الثلاثاء، 19 مارس 2024

مقال: أَدَبُ الشَّبَابِ في السُّودَان

بقلم/ تسنيم طه 

ظهر على الساحة السودانية في الآونة الأخيرة، زخم من المنتوج الأدبي في مختلف الأجناس.

مجموعات قصصية ودواوين شعرية وروايات بل وحتى مسرحيات اجتاحت بعناوينها مواقع التواصل الاجتماعي؛ لتكشف عن فوز أغلب مؤلفيها بجوائز أدبية.

"فريج المرر"، "شوق الدرويش"، "ربيع وشتاء"، "صنعاء-القاهرة-الخرطوم"، "آماليا"، "نورس يجهره السرب"، "باحة باروكة"، "صومعة الأحلام"، "خلف الجسر"، "مخاض عسير"، "ما يكون لبقعة قهوة فعله"، "تاسوع الخليل الأخير"، "سِفْرُ الغراب"، "سهام أرتميس"، وغيرها من العناوين التي تُوجت بجوائز عربية وأخرى إقليمية.

جوائز مثل "توفيق بكار" و"المختار للغماني" في تونس، "منف" و"إيبيدي" و"كيميت" و"نجيب محفوظ" في مصر، "إلياس فركوح" في الأردن، "الشارقة" و"البوكر" في الإمارات"، "فريد رمضان" في البحرين" و "محمد سعيد ناود" في إريتريا، و"سحر القوافي" و"أمير الشعراء".  وغيرها.  

لكن لم يكن الفوز وحده ما تسبب في هذا الزخم وساهم في ارتفاع هذا البنيان الأدبي. فقد لعبت وسائل التواصل الاجتماعي دورًا مهما في الترويج لعناوين أخرى لقيت قبولًا بين القراء متابعي صناعة المحتوى الرقمي، رغم أنها لم تحصل على جوائز.

ففي عالم تحكمه الخوارزميات وعدد التفاعلات بالإعجاب والمشاركة، يمكن لأي شخص أن ينجح وأن يحصل على متابعة آلاف الأشخاص وهو جالس في مكانه، دون تكبد عناء الركض اللهاث، وراء سراب دور النشر، وجد الشباب عزاءً لهم، وقبلوا تحديات كسر حاجز الرعب من الكلمة والترويج لها بأقل التكاليف.

 فأحد أسباب احباط الشباب وتثبيطهم عن الكتابة هو موضع النشر؛ إذ ليس بمقدور أغلبهم دفع تكاليف دور النشر التي تطلب أحيانًا أرقامًا خرافية قبل أن توقع مع الكاتب عقدًا لنشر كتاب في طبعة من 500 نسخة، يكون مصيرها في أغلب الأحيان صناديق الكتب في مستودعات التخزين، وليس الانتشار الساحق والوصول بسرعة البرق لأيادي القراء في مختلف أرجاء المعمورة، كما توهم الكاتب.

ومن المميزات الأخرى لمواقع التواصل الاجتماعي نجاحها في الترويج للمسابقات الأدبية، ما ساهم في فتح شهية الكتاب للكتابة؛ بتعزيز روح المنافسة والرغبة لخوض تحدي الوصل للصدارة وتارة، وتارة أخرى بإعطائهم آمالًا في نشر مجاني وانتشار يتجاوز حدود الوطن.

وبالتوازي، كان للجوائز المحلية دور في تشجيع الشباب على الكتابة.

ومن أهم المؤسسات التي اهتمت بالمواهب الأدبية مركز "عبد الكريم ميرغني"، الذي ظل يقدم طوال عقدين من الزمان، مسابقات للكتابة مرتين في العام تحت عنوان "مسابقة الطيب صالح"، وهي جائزة للكتاب السودانيين فقط: واحدة في أبريل لفئة القصة القصيرة، وهي موجهة فقط للشباب دون سن الثلاثين، والثانية في أكتوبر لفئة الرواية.

وكأمثلة نذكر بعض العناوين: "الغابة السرية"، " خيانتئذٍ "، " عاصف يا بحر "، " النهر يعرف أكثر "، " دائرة الأبالسة "، " بلاد السين الأم الرؤوم"، " الناجي الغريق"، "مال قلبي" و"أيام حي البوستة".

ورغم أن جائزة فئة الرواية مفتوحة لجميع الأعمار، إلا أن الإحصائيات تشير إلى أن أغلب الفائزين كانوا شبابًا دون سن الخامسة والأربعين.

وفي السنوات الأخيرة، ظهرت مؤسسة "نيرفانا"، وقدمت خلال خمس مواسم اهتمامًا بالمواهب الشبابية وتنظيم مسابقات أدبية نجحت في إضافة عناوين جديدة للساحة الأدبية السودانية، خاصة في مجال القصة القصيرة.

أما في مجال القصيدة والنثر، فقط ظل بيت الشعر" في الخرطوم، صرحًا ثقافيًا يرتاده ليس فقط الشعراء والمهووسين بالقوافي والأوزان، ولكي أيضًا جميع المغرمين بصناعة المحتوى عن طريق الكلمة. وقد كان له دور كبير في تشجيع الشعراء على الكتابة والإلقاء المنبري، والمشاركة في مسابقات عربية أهمها مسابقة أمير الشعراء، التي تأهل لها في السنوات الأخيرة شباب دون سن الخامسة والأربعين.

طوال عقود، تشابهت مواضيع الكتابة لدى الكُتاب السودانيين، لتشابه حال الواقع السوداني جيلًا بعد جيل، مجبرًا شبابه لأن يكتبوا معبرين عن آلام وطنهم وأحزانه وهمومه وتاريخ احباطاته المتكررة وتتالي مراراته وغزارة دموع أهله شعبه، وخيبة آمال شبابه، وحاله الذي أبى أن ينصلح.

والقارئ للأدب السودان الحديث سيلاحظ جليًا رجوع هؤلاء الشباب لانتفاضة أبريل عام 1985، رغم أنهم لم يكونوا شاهد عصر عليها كما هو الحال مع الثورتين الأخيرتين. فأغلبهم كانوا أطفالًا أو لم يولدوا بعد، ولكن حكايات الآباء والأمهات والأجداد وهم يلقنون ابناءهم اشعار وكتابات ومقولات نادت بالديمقراطية والحرية والمساواة في ذلك الوقت، نجحت في نقل هذا الألم بالتواتر، ووشم وجدان هؤلاء الشباب بتاريخ بلدهم المؤلم.

ورغم تلون ملامح هذا الأدب بجميع ألون الطيف، والتقاء أغلبها في التعبير عن السودان وعن ملاحقته للاستقرار، كملاحقة "سيزيف" لصخرته، إلا هناك نصوصًا خرجت عن المألون وتمسكت الأمل بل وشطحت في الأحلام والتوقعات المستقبلية، رغم الحدث العظيم الذي تسبب في تدهور حالة البلاد في عام 2011، المتزامن مع ثورات الربيع العربية: انفصال جنوب السودان.

كل هذا وما زالوا يكتبوا وهم يتأرجحون بين الأمل والخوف؛ ليصوروا احداث كانوا شاهد عصر عليها: انفصال الجنوب، ثورة سبتمبر 2013، وثورة ديسمبر 2018، وتنحي الرئيس في أبريل 2019، ثم فض اعتصام القيادة في يونيو 2019، إلى أن أتتهم الضربة القاضية التي لم ينتظروها، مع انقلاب أكتوبر 2021؛ ليعقوا في هوة اكتئاب جديدة، وخيبة أمل ومرارة سدت شهيتهم عن الكتابة، وأجبرتهم لانتهاج نهج الجميع بالاستلام لذرف تلك الدموع الغزيرة، وكأنه كُتَب عليهم أن يشقوا نهرًا موازيًا لنهر "النيل"، تغذيه مياه أعينهم، التي توشك أن تجف من كثرة البكاء المتنامي منذ ثمانية أشهر بعد اندلاع حرب شوهت معالم مدينة المركز في دواخلهم، وقد كانوا يتغنون بها ويفتتحون قصصهم بالتغزل فيها : "يا الخرطوم، يا العندي جمالك جنة رضوان".

في بعض المقالات على المواقع الإلكترونية طُرح موضوع تأثر الشباب بتجربة الطيب صالح في روايته "موسم العودة للشمال"، وعدم قدرتهم على تجاوز الكتابة عن القرية السودانية.

لكن هذه الادعاءات ليست صحيحة مائة بالمائة. إذ ليس بالضرورة وجود

نموذج قدوة دوما، عند وجود استخدام الكتابة كعلاج. فهناك تجارب عديدة، أغلبها نسائية، لكاتبات كادن دفاعها الأساسي حاجة حيوية للتخلص من ضغوطات داخلية وأزمات نفسية، كُتبت بصدق وعمق وحملت بصمات كاتبتها بتفرد بدون تقليد.

وبالرغم من وجود هذه القرية السودانية، التي كان عرابها الطيب صالح، ووجود كل هذا الحزن وذاك الألم، هناك ملامح أخرى لهذه الأدب السوداني الشبابي، شاع بعضها عند فئة أكثر من الأخرى.

فالسياسة والجنس وقمع الحريات والتعذيب في السجون والهجرة والحلم بها وعواقبها الوخيمة بعد عبور البحار والفقر والبطالة والحلم بحكم ديمقراطي، تكررت كثيرًا في الأدب المكتوب بواسطة الرجال. بينما شاع بين أسطر الكتابات النسائية مواضيع مثل القيود الاجتماعية والقمع الأسري، الحب والزواج والأمومة وتبعاتها والخيانة الزوجية، وتوتر علاقة المرأة بالرجل وكل ما يثب نظرية "الرجال من المريخ والنساء من الزهرة".

وهناك فئة من الكتاب الشباب، من كلا الجنسين، خرجت من تلك القوالب بتناولها مواضيع عبرت حدود الوطن وعبرت عن هموم الإنسان بشكل عام في مختلف أخرى من بقاع الأرض، وبتسليطها الضوء على جوانب مختلفة في جوانب الحياة في السودان كعادات الزواج والحداد أو التسامح الديني بين المسلمين والمسيحيين. وهناك ندرة من الكتاب اتجهوا لمنحى آخر من الكتابة، باستخدامهم الفانتازيا وأنسنة الأشياء والأمكنة. أما الخيال العلمي فلا وجود له في الأدب السوداني حتى الآن.

وعلى العموم يظل المنتوج الأدبي السوداني شحيحًا مقارنة ببقية البلدان العربية؛ بسبب أوضاع سياسية واقتصادية تعاقبت على البلاد، لعبت دورًا سلبيا وشغلت الشباب عن موضوع الأبداع بهموم ما زالت تلاحقهم كظلالهم.

لكن عسى أن تغلب الكثافة الكثرة. فالعبرة ليست في الكم، وإنما في النوع.

لهذ يحتاج الكُتَاب الشباب من كِلا الجنسين لفهم تقنيات الكتابة الإبداعية واتقان صنعتها والتعامل معها على أنها فن مثل بقية الفنون تحتاج لأدوات، مثلما يحتاج الرسام للريشة وللألوان ومراعاة الضوء والظلال، ويحتاج المغني لإتقان فن اختيار نبرات الصوت وكتم التنفس.

عندها فقط، ستتمهد أمامهم الطرق بمجرد أن يدركوا أن أهم ما يحتاجه الكاتب هو تعلم فن صناعة الحبكة وبناء الفضاء القصصي ورسم الشخصيات. لأن قضاء الوقت في العكوف على رص بنيان الكلمات واحدة تلو الأخرى سيصنع نصا بلا روح ولن ينتج أدبًا عالي الجودة. 

 فموهبة إتقان اللغة وتطويعها وحدها لا تكفي، حتى وإن كانت بنفس أهمية بقية العناصر. فاللغة هي الوعاء الذي يصب فيه الكاتب أفكاره، والمطية التي يستخدمها للوصول إلى هدفه للتواصل مع القارئ.

فالحل يكمن إذًا في البحث الدؤوب لإيجاد ذلك المفتاح السحري والبسيط في آن معًا؛ لفتح باب يُمهد لتقديم أدب رفيع المستوى، يحكي عن الإنسان ويصور بيئته وحقبته بشفافية؛ فيستحق تجاوز حدود الوطن ليصل إلى العالم أجمع.

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق