بقلم/تسنيم طه
بدت سماءُ الخرطوم في هذا الصباح من شهر يوليو،
ملبدة بغيومٍ رماديةٍ كثيفةٍ، ذكرتني بلهو
الطفولة، عندما كان هذا الجو الغائم يقذف بنا أنا واخوتي، إلى الشارع لنتسابق مع
أبناء الجيران في الدوران مع هطول زخات المطر الأولى، رافعين أيدينا كدراويش في
حضرة، لنناجي السماء:
"يا
مطيرة، صبي لينا، في عينينا".
منيتُ نفسي بالاستمتاع بهذا الجو، وأخذت هاتفي ليسليني، اثناء لحمامٍ يخلصني
من العرق، بأغنية تنسيني ضجري من المهمة الشاقة التي كلفتني بها أمي فور استيقاظي
من النوم: فك أنبوبة الغاز الفارغة وأخذها لاستبدالها بأخرى ملآنة، ثم الدوران بين
طلمبات البنزين ومراكز توزيع الغاز في الأحياء المجاورة لكيلا أعود بخفي حُنين.
أحكمتُ إغلاق باب الحمام تجنبًا لأن يباغتني ابن أختي
الصغير مرة أخرى وأنا عاري، ثم دخلتُ على موقع "يوتيوب" مستشعرًا نعمة
عودة الإنترنت، الذي حُرمنا من قرابة شهر بعد قطعه فور فض اعتصام القيادة، مدة
عشناها في عزلة فاقتْ عزلةَ بلدة "ماكوندو" التي حكى عنها غابرييل
غارسيا ماركيز في روايته "مائة عامٍ من العزلة".
وترددتُ أي أنغامي المفضلة أختار: أغنية "ملكة الرقص-Dancing queen" لفرقة ABBA السويدية التي رقصت على أنغامها العام
الماضي أمام مؤتمر الحزب المحافظ رئيسة الوزراء البريطانية "تيريزا
ماي"؟ أم أغنية "أغدًا
ألقاك" التي غنتها " أُم كلثوم" وكتب كلماتها الشاعر السوداني
الهادي آدم؟ أم أغنية "شكرًا لطوق الياسمين" لماجدة الرومي، المكتوبة
بواسطة الشاعر السوري نزار قباني ولحنها الفنان العراقي كاظم الساهر؟ أم أغنية "صُدْفَة" للفنان محمد
وَرْدِي، مطور الموسيقى السودانية وناشرها إلى الخارج، الملقب بفنان إفريقيا
الأول؟
وبعد تفكير طويلٍ، رسوتُ على الاختيار الرابع.
وانطلق نغمٌ سلسٌ سبق صدوح صوت الفنان وردي بكلمات "صدفة وأجمل صدفة
أنا يوم لاقيتك"، ليغمرني
الامتنان للقدر عند تذكر الصدفة التي جمعتني بخطيبتي التي لم أخطبها بعد، ذلك
اليوم ضمن أحد مواكب الثورة، بحي "الدَّنَاقْلَة" بالخرطوم-بحري.
واصلتُ دعك شعري بشامبو "هيد أند شولدرز" بحماس، وارتجفتُ لما داعب
جسمي المبتل الهواء البارد الداخل من النافذة الصغيرة قرب السقف، فذكرتني تلك
القشعريرة بأحاسيس الطفولة لما كان رزاز المطر يبللني ويجعلني أرتجف كالزرزور فأهرع
راكضًا إلى الداخل، لتلبية نداء أمي، وتوبيخها خشية أن أصاب البرد.
وتمنيتُ أن أعود طفلًا، وأن تواصل
الأمطار الهطول وتسقي التراب فتملأ أنوفنا برائحة " الدُّعَاشْ".
ولما أدركت أن أمنيتي ستحول شوارع الخرطوم إلى بركٍ من الوحل والطين، وتعوق تحقيق مخطط برنامج التمشي مع خطيبتي، ودعوتُ الله أن تظل السماء حبلى بمياهها، وأن
يستمر هذا الجو الغائم في غمامه. وشعرتُ بلهفتي تتضاعف لرؤيتها وأنا أتخيلها تحتار
أمام خزانة ملابسها لتنتقي ما سيجعلها تبدو في أبهى صورة تسلب بها لُبي، كما سأفعل
من جانبي. ولم يهدأ خفقان قلبي إلا عندما لمحتها أثناء نزولي من باص "الوالي"
الذي جلبني من حي "الدَروشاب"،
تقفُ بجوار صيدلية "السَّنْجَكْ" عند تقاطع شارع
"الشعبية" مع شارع "المَعُونة"، حيث اتفقنا أن نلتقي.
تقدمتُ نحوها بلهفةٍ، فصافحتني واهدتني ابتسامة خجولة قبل
أن تخفض رأسها حياءً عند مبادرتي لها بكلمة
"مشتاقين" واطرائي لأناقتها. ولأخفف من ارتباكها
سألتها ممازحًا، إن كانت تعمدت تعويض اختفاء الشمس بارتداء هذه البلوزة الزاهية
المزينة بأزهار التوليب الصفراء. فأصدرت ضحكة وأجابت على مزاحي بمثله، وافترضت أن
أكون تعمدتُ التضامن مع هذا الجو الأوروبي بارتدائي لقميصي الرمادي الفاتح. فخفضت بصري لتأمل صدري العريض داخل القميص الذي أهدتني
إياه قبل شهرين بمناسبة عيد ميلادي الواحد والثلاثين، عمرًا قضيت نصفه في الحلم أن
أصبح طبيبًا، وثلثه الأخير في الانكباب على كتب الطب لكي أتحصل بعد جهدٍ جهيد على
لقب "نائب أخصائي".
ولما رفعت عيني تجاهها لأجدد شكري على
هديتها، اصطدمتُ بوميض حزنٍ في بؤبؤ عينيها العسلتين، ليتملكني شعور تأنيب مُلِّح يذكرني بتهربي من دعواتها
المتكررة لزيارة بيتهم، لأسلم على والدتها، التي تتمنى التعرف عن قرب على الطبيب
الشاب، خاطف قلب ابنتها الصغرى، العاطلة عن العمل رغم تخرجها بدرجة امتياز من كلية
البيطرة بجامعة الخرطوم. ولكي أهرب من مشاعر جلد الذات، عرضتُ عليها، وكلي ثقة
بأنها ستقبل دعوتي وترافقني لمطعم "عَوَضية سَمَك" بحي الموردةِ بأم درمان. وخاب
ظني، وأصابني قلقٌ عندما رفضت معللة اصابتها بفتور وإعياء ألما بها منذ يومين وسلبها شهيتها للأكل. فدفعتني غريزيتي كطبيبٍ
للتفرس في عينيها العسليتين بتفحص، قبل أن اقترح عليها التوجه فورًا لأحد المعامل
الطبية، لإجراء تحليل دم يطمئننا على عدم اصابتها بلسعة أنثي بعوض الأنوفليس.
لكنها لم تفاعلت مع هلعي إلا ببرود أحبطني، ونظرة متعبة
وصوت خافت أكدت به أن كل ما تحتاجه هو تناول عصير "عَرَدِيب"[1]
طازج يعيد لجسمها القوة ويغنيها عن أدوية كيمياوية ستصيب جسدها بالتكسر. كنتُ على
علم بكرهها للأدوية وتجنبها الذهاب للعيادات والمستشفيات وأماكن تجمع المرضى، لذلك
لم أقترح عليها حتى الآن أن تزورني في مكان عملي. ولما طال تفرسي في وجهها، سألتني
أن كنت أوافق على مرافقتها لمحل "على إبراهيم للعَرَدِيب " في المحطة
الوسطى.
في هذه اللحظة، صدرت ضوضاء دفعتني لأن أشيح بوجهي عنها
لتبين بحثًا صاحب الصوت الغاضب السكران وهو يسب الحكومة وسوء الأوضاع المعيشية ويلعن
السودان وأهله، وأشارك الناس في حدج الرجل البائس بنظرات نفور وقرف من مظهره
وملابسه المتسخة.
ولما التفتُ ناحية خطيبتي لأوكد لها موافقتي باقتراحها،
لمحتُ في عينيها نظرة كسيرة ملأتني بتوجسٍ ضاعف منه نبرة صوتها الحزينة وهي تعترف،
بعد أن أطلقتْ تنهيدة حارة، بمعرفتها أسباب تعبها، وأن كل ما
تحتاجه هو الفضفضة لكي تُروح
عن نفسها. فقلت في سري " الله يستر!"، ثم أمسكتها من يدها وعبرت بها
الشارع، لتفادي استنشاق دخان عوادم السيارات أثناء سيرنا جنوبًا في اتجاه المحطة
الوسطى لتناول عصير "العرديب".
وزاحمنا
جموعًا من بشرٍ مسرعين ليتدافعوا نحو حافلات وباصات ومركبات مواصلات أصغر حجمًا
"هَايِسْ"، متجهة نحو ضواحي شمال الخرطوم، تجاوزناهم بصعوبة لنصطدم
بآخرين، يدخلون أو يخرجون من "المحمصة السورية"، حيث رائحة البن المحمص
بالهيل وبالزنجبيل، تنعش وتبدد رائحة نتانة قمامةٍ متناثرة على طرف الشارع، مختلطة
بمياه راكدة لا يعرف مصدرها.
انتابني شعور بالدوار، فضغطتُ على
يد خطيبتي بقوة وسحبتها حاثًا إياها على الإسراع بالخروج من ذلك الزحام. لكنها
أفلتت يدي بعصبية، وتوقفت تطالعني بدهشة وتستفهم عن سبب توتري. فلم أبُح لها بمخاوفي
من فضفضتها التي تنظرني لتذكرني وتؤنبني على تهربي من التعرف بوالدتها. وتملصتُ
من اجابتها بسؤالٍ عن سبب وميض الحزن في عينيها، فرفعت حاجبها الأيسر استنكارًا وطالبتني
بالتحلي بالصبر لحين أن تجلس قبالتي، لتقص عليّ تفاصيل ما بما يقض مضجعها منذ
يومين، ثم أضافت بأنها لو أرادت إخباري بالإمر على السريع، لفعلت برسالة نصية أو
باتصالٍ هاتفي.
فعاد خاطر التأنيب ينهشني ويوسوس بأن
لحظة الفراق قد حانت، وبأن حبيبتي تتعمد تعذيبي قبل أن تخبرني بقرارها انهاء علاقتنا،
حتى لا تهدر المزيد من وقتها مع شاب يتهرب من التعرف بوالدتها ومن المسؤولية.
وانتابني شعورٌ بالمرارة والعجز
عند تذكر أن حبيبتي الأولى، بنت الجيران التي عملتني نظم الشعر، نسيتني سريعًا لما
أدركت أن مشواري مع دراسة الطب سيمتد لسنوات طوال يكون فيها ابنها قد دخل المدرسة،
وتزوجت بأول خاطب مغترب
أغراها برغد العيش في الخليج.
ومن جديد وجدتني أمام تساؤلاتي القديمة عديمة الأجوبة: لماذا
ولدتُ فقير في بلد مثل هذا، ولماذا عليَّ الكفاح حتى يشيب شعري قبل أن أقطف ثمرة
تعبي وجهودي؟ وما هو الحب، ولماذا يربطونه دائما بالزواج؟ وكيف أحافظ على حبي
وتتويجه بالزواج لتكوين أسرة سعيدة مستقرة؟ وهل إذا فرطت في حبيبتي هذه سأجد أخرى أبادلها
نفس المشاعر وتقبل أن تتزوجني رغم فقري؟ وهل هناك فتاة في هذا البلد لا تحلم
بإقامة عرس ضخم في صالةٍ فخمةٍ تدعوا إليه جميع أفراد العائلة القريبين والبعيدين
وجميع صديقاتها المقربات وبعض زملاء دراستها في الجامعة، والجيران في الحي،
والمعارف في الأحياء المجاورة؟ وهل هناك أمل أن تصحح الثورة جميع المفاهيم الخاطئة
القديمة؟
لحظات بدت لي كأنها دهر وأنا
شاردٌ أتلظى بنيران تساؤلاتي، أفقتُ منها عند مرورنا بجوار سائق
"رَكْشَة" عشريني أسمر مليح مقضب الجبين، يزمجر بصوتٍ جهوريٍ غاضب في
وجه سيدة خمسينية عريضة المنكبية ترتدي ثوبًا تقليدًا باهت الزرقة، مصنوع من قماش
"بوليستر" رخيص، ويتهمها ببخسه حقه.
طالعتُ وجه السيدة الشاحب، ودُهشتُ من دفعها عن نفسها التهمة
ببرود مؤكدةً أنها لن تزيده "جنيهًا" آخرًا، مذكرة إياه بخطئه رفض تحديد
السعر معها منذ البداية ظنًا منه أن تشجيعه لها على الركوب بقول "ما
بْنِخْتَلِفْ"، التي افهمتها بأنه سيقبل ما ستعطيه بصدرٍ رحب، سيمكنه من استغلالها
بمضاعفة السعر. بلعتُ ريقي أسفًا مذهولًا من المشهد الذي كثر تكرره في الآونة
الأخيرة، مع استفحال غلاء الأسعار وشح الأموال في البنوك، وانعدام الأمن
والاستقرار مع تكرر الاحتجاجات والتظاهرات ومواكب الثورة.
ورغم تضامني في البداية، مع المرأة لقوة حجتها، إلا أن شعورًا
بالشفقة نهش دواخلي عند ملاحظة أن ملامح غضب الشاب الغاضبة تتحول لحزنٍ وانهزام.
وانتابني ألمٌ كبيرٌ وأنا أتصور حاجته الماسة لتلك الجنيهات التي رفضت أن تضيفها
له الزبونة، حتى يستطيع تسديد القسط اليومي لصاحب رَّكْشَة جشع، يستغل شبابه ووقته
لجازيه براتب لا يكفيه قوت يومه.
ومرت بخاطري معاناة كثير من أصدقائي وحديثي التخرج من الجامعة،
يحاربون العطالة بالعمل الدؤوب في " الرَّكْشَات "، تاكسي الطبقة
الكادحة ذو الثلاثة اطاراتٍ، لسهولة تنقله بين الأزقة الضيقة والشوارع المتسخة غير
المعبدة، ولرخص تكلفته مقارنة بتاكسي الخرطوم الأصفر أو التاكسي الأبيض الأكبر
حجمًا: "الأمجاد". لكن منذ مدةً، بعد اجتياح سيارات تطبيق
"تِرْحال" للسوق، وعودة
نشاطها هذه الأيام بعد رجوع خدمة الإنترنت إلى البلاد، تضاءل الطلب على
"الرَّكْشَة" وعاد سائقي الركشات يعيشون كوابيس وضغوطات التنافس مع
سائقي تلك السيارات المكيفة، التي تتخطف منهم الزبائن، تاركةً إياهم يعيشون صراعات
ولحظات كساد طويلة قد تمتد لطوال اليوم.
بأسىً، تابعتُ سائق الرَّكْشَة الشاب يعلن هزيمته بإلقاء نظرة
غبنٍ أخيرة على وجه المرأة الجامد قبل أن يصعد على مركبته وينطلق مخلفًا وراءه
سحابة مزيجٌ من الغبار والدخان. وباغتمامٍ، التفتُ ناحية خطيبتي لأبدي لها أسفي
على حال الشاب المثير للشفقة، فوجدتها ساهمة تدير رأسها يمنة ويسارًا بين مجموعة
أطفال متسولين منتشرين على جانبي الطريق، في ترقبٍ لتحول إشارات المرور الى الأحمر
حتى يتدافعوا نحو السيارات، ويطالبوا سائقيها بصدقة أو بأجرة مسح زجاج سياراتهم
الذي باغتوهم بمسحه.
راقبتُ الأطفال برهة، ثم تعمدتُ إخراجها من صمتها بسؤالها إن
كانت تعبت من المشوار. فابتسمت بوهن، واستنكرت بسخرية:
-
و دا
مشوار يِتَعِّبْ يا عباس، نِحنا لِسة في المؤسَسَة؟
أسعدتني رؤية ابتسامتها وازدحام
أسنانها في فمها الصغير، فأمسكتها من يدها وعبرنا شارع الزعيم الأزهري تاركين
وراءنا غبار سائق الرَكْشَة، وحشود الأطفال المتسولين حول صينية "المؤسسة"،
وحركة المرور التي عادت للازدحام منذ إزالة آخر تروس بقايا العصيان المدني.
وأثناء سيرنا الحثيث كنتُ أتصيد لنظراتها،
حتى أكذب مخاوفي أنها تتعمد الاشاحة بوجهها تجنبًا للحديث معي. ولما لم تستجب،
قطعتُ وعدًا لنفسي بالتزام الصمت، نسيته بسرعة عند مرورنا بجوار معارض فساتين
الزفاف المنتشرة جانبي شارع "المعونة"، وعلقت بحماسٍ بأننا قريبًا سنأتي
سويًا لتختار لها فستان فرحٍ يليق بها. لكنها كسرتْ خاطري وأطفأت حماسي بإجابتها
المشككة ببرودٍ " نشوف!".
فقطعتُ وعدًا آخر لنفسي بالتزام
الصمت، نفذته لما عبرنا شارع مستشفى "أحمد قاسم"، ولم أقدم لها دعوة أن تزورني
في قسم الأطفال لتراني في محيط عملي. ومرة ثانية عند عبورنا لشارع
"المدارس"، ولم أحكِ لها عن ذكريات مراهقتي المتمردة ومعاكساتي للفتيات
مدة ثلاثة سنوات أيام دراستي في مدرسة الشعب الثانوية بنين. ومرة ثالثةً عند تجاوزنا
لبنك الخرطوم ولم أخبرها بمعاناتي الشهرية من أجل الخصول على راتبي الزهيد من
البنك بعد تفاقم أزمة "الكاش" في البنوك، أحد أسباب اندلاع ثورة ديسمبر 2018 ومن
قبلها ثورة سبتمبر 2013. والتزمت بالصمت مرة
رابعة عند مرورنا بجوار محل "الجَمْري للعَمَاري" جنوب سوق سعد قشرة، ولم
أخبرها بأنني أتعاطى التُمْباك أو "السَّعوط". لكن ما أن اقتربنا من ميدان "عَقْرب" في حي
"الدَّنَاقْلَة"،
وتدفق مشاعر
الوطنية في داخلي، خسرت رهاني مع نفسي، واستسلمتُ للثرثرة.
وبسرعة
توقفتُ عن الكلام، لما انتابني توجسٌ من أن تتفاعل خطيبتي مع فرحتي المشتعلة
ببرودٍ وتشككٍ، كما حدث قليل أمام معرض فساتين الزفاف. لكن
خاطري لم ينكسر
هذه المرة. وانشرح قلبي لرؤية شعاع الفرح ينبثق من ملامحها الرقيقة، وهي تصغي
باهتمام لذكريات لقائنا الأول، وسط هتافات الثوار بـ"تَسْقُطْ بَسْ"،
لما جمعنا في هذا المكان موكب تجمع أحياء الخرطوم-بحري لمطالبة الرئيس بالتنحي عن
السلطة. ثم أصابتني دهشة عند
صدوح صوتها الرخيم بكلمات "مواكب ما بتراجع تاني،،أقيف قداما وأقول للدنيا
أنا سوداني"، تحولت رخامته إلى قوة جبلية مع ترنمها بمقطع:" وداعًا يا
ظلام الهَمْ على أبوابنا ما تعتب".
وتحولت
دهشتي إلى فخر عند التفاف نفر من الناس حولنا، جذبهم صوتها، ليرددوا
معها بحماس" وداعًا يا ظلام الهَمْ" ملوحين بأيديهم بحماس، راسمين
بأصابعهم لعلامة النصر. لكن سريعًا أصابتني حيرة عند خفوت صوتها الجبلي بالتدريج، ثم
توقفه بالكامل مع انفراط عقد دموعها. فانتابني خوفٌ، فسألتها بهلعٍ:
-
إيمان مالِكْ؟ في شنوُ؟
لكنها لم
تُجبني إلا بارتفاع النشيج، لتوقعني في حيرة أكبر، وحرجٍ دفعني لإطباق قبضتي على
يدها وسحبها بعيدًا عن الجموع المتحمسة لمواصلة أغاني
الثورة وشعاراتها، باذلًا جهدًا جبارًا لكيلا أنخرط في البكاء حزنًا وحسرةً على
آمال عريضة نسجنا خيوطها طوال ثمانية أشهر منذ انطلاق الثورة في ديسمبر الماضي
من مدينة عطبرة احتجاجًا على قرار رفع أسعار الخبز، مرورًا "بمليونية" ستة
أبريل إلى
أن تم عزل
الرئيس، وانتهاءً بمجزرة القيادة العامة التي نجونا منها بأعجوبة. فلولا مشيئة الأقدار
أن أكون أغطي وردية عمل ليلية لزميل في قسم طوارئ الأطفال بمستشفى
"البُلُك" في أم درمان، في الوقت الذي ذهبت فيه خطيبتي لتقي العزاء في موت جدتها
بمدينة سِنَّار، لربما لكنا من شهداء أو مفقودي فض الاعتصام.
ظللتُ
ضاغطًا على يدها، أجاهد ألا يهزمني انتحابها ويدفعني لتقليدها وتحرير دموع غُبني
ويأسي من أن ينصلح حال البلد، الذي منذ أن فتحت عيني على الدنيا، وأنا أرى جميع من
حولي يحلمون بتغيير لن يحدث، وعودة لأيام رخاء بعيدة.
ظللتُ ماسكًا
يدها، ساحبًا إياها دون محاولة لدعوتها أن تكف عن النحيب، إلى أن هدأت بمفردها عند
مرورنا من أمام بائع كتبٍ يفترش مساحة مترين مربعين من أرض المحطة الوسطى على يسار
موقف حافلات أم درمان الثورة بالمهداوي. فتنفستُ
الصعداء، فرحًا بوصولنا أخيرًا وصلنا للمحطة الوسطى، وتلهفتُ للجوس أمامها حول كأسي
عصير "عَرَدِيبْ" حتى أستمتع لفضفضتها.
وتلهيت
عنها، لما لاحظت انغماسها بالتحديق في أسماء الكتب المفروشة على الأرض، بالتلفت
حولي قبل أن يستقر بصري على نفر من الناس ملتفين حول بائع ليمون يزايدون في السعر،
ويأخذون كميات منه ويختفون في الزحام، دون اكتراث لمناداة صبي ورنيش يافع رث
الملابس، تطفر من عينيه السوداوين نظرات الغبطة أو الحسد لبائع الليمون.
أخرجتي خطيبتي من شرودي مع الجموع، بسؤالٍ إن
كان باستطاعتي أن أشتري لها الست روايات التي كانت تمسك بها وتطالع أغلفتها
بحنانٍ، وكأنها لا تصدق أن تجدها مجتمعة عند بائع كتب بسيط يفترش الأرض: "أحلام
الناي" لهيرمان هسه، و"حين فقدنا الرضى" لجون شتاينبك"، و"أنا
وحماري" لخوان رامون و"الحارس في حقل الشوفان، لــج.د.سالنجر، و"سيد
الخواتم" لجيه آر.آر تولكين، و"بيت الأرواح" لإيزابيل الليندي.
بلعتُ ريقي
بصعوبة وطالعتها بذهول، دون أن أنجح في طرد غصة خيبتي من عجز خطيبتي، التي لم
أخطبها بعد، على تخمين أن طبيبًا شابًا مثلي لا يمكنه إنفاق أكثر من نصف مرتبه
الشهري في شراء كتب.
وأثناء
تألمي من مرارة شعوري وأنا أتخيل نفسي كفأر وقع في مصيدة، إذ تجئ نجدتي من السماء،
التي تحولت سحبها الرمادية الكثيفة في غمضة عين إلى سحبٍ سوداء، أبرقت ثم ارعدت
قبل أن تتفجر شلالاتها. فبإسراعه جمع بضاعته والاختفاء بها
داخل قبو العمارة، وفر عليّ بائع الكتب، ذُل البوح بافتقار محفظتي لأوراق
نقدية كافية تحقق رغبة خطيبتي وتشبع نهمها الدائم على التهام الكتب.
دافعنا
الجموع الراكضين للاحتماء من المطر، وعبرنا بسرعة صفوف حافلات مواصلات "السوق
الشعبي" و"الميناء البري"، قبل أن ندخل إلى محل "علي إبراهيم
للعَرَدِيب"، لنتكدس أمام المدخل مع آخرين، هرعوا
مثلنا للاحتماء من شلال الامطار.
بصعوبةٍ وجدنا طاولة فارغ أسرعنا
في الجلوس عليها، بينما لساني يلهج بدعوات خافتة، أن يمد الله في عمر علاقتنا
أسبوعًا آخر حتى أوفر النقود واشتري لخطيبتي الكتب التي لم تكن تريد إفلاتها إلا
بعد أن أعطاها البائع وعدًا بأن يحفظها لها حتى أسبوع من تاريخ اليوم.
أخرجني من مناجاتي الداخلية وصول
النادل ووضعه لكوبي "عَرَدِيب" أمامنا ثم انصرافه بسرعة برق. وأصابتني
الدهشة، لما تناولت خطيبتي كوبها تتجرعه دفعة واحدة، قبل أن تمد يدها وتأخذ كوبي
لتتجرعه بنفس السرعة. ولما رأت جحوظ عيني ودهشتي، اعتذرت معللة أنها استجابت لنداء
جسدها الذي كان يحتاج هذين الكوبين ليطرد كل احتمال لإصابتها بمرض الملاريا.
بصمتٍ،
راقبتها إلى أن أكملت مسح جانب فمها بطرف وشاحها الأصفر، ثم سألتها عن سبب بكاؤها
المفاجئ في ميدان "عقرب" قبل قليل. وانتابني غمٌ عند رؤية عودة زحف جيوش
الحزن على ملامحها، أثناء تعبيرها عن قلقها على أخيها بسبب قراره الهجرة إلى
أوروبا بطريقة غير شرعية رغم غرق ثلاثة من أصدقائه العام الماضي في البحر المتوسط
قبل أن يصلوا إلى الشواطئ الإيطالية.
فسألتُها
عن علاقة ذلك ببكائها، فأجابت لأنها تذكرت أخاها لحظة هتافها لكلمات "وداعًا
يا ظلام الهم"، لأنه هو من علمها هذه الأغنية، وكثير غيرها من أغنيات مطربه
المفضل محمد الأمين. فلذتُ بالصمت، ولم أدرِ كيف أطمئنها على أخيها، لأعرج لموضوع
الفضفضة الذي تدخره لي، وأطمئن على مصير علاقتنا معًا.
وبعد
تفكير طويلٍ ظننتُ بأنها ستطمئن عند سماع أن الله سيحفظ أخاها في البحر كما حفظه
في البر وأنجاه من الموت بتدبير ذهابه إلى مدينة سِنار لتلقى العزاء في جدته، في
اللحظة التي كان أصدقائه ومرافقيه في حراسة المتاريس قرب "جمهورية أعالي
النفق" يتلقون الرصاص بصدور مفتوحة صبيحة يوم
المجزرة: التاسع والعشرين من رمضان، الموافق للثالث من شهر يونيو عام 2019.
وخاب ظني،
وتضاعف هلعي عند رؤية ملامحها تشتعل غضبًا وصوتها يزمجر ليتهمني بعدم الاحساس بها
وفهم معنى أن تفقد أخاها الوحيد. فعقدتُ يداي أمام صدري لأحمي نفسي من دفقة الطاقة
السلبية تاركًا إياها تعبر عن ألمها وخيبتها من سلوك أمها التي وافقت على بيع حُلييها
الذهبية وتقديم جميع مدخراتها لتمويل مشروع ابنها، متناسيةً أن ابنتها الصغرى،
اليتيمة العاطلة عن العمل لم تتزوج بعد، وبأنها قد تحتاج لهذه المدخرات لإتمام
جهاز زواجها، كاحتياجها لأخيها الوحيد لأن يقف بجانبها ليعوضها غياب الأب، المتوفى
قبل سنوات في حرب الجنوب.
فكرتُ
قليلًا مستحضرًا معاناة الشباب في هذا البلد، قبل أن أبدي قرفي من الوضع، وأفترض بأنها ستفقد أخاها لا محالة إن ظل بينهم، لأنه إن استطاع
تجاوز حزنه وعمق ألمه بعد بعد تلقيه
العزاء في عشرة من أصدقائه، بين مقتول بالرصاص وغريق في النيل ومحترقٍ بنيران
الغدر التي أبادت أثار الاعتصام على بكرة أبيه، لن يصمد أمام العجز واليأس من محاربة البطالة بعد اجهاض حلمه بقتل الثورة.
فقاطعتني بنهرة غاضبة بأن الأحلام لن تُجهض وبأن الثورة لن تنتهي. فبلعتُ ريقي
وواصلتُ بيأسٍ أنني على استعداد، إن توفر لي مبلغ تكاليف الهجرة، بالمخاطرة وركوب
البحر ومرافقة أخيها.
فصرخت
بهستيرية:
-
عباس؟ أنت
عايز تجنني؟
فانتفضتُ وطالعتها بذهول، ثم هززتُ رأسي بالنفي.
وظللتُ أتأملها بصمتٍ وأقول في سري بأنني أنا الذي سأجن،
وأنا لا أرى آخر النفق، ولا أعرف إلى أين يسير مستقبل هذا البلد، رغم توقيع اتفاق،
الأسبوع الماضي، بين قوى الحرية والتغيير والمجلس العسكري الانتقالي. فأغراها
طول صمتي بالتوغل في النحيب وزرف الدموع، إلى أن اقترب النادل ووضع أمامنا
"جك" ماء بارد وكوب نظيف، فتنهدتُ بعصبية وصببت لها كوبًا وطالبتها أن
تشرب لكي تهدأ. فنهرتني مرة أخرى، مستنكرة أن أطالبها بالهدوء بعد إضرام النار في
داخلها بتفوهي بنية اتباع نهج أخيها والمغامرة بالهجرة، لأتركها تعاني فقدين بدل
فقد واحد.
فأشرتني جملتها تلك بالأمان والراحة، وتأكدتُ بأنها لا
تفكر في إنهاء علاقتنا. فابتسمتُ بحذرٍ، وراقبتها بصمتٍ تمسح دموعها تارةً، وتارةً تتلفت
حولها أو ترمي ببصرها في الخارج لتتابع في حركة الناس وهو يركضون تحت المطر.
ولما هدأتْ، وعادت تطالعني بعينين حالمتين، أمسكتُ بيدها ووضعتها بين
راحتي، وركزتُ في عينيها العسليتين حتى تكتشف صدق كلامي، لتتأكد بأن كلماتي السابقة
لم تكن سوى سخرية من عدم القدرة على الزواج بها في الوقت الحالي.
وعندما زاد بريق الحب في عينيها، أكدتُ بفخرٍ بأنني لن أجازف بركوب البحر
وأمواجه الهوجاء لأخاطر بحياتي من أجل تحسين وضع اقتصادي، ما دامت ستكون بجانبي
لتساندني في رحلة الحياة. فأشرقت ابتسامتها، وهزتْ رأسها موافقة قولي بأنني سأبقي
في هذا البلد رغم عدم وضوح مستقبله، لأنني أقدر دماء الشهداء، وأثق في نفسي وفي
جميع الشباب الذين سيواصلون النضال من أجل بناء ورعاية السودان الجديد،
المولود بعد مخاضٍ عسير، من رحم ثورة ديسمبر.
*****
باريس/ أغسطس 2019
[1] يسمي السودانيون "التمر
هندي" بالـ"العرديب"،
بينما يطلقون على اللوز الهندي " التمر هندي".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق