الجمعة، 15 أكتوبر 2021

قِصَّة قَصِيرة: ڤَالْ- دُو- فُونْتُونِيهْ

بقلم/ تسنيم طه

 

-  انظري إليه كيف يسعل! يا إلهي، كم هذا مقزز!

غطت ذات الشعر الأحمر أنفها الطويل بوشاحها الأبيض، أثناء تضجرها بصوت مسموع. فقلدتها جارتها الشقراء بتغطية أنفها الصغير بوشاحها الأزرق، وردت عليها بتقزز:

-  وانظري إلى أنفه كيف يسيل، وإلى عينيه كيف تدمعان! يا إلهي، كم هذا فظيع! 

ولاذت الفتاتان بالصمت لما لاحظتا التفات الرؤوس، واشرئباب الأعناق نحوهما. فقد كان القطار مكتظاً بالبشر كعادته كل صباحٍ، حيث يمتلئ بسكان الضواحي الشرقية المتاخمة لـ"دِيزْنِي لَانْد"، القادمين لمزاولة أعمالهم في باريس.

ثم عاد الصمت ينكسر بصوت ذات الوشاح الأزرق وهي تطلق اللعنات جذافًا على الصباح المقرف، ثم تستفهم عن سن الطفل التي بدأ فيها مهنة التسول ليصبح محترفاً وهو لم يتجاوز السابعة من عمره. لتعقب عليها ذات الشعر الأحمر، وتبدي استغرابها من وجود أطفال داخل فرنسا، وهي ثالث الدول الكبرى في العالم، لا يذهبون للمدرسة لأن أهاليهم استباحوا براءتهم وزجوا بهم إلى التسول. فردت عليها الشقراء بسؤال آخر عما إذا كانت ظاهرة تسول الأطفال بين أروقة القطارات تقتصر على الغجر والرومان، أم أن هناك مهاجرون آخرون لا يكتفون بما تقدمه لهم الدولة من إعانات ليراعوا حقوق أطفالهم ويهتموا بأمور نظافتهم وتعليمهم.

وصمتت الفتاتان مجددًا، عندما لاحظتا نظرات الضيق لطالبة مليحة، من أصولٍ أثيوبية، تجلس قبالتهما وترمقهما بغيظ بسبب علو أصواتهن التي حرمتها التركيز في قراءة كتابها. لكنهن عدن بسرعة لمواصلة التعليقات بصخب وحماس على الطفل المقرف، دون أن يكترثن لغيظها واستغرابها من انسجامهن في الثرثرة وكأنهن ليستا مجرد راكبتان التقتا صدفة على متن قطار، وإنما صديقتان اعتادتا تبادل الشكوى والتذمر من فظاظة المدراء في العمل، أو مشاكل الأزواج في البيت، أو حتى من المعاناة بسبب ازعاج الجيران في الطابق الأعلى.

ومع اقتراب الطفل واشتداد فوحان الرائحة المنفرة، رفعت الطالبة الإريترية رواية " أَسْمَرة والقضايا الخاسرة "، للكاتب الفرنسي "جان-كريستوف روفان" لتخفي خلفها وجهها المليح. وأسرعت ذات الشعر الأحمر بفتح حقيبة يدها الجلدية البنية وإخراج منديلًا ورقيًا، بعد افتعال اصابتها بزكامٍ واصطناع عطسة أعطتها حق إخفاء أنفها الطويل دون إحراج من أن تترجم حركتها على أنها ابداء فاضح للشعور بالاشمئزاز. فقلدتها جارتها الشقراء، وأخرجتْ مع المنديل محفظة نقودها وانتقت منها بأنامل مضطربة عملات معدنيةٍ زهيدة، مدتها بحذرٍ للطفل الواقف بجوارها يطالعها بنظراتٍ خالية من البراءة.

وبعد التقاطه للعملات الزهيدة، دون قول كلمة " شكراً"، ابتعد الطفل ليزاول تجواله داخل العربة المزدحمة من تكدس البشر في الممرات كتكدس السمك داخل علبة السردين.

لكنه، ولما لم يجد أحداً يتصدق عليه، عاد سريعًا ليرجوا ذات الشعر الأحمر أن تعطيه مثلما أعطته جارتها. فطالعته الفتاة العشرينية بنظرات تنضحُ اشمئزازًا وقرفًا، ثم أشاحت بوجهها عنه لترمي ببصرها خارج النافذة عله ييأس ويتركها وشأنها. إذ لم تكن تنتمي إلى الأقلية الذين يتصدقون بسهولة لإيمانيهم بمقولة "أنفق ما في الجيب، يأتيك ما في الغيب!"، وانما إلى الأغلبية المرعوبين من شبح النظام الرأسمالي، المستنزف لمصادرهم المالية بالضرائب (ضريبة الدخل، والسكن، والتلفاز، وامتلاك العقار، والقيمة المضافة على البضائع)، ليجبرهم على اعتقاد أن لكل "ستنيم"[1]قيمة، ويجب أن يُصرف في محله. 

لكن الطفل لم ييأس. وظل واقفاً متسمرًا يحك رأسه تارة بأظافره المتسخة، وتارة أخرى يدخل إصبع يده اليسرى الصغير في أنفه ويعبث بمخاطه الأصفر المخضر.

ولما طال تشاغل الشقراء بالنظر خارج النافذة، تجاسر الطفل وباغتها بمد يده اليسرى حتى كادت تلمس وجهها، لتتراجع بحركة تلقائية إلى الخلف، خشية التقاط قمل من شعره المنفوش، أو عدوى من سعاله الجاف، أو لمس أثار المخاط في أصابعه المقرفة.

 ثم أسرعت، بحركة متوترةٍ، بفتح حقيبة يدها الجلدية، وهي تكتم أنفاسها، لتخرج، على مضضٍ أول قطعة معدنية لمستها أصابعها، مدتها له بحذرٍ شديد خشية أن تلمس أصابعه التي عاثت في أنفه المقرف، قبل أن تعود لتشيح بوجهها عنه لتقاوم الغثيان والتحسر على ضياع عملة معدنية خرجت بدون تخطيط مسبق.  

واستدار الطفل ليواصل تسوله في العربة المجاورة، قبل أن يعود سريعًا ليقف هذه المرة أمام الفتاة الإريترية ليستجديها، مستخدمًا نفس سلاحه لإثارة قرفها. لكن الفتاة السمراء المليحة لم تكترث له، وواصلت ادعاء انهماكها في قراءة رواية "أسمرة والقضايا الخاسرة".

ولما طالت فترة وقوف الطفل وعناده، حدجتها ذات الشعر الأحمر بنظرةٍ ناقمةٍ ترسل سخطًا لعدم اسراعها إعطائه شيئًا يدفعه للابتعاد عن المكان.

ومع إصرار الفتاة الإريترية على تجاهل إصرار الطفل، كانت عذابات ذات الشعر الأحمر تضاعف وهي تحبس أنفاسها لتقاوم الغثيان خشية الاستسلام وافراغ محتويات معدتها أمام الركاب.

وواصلت جهادها وعدت إلى المائة، لحين وصول القطار إلى المحطة القادمة. وما أن توقف القطار وفُتحت الأبواب لتبادل حركة نزول وصعود الركاب، حتى انتصبت واقفة مدافعة الواقفين في الممرات لتشق طريقها وسط الزحام وتلقي بنفسها خارج القاطرة.

 ولم تكد قدماها تطآن أرض المحطة، حتى حررت ذات الشعر الأحمر أنفاسها، لينفجر القيء.

لحظات مرت عليها كدهرٍ وهي منحنية تفرغ محتويات معدتها بقرف وضجر. ولما أحست ببعض الارتياح، رفعت رأسها وتلفتت حولها باستحياء، متوهمة أن يكون هناك من يراقبها ويلعنها في سره. لكنها تنفست الصعداء، عند ملاحظتها ألا أحد يعرها اهتمامه.

ففي مثل هذا الزحام الصباحي الكل مشغول بأمره: هذا مع موسيقى تعطل سمعه عما يدور حوله في العالم الخارجي، وذاك مع فيديو على "يوتيوب"، وآخر مع كتابٍ أو صحيفةٍ يخفي فيها بصره. ولأن الأنف هي العضو الوحيد الذي لم تصنع له وسيلة ترفيه لإلهائه، ستظل الروائح الكريهة من أقوى مشتتات انتباه الباريسيين، إلى أن يأتي زمان ينتشر فيه وباء كرونا، فيفرض عليهم لبس الكمامة في الموصلات العامة، فيتفننون ليس فقط في انتقائها قطنية زاهية الألوان، ولكن أيضًا في تعطيرها بعطورهم المفضلة، ليفشلوا بذلك كل محاولات ابتزاز من المتشردين للركاب لإثارة مشاعر الاشمئزاز والقرف لكي ينتزعوا منهم صدقاتٍ بخسة.

مسحت ذات الشعر الأحمر فمها بمنديلٍ ورقيٍ. وعادت تكيل الشتائم واللعنات لهذا الصباح المقزز ولجميع المتسولين، أثناء تشيعيها للقطار وهو يبتعد، لينتابها قلقٌ، عند ملاحظتها لساعة المحطة وادراكها أنها لم تخسر يورو واحداً فقط، بل خمسة أو عشرة "يوروهات" أخرى، سيخصمها من راتبها مديرها الجلف المتصيد لهفوات الموظفين. 

ومع تفكيرها في مديرها المحصي لتأخر وصولهم إلى العمل بالدقائق، وتنامي يأسها من الوصول إلى محطة " شارل ديغول-إيتْوال Charles de Gaulle -Étoile" حيث عملها، قبل الساعة التاسعة، تفاقمت حالة إعيائها وغثيانها. فعمدت على تهدئة نفسها بعمل تمارين تنفس، وتذكر أن مدة انتظار قطارات هذا الخط "إِيغُووِيغْ-آهـ -RER A"، الأكثر ازدحامًا في أوروبا، لا تتجاوز الثلاث دقائق في ساعات ذروة المواصلات. طمأنينتها المؤقتة هربت انسلت سريعًا من صدرها عند صدوح صوت نسائي رقيق عبر ميكرفونات المحطة ينوه بتوقف حركة القطارات لهذا الخط بالكامل بسبب نزول شخصٍ على سكة القطار في محطة "تُوغْسِي-Torcy".

 وأطلقت صرخة أثناء مطالعتها لشاشات المحطة، ليتفاقم تشاؤمها عند سماعها لحوار شخصين بجوارها استنتج أحدهما أن سبب توقف القطارات محاولة انتحار لشخص آخر من السكارى أو المتشردين واليائسين من الحياة، وما أكثرهم في إقليم باريس، ليعقب الآخر بأن فترة الانتظار قد تمتد لأكثر من ساعة إذا ما تأكدت شكوكه.

تأففت ذات الشعر الأحمر بكلمة "مِيغْدْ-Merde!" (اللعنة بالفرنسية)، وجرجت قدميها بثقالٍ قبل أن تتهاوى على أحد مقاعد المحطة الشاغرة، وهي تردد كلمة "مِيغْدْ".

ولم تدرك أن اللعنة قد اصابتها بالفعل، إلا عندما لمحته يقفُ على بعد خمسة أمتارٍ على يسارها، يراقبها بعيني نسرٍ يتربص بفريسته، ويحك بيده اليمنى شعره الذي ازداد انتفاشًا، بينما لسانه يلحس من سيلان أنفه الأصفر.

فأصابتها قشعريرة وشعور بالعجز. وعصفت برأسها التساؤلات عن كيفية الهروب هذه المرة، قبل أن تدرك في لحظة استبصار، ألا جدوى من السباحة عكس التيار، والصراع مع القدر إن كان قد قضى عليها أن تلتقي هذا الطفل المقرف مرة ثانية.

وبيأسٍ، غرست بصرها في لافتة المحطة، لتتهجى اسمها، وتدرك أنها في أحد أكبر إحدى أكبر محطات ضواحي باريس الشرقية، الثانية بعد محطة "لاديفانْس-La Défense" غربًا، حيث أي تأخر للقطارات يحول المكان إلى خلية بشرية من الضجيج والازدحام.

بفضول، مسحت المكان حولها بنظرة خاطفة، وتعجبت بصوت مسموع:

-   "ڤَالْ دُو فُونْتُونِيهْ-Val de Fontenay"، يا لكِ من محطة!

ولما أدركتْ أن درسًا آخر ينتظرها لتتعلمه مع هذا الطفل المتسول المقرف، على رصيف هذه المحطة،  بلعت ريقها بصعوبة .  

واستسلمت. 

 ***

تسنيم/باريس 

14 سبتمبر2017

14:03

 



[1]   السَّنْتِيم ، هي الكلمة الفرنسية لكلمة "سنت". وفي المجتمع الأوروبي 100 سنتيم تساوي واحد يورو.

هناك 3 تعليقات:

  1. أكثر من رائعه ياتسنيم

    ردحذف
  2. عمر من الرباطالخميس, أغسطس 15, 2024

    سرد بديع محمل بأسئلة الثقافة و التاريخ و الهوية و قضايا الهامش و هموم الإنسان المعاصر ....
    شخصا انغمس انغماسا روحيا داخل وعبر قصصك المشرقة حيث تلتقي المتعة بالفائدة
    مع أطيب تحياتي أستاذة تسنيم

    ردحذف