل في "لوكندة" في السوق العربي بالقرب من ميدان "أبو جِنْزير" تعودنا التردد عليها عند مجيئنا من "حَلْفَا الجديدة" لمراجعة طبيب والدي في العاصمة، أقسم علينا عبد الجليل لأن نرافقه إلى بيتهم ليقوم بواجب ضيافتنا. 

وهناك في حي "المَسَالْمَة"، تعرفنا على زوجته المليحة الخجولة المنحدرة من شرق السودان، ووالدته الأرمنية التي أورثته العيون الزرقاء والشعر الناعم المائل للشقرة، دون أن تورثه لون بشرتها، ليظل متميزًا بخلطة سمار لونه وغرابة لون عينيه وشعره التي ستحتل ذاكرتي طوال عقود، لتجعلني أتعرف على حفيدته بعد أكثر من أربعين عامًا، فقط من لون عينيها اللتان ورثتهما عنه. وتبادلنا الحديث مع والده، وأصغينا باهتمام لحياتهم الهانئة في حي "المَسَالْمَة " لقربه من جميع الخدمات لوقوعه في وسط أُمْ دُرْمان، وعن اندماج الأقليات فيه: مسلمون ومسيحيون ويهود.

وساد صمتٌ قصيرٌ لما عادت والدته من المطبخ ووضعت أمامنا صينية كبيرة وقدمت لنا شاي بالحليب والقرنفل، وفطائر أرمنية بالجبن والقرفة ومكسرات الفستق والفول السوداني. وبعد أن عدلتُ خمارها الأزرق على شعرها الأشقر الناعم، جلست بجوار زوجها الذي يبدو أنه يكن لها احترامًا كبيرًا، إذ تطلع في وجهها بحبٍ أثناء سؤالها لنا عن "حَلْفَا الجديدة".

 بمرارةٍ، حكينا لها عن ألم الشتات وصعوبة الاندماج في المجتمع الجديد. فحدثتنا بنبرة ألم عن شتات الأرمن في بداية القرن العشرين هربًا من مذابح الأتراك ضدهم، الذي جاء بعائلتها للاستقرار في السودان. ثم أضافت لتطمئننا بأن الاندماج سيأتي لاحقًا، أما عن شتات الأحبة فلا مفر منه إن أصروا على عبور البحار، والبحث عن مستقبل آخر في قارات بعيدة، كما فعل نصف أهلها بانتقالهم إلى أمريكا وأستراليا وكندا. 

ولما رأى عبد الجليل الأسى على وجهينا، نصحنا بترك أرض البطانة ما دمنا غير مرتاحين فيها، واقترح علينا الانتقال للعيش في العاصمة، ووعد بأن يوفر لنا بيتًا بجوارهم في حي المسالمة لأحد أصدقائهم الأقباط الذي هاجر مؤخرًا إلى استراليا، ثم لما رأى التردد في عيني، أعطاني وعدًا آخر، بأن يجد لي وظيفة في الصحيفة التي يعمل بها، وأن يساعدني حتى أحقق حلمي الطفولي القديم بأن أصبح صحفيًا مشهورًا مثل العقاد.

وفي المستقبل، سيفي بوعده وسيعاونني في كتابة مقالات تؤهلني للدخول إلى عالم الصحافة من أبواب واسعة. وسأسمع لنصائحه عندما يقترح عليّ الكتابة عن دور نِميري في انقاذ ياسر عرفات بعد أحداث "أيلول الأسود"، وعن حركة تموز والانقلاب الذي أطاح بالمملكة العراقية الهاشمية عام 1958، وعن الحرب الباردة وصراعات أمريكا والاتحاد السوفييتي بين عامي 1947-1953، وعن علي عبد اللطيف قائد ثورة اللواء الأبيض السوداني ضد الانجليز عام 1924، وعن ثورات عربية وقادة عرب ساعدوا في تحرير بلادهم من الاستعمار. لكنني وقفتُ عاجزًا عن الرضوخ له، لما طالبني بالكتابة عن جمال عبد الناصر وعن ثورة يوليو 1952. ليس فقط لأنني لست مغرمًا به مثله ولا معجبٌ بتشبيه دوره في القومية العربية شببهًا بدور "سيمون بوليفار"، القائد الفنزويلي الذي ساهم في تحرير الكثير من دول أمريكا اللاتينية من الاستعمار الاسباني، ولكن أيضًا لأنني ما كنتُ لأكتب لأُمَجدّ شخصًا تسبب في تشريدنا من ديارنا، وإغراق حضارتنا ومدينتنا العريق "وادي حَلْفَا"، بعد توقيعه مع "عَبُّود" اتفاقية بناء السد العالي. 

في ذلك المساء، ولما كرر علينا عبد الجليل ضرورة الانتقال إلى العاصمة، شكرناه بامتنان متردد، وطلبنا منه مهلة للتفكير. مهلة، لن تستمر طويلًا. فبعد أقل من شهر، وفي نفس اليوم الذي اندلعت فيه أحداث "الجزيرة أبا" في مارس 1970، توفي والدي بعد صراع طويل مع المرض؛ فقررتُ ترك "حَلْفَا الجديدة" ومنطقة "خَشْم القِرْبة" إلى الأبد.

 ------------------------------------------------------

من رواية "سهام أرتميس"، الصادرة عن دار "مسعى 2023



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق