السبت، 18 نوفمبر 2023

قِصَّة قصيرة: نَفَحَاتُ هَادِيسْ

بقلم/تسنيم طه



 

— " حرب !

أية حرب هذه التي اشتعلتْ من هولها الرؤوس شَيبًا؟!

 أية حرب هذه التي تذهب بأعز المُهَج، وبأغلى الضحايا من نفوس الشباب؟!

 أية حرب هذه التي تُوقع العداوة والبغضاء بين أخوَين من أعزِّ أبناء هيلاس، فيتراشقان بالفحش من القول، ويتبادلان الهجرَ من الكلام، ويوشكان على الالتحام في نِزالٍ يودِي بحياة أحدِهما من أجل امرأة؟

 أنا أَجَامِمْنُون، أُغضبُ آخيل أخي من أجل لذَّة طارئة، ومتاع زائل!

 يا للهول! فلتنتهِ هذه الحرب! ولنعد إلى هيلاس!" 

 كنتُ أواصل ترديد كلمات أَجَامِمْنُون، قائد جيوش حملة "طُروادة"، داخل رأسي المتعب؛ لأشجع نفسي على متابعة السير في الشوارع البائسة الخاوية إلا من سيارات التاتشرات المدرعة الممتلئة بجنود مختلفي السحنات، ومن القطط والكلاب الضالة، المتناوبة على نهش الجثث، مصارعًا أوجاعًا وأحزاناً وغثيانًا وعدم تصديق لما تراه عيني من خراب ودمار بسبب عبثية الحروب.

لكن قدماي تتسمران بعناد حمار حرون؛ فأسحب نفسًا عميقًا ثم أجرجرهما بالقوة وأصارع تمزقًا بين قوتين: قوة طرد الرائحة المنفرة التي تغريني بفكرة الإسراع بالهرب، وقوة جذب قانون الإنسانية، التي تذكرني أن واجب إكرام الميت بدفنه. وعندما تهزمني نتانة الرائحة، أعود أتسمر مكاني من فرط الشعور بالقرف. قرفٌ يتحول سريًعا لشعور بالخوف عند اقتراب أحد الكلاب الضالة بالقرب مني واستدارته حولي عدة مرات يتشمم جلبابي. خوفٌ يرفع الأدرينالين في دمي، ويذكرني بعقدة خوفي من الكلاب المتجذر في نفسي منذ عقود، منذ مصادفتي لذلك الكلب الغريب ذات نهار حار من نهارات شندي مرتين في أقل من ساعة، مرة أمام مدرسة عبد الله الحسن الثانوية، ومرة ثانية داخل مقابر شندي، أثناء تلاوتي لسورة الفاتحة على قبر جدي، وفي المرتين رقص لي حاجبيه الشبيهة بحواجب البشر وأصابني بشكوك من أنه أحد أفراد قبائل الجن البارعين في التخفي خلف هيئات حيوانية.

برعبٍ أتلفتُ حولي، وأصارع مزيج المشاعر في داخلي، مشاعر خوف وتأنيب أمام شعوري بالقرف من نتانة الرائحة، مشاعر حسرة وألم على حال المدينة الكئيبة التي أصبحت خاوية على عروشها خالية من أثار البشر ومن ذكرى حياتهم، ترتع فيها فقط القطط والكلاب الضالة وتتناوب على نهش الجثث، المرمية في الشوارع المنبئة بوقوع طاعون.

أقاوم عبراتي وأبحث بعيني الدامعتين عن شخص يساعدني في انقاذ الجثة من أنياب الكلاب ومواربتها تحت الثرى. لكن لا شيء حولي إلا عربات التاتشرات المدرعة الممتلئة بجنود مختلفي السحنات، جلهم دون سن العشرين. أطالعهم بخوف وتنهشني الشكوك فلا أعرف إن كانوا من فئة الاعداء الذين اعتادوا اقتحام المنازل والبيوت؛ لينهبوا ويغتصبوا ويقتلوا، أم من فئة الذين شعارهم حماية مالنا ودمائنا، والذين سيقضون على الأخضر واليابس بقذائفهم وشظاياها التي أجبرت سكان الخرطوم على المغادرة للاستجارة من رمضاء ويلات الحرب بنيران التشرد والنزوح.

 يتفاقم وجعي عليهم جميعًا وينفطر قلبي ألمًا على كِلا الفئتين الغافلتين الواهمتين الراكضتين نحو آمال النصر على حساب أرواح وأعراض وممتلكات الأبرياء، وأتساءل عن شكل الجحيم الذي ينتظرهما، عند تذكر حديث رسول الله" إذا التقى المسلمان بسيفهما فالقاتل، والمقتول في النار"، ثم استنكار الصحابة: "يا رسول الله هذا القاتل فما شأن المقتول؟"، وتفسيره لهم: لأنه كان حريصًا على قتل صاحبه.

تهزمني دموعي، فأترك لها العنان وأبكي بحرقة على الإخوة المتقاتلين على المدينة المنكوبة وعلى التاريخ الذي لا يُقرأ. ثم أواصل جرجرة قدميَّ رغم وهني وشعوري بالإعياء. لكن عند اقترابي من الجثة، أتسمر مكاني رهبة وخوفًا وتقززًا. ولما تلفحني شدة نتانة رائحتها ويفزعني منظر الديدان الخارجة من أقدام صاحبها، تراودني من جديد فكرة الفرار من ذلك المنظر الفظيع. لكن مشاعر الانسانية في داخلي تحول دون ذلك.

أسد أنفي بقوة للتخفيف من شدة الرائحة النتنة ثم أغمض عيني بقوة، فتمر بذاكرتي مشاهد تكفين أحبابي الذين دفنتهم بيدي وصليت على قبورهم صلاة الجنازة. أردد في داخلي "لا حول ولا قوة إلى بالله"، ثم أفتح عيني وأشجع نفسي بالسير نحو الجثة باستحضار شجاعة "أنتجون" ابنة "أوديب" التي تحدت أوامر خالها بألا يُدفن أخيها "بولينيكس" وأن يترك حيث مات؛ لتنهش جثته الطيور الجارحة والوحوش، ولم يردعها حكم الإعدام الذي سيصدر في حقها، وأصرت أن تكرم أخاها بدفنه وإعطائه قبرًا قبر يضمن له مكانة في مملكة إله العالم السفلي "هاديس".

في أثناء مقاومتي للتقيؤ من شدة الغثيان، بعد أن أصبحتُ قاب قوسين من الجثة، يستوقفني الجندي اللئيم الذي ضربني قبل قليل، آمرًا إياي بنبرة قميئة: 

-       جيب باقي القُرُوش المعاك!

أطالعه بغضب ينكسف سريعًا خوفًا من مغبة ما قد تجرني إليه مشاعري، ثم أنكس رأسي انكسار قبل أن أجيبه، بأنني قد أعطيته كل ما بحوزتي من نقود. فيواصل بعناد ليعرف إن كان معي هاتفًا ذكيًا، عليه حسابي البنكي، وتطبيق "بنكك"، قبل أن يأمرني بنبرة قميئة أن أحول له النقود فورًا.

-       لا ليس معي لا هاتف ولا حساب بنكي. أنا رجل عجوز لا أتقن استخدام تكنولوجيا العصر الحديث، أنا ولدتُ في ثلاثينات القرن الماضي، في وقت .....

تموت الكلمات في حلقي أثناء تفرسي في وجوه زملائه الذين انضموا إليه، ليشاركوه السخرية مني. أطالع سحناتهم المتعجرفة المتأهبة، وأصغي لهمهماتهم باللغة الفرنسية، لتتأكد ظنوني بأنهم ليسوا سودانيين، وبأنهم لابد ينتمون لجنود للمليشيات الذين تم جلبهم من تشاد ومن دول أخرى من غرب إفريقيا الفرانكوفونية، للمشاركة في حرب الخرطوم.

 كنتُ أتنمى لو تنحل عقدة لساني لأخبرهم أنني شاهد عيان على كل هذا التاريخ المؤلم من الحروب العبثية، التي تكرر فيها الأجيال التالية نفس أخطاء الأجيال السابقة، دون أن يكلفوا أنفسهم عناء قراءة التاريخ.

 أتفرس في وجوهم بوجع ويأسٍ؛ فلا أجد جدوى إخبارهم برأي وبشهادتي أن فترة الاحتلال البريطاني كانت أجمل فترة بالنسبة لي: تلقيتُ فيها تعليمي بالمجان في وقتٍ كان كل شيء متوفر ومنظم ومتاح بلا تميز ديني أو اجتماعي أو عرقي، والجميع يعيش في مودة وسلام لا يعكر صفوه سموم النعرات العنصرية، التي تدفع أبناء الوطن الواحد بحمل السلاح لقتل إخوتهم.

-       هل تريد اقناعنا بأن عمرك قد تجاوز التسعين، وأنت تتحرك بمفردك بهذه القوة في شوارع الخرطوم وكأنك في نزهة؟ كف عن هذا الهراء والاستخفاف بنا أيها العجوز، وإلا ألحقناك بوالد الفتاة الغبي.

نطق الجندي هذه الجملة بلغة فرنسية ركيكة، لكنني فهمتُ كل كلمة فيها بدقة.

والد الفتاة الغبي؟

أجل أنهم قادرون على فعل ذلك.  

أبلع ريقي بصعوبة عند استشعار دموع المهانة والغبن تتسابق إلى حافة مقلتي، أثناء استعادتي لمأساة والد الفتاة المسكين، الذي ظن أن بإمكانه الدفاع عن ابنته أمام جنود مسلحين، ليس في قلوبهم مثقال ذرة من رحمة.

 قبل تلك اللحظة المؤلمة، وقبل أن تعترض طريقي إحدى سيارات التاتشر المدرعة، كنتُ أتلفت حولي في المدينة الخربة بذهول واستغراب من فقدي الذاكرة. فكنتُ أعرف أنني اشتريتُ بعض الأدوية من صيدلية "حوادث مستشفى بحري التعليمي"، وخرجتُ قبل أن أنحرف شمالًا وأسير ناحية بلدية " بَحْري" هربًا من ازدحام صفوف البشر القادمين لإسعاف أهاليهم الذين تلقوا شظايا القنابل، وهو رقود في بيوتهم. لكنني كنتُ أجهل تمامًا أي طريق عليَّ أن أسلك؛ حتى أصل لبيت أختي في حي "حِلَّة حَمَد" المجاور، كجهلي عن السبب الذي أتى بي من أصلًا من شندي؛ لأضل طريقي في العاصمة.

كانت الأسئلة عديمة الأجوبة تعصف برأسي، ويتنامى يأسي عند تذكر أن أختي تركت بيتها في الخرطوم، وذهبت لقضاء عيد الفطر معنا في شندي، وأنها لابد في هذه اللحظة مشغولة مع بناتي تجهيز كعك العيد.

 كنتُ أتمنى العثور على شخص أسأله عن ماهية ما يدور في الخرطوم؛ لأتأكد هل هي حربٌ حقًا؟ أم أنني أعيش كابوسًا فظيعًا لابد أن أستيقظ منه؟ لكن الشارع الذي وجدتُ نفسي أسير فيه، كان خاليًا إلا من الكلاب الضالة. ولما كان اليأس والوهن يتملكاني، كنتُ أرجع لشحن نفسي بأمل جديد؛ لكي أوصل البحث عن طريق يوصلني لبيت أختي في "حِلَّة حَمَد"، عسى أن أجد صديقي القبطي ميخائيل الذي يسكن قبالة بيتها، والذي حتمًا سيخرج ليستقبلني قبل أن أكمل طرقي على بابه وسأحظى معه بجلسة حميمة نستعيد فيها ذكرياتنا حول صينية شاي لبن بالقرفة والبسكويت في بيتهم، كذلك الذي كنا نشربه سويًا أيام طفولتنا في بيتهم في حي "المَسَالمْة"، المقابل لبيتنا في حي "الرِّكابية" بأم درمان، برفقة صديقنا الثالث شاؤول اليهودي.

 يا إلهي!  لكن ماذا دهاك يا زكريا؟ ميخائيل مات منذ سنوات، وشاؤول أيضا مات في منذ زمن بعيد بعد هجرتهم إلى إسرائيل. كل أقرانك ماتوا. رحلوا وتركوك فارغًا ووحيدًا، تجابه بمفردك ثقل الشيخوخة، ورؤية تكرار مآسي التاريخ.

كنتُ أتحسر مواصلًا مونولجي الحزين عندما اعترضت طريقي سيارة التاتشر المدرعة، قبل أن ينزل منها أحدهم ويتقدم نحوي متبخترًا ممسكًا بالبندقية، قبل أن يأمرني بنبرة قميئة:

-       هات ما عندك من نقود!

انتفض هلعًا ثم أُدخل يدي برعونة في جيبي لإخراج كل ما بحوزتي من نقود وأعطيته إياه، بينما قلبي يخفق ولساني يلهج بصلوات سرية، ألا أفعل شيئًا يغضبه استحق بسببه أن أتحول لجثة جديدة مع تلك الجثث المتناثرة في شوارع الخرطوم.  لكن الجندي ينشغل عني ويلتفت ناحية جلبة صدرت من أمام بيت بجوار مبنى "البوسطة"، قبالة سينما "بَحْري".  أتنفس الصعداء وأتابع بقية زملائه يلتفتون في أتجاه بصره. فألمح من بعيد رجلًا سبيعينا يتشاجر مع جنود في عمر أحفاده، محاولًا الإمساك بهم، اثناء خروجهم من بيته وتطويقهم لفتاة عشرينية شوه الخوف ملامحها الجميلة.

-       ما ح أخليكم تسوقوا بنتي، عايزين منها شنو؟

يلكزه أحد الجنود ويصرخ فيه بجمل عربية ركيكة أكلمها بالفرنسية:

-       ألا تعرف ماذا يريد الرجال من النساء؟ عد إلى الداخل إيها العجوز وإلا فجرنا رأسك العنيد، يجيبه أحدهم بلغة عربية فصحى لا تتناسب مع الموقف المخزي. 

-       لا، لن تأخذوها إلا على جثتي.

-       أبوي أرجوك، ادخل وما تعرض حياتك للخطر بسببي. ما تقلق عليَّ، صدقني ح أرجع.

 هل حقًا سترجع؟ أم أنهم سيأخذونها لكي يتناوبوا على اغتصابها قبل أن يرحلونها إلى الغرب؛ لكي تُباع في سوق "الضعين" لبيع بنات الخرطوم؟ لا بد أن هذه الأسئلة دارت برأس والدها، كما دارت برأسي وجعلت جسدي يقشعر من فكرة بيع بناتنا في أسواق النخاسة؛ لأن حلقومها أصدر زمجرة معترضة على اقتراح ابنته الخائفة عليه:

-       لا، ما ح أرجع، وأخليهم يلوثوا شرفك.

-       شرفها؟ عن أي شرف تتحدث أيها العجوز الخرف، والكل جوعى يبحث عن كسرة خبز حاف ليسد بها رمقه. واليوم، جميع نساء الخرطوم سيتحولون لكسرة خبز لجوعنا نحن الجنود البائسين، الذين جيء بنا من هجير الصحاري وويلات الحروب الأهلية، لكي ننعم قليلا بخيراتكم أيها الجاحدون للنعم.

يا إلهي! من أين أتى هؤلاء؟

"من أين جاء هؤلاء الناس؟ أما أرضعتهم الأمهات والعمات والخالات؟

 أما أصغوا للرياح تهبُّ من الشمال والجنوب؟ أما رأوا بروق الصعيد تشيل وتحط؟ أما شافوا القمح ينمو في الحقول وسبائط التمر مثقلة فوق هامات النخيل؟ أما سمعوا مدائح حاج الماحي وود سعد، وأغاني سرور وخليل فرح وحسن عطية والكابلي مصطفى؟ 

أما قرأوا شعر العباس والمجذوب؟ أما سمعوا الأصوات القديمة وأحسوا الأشواق القديمة؟ ألا يحبون الوطن كما نحبه؟ إذًا لماذا يحبونه وكأنهم يكرهونه؟ ويعملون على إعماره وكأنهم مسخّرون لخرابه؟"

تخنقني العبرات عند استرجاع كلمات الطيب صالح؛ فأجتهد في بلع ريقي لانزال غصتي، أثناء مصارعتي للخوف والغثيان بينما عيني تتابعان بهلع الجنود وهو يرفعون الفتاة في سيارتهم التاتشر، دون أن يكترثون لبكائها وصياحها وتوسلاتها أن يتركونها وشأنها. ينقبض قلبي، ويرتجف كامل جسدي من الرعب، عند سماع صوتها المبحوح يصرخ بوجع:

-        أبووووووي!

 يهرع هذا الأخير إليها منطلقًا كالسهم، وينقض على عنق الجندي الأخير الذي يوليه ظهره. أتابع المشهد بتوتر وأنفاس مكتومة. وفي اللحظة التي تأتيه طلقة في رأسه ترديه قتيلًا في الحال، أغمض عيني لأهرب من قساوة المنظر، وأترك العنان لدموعي.

 يا إلهي! هل هكذا سيكون مصيري لو قاومت هؤلاء الجنود الهمج؟

الهمج الذي تنبأ الشيخ فرح ود دكتوك، بتخريبهم لمملكة "سُوبا" المسيحية، بعد سقوطها في يد دولة الفونج، قبل ستة قرون: "الخرطوم تَعمَر لَسوبا، وتِتْفَكك طُوبة طُوبة".

 يقشعر بدني من تردد صدى صراخ الفتاة وجعيرها الذي أصم الآذان وأفزع الطيور والكلاب والقطط الهزيلة المتسكعة بين الجثث المتناثرة في شوارع المدنية الخربة، التي لم يبقَ فيها إلا القليلين يختبئون في منازلهم، ويجابهون خطر وقوع الدانات على أسقف بيوتهم، أو التعرض لانتهاكات من نهب وسلب واغتصاب، مثل عائلة هذه الفتاة ووالدها، لأنه ليس لديهم أهل في بقية أقاليم السودان ليلجؤوا إليهم.

 تعتريني فوضى وحزن تشوش عليَّ الرؤية أثناء عودتي لطرح التساؤلات عديمة الأجوبة لمعرفة كيف وصلتُ من الأساس لهذا المكان. ثم أعود أتلفت ورائي برعونة وأقاوم حتى لا أسقط من فرط الألم والحزن والتعب من شدة الحر الذي لم تخففه كثافة الغيوم الرمادية، الجاثمة على صدر مدينة الخرطوم.

-       هيا أعطنا بقية النقود التي معك! ولا تحاول والاستخفاف بنا أيها العجوز، وإلا ألحقناك بوالد الفتاة الغبي.

يكرر الجندي المتعجرف جملته بعناد، فاستجمع قوتي لأجيبه بآخر رمق:

-       لقد أعطيتكم كل ما عندي، لم يعد لدي شيء.

يتقدم أحدهم ويلكزني بعقب بندقيته؛ فأترنح ثم أسقط أرضًا. يرتطم رأسي بصخرة، فتغتم رؤيتي، وأقاوم حتى لا أفقد الوعي من الألم.

أرى وجوههم بضبابية: شباب تحت سن العشرين أو فوقها بقليل، في عمر أحفادي، يسخرون مني ويفتشون جيوبي ثم يقرصون خصيتي. أصرخ من الألم؛ فتتعالى ضحكاتهم قبل أن يشتمونني بفرنسية أفهمها بالكاد بسبب انقطاعي عن ممارسة اللغة الفرنسي منذ تخرجي من الجامعة وعودتي من مصر خائبًا كسير الخاطر من جبن حبيبتي الإسكندرانية، التي أطاعت جدها ورفضت الزواج بي لأنني أسود. 

بنصف وعي أتفرس فيهم، وألمح أحدهم يحمل ديوان "أزهار الشر"، للشاعر الفرنسي بودلير، فيجتاحني حنين لذكريات قراءة هذا الديوان مع حبيبتي الجبانة. أزدرد ريقي بصعوبة ثم أحدق في وجهه بعشم آملًا أن تكون ثقافته سببًا في انقاذي من براثن زملائه البرابرة. 

لكن سرعان ما يتملكني الإحباط عند التفكر في حاله والدهشة من أن يقبل شاب مثقف في سنه، يهتم بقراءة روائع الأدب العالمي، أن يضيع وقته بالانخراط في ميليشيات والمشاركة في حروب أهلية عبثية، تهدد أن تنتهي حياته في أي لحظة برصاصة طائشة أو شظية من شظايا القنابل التي أحالت الخرطوم إلى ساحة دمار، وشردت أهلها، وأجبرتهم على النزوح إلى أقاليم السودان الأخرى وإلى البلدان المجاورة.

 أغمض عيني محاولًا التركيز على تنفسي؛ فيتناهى لسمعي صوت مذياع في الجوار ينقل خبرًا عن اتفاق جديد بين الطرفين المتقاتلين واعدًا بوقف إطلاق النار. أستعجب أن يكون الاستماع للراديو مسموحا في ظل هذه الظروف، وأتذكر طفولتي في فترة الأربعينات أيام كان الاستماع الى إذاعة "برلين" التي كان يفتتحها صوت العراقي يونس بحري "هنا برلين حي العرب"، يعد جريمة لمعرفة أخبار هتلر ومعاركه ضد الحفاء في الحرب العالمية الثانية، بعد احتلال الجيوش النازية لنصف فرنسا في غضون ثلاثة أسابيع.

يتناقص الهواء عن صدري، فأغمض عيني بقوة؛ فتمر من وراء ظلامها ذكرى مشهد الطلبة المحتجزين في جامعة الخرطوم منذ أيام في كلية الهندسة، الذي تناقلت خبره وسائل التواصل الاجتماعي، ليسود الرأي العام تعاطف لاحتمائهم بالحرم الجامعي، مواصلين صيامهم رافضين الإفطار في نهار رمضان، لا يجدون إلى مياه الحمامات يحتسونها في المساء؛ حتى لا يموتوا من العطش، يصارعون من أجل الحياة، ويتجنبون انتهاج نهج وميلهم الذي تلقى رصاصة أثناء محاولته الخروج من الحرم الجامعي، فحملوه وعادوا به الى الداخل، قبل أن يدفنوه في الحرم الجامعي، بعد يأسهم من مجيء أهله لاستلام الجثمان، بسبب تطويق قوات الجيش لشوارع الخرطوم.

هل سيكون مصيري مثله بأن أدفن في هذه البقعة التي أقف عليها، إذا تعذر أن يأتي أهلي ليأخذوا جثماني؟ أم أنني لن أجد أحدًا يجازف ليدفنني ويمنحني حقي في قبر كما جازفت "أنتجون" ابنة "أوديب" وتحدت أوامر خالها وتهديده بالموت لمن يدفن أخاها، وأن مصيري سيكون جثة إضافية لهذه الجثث التي تنهشها الكلاب.

 أصارع لدفع بالهواء لرئتي؛ فلا أنجح إلا في مضاعفة هذياني. أعتصر عيني بقوة؛ فيلوح لي من خلف ظلام جفوني صورًا ومشاهد لم أرها بعيني لكنها سماع حكايتها ترك في نفسي ألمًا فظيعًا: صورة والد جدي الكبير وخروجه مع عائلته من شندي، بعد سقوطها في يد الغزاة الأتراك.....صورة المك نِمِر، يجمع أهله ويخرج  من شندي، هربًا من حملات الدفتردار الانتقامية بعد حرقه لإسماعيل باشا .....صورة عمات جدي الكبير يرمين بأنفسهن بخشية السبي، في نهر النيل، بعد استباحة حملة محمود ود أحمد لمنطقة "المتمة" .... صورة حفيدي ابن العشرين يركض لينجو من المجزرة صبحية فض اعتصام القيادة عام 2019، قبل أن يمسكونه ويلقون به في نهل النيل الأزرق.

أفتح عيني بصعوبة وأخرج من سلطة هذياني بالتدريج. 

ولما أرى الجنود ملتفين حولي، أعود أغمضهما فتتراءى لي صورة حفيدتي، مرتدية ملابس محاربة، شعرها الكيرلي الغزير يظهر من تحت خوذتها الحديدية. أتابعها تتقدم من وراء الجنود الملتفين حولي، قبل أن تطلق صيحة تهديد مجللة: أنا زنوبيا مثل جدتي، سأهزمكم أيها الحثالة، كما هزمت زنوبيا ملكة تَدْمُر القائد الروماني أورليانو، حتى وإن كان قد أخذها أسيرة في نهاية المطاف. ابتعدوا عن جدي!

 أفتح عيني لأتأكد أنني لا أهذي؛ فيخيب ظني. أبحث عن وجه حفيدتي، فأتعثر بوجه جندي قميء انحنى فوقي وتحسس قلبي، قبل أن يقترح لزملائه: 

-       إنه لا يزال حيًا، ما رأيكم؟ هل تركه وشأنه أم نريحه بطلقة تعطيه الموت الرحيم.

-       خسارة فيه طلقة، ستنفعنا في قتل أحد الشباب المتهورين، أو كعجوز سيحاول الدفاع عن ابنته كذلك الغبي الذي قتلناه قبل قليل.

 يتفقون على تركي، ثم ينصرفون. أبدأ في استعادة وعي رويدًا رويدًا، قبل أن يعود الجزع يتملكني عندما يرجع أحدهم ويقول:

-       لا لن نتركه، فمثل هؤلاء سيجرون علينا الوبال. سأقتله بضربة تهشم رأسه.

وفي اللحظة التي يرفع رأس بندقته، تظهر فتاة في زي حربي، ترتدي خوذة حربية، تستوقفهم بصرخة مدوية:  

-      توقفوا!

يتسمر الجميع، ويلتفتون نحوها؛ فتوبخهم:

-      كيف تتصرفون بهذه الأخلاق المنحطة أيها الجنود؟ حتى أسرى الحرب لا يقتلون، كيف لكم أن تقتلوا عجوزا لم يرتكب جرمًا؟

 تتعالى همسات الاستغراب:

-      من هذه؟ هل هي تتبع لكتيبتنا؟ لا، ليس لدينا رؤساء نساء، ثم أنها تبدو جميلة من وراء ملابسها العسكرية، يمكننا أن.....

تشهر الفتاة سيفيها، لحظة تقدم الجندي نحوها، حاملًا بقايا جملته في فمه " يمكننا أن نستمتع بها و......" أثناء تمسديه لشاربه. وقبل أن يكمل جملته تغرس الفتاة سيفها في صدره المنتفخ كبرياء وتحدٍ. في هذه اللحظة، يطلق زميله الرصاصة التي استكثرها في قتلي قبل قليل؛ لتستقر في صدرها.  تسقط الفتاة على الأرض؛ فينزاح اللثام عن وجهها بعد سقوط الخوذة عن رأسها وتدحرجها على الأرض.  ترتعد أوصالي عند التعرف عليها؛ فأصرخ ملئ حلقومي:

-      حفيدتي؟

يخرسني أحدهم بضربة من قعر بندقيته تصيبني بألم فظيع يقطع بقايا الاوكسجين عن صدري، ويُريني نقطة النفق المظلم في العالم الآخر. 

وفي اللحظة التي أوشك فيها على تجاوز بوابة العالم السفلي للملكة "هاديس"، أعود للحياة على يد حفيدتي تهزني بقوة:

-       جدو زكريا... جدو زكريا، اصحى!


أفتح عيني بصعوبة ثم أطالعها دون أن أقوى على اخبارها بتفاصيل الكابوس الفظيع الذي رأيته. 

فقد كنتُ أعلم أنه حتى وإن كان مجرد حلم رأيته في منامي، فما هو إلا اسقاط من عقلي اللاوعي؛ نتيجة لما أراه من مشاهد مؤلمة على مواقع التواصل الاجتماعي، وهي تصور حقيقة الأهوال التي تعيشها- في هذه اللحظة-  شوارع الخرطوم المستباحة.


 ------------------------------------------------

 باريس/ 18 نوفمبر 2023

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق