الجمعة، 29 أكتوبر 2021

قِصَّة قَصِيرة: كَارْمَا

بقلم/تسنيم طه

 




 ڤُونُويْ-سِيُوغْ-ڤِييَنْ- Vouneuil sur Vienne/ قرية غرب فرنسا عام 732:

وصلتُ أخيرًا، بعد تكبدي عناء المجيء سيرًا على الأقدام خشية أن تثير حوافر فرسي ضجة تفزع الحيوانات والطيور، فتضاعف من هلعي ووجلي، فأعود أدراجي دون أن أعرف مصيري. 

لم يكن توجسي لأنني أدخل إلى الغابة المسحورة للمرة الأولى، ولكن بسبب تضارب ذكريات كابوس الأمس داخل رأسي.    

وبعد ترددٍ طويلٍ، تقدمتُ بخطى مثاقلة نحو العرّاف المتكئ بجانب سنجابه الضخم، وبتلعثمٍ أفصحتُ له عن سبب مجيئي لرؤيته ليقرأ لي طالعي، علني أطمئن وأكذب مخاوفي وحدسي المتشائم من رؤية سيفي البتارُ يُكسر إلى نصفين في كابوس البارحة.

لكن وبدل أن يهدئ من روعي، أسرع العرّاف في إخباري بأنني سأقتل في المعركة التي ستدور بعد يومين. فتفاقم هلعي قبل أن يتراخى ليتحول إلى فضولٍ لمعرفة ما سينتظرني بعد الموت.

وبعد استعادة رباطة جأشي، رجوته أن يكشف لي جميع الأسرار حتى أخوض أخر معركة في حياتي بثباتٍ وشموخ واعتزاز.

نكس العراف رأسه برهة ثم رفعه قبل أن يشير لي بيده لأقترب أكثر. فسحبت قدمي بتثاقلٍ متجاهلًا نظرات السنجاب الفضولية التي كان يلهبني بسياطها ليوحي لي بأنه على معرفةٍ بكل تفاصيل مستقبلي.

بارتباك، وقفتُ قبالة العراف، وراقبت بصمتٍ متوجس ظله المخيف خلفه ويداه الكبيرتان تتحركان حول الكرة البلورية، ليريني عليها ست شخصيات من عصور مختلفة:

§       باريس/1951: "كلود ليفي ستروس" يكتب عبارته الشهيرة في كتابه "العرق والتاريخ": ليس هناك ثقافة لها الحق في النظر إلى ذاتها باعتبارها أرقى من الثقافات الأخرى.

§       فيننا/ 1899: "سيغموند فرويد" ينقح للمرة الثامنة كتابه "تفسير الأحلام" الذي سيناقش فيه "عقدة أوديب" و"عقدة اكتارا"، اثنان من أهم نظرياته في التحليل النفسي.

§       لندن 1874: "ليساقاري" يحكي لإلينورا، ابنة كارل ماركس، شهاداته التي جمعها من الناجين في المنفى في لندن وسويسرا عن تاريخ فترة حصار باريس عام 1871.

§       كُردفان(غرب السودان)/1822: "محمد بك الدِّفْتردار" يُعد حملته الانتقامية ضد "المك نِمِر"، آخر ملوك الجعليين، بعد حرقه في مدينة "شَنْدي"، الخديوي إسماعيل، ثالث أبناء محمد علي باشا عزيز مصر ومؤسس الدولة العلوية.

§       باريس/ 1667: "جان دولا فونتين" يكتب بالفرنسية البيت العاشر من قصيدة الأرنب والسلحفاة، إحدى قصص "كليلة ودمنة" التي عربها ابن المقفع عن اللغة الفارسية قبل أربعة قرون: "لا جدوى من الركض، المهم أن تنطلق في الوقت المناسب".

§       فينيسيا/1202: إنريكو داندولو، يطلق الحملة العسكرية الصليبية الرابعة، التي ستنتهي بعد عامين بالاستيلاء على القسطنطينية وتأسيس الإمبراطورية اللاتينية في الشرق.

تفرست في وجه العراف الجامد برهة، ثم علقت بنفاذ صبر:

-         عالِم أنثروبولوجيا، طبيب نفسي، قائد عسكري، صحفي، شاعر ودوق؟ هذا جيد لكنني أريد أصبح فيلسوفًا في حياتي القادمة. هل بإمكانك أن تريني فلاسفة عظماء؟

وكان بإمكانه أن يكشف لي الحقيقة فورا ويقص أجنحة أحلامي الطموحة. لكن العراف لم يفعل، بل واصل تمسيد رأس سنجابه ذو النظرة الفضولية برهةً، قبل أن يحرك يديه الكبيرتين على الكرة البلورية ببطء ليريني أربعة فلاسفة من القرن الثامن عشر:

§       السويسري "جان جاك روسو" يطرح موضوع الضرائب والممتلكات والعقد الاجتماعي في مقاله "الاقتصاد السياسي".

§       الفرنسي "فولتير" منغمسًا في كتابة روايته الفلسفية " كانديد" التي سيثير فيها الجدال حول القدرية ووجود الشر.

§       الإنجليزي "فرانسيس بيكون" يضع أسس فلسفة جديدة قائمة على الملاحظة والتجريد، سيكشف بها فيما بعد عن غياب جدوى المنطق الأرسطي المعتمد على القياس.

§       الألماني "إيمانويل كانط" ينهي كتابه "نقد العقل الخالص" الذي سيفتح به باب الأدب المثير للجدل.

أدرت رأسي هربًا من عيون السنجاب الكبيرة التي كانت تتفحصني بفضولٍ، وبلعت ريقي بصعوبةٍ أثناء عودتي للتحديق في وجه العراف الصارم لأخبره بحسرةٍ بأن عصر التنوير ما يزال بعيدًا عن حياتنا اليوم في القرن الثامن.  فرفع يده الضخمة ليبرم بها شاربه الأشيب دون أن يعقب على كلامي، فواصلت بنفاذ صبرٍ لأؤكد رغبتي في تحقيق أمجادي الفلسفية في أقرب وقت يلي استشهادي في المعركة بعد غدٍ.

 ظل العراف يتفرس في وجهي بصمتٍ طال فأصابني بمللٍ ويأسٍ، قبل أن يحرك الكرةِ البلورية لينتقل عبر قرونٍ أكثر قربًا ويعرض لي أربعة فلاسفة عاصروا حكم المسلمين في دولة الأندلس. فطالعتُ الثلاثة الأوائل منهم بحياد:

§       "ابراهيم بن عزرا" يكتب "سِفْر ياشر" أحد تفسير كتب التوراة الخمسة.

§       "ابن رشد" ينهي كتاب "تهافت التهافت" للرد على كتاب الغزالي "تهافت الفلاسفة".

§       "موسى بن ميمون" يدون في كتابه "السراج والمشناه توراة" مبادي الإيمان الثلاثة عشر للديانة اليهودية، التي ستظهر تأثره بعلم التوحيد وعلوم المتصوفة المسلمين.

لكنني توقفت طويلًا عند شخصية الفيلسوف الرابع، محي الدين بن عربي، وشعرتُ بقشعريرة تسري في كامل جسدي وأنا أقرأ أبيات قصيدته:

لقد كنتُ قبل اليوم أنكرُ صاحبي...إذا لم يَكُن ديني إلى دينهِ داني

وقد صارَ قلبي قابلاً كلَّ صورَةٍ .... فمَرْعًى لغِزْلانٍ وديرٌ لرُهبانِ

وبَيتٌ لأوْثانٍ وكعبةُ طائفٍ.... وألوَاحُ تَوْراةٍ ومُصْحَفُ قُرآنِ

أدينُ بدينِ الحُبّ أنّى توَجّهتْ...رَكائِبُهُ فالحُبُّ ديني وإيماني

ومن شدة الفرح الذي غمر قلبي، عجزتُ عن النطق. فجاهدتُ حتى نجحتُ في إخراج صوتٍ هزيل طالبت به العرّاف أن يوقف الكرة البلورية لأنني وجدت الشخصية التي أريد لروحي أن تتناسخ فيها في حياتي القادمة. ولدهشتي، أدار العرّاف نظراته بترددٍ بين وجهي المترقب وبين عيون السنجاب التي جفلت وكأنه يوافق على ما سيقول سيده.

وفي تلك اللحظة خُيِّلَ إليّ أن الغابة المسحورة بأكملها بسناجبها الضخمة وخفافيشها المتوحشة وظلالها المرعبة وعناكبها وحشراتها الزاحفة وأشجارها المخيفة الشبيهة برؤوس الوحوش قد سمعت كلمات العرّاف وهو يخبرني بصوتٍ محشرجٍ عن المصير القاسي الذي ينتظرني في معركة "بلاط الشهداء" ببواتييه.

**-**

غوني-سو-بوا-Rosny-sous-Boisضاحية باريسية عام 2022:

 اليوم، ما زلتُ مدانًا على خطأ ارتكبته منذ ثلاثة عشر قرنًا، أضعتُ معه فرصة الانتقال إلى الأبدية نتيجة غفلةٍ أوقعتني في شِراك الأنا، وحولتني لضحية قانون "السببية: كما تزرع تحصد"، أو قانون العدل الإلهي المعروف بقانون" الكارما". 

ففي نهاية المعركة، بارزتُ جنديًا موريسكيًا شرسًا طال قتالي معه أكثر من غيره، حتى كادت عضلات ذراعي تتمزق من قوة تبادل الضربات معه. وبعد تشجعي والضغط على أسناني بشدة، نجحتُ في تسديد ضربة قوية له أطاحت بسيفه قبل أن أُسقطه أرضًا.

وفي اللحظةِ التي رفعت سيفي لكي أجهز عليه، بصق في وجهي بصقةً دفعتني لتمزيق جسده بالطعنات رغم أنه كان قد مات من الضربة الأولى. ولما التفت لأزهو بانتصاري لكرامتي، جاءتني طعنة من الخلف أردتني قتيلًا.

 لامست مشاعري نبرة الحزن في صوت سيدي وهو يشرح للمشتري مقدار مَعَزتي في قلبه، وبأنه لم يكن ليفرط فيّ لولا اضطراره للانتقال إلى شمال السودان لمباشرة عمله الجديد كمهندس كهربائي في "سد مروي".

كان سيدي يتحدث بحماسٍ ظانًا أن المشتري سيشاركه فرحه الغامر لاقتراب رحيله عن فرنسا بعد حصوله على وظيفة العمر بسهولة لم يكن يتخيلها.

فبعد زيارته للمغرب قبل عامين وقضائه لثلاث أسابيع في أحد تكايا الدراويش على حدود مدينة "أگادير"، سبقت إقامته في مدينة "فاس" بجوار ضريح الشيخ أحمد التجاني، ظل سيدي يحلم ليل نهار ويحن لخوض تجربةً مثيلة مختلفة عن أسفاره الماضية، التي تنقل فيها بين غابات الأمازون في البرازيل، وجبال "التبت" في آسيا، وشلالات "نياجرا" في كندا، ومحمية "بيناكلز" في نيويورك، ومحمية "تيدبينبيلا"، قريبًا من العاصمة الأسترالية كانبيرا.

فبعد عودته من "أگاديرواستشعار هوسه بفكرة العودة إلى الصحراء، شرع في البحث عن عمل في مكان شبيه، يرى فيه كل يوم شمسًا يحرقه لهبها، ويجعله يتصبب عرقًا، ليشتد ظمأه لدرجةٍ تذكره نعمة الماء، الذي يسرف في استخدامه اثناء استحمامه دون أن يفكر أن أناسًا في إفريقيا يقطعون الفيافي يوميًا من أجل جلب جرعات مياه صالحة للشرب. وتضاعف فرحه بعد عثوره على وظيفة العمر، لما اكتشف أن رئيسه المستقبلي في العمل ينتمي للطريقة "التِّجانية"، إحدى الطرق الصوفية التي كانت السبب في تحوله من شخصية مادية بحتة إلى شخصية روحانية تتوق للتحليق في ملكوت السماوات.

بالتأكيد لم يقص سيدي على المشتري تفاصيل تلك التجربة الروحية التي دفعته لبيع بيته بجميع ممتلكاته بما فيهم أنا، وذلك لانشغاله على مدح ذكائي ووفائي وطبعي اللين المرح.  لكن المشتري لم يتفاعل مع حديث سيدي المسهب عن تعداد مميزاتي ولا عن مكانتي العزيزة في قلبه، لانشغاله بهمه الأكبر: سماع الكلمة الأخيرة واتمام الصفقة لصالحه.

ولما لاحظ سيدي نظرات المشتري المصوبة نحوه بترقبٍ ونفاذ صبر، مرر كفه النحيل على شعره الأملس عدة مرات بعصبية. ثم أطلق تنهيدة حارة، رماني معها بنظرة حنين خاطفة، قبل أن يحقق للمشتري مبتغاه مبديًا موافقته على خفض السعر عشرة آلاف يورو.

ولما رأى تهلل وجه المشتري فرحًا، ذكره بالشرط الأخير لإتمام الصفقة: أخذ البيعة بأكملها: المنزل وحيوانات المزرعة.

فالتفت المشتري ليطالع الدجاجات تزاحمان الأرنب الأبيض الوحيد في أكل قشرة بطيخ، قبل أن يعود ليتفرس في وجهي بفضول، بينما أصابعه الطويلة تبرم شاربه الكثيف، كبير الشبه بشارب الفيلسوف الألماني "فريدريك نيتشه". ثم أبدى موافقته على قبول الشرط الأخير، لتتسع ابتسامة سيدي حتى أذنيه وليكتسي صوته بالفخر وهو يؤكد:

- صدقني، لن تندم على اختيارك، وستستمتع بالمنظر الخلاب لحديقة وشرفة المنزل المطلة على حديقة الجولف الخلابة، وستكسب وقتك الثمين لأنك ستصل إلى محطة قلب باريس "شَاتْلِيهْ- Châtelet"  في خلال عشرين دقيقة فقط بفضل خط الميترو رقم (11)، الذي انتهى تمديده الشهر الماضي لمدينة "غوني-سوبوا".

لم يُعِر المشتري كلام سيدي اهتمامًا، بل ظل يتفرس في وجهي بفضول وكأنه أحس بالمجهود الجبار الذي أبذله لأمنع دموعي من الانسياب، لما مسح سيدي على أذناي الطويلان بحنانٍ قبل أن يواصل:

-         أقسم لك بأنني ما كنت لأترك حماري الوفي الذكي لولا علمي بأنه لن يحتمل العيش تحت شمس السودان الحارقة التي تتجاوز الأربعين معظم أيام السنة، وهو المولود في صقيع أوروبا.

ظل المشتري يتفرس في وجهي وكأنه يبحث عن شيءٍ ضائعٍ فيه، بينما سيدي يتابع:

-         هل تعلم أن هذا الحمار حفيد حميرٍ أخرى عاصرت أجدادي منذ قرون؟

هز المشتري كتفيه بدون اكتراث، فأكمل سيدي بحماسٍ:

-          لذلك أردتُ أن أتركه يواصل العيش في المكان الذي وُلِد وعاش فيه طوال حياته.....

-         انتظر قليلًا من فضلك.....

تراجع سيدي للوراء من حدة نبرة صوت المشتري الآمرة، وتابعه بعينين جاحظتين يكمل اعتراضه:

-          لقد وافقتُ على شراء المنزل بما فيه، ولكنني لا أعدك بأن أترك هذا الحمار يواصل العيش هنا، لأنني سأنقله لينضم لبقية حيوانات حظيرتي في مسقط رأسي بقرية " ڤُونُويْ-سُيُوغْ-ڤِييَنْ".

انتصبت أذناي الكبيرتان عند سماع اسم القرية التي فقدتُ فيها مظهري الإنساني قبل ثلاثة عشر قرنًا، وشعرت بفيض مشاعر متناقضة ينساب داخل جسمي ويتحرك في أحشائي بحركات لولبية، دغدغتني فأنستني أحزاني القديمة، وحتى الحديثة التي رافقتني طوال أسابيع بعد تلقي سيدي خبر انتقاله للعمل في شمال السودان. 

في تلك اللحظة فقط، وبعد تحول أحزاني إلى أفراح، رأيتُ الدنيا لأول مرة بمنظار وردي اشتد معه وهج الأمل الذي طال انتظاره وأنا أحلم بالعودة إلى قريتي لرؤية أحفاد أحفادي من بني البشر. وخُيل إليَّ بأنني سأتحول إلى فراشة لأطير تلهفًا لعيش اللحظة التي سيتعرف فيها عليّ أحفادي، من بريق الحنان في عيني والشوق العميق لهم الذي احتفظت به في داخلي طوال ثلاثة عشر قرنًا.

لكن بسرعة عاد الحزن يتملكني، عندما تذكرت إعاقتي.

آه، وا حسرتاه! على عجزي التعبير عن نفسي، ليس فقط أمام أحفاد ربما لن تجلبهم الأقدار إلى حظيرة المشتري في "ڤونوي-سيوغ-ڤِييَنْ"، أو تشاء الصُّدف أن أقاطعهم في أحد الطرق الزراعية في القرية، ولكن أيضًا على عجزي في هذه اللحظة التي ربما تكون آخر مرة أرى فيها سيدي، لأخبره بأنني لست مجرد حمار مسكين، وإنما جندي شجاع حارب ببسالة في موقعة "بلاط الشهداء" بالقرب من مدينة "بُواتْيِيهْ"، المعركة التي أوقفت تقدم " المور" ومنعت توغل الفتح السلامي داخل بلاد الغال.

بألمٍ ووهنٍ، تطلعتُ في عيني سيدي بحنين كبير، وتمنيتُ فقط اخباره بأنني لم أعد حزينًا على قراره بالهجرة للعمل في أفريقيا، بعد اكتشافي بأنني سأعود إلى مسقط رأسي، على في هذه العودة يكون خلاصي، وتطهيري من بقايا قانون "الكارما" الذي طالني لما قتلتُ نفسًا، ليس من أجل الدفاع عن الوطن، وإنما من أجل الانتقام لكرامتي وعزة نفسي، ووهمِ الأنا.

 

****

تسنيم 

باريس 14 سبتمبر 2019 

----------------------------------------------------------

[1] المورو أو المور والجمع الموريون أو الموريسكيون مصطلح ذو استخدام شعبي يطلق على كل سكان شمال افريقيا. وهنا يقصد به المزيج العربي والأمازيغي والأوربي الذي تشكل في شبه الجزيرة الآيبيرية (إسبانيا اليوم) بعد فتح الأندلس. 



**اللوحة بعنوان " Et in Arcadia ego" للإيطالي " Giovanni Francesco Barbieri "، الشهير بـ " Guercino ".

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق