الثلاثاء، 1 أبريل 2025

عَشَــمْ (فَصْلٌ مِنْ رِواية)

بقلم/ تسنيم طه  


في إحدى عصريات شهر أغسطس من عام 1997 زارتنا عَلَوِيَّة الدُّنْقُلاوِية، جارتنا المتفوقة على طائر اللقلق في الثرثرة؛ فأخذتُ كتابي ونزلتُ إلى الحديقة هربًا من ضجة تباهيها وهي تحكي لأمي عن كثرة الأموال التي استلموها من سفارة الكويت تعويضًا لهم عما لحقهم من أضرار غزو صدام حسين للكويت قبل سبع سنوات.

ظننتُ أنني سألتهى عن غيظي من ذلك التباهي و"البوبار"، باستنشاق رائحة "الدْعاش" التي خلفتها أمطار الظهر الخفيفة أثناء قراءتي في رواية " جريمة في قطار الشرق" لأجاثا كريستي، لحين ميعاد بث مسلسل "رأفت الهجان" على قناة "دريم".  وخاب ظني سريعا عندما جاء أخي وجلس بجواري على الأرجوحة الحديديّة تحت شجرة الليمون. بتوجسٍ، نظرتُ إليه وأخذتُ أدير حوارًا داخليًا، لأرد بالرفض بصرامة إذا ما طلب مني إسداء خدمة له؛ لأن الخادمة الحبشية، نسيت أن تكوي ملابسِهِ قبل ذهابها في اجازتها الأسبوعية. وطال شرود أخي، وكأنه يستجدي الأفق البرتقالي كلمات تقنعني بمرافقته لقضاء يومين مع جدتي في القرية. 

حتى وقتٍ قريب، كنت أحب الذهاب إلى القرية واستمتع بملاحقة الدجاجات والمعزات في فناء بيت جدتي الوسيع، ولعب الطاب" و" الحجلة" مع قريناتي من بنات القرية، أثناء لعب أقراننا الأولاد بِكُرَة "الشُّراب" حفاة الأقدام تحت شجرة "السَيًال" العتيقة أمام بيت جدتي، غير مكترثين لصلابة الأرض الحجرية ولا لأشواك "الضِّريسة" التي ستدمي أقدامهم في نهاية اللعبة.

أغلقتُ الكتاب وأخبرتُ أخي بعدم رغبتي في مرافقته. ولما لاحظت اغتمام ملامحه أخذتُ أبرر عدم رغبتي تضيع فرصة الذهاب مع أبي، إلى مطعمٍ جديدٍ ليحتفل معي بعيد ميلادي؛ كما يفعل كل عامٍ، لا لتقديسه لتاريخ ولادتي لأنني ابنته الصغرى وحسب، بل لمصادفته ذكرى قمة اللاءات الثلاثة (لا صلح، ولا اعتراف، ولا تفاوض مع العدو الصهيوني قبل أن يعود الحق لأصحابه)، المنعقدة في الخرطوم قبل عشرين عاماً من مجيئي إلى الدنيا: في التاسع والعشرون من أغسطس عام 1967، بعد حرب النكسة، الناشبة بين إسرائيل مصر وسوريا والأردن، المؤدية لاحتلال لسيناء وقطاع غزة والضفة الغربية والجولان من قِبِل إسرائيل.

رمقني أخي بنظرة كسيرةٍ وأشاح بوجهه عني نحو قرص الشمس النازل في الأفق. انتابني شعور بالتأنيب، لعملي أنه لا يستمتع للذهاب إلى القرية إلا برفقتي، لكي أبدد عنه بثرثرتي ملل ساعات الطريق الأربع، لكي يعيد ممازحته لي عند مرورنا بكافتيريا "البَكاش" بمنطقة حجر العسل، ما أن أنخرط مقارنة سلسلة تلك الجبال حولنا، بالمناظر الجبلية في مسلسل "دَكِين" السوداني، بأن الأفضل لي بدل متابعة المسلسلات التاريخية استثمار وقتي في التدرب على كتابة إبداعية، تدربني لتحقيق حلمي في أن أصبح صحفية، وتوثيق لحظات حياتنا الجميلة مع جدتي في القرية.

كنت ابتسم له بتحدٍ وأواصل ثرثرتي، دون أن أخبره بأنني كتبتُ مقالات عن قرية جدتي الحبيبة أحتفظ بها لحين وقت نشرها، وصفتُ فيها: أمسيات سمر شباب القرية تحت "الصهريج"، وتسليتهم بألعاب "السيجة" و"صفرجت" و"شِليل وين راح" و"الرمة والحراس"، وتكرارهم لحكايات "فاطنة السَّمْحَة وود النِّمير" و"البَعاتي"، و"تيراب البِنَيَّة"، و"ود الدُّمْبُعلو" و"سحاحير ناوا" وغيرها من الاساطير الشعبية. لم أخبره أنني دونتُ أيضًا حكايات جدتي عن تاريخ "الجَعَليين" و"مجزرة الشُكَابة" و"كَتْلة المَتَمَّة"، التي أجبرت جداتها ليرمين بأنفسهن في مياه النيل خوفًا من السبي، وبأنني وصفت نقاء هواءه القرية المعبق برائحة أسماء النيل والطمي ونسائم الحقول وصدى نغمات السواقي والوابورات اثناء رفعها لمياه النيل لتشق الجروف وتسقي الزروع، الممزوجة بزقزقة عصافير "ود أبرق" ونداءات المزارعين وهم ينادون بعضهم بعضًا.

لاذ أخي بصمت طويل فاقم إحساسي بتأنيب الضمير، ودفعني للاعتراف بالحقيقة:

أخشى إضاعة حلقات من مسلسل رأفت الهجان؛ لأن جدتي لا تملك تلفازًا فضلًا عن طبقٍ صناعيٍّ يبث قنوات "نايل سات". عقد أخي حاجبيه استنكارًا، قبل أن يقول بأن ضياع حلقتين لن يؤثر على فهمي لبقية أحداث المسلسل. وبدل أن أقتنع جادلته بسؤال إن كان سيذهب إلى القرية في فبراير القادم، ويضحي بمتابعة مباريات بالدوري الممتاز لعام 1998. ولما طال صمته، ظنتُ أنه بأنه سيبهجني بجوابه: "معك حق يا أختي الصغيرة". لكنه حاول اقناعي بأن مباريات الدوري الممتاز ليست مجرد مباريات عادية؛ وإنما كأس السودان الذي تتنافس عليه أربعة عشرة فريقًا تقف وراها جماهير مدن السودان المختلفة.

ولما طال تفرسي المستغرب في وجهه المتحمس، أضاف ليؤكد أن بإمكانه تركه. واصلتُ جدالي وسـألته بتحدٍ: أ لأنك تضمن متابعة أخبارها عبر الراديو في برنامج عالم الرياضة؟

 التزم أخي صمتًا أشعرني بنشوة النصر، ثم رمقني بنظرة غيظ ثم أطلق ضحكة ساخرة قبل أن ستنكر عليَّ الاهتمام بمتابعة المسلسلات التاريخية وقراءة الروايات البوليسية في الوقت الذي تعكف فيه البنات في عمري سرًا على قراءة روايات "عبير" و"زهور" العاطفية ومطالعة مجلات سمر الرومانسية. ورغم أن نشوة نصري ذابت في مرارة شعوري بالهزيمة، إلا أنني لم أستسلم، وواصلتُ جدالي لأرد إليه الصاع صاعين، باستنكاري عليه استمراراه حب المكان الذي أخذ منه أخته التوأم.

ويا ليتني لم أفعل، ولم أتسبب في إيقاظ مارد حزن أخي النائم منذ سنوات، ليطرق ببصره إلى الأرض ليخفي شلالات دموعه، التي انهمرت بغزارة وكأنها كانت تقف على شفا مقلتيه تنتظر كلماتي المؤلمة.

مرت لحظات كأنها الأبدية، صارعتُ فيها الألم والندم وحرقة التنقيب بحثًا عن كلماتٍ تمسح أثر جملتي الُموجِعة.  ولم أخرج من جحيمي الداخلي إلا عند دوى انفجارٌ قويٌ سبق عدة انفجارات أقوى، تلاها انقطاع عام في التيار الكهربائي.

لا أدري كم مر من الوقت وأنا بين ذراعي أخي الذي تلقى هلعي برحابة صدر، واجتهد لتهدئة روعي بالمسح على رأسي بحنان، بينما رأسي يبحث عن كلمات تنجيني من سياط ضميري. وقبل أن هزيمة بكمي لمسح خطئي بالاعتذار مع أخي، داهمتنا أمي وجارتها الثرثارة التي كانت تحاول إقناعنا أن الانفجار قصفٌ جويٌّ على السودان، مؤكدة تشابهه مع بالقصف الذي عايشته في حي "السالمية" بالكويت.

وظل أمر الانفجار خفيًا على الناس طوال ساعات، قبل انتشار خبر أن أمريكا أطلقت صواريخًا على مصنع "الشفاء" لتصنيع الأدوية في الخرطوم-بحري انتقامًا من تنظيم القاعدة لهجماته الأخيرة على سفارتيها في كينيا وتنزانيا؛ هجمات التي ستسبب في عزلة السودان أعوامًا طويلة بعد ادراج اسمه في القائمة السوداء للدول الراعية للإرهاب.

 في ذلك المساء، بعد رؤيتي لدموع أخي لأول مرة، أفهمتني سنوات عمري الاثني عشر بأن أقوى ألم يمكننا أن نحسه هو ألم رؤية نتائج جرحنا وإيلامنا لمن نحب. ومن وقتها، قررتُ عدم ذكر أختي المتوفاة أمامه قط، وأن أفعل ما بوسعي لأثبت له أن بإمكانه الاعتماد عليَّ.

هكذا أصبح معتز صديقي الأول وصار يصغي باهتمام لتفاصيل يومي في المدرسة: شجاعتي الأدبية في إلقاء شعر المعلقات الجاهلية أثناء طابور الصباح، وحواراتي مع الأساتذة حول رغبتي في دراسة الصحافة والإعلام ونيتي في تعلم كثير من اللغات الأجنبية وثلاثة من لغات السودان: الدَّناقْلة النوبية في الشمال (التي سأتقنها سريعًا بفضل صديقتي شهرزاد الحكواتية)، والهَدَنْدَوة في الشرق، والدِينْكا في الجنوب. وظلَّ يشجعني، دون أن يهزأ من طموحاتي كما كانت تفعل أمي، ويحثني على أن ألقي عليه أبيات الشعر التي أحفظها، وخاصة قصيدتي "صوت صفير البلبل" للأصمعي، و"أنشودة المطر" لبدر شاكر السياب، وقصيدة لوركا التي تنبأ فيها بمقتله:

"وعرفت أنني قُتلت،
وبحثوا عن جثتي في المقاهي والمدافن والكنائس،
فتحوا البراميل والخزائن،
سرقوا ثلاث جثثٍ،

ونزعوا أسنانها الذهبية،

ولكنهم لم يجدوني قط".

وبعد رجوعه من فرنسا، أثبت لي أنني أصبحت محل ثقته بدوري. فلما ضايقته أمي بتكرار سؤاله لمعرفة سبب قراره ترك دراسة الطب، طلب مني أن أكلمها لتكف عن معاملته كطفلٍ وتتركه وشأنه. لكن عندما سألته لمعرفة السبب، أملًا في أن يصارحني بخبايا نفسه فيتخفف من همومه، اكتفى بقول إنه عاش تجربة أليمة لا يريد الخوض في تفاصيلها؛ فاحترمت رغبته.

وخلال العشر سنوات منذ عودته من باريس، حاول فيها والدي أن يقنعه بالزواج إحدى بنات القرية الحسناوات، ظل معتز متمسكًا برأيه بأنه لن يتزوج بتلك الطريقة التقليدية. وفشلنا جميعنا، حتى صديقه روماني في معرفة سبب عزوفه عن الزواج. لذلك لما أخبرنا العام الماضي بأنه عثر أخيرًا على الفتاة التي ستشاركه حياته، نبتت لنا أجنحة من الفرح، وأسرعنا إلى القاهرة لخطبتك بعد أسبوعٍ واحد من تعارفكما. لكن تلك الفرحة انكسفت منذ عودته الشهر الماضي من القاهرة، بعد اخبارنا بإيقافك لإجراءات الزواج إلى أجل غير مسمى، معللًا ردة فعلك تارة بموت أحد أقارب والدك، وتارة أخرى بوفاة إحدى جاراتكم المقربات إلى قلبك. لكنني لم اقتنع بتعليلاته؛ فقد رأيت في عينيه حزنًا فاق حزنه عند تذكر اخته التوأم ذلك المساء الذي قصفت فيه أمريكا مصنع الشفاء للأدوية.

حاولتُ مساعدته بطريقة لا تجرحه، لكنني فشلت في جعله يتكلم ليخفف عن همومه بالفضفضة والبوح. لهذا، ألجأ إليك أنتِ اليوم، لعشمي الكبير فيك وفي قلبك، الذي لو لم يكن كبيرًا رحيمًا رؤوفًا حنونًا مليئًا بالجمال، لما كان ليخطف لُبَّ أخي الرومانسي الثوري المحب للحياة، المتيم بك، تتيمًا يفوح أريجه من رومانسية كلمات أغانيه التي يدندنها كل مساء.  فأرجوك يا شمس، وأتوسل إليكِ أن تفكري بهدوءٍ في كل ما أخبرتك به، وأن ترأفي بقلب معتز الذي أحبك بصدقٍ واختارك من بين جميع الفتيات.

ملاحظة: أخبرتني أمي بأن معتز أخي يقضي كل مساءٍ وقتًا طويلًا أمام لوازم العرس التي كنا قد جهزناه لك، وخاصة الشبشب الأحمر الذي كنت قد اشتريته لك من سوق "سعد قِشْرَة" لمناسبة الجَرْتِق، يمرر أصابعه عليه بحنيةٍ ثم ينزوي في ركن غرفته ليعزف طويلًا بالعود أغنية "الشجن الأليم"، مرددًا كلمات:

"عارفني مِنَّك...

لا الزمن يقدر يحول قلبي عَنَّك...

لا المسافة ولا الخيال...يبعدني عَنَّك ".

فهل تعتقدين بأنه واثقٌ من أنكِ تحفظينه في داخلك رغم المسافات؟

على كل حال، أنا في انتظار ردك. وأيًا كان قرارك بشأن استمرار علاقتكما، أرجوكِ أخبريني به أولًا، علني أخفف صدمته على أخي إن كان قرارك سلبًا، أو أن أفوز ببشارةٍ تسعد قلوب الجميع.

 

تحياتي/ تسابيح الجعلي

-------------------------------

من رواية "صنعاء القاهرة الخرطوم"، الصادرة عن دار "السودانية المصرية الإماراتية 2020

 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق