إعداد: منى حسن
1.
برأيك ما هي مكونات الرواية الناجحة؟
الرواية
الناجحة هي التي تلامس مشاعر الإنسان وتتغلغل في لا وعيه. وهي التي تجيد وصف عوالم
الشخصيات الداخلية وبيئتها الخارجية وحقبتها الزمنية، وهي التي تدفع القارئ
لاستخدام حواسه الخمس؛ فتجعله يشعر وكأنه يشاهد فيلمًا وتجبره على التقمص، بل
وتدخله في حيرة؛ فلا يعود يعرف إن كان ما يقرأه حقيقة أم خيال.
2. ما مدى تأثير البيئة المحيطة بك في تكوين
عالمك القصصي؟
المكان له دور كبير في تشكيل وجدان الانسان، وخاصة عندما يكون ذلك في فترة الطفولة. ويبدو أن هذا هو سبب أن أغرم بالجغرافيا والتاريخ منذ صغري. ففي سنوات طفولتي، كنتُ أزور باستمرار قرية جدتي، لروحها السلام والرحمة. وبفضل تلك الزيارات المتكررة للقرية غرب شندي، أتيحت لي فرصة رؤية نمط الحياة في الريف ثم مقارنتها بنمط الحياة في المدينة. ومنذ تلك الفترة، وشمت ذاكرتي وتشكل في لا وعي زخم من أحاسيس وأصوات وألوان ومذاقات وروائح، لكل ما يرتبط بالجروف والحقول والرمضاء وومياه النيل والقمر.
نعم القمر. هذا الذي كل ما أصادفه مكتملًا كل شهر، عندما تسمح لي سماء باريس الغائمة أغلب أوقات السنة برؤيته بدرًا، أعود استرجع تلك الفترة من الطفولة. فقد وشم القمر ذاكرتي الطفولية، لأنه كان يحرمني من النوم ويجعلني أقضي ليالٍ بيضاء في فترة اكتماله. ففي تلك الفترة، كان الناس ينامون تحت السماء في الحيشان والأفنية، نشدًا لنسيم عليل مسائي يخفف عنهم حرارة الجو. وكان القمر يمثل للقرية في ذلك الوقت مصدر الإضاءة والنور، يتسامر تحته الناس ويقصون القصص، ويسترشدون به في طرقها في الليل. ففي تلك الحقبة، في بدايات التسعينات، لم تكن الكهرباء قد دخلت بعد للقرية. وربما من أجل هذا أتيحت لي فرص الامتلاء بتلك التفاصيل، قبل أن يتغير نمط حياة الناس، ويتخذوا نمط النوم داخل الغرف تحت هواء أجهزة التكييف الكهربائية.
في تلك
الفترة سمعتُ الكثير من القصص حول القرية وتاريخها، تارة في أمسيات السمر تحت
القمر، عندما كنتُ أرافق أبناء عمي للجلوس في ميدان وسط القرية تحت الصهريج، وتارة
من حكايات النساء اللاتي يأتين لزيارة جدتي وزوجة عمي، ويتبادلن أطراف الحديث حول
المواقد والقدور، اللاتي كن يقضين حولها الكثير من الوقت لتحضير وجبات الطعام
ثلاثة مرات في اليوم لأفراد الأسرة، إذ لم يكن هناك ثلاجات لتحضير كميات من الطعام
وتخزينها لاستخدامها لاحقًا. كل تلك القصص وتلك الأماكن
لعبت دورًا كبيرًا في تكوين عالمي القصصي:
أصوات
الوابروات وهي ترفع المياه لسقاية حقول الذرة والبامية، رائحة العجين الذرة عند
الصباح الفائح من بيوت الجيران وهم يخبزون الكسرة والعصيدة، أصوات الطيور وهي تعود
أفواجًا إلى أكنانها لحظة مغيب الشمس، رائحة دخان الطلح الفائح من البيوت بعد صلاة
المغرب، وغيرها الكثير الكثير مما وشم ذاكرتي بتفاصيل مميزة لمختفة عن تفاصيل حياة
الناس في المدينة، حيث الناس منغلقون بين جدران الشقق، وأبوابهم دومًا مغلقة،
وآذانهم لا تسمع لما يدور بالخارج من فرض ضجيج أجهزة التكييف. وما يزال
هناك الكثير لأكتب عنه، بهدف التوثيق لحقبة لم تعد موجودة الآن، رغم أنه لا يفصلنا
عنها اليوم سوى ثلاثين عامًا تغيرت فيها القرية كثيرًا. وأظن أن أي
مكان مررتُ عليه وترك أثره في نفسي لابد سيجد له مكانًا في كتاباتي يومًا ما.
3. إلى أي مدي يساهم المخزون اللغوي للروائي
والقاص في تطوير أسلوبه السردي؟
اللغة هي
المطية التي توصل الكاتب لأهدافه وتساعده على إيصال رسالته للقارئ عبر الكلمات.
وكلما كان مخزون الكاتب اللغوي غنيًا، كلما سَهُل عليه الكتابة بتدفق لوصف الأحداث
والمشاعر والشخصيات والأماكن، وكلما قويتُ حجته للإقناع بأفكاره والتعبير عن رأيه.
4. هل ما زالت القصة القصيرة محتفظة بقدرتها
على الإدهاش والتأثير؟
قوانين كتابة
القصة القصيرة أشد صرامة من قوانين كتابة الرواية، وكتابتها ليست بالسهل؛ لأن من
أهم عناصرها الإيجاز والتكثيف ووحدة الموضوع. فهي تحتاج لكثير من التدريب على عدم
الانجراف وراء الكلمات، خاصة للذين يحبون الثرثرة على الورق مثلي. أما مسألة
الإدهاش فهي نسبية. فحتى لو نجح الكاتب في كتابة قصة قصيرة بديعة محكمة العناصر،
فقد لا تؤثر قصته في القارئ. فقارئ اليوم أصبح مستعجلًا وليس لديه الصبر لقراءة
قصة تفوق الألف كلمة، بعد اعتياده على الدهشة السريعة، عبر تقليب صفحات منصات
فيس-بوك وانستجرام وتيك-توك وتويتر.
5. كيف تقرئين أثر حياتك بباريس على أعمالك
الأدبية؟
باريس لها
فضل كبير عليَّ، حتى قبل أن أراها. فقد وقعتُ في غرامها منذ أن كنتُ طالبة أدرس
الأدب الفرنسي في جامعة النيلين بالخرطوم. فتنتني بأدبها وثقافتها وأماكنها
ولغتها. أما أثرها الكبير في أعمالي الأدبية، فهو كثافة القصص الإنسانية التي تحدث
سمائها لتصنع منها مدينة متناقضة: مدينة النور والظلام، مدينة الثقافة والفن
وأيضًا مدينة الفقر والتشرد والهجرات غير الشرعية والركض وراء لقمة العيش، مدينة
الطموح والوصول إلى الشهرة ومدينة الخوف من القانون ومن الترحيل القسري، مدينة
حقوق الانسان واللجوء الإنساني السياسي للهاربين من الحروب ومن ذكريات أهوال
السجون في بلدانهم الأم.
6. ما التحديات التي واجهتك ككاتبة عربية في
بيئة أدبية غربية؟
لا أعتقد
أنني واجهتُ أي نوع من التحديات بخصوص تواجدي في الغرب. بل على العكس، أظن أنني
كنتُ محظوظة لتواجدي في بيئة جديدة سمحت لي بالانفتاح على ثقافة وعلى لغة مختلفة،
ما ساهم في اتساع تجربتي الإنسانية وبالتالية تجربتي الكتابية. وقد كافأتني هذه
البيئة الجديدة مرة أخرى بأن وفرت لي فرصة إيجاد الوقت للكتابة، فرصة لم أكن لأحظى
بها بسهولة لو كنتُ بين أهلي في السودان داخل روتين الالتزامات العائلية
والاجتماعية والزيارات المفاجئة.
7. هل تؤمنين بأهمية عكس الثقافات الأقل شهرة
في الأعمال الأدبية، وإذا كان الجواب بنعم، ما هو الدور الذي تلعبه الثقافة
السودانية في كتاباتك؟
8. إلى أي مدى يمكن للأدب أن يساهم في فهم
أفضل للثقافات المختلفة وتعزيز التفاهم بينها؟
الأدب يخاطب
مشاعر الانسان ويساعده على التقمص والتعاطف وبالتالي على إيجاد الأعذار للآخر. فمشاكل مثل التعصب أو العنصرية وغيرها لا يمكن معالجتها بالوعظ أو
بالمنطق، بل بإثارة العاطفة لدى الآخر، وحثه على وضع نفسه مكان الآخر حتى يتفهم
موقفه ويفهم فداحة ما يقوم به تجاه أخيه الانسان. وللأدب دور
كبير لفهم الثقافات الأخرى، وذلك من خلال تقديم نماذج لشخصيات نتخيلها من لحم ودم
تتحرك داخل بيئتها الجغرافية وتمارس عاداتها وتقاليدها وتشاركنا تجربتها الإنسانية
بهمومها وأحزانها ومخاوفها وطموحاتها وأحلامها، التي هي في الحقيقة نفس همومنا
وأحزاننا ومخاوفنا وطموحاتنا وأحلامنا. فبناء الشخصية الأدبية يعني بناء شخصية
متكاملة تدفع القارئ للتعامل ليس فقط مع انسان قد يشبهه وقد يختلف عنه، وانما
تجبره على اكتشاف ثقافة أخرى وأنماط تفكير جديد وقيود اجتماعية ونفسية ودينية مختلفة
عنه تمامًا.
9. هل لديك تجارب في الكتابة باللغة
الفرنسية؟
نعم، كتبتُ
عدة قصص قصيرة وخواطر وبعض المحاولات في الشعر، كما كتبتُ روايتي الأولى بالفرنسية
بين عامي 2011 و2013، ثم تركتها جانبًا لمدة سنوات بسبب انشغالي بأمور أخرى أهمها
الكتابة باللغة العربية. وهذه الرواية، ستكون ضمن مشروع النشر للعام القادم بإذن
الله، بعد رجوعي إليها منذ مدة لإعادة كتابتها من البداية.
10. كيف تقرئين الوضع الحالي للرواية
السودانية؟ وهل تؤيدين أن هناك تطوراً ملحوظاً في السنوات الأخيرة؟
في السنوات الأربع الماضية اجتاحت الساحة السودانية عناوين روائية كثيرة، منها ما تُوِّجَ بجوائز محلية وآخر بجوائز عربية وإقليمية. جوائز أدبية مهمة أذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: "الطيب صالح" في السوادان، و"توفيق بكار" في تونس، و"فريد رمضان" في البحرين، و"منف" و"نجيب محفوظ" في مصر، و"الشارقة" و"البوكر" في الإمارات، و "كتارا" في قطر.
ورغم أن
الجوائز كان لها دور كبير في شحذ همم الكتاب الشباب وتشجيعهم على الكتابة ما ساهم
في تزايد عدد الإصدارات، إلا هناك عوامل أخرى ساهمت في هذا التطور الكمي. فقد لعبت
وسائل التواصل الاجتماعي دورًا مهًا سواء من خلال حضور مناقشات الكتب (وخاصة منصة
الروايات السودانية عبر منصة الواتساب والفيس بوك)، أو من خلال تبادل الآراء في
ورش المناقشات بين الكتاب الشباب لمخطوطاتهم قبل النشر، وللترويج للكتاب بعد نشره.
والقارئ لأدب
هذه السنوات الأربع، يلاحظ وجود قاسم مشترك بين أغلب الاصدارات، ألا وهو موضوع
الثورة السودانية، كمدخل للتعبير عن السودان وعن هموم شعبه وعن تاريخ أحزان
واحباطات وخيبات شبابه المتتالية، مع التركيز على أحداث عايشها هؤلئك الشباب،
أهمها ما ترتب على انفصال جنوب السودان عن شماله، وثورتي سبتمبر 2013 وديسمبر 2018.
شباب لجأوا
للكتابة تارة من أجل التوثيق أو التدوين لحقب عايشوها أو عايشها أباءهم وأجدادهم،
وتارة أخرى كملجأ ووسيلة للعلاج من أوجاع تتالي الفجائع والاحباطات، أو لإعادة شحن
أنفسهم بالأمل الآبي إلا أن يسول لهم أن أحلامهم لا بد ستتحقق يومًا ما، وأن الظلم
لابد وسينكسر، كيف لا وهم شباب عاصروا "الحوت"، الفنان محمود عبد
العزيز، ورددوا في هتافاتهم أثناء مسيراتهم ومواكب مظاهراتهم أغنياته الحماسية،
وخاصة خاتمة أغنية "أقمار الضواحي": ومها طالت الأيام، أكيد قلم الظلم
مكسور.
لكن للأسف، منذ عام وهذا الإنتاج الأدبي في تراجع بسبب انشغال الناس بموضوع الحرب الأهلية في الخرطوم، وتبعاتها من نزوح السودانيين وتشتتهم في البلدان المجاورة، وفقدان الكتاب لشهية الكتابة وهم يصارعون عدم استقرارهم وحزنهم على ترك أرضهم وجميع ممتلكاتهم ونزوجهم والأهوال التي يضافونها قبل العثور على أرض آمنة تستقبلهم.
11. من خلال تجربتك، هل ترين أن هناك تحديات
خاصة تواجه الكاتبات في المجتمع السوداني؟
نعم هناك
الكثير من التحديات، وذلك بسبب الثقافة والتربية والقيود الاجتماعية المفروضة على
المرأة منذ نعومة أظافرها. فالمرأة السودانية خاصة، والعربية بشكل عام، ستفكر
طويلًا قبل أن تتخذ خطوة الكتابة والنشر، وستفكر أطول فيما ستكتبه وتريد مشاركته
مع القراء. فكثيرون هم الحراس المتربصين بها الملوحين لها بعصي التأنيب
وبهراوات الوصم إذا ما كتبت ما يخالف العادات والتقاليد ويهدد الصورة النمطية
للمرأة العربية، أو تجرأت وخاضت في مواضيع لا يحق إلا للرجال الخوض فيها بل
والتفاخر بها.
12. انتشرت ظاهرة كتابة الشعراء للرواية
مؤخرا، فهل يحدث الأمر بالمقابل مع الروائيين؟
لا أعرف روائيين معرفة شخصية اتجهوا لكتابة الشعر، بل سمعتُ أحد الأصدقاء ذات مرة يجيب، عندما طُرح عليه السؤال، بأنه يتهيب المخاطرة بخوض تجربة البدء من الصفر في مجال كتابة جديد، وهو الذي ذاع صيته في عالم الكتابة السردية القصصية والروائية. لكنني لا أجد مانعًا في أن يجرب الروائي الشعر أو أجناسًا أدبية أخرى جديدة، خاصة إذا كان هناك صوت داخلي مُلِّح، كذلك الذي يُلح عليَّ منذ مدة بأن أعود لمحاولات كتابة الشعر، الذي جربتُ كتابته باللغة العربية عندما كنتُ في طالبة المرحلة الثانوية ولم أعد إليه مجددًا من وقتها.
13. هل يمكنك مشاركتنا ببعض التفاصيل حول
مشاريعك الأدبية الجديدة؟
أنهيتُ كتابة
مجموعتي القصصية الثالثة خلال شهر رمضان. وحاليًا، أعمل بالتوازي على إنهاء ترجمة
رواية من الفرنسية إلى العربية، وعلى وضع اللمسات الأخيرة على روايتي الثالثة،
التي سأكشف عن اسمها قريبًا بمجرد توقيع العقد مع دار النشر.
--------------------------------------
تم نشر الحوار في مجلة اليمامة السعودية الأسبوعية بتاريخ 24 أكتوبر 2024،
لقراءة
الحوار من مصدره:
http://www.alyamamahonline.com/ItemDetails.aspx?articleId=18969
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق