الجمعة، 24 يناير 2025

قِصَّة قَصِيرة :هُنَا أُمْ دُرْمَانْ

 بقلم/ تسنيم طه


كان لون شعرها البنفسجي، هو أول ما لفت انتباهي، ثم الضحكة الرنانة التي أطلقتها بعد أن همس لها رفقيها بجملة لم تمكنني الضوضاء حولنا من سماعها.  تقدمتُ نحوها بحماس وبادرتها الحديث بدون تردد:

-         مساء الخير، معكِ برنامج "صوت الشعب"! هل تقبلين الظهور معنا على التلفاز؟

فطالعتني بعينين تشع منهما البهجة والطموح، قبل أن تجيب بحماس:

-         بالتأكيد، بكل سرور.

شكرتها، ثم بادرتها بسؤال عن سر لون شعرها المميز، فرسمت ابتسامة فخورة على شفتها المكتنزتين المطليتان بأحمر شفاه قرمزي، ثم أخذت تشرح بأنها تضيف للحناء الأصلية القادمة من مدينة "الدَّامَر"، مطحون قشور الباذنجان المجففة وعصير البصل الأحمر ومنقوع الزعفران والكركديه والشاي، قبل أن تضع الخليط على شعرها مدة ليلة كاملة. ابتسمت لها بامتنان وشكرتها على سر الخلطة، ووعدتها بأن أجربها. ثم مددتُ لها الميكروفون وأنا أظن بأنها ستشرع في تهنئة أقاربها بالسنة الجديدة وتهنئة الشعب السوداني في الاحتفالات بالذكرى الـ 62 للاستقلال عن الاستعمار الانجليزي. لكن ظني خاب، وتحول حماسي إلى توتر، ما أن افتتحت الفتاة العشرينية كلامها برغبتها توجيه رسالة إلى والي الخرطوم؛ مادام أنها ستظهر لأول مرة على شاشة تلفاز. حاولتُ التحكم في شعوري بالتوتر وأنا أشرح لها بأن هدف الاستطلاع ترفيهي؛ لإعطاء الناس فرصة لتبادل التهاني بمناسبة رأس السنة الميلادية المتزامنة مع ذكرى أعياد الاستقلال، لأهاليهم وأصدقائهم مع الالتزام بعدم التطرق للسياسة، وخاصة............

لكن الفتاة العشرينية ذات الخصلات البنفسجية لم تتركني أُنهي جملتي، وشرعـت فورًا في ثرثرة اندفعت من فمها كاندفاع المياه في خرطوم سيارة مطافي تخمد حريقًا كبيرًا:

أيها الوالي، اسمح لي أن أوجه لسعادتك، من هذا المنبر رسالة ضرورة الاهتمام بأمر تنظيف ولاية الخرطوم من النفايات التي غيرت ملامح المدينة، وجعلتها مرتعًا للكلاب والقطط. وأن أبلغك احتجاجات الشعب على تتالي الإدارات غير المكترثة لأمر هذه المدينة البائسة المنهوبة خيراتها. هل تدري أن الشعب على علم بأن هناك أموالًا طائلة تدخل جيوب الأفراد بدل من أن تذهب لخزينة الدولة وتساهم في تنمية هذا البلد؟ أخبرنا بالله عليك، كيف كان سيكون الحال، لو أعيد بناء خارطة البنية التحتية للمدينة تطويرها بمواصفات عالمية؟ هل كان سيتوجب على المدارس أن تغلق أبوابها سنويًا وتؤخر الطلبة، بسبب السيول والأمطار التي تحول الشوارع إلى برك من الطين؟

نحن لا ننكر الجهود التي قمتم بها لتطوير شبكة المواصلات، وجلب حافلات وباصات بمواصفات عالية كباصات الأكورديون من كوريا والصين واليابان من تايوان وأوروبا، وافتتاح خطوط ميترو قللت بعض الشيء من الاكتظاظ المروري. كما أننا نقدر محاولتكم إدارة هذه الكثافة السكانية التي اجتاحت العاصمة في هذه السنوات العشر الماضية. فالخرطوم أصبحت اليوم مركزًا تجاريًا يوفر فرص عمل لكثير من الشباب العاطلين عن العمل، جاء معظمهم من بقية أقاليم السودان، وبعضهم من الدول المجاورة، خاصة بعد افتتاح خط السكة حديد الذي يربط بين موانئ شرق إفريقيا البحرية في بورتسودان وسواكن في السودان، ومُصَوَّع في إريتريا، بدول وسط وغرب إفريقيا؛ ليصبح اليوم خط قطارات "بورتسودان-الخرطوم-الأُبِيِّضْ-الفاشِر- الجِنينة" الواصل غربًا حتى العاصمة   التشادية "انجمينا"؛ معززًا ليس فقط للاستثمارات التجارية والسياحية، ولكن أيضًا للسياحة الروحية، وذلك بتوفير طريقًا لحجاج غرب إفريقيا إلى بيت الله، يشابه "درب الأربعين" في الماضي.

لكن اسمح لي يا سعادة الوالي أن أعيب عليكم إهمالكم للسياحة التي لو كرستم لها بعض الجهود، ستصبح مصدرًا اقتصاديًا جديدًا للبلاد. فالسودان يمكن أن يصبح بلدًا مضيفًا بموصفات عالمية راقية، تجتذب السياح من جميع أنحاء العالم وتوفر لهم إمكانية زيارة منتجعاته ومحمياته الطبيعية واهراماته وبقية مواقعه الأثرية حيث مدافن الفراعنة السود، ملوك وكنداكات حضارة "كوش"، إحدى أقدم الحضارات في إفريقيا، ذات الأثر الكبير في الترابط بين حضارة أخرى مجاورة، مثل حضارة "الفراعنة" في مصر، وحضارة "أكسوم" و"عدوليس" في شرق إفريقيًا، وحضارة "سبأ" و"أوسان" في اليمن.

فالطفرة التي حدثت في الخرطوم في السنوات الأخيرة كبيرة جدًا، حتى سكان الخرطوم أنفسهم لا يكادون يصدقون هذا التحول المفاجئ في ديمغرافية المدينة وخريطتها الجغرافية. لقد تغيرت ملامح المدينة بعد قيام أبراج سكنية وأخرى لشركات ومؤسسات متعددة الجنسيات، وأصبحت تسمع في الشوارع لغات أجنبية عالمية ومحلية كثيرة، نتيجة هذا المزيج من ثقافات العالم، الذين اجتذبتهم المدينة الجديدة. شعوب جاؤوا من مختلف بقاع الأرض من أجل الاستثمار ومقابلة رجال أعمال آخرين وفدوا من غرب افريقيا من النيجر ونيجريا والسنغال وساحل العاج وموريتانيا وليبيا وتشاد؛ لكي يؤسسوا شركات استيراد وتصدير لن يتوجب عليها عبور قناة السويس ثم البحر المتوسط، أو الدوران عبر رأس الرجاء الصالح في رحلة طويلة، لوصل البحر الأحمر بالمحيط الأطلسي، بعد افتتاح خط السكة حديد "بورتسودان-الخرطوم-الأُبِيِّضْ-الفاشِر- الجِنينة- انجمينا "، المفترض أن يصل قريبًا حتى "داكار"، على المحيط الأطلسي.

وبعد هذا الإطراء، اسمح لي يا سعادة الوالي أن أوجه لكم لومًا أخيرًا: لماذا وافقتم على توقف خدمة المواصلات العامة من خطوط ميترو وترام وباصات وحافلات في الساعة الحادية عشر مساءً، بينما في بقية عواصم العالم الكبرى، تستمر الخدمة حتى الواحدة صباحًا وفي بعضها تستمر طوال الليل؟

-         هل تظننين بأنكِ تعيشين في نيويورك أم في باريس حتى تستمر خدمة المواصلات العامة حتى الصباح؟ أم أن بقية أيام العام ستتحول إلى أعياد لكي تستمتع هي بالسهر حتى الفجر؟

يا إلهي!، بلعتُ غصتي دون أن أستطيع البوح لذات الشعر البنفسجي بغيظي من طموحها الشاطح، لأنها لم تعطني فرصة وهي تتابع ثرثرتها، معبرةً أسفها لاضطرارها مغادرة صالات السينما هي وخطيبها قبل انتهاء فيلم الساعة العاشرة والنصف مساءً؛ حتى لا تتأخر في العودة إلى البيت وتتحمل تعنيف والدها، ولكيلا يضطر خطيبها أن يدفع لها ثمن أجرة تاكسي ويستنزف مدخراته المتواضعة، وهو حديث التخرج مثلها، ويسعى بكامل جهده في العثور على وظيفة في هذه المدينة المجنونة، الفائرة باجتياح وفود المستثمرين الوافدين إليها من كل مكان.

ثنيتُ لساني ووضعته تحت سقف حلقي حتى لا أنفجر من الغيظ، قبل أن أتشاغل بتأمل المارة وهم يلتفتون نحونا وينظرون بفضول للفتاة المتأنقة وهي تمسك الميكروفون بإحكام وكأنه سيطير منها. ولولا الملامة وخشيتي في أن أنعت بالهمجية، لكنتُ انتزعتُه منها بقسوة ولطمتها على فمها؛ لكي تتوقف عن الثرثرة. لكنني صبرتُ نفسي، قائلة في سري: لا بأس، درسٌ جديد من الحياة لكي أتعلم الصبر. وهكذا واصلتُ تصبير نفسي بالتشاغل بتأمل وجوه المارة الفضوليين، عاقدة العزم الطلب من فريق المونتاج حذف هذه الفقرة، قبل إذاعة غدًا على قناة "أُم دُرمان".

"هنا أُم دُرمان، إذاعة جمهورية السودان"، هذه هي الافتتاحية التي كنتُ أبدأ بها عندما كنت في قسم الأخبار. تذكرتها الآن، وهونت على غيظي من ذات الشعر البنفسجي، لكنها نقلتني لذكرى بعيدة، استعدتُ معها ذِلة الإعلامي "أيوب صديق"، الذي بدل أن يفتتح برنامجه على إذاعة الـ"بي بي سي BBC"، بجلمة "هنا لندن" أخطأ وافتتحه بجملة: "هنا أُم دُرمان". لكنه تدارك الموقف سرعة بتلاوته فورًا لبيت شعر أحمد شوقي:

وطني لو شُغلتُ بالخلد عنه،،،نازعتني إليه في الخلد نفسي.

ومع ذهابي بعيدًا في الذكريات واسترجاع تعليق الدكتور عبد الله الطيب " أصاب أيوب صديق حين أخطأ"، نسيت غيظي من الفتاة، وانتبهتُ أخيرًا لخطيبها الواقف بجوارها كصنم. تأملتُ برهة شعره اللامع، وتمنيتُ لو أسأله إن كان حقًا جادًا في مشروعه الزواج بهذه الفتاة الثرثارة. وأثناء تأملي في شعر الخطيب اللامع، لاح لي من وراءه كومة قمامة تنبش فيها القطط. فأخذتُ أجول ببصري في المكان بتفرس؛ لأقع في حيرة وتشوش، عندما لم أعثر على أبراج سكنية ولا مباني لشركات عالية ذات نوافذ زجاجية، ولا لرجال أعمال يرتدون البدلات الأنيقة وربطات العنق الفخمة. تأملتُ البشر المسرعين في مشيهم الشبيه بالهرولة وهم يتسابقون ليصعدوا على مركبات المواصلات العامة المتجهة إلى الخرطوم وأُم دُرْمان وضواحي شمال بَحْري، وانتابني ذهول وحيرة. فملتُ ناحية الخطيب الصامت كخيال المآتة، وسألته ألا يرى أن خطيبته تبالغ كثيرًا في كلامها عن الخرطوم. ابتسم بعدم اكتراث، واكتفى بهز كتفيه دون أن ينطق بكلمة واحدة.  تنامت حيرتي، فسألته باستغراب: نحن في أي عام؟ فأجاب بهدوء دون أن يرمش له جفن: يناير 2031.

-         2031؟ مستحيل!

-         بل حقيقة. والدليل على ذلك الاحتفال باكتمال مشروع "رؤية" بالمملكة العربية السعودية العام الماضي، ووصول خط الميترو رقم (1) في باريس من ضاحية "لاديفانسLa Défance " الشرقية، حتى ضاحية "فال دو فونتونيه الغربية"، وفي الأرجنتين يقولون بأن المسيح سينزل هذا العام.

حدقتُ فيه بدهشة، ولم أنجح في النطق لتصحيحه بأننا بالكاد في يناير 2017، وبأنه وخطيبته يهذيان، لأن لساني انعقد وانشغل بمتابعة فكري المشوش بالأسئلة التي كانت تدور داخلي رأسي كدوران حمار الرحى: متى تطورت الخرطوم وأصبح فيها خطوط سكة وميترو أنفاق؟ ومتى توقف أبناء شعبها عن مواصلة المواكب والمظاهرات الاحتجاجية، وعن تخريب الشوارع بالتماريس الحجرية وبإطارات السيارات المحروقة؟ وهل اتنبه حكامها أخيرًا إلى أنه لا طائل من الصراعات السياسية والنعرات العنصرية والقبلية؛ لأنها لن تساهم في مشروع التنمية، بل ستقود الجميع إلى التهلكة؟

واصلتُ بلع لساني والاحتفاظ بأسئلتي لنفسي؛ لأتن هذا النوع من التساؤلات لا يحق لي البوح به والتصريح أمام الملأ، ما دمت أعمل في الإعلام؛ وإلا سيتم تصنيفي على أنني كذا أو كذا، وقد أفقد وظيفتي بين ليلة وضحاها. تأملتُ الفتاة وشعرها البنفسجي، ثم ألقيتُ نظرة ناحية المصور وغمزتُ له غمزة ذات مغزى. وبعد أن استجمعتُ شجاعتي، تقدمتُ خطوة جريئة، قبل أن أخطف من يدها الميكروفون بقوة، وتراجعتُ بسرعة للوراء لأنظر بتشفي في عينيها وهي تطالعني بذهول، وكأنني تعديتُ على أحد ممتلكاتها. وبعد أن أصدرتُ تنهيدة انتصار وجهتُ حديثي لها:

-         شكرًا على مداخلتك القيمة، رسالتك ستصل حتمًا إلى والي الخرطوم الذي....

لكنها فاجأتني بحركة مباغتة وخطفت الميكروفون من يدي.

-         لديَّ رسالة أخرى أريد توجيهها إلى والي الخرطوم!

نطقت جملتها ثم شرعت في شكوى جديدة من ازدحام المدينة وتضاعف عدد سكانها الذي تجاوز العشرة ملايين، قبل أن تطالب الوالي بإعادة التفكير في زيادة خطوط الموصلات ومد خطوط الميترو؛ لكي تصل حتى مدن الضواحي البعيدة، مقترحة عليه أن يفكر في حلول بديلة مثل تشجير المدينة للتخفيف من شدة حرارة الجو وتنقية الهواء من عوادم السيارات، وإغراء عاشقي الدراجات أن يتخلوا عن السيارات، وأن يتهم بخطوط التُّرام، خاصة خط تُرام "شَمبات السوق المركزي -الخرطوم أبو جنزير"، الخط الذي تركبه يوميًا للذهاب لوظيفتها في وسط الخرطوم.

-         أيتها الكاذبة، ألم تقولي إنك وخطيبك حديثي التخرج وتبحثان عن عمل؟ يا إلهي! أخرجني من هذه الورطة؟

لم تسعفني شجاعتي لأن أبوح لها بهذه الجملة التي وقفت في حلقي كغصة أخرى، بسبب انشغال آخر مني بتحيين فرصة تسمح لي بخطف الميكرفون منها. ولما حانت هذه الفرصة، التي ملأتني بشعور انتصار جديد ومشاعر تشفي، تراجعتُ إلى الوراء؛ لأقرأ في عينيها نفس الذهول من ردة فعلي، وكأنني تعديتُ على أحد ممتلكاتها. وتجنبًا لأن تباغتني مرة أخرى، وليتُ لها ظهري واستدرتُ ناحية خطيبها الصامت وسألته إن كان يريد قول كلمة أخيرة قبل أن نختم هذ اللقاء. وكانت تلك حجة مني لكي أتخلص منهما، لأن المصور كان قد توقف عن التصوير منذ أن غمزتُ له.

 لم يرد الخطيب على سؤالي بسبب انشغاله بالتحديق في شيء ما ناحية بائع الكتب المفروشة على الأرض. دفعني الفضول للالتفات ناحية تركيز بصره، فانتابتني دهشة عند ملاحظة مخرج محطة ميترو مكتوب على لافتة تعلوها بالخط الأزرق العريض "بَحْري-المحطة الوُسطى. تساءلتُ باستغراب عن عدم رؤيتي لها من قبل، وتفاقمت دهشتي أثناء تحديقي في حشود البشر الخارجة من تحت الأرض عبر فتحة سلم المحطة العريض، تحكي سحناتهم وألوان بشرتهم وطريقة ملابسهم المختلفة عن تنوع أصولهم الجغرافية، وتؤكد صحة كلام ذات الشعر البنفسجي في رسالتها للوالي قبل قليل: أثيوبيون وصوماليون وأريتيريون...يمنيون ومصريون وسوريون....سينغاليون وتشاديون...سودانيون من مختلف أقاليم السودان، جنوبيون وشماليون وغرابة وأقباط وهدندوة.

 تابعتُ تتدافع الجوقة البشرية المتدافعة وهي تدخل أو تخرج قبل أن تتفرق ويختفي معظم أفرادها داخل الكافتيريات والمطاعم المنتشرة حولنا، ولاحظتُ توجه أغلبهم ناحية محل "علي إبراهيم للعرديب". ثم وقعتُ في حيرة أخرى، لما لفت انتباهي تغيير لافتة المحل الشهير في منطقة بحري ببيعه لأفضل عصير محلي سوداني لعلاج الملاريا، ليصبح "بَحْري الجديدة للعرديب". تأملتُ صورة الفنان "على إبراهيم اللَّحَوْ" وتساءلتُ إن كان ماتزال هناك علاقة بصورة هذا الفنان وباسم المحل الذي مررتُ من أمامه كثيرًا أيام الثانوية، عندما كنتُ آتي لزيارة صديقتي القبطية في بيتهم في "حِلَّة حَمَد".

خرجتُ من تساؤلاتي عندما اجتاحتني رائحة أكل، يفوح منها خليط البهارات الممزوجة برائحة أضلاع لحم الضأن "الكُستوليتة"، ورائحة شيش الطاووق والزغني والأنجيرا الأثيوبية والسلتة اليمنية، ومخبازة بورتسودان، روائح شهية حركت فيَّ الجوع، وأنستني مكاني وما أقوم به من مهمة. لكن يد الخطيب الممدودة لي بحماس، أعادتني إلى الواقع.

سلمته الميكروفون بحذر خشية أن ينتهج نهج خطيبته. وبعد أن تنحنح ومسح بيده النحيفة على شعره الممشط للوراء بكتلة من الفازلين يسيل جزء منها على جبينه العريض، بدأ بتهنئة الشعب السوداني بالعام الجديد وبذكرى أعياد الاستقلال المجيد، قبل أن يعبر عن نيته بأن يتزوج في هذا العام، بخطيبه ورفيقة دربه منذ أول يوم في قاعات الدراسية الجامعية. ثم صمت برهة والتفت لينظر في وجهها ليقرأ وقع كلماته عليها، قبل أن يضيف بأنه قرر قضاء رحلة شهر العسل بين الأورجواي، بلد كاتبه المفضل "إدواردو غاليانو"، مؤلف رواية "الأيام" أجمل كتاب قرأه على الأطلاق، وبين الأرجنتين بلد "ليونيل ميسي"، لاعبي المفضل في كرة القدم؛ لينطلقا بعدها لاكتشاف بلدان أخرى من أمريكا اللاتينية، أهمها البرازيل، حيث نهر الأمازون وغاباته الكثيفة، التي تمثل أحد نقاط التوازن لحماية هذا الكوكب من تهديدات التلوث. اهدته خطيبته ابتسامة عريضة اثناء ازاحتها لأحد خصلاتها البنفسجية للوراء بحركة ذات غنج. بادلها الابتسامة ثم مرر يده مرة أخرى على شعره اللامع قبل أن يضيف أثناء غمزه لها بعينه اليسرى:

-          ولكن بشرط أن تتنازل عن شرطها في الزواج مني في أن تكون العصمة في يدها.

وهنا أطلقت الفتاة صرخة هستيرية، جذبت نحونا نظرات فضولية إضافية، قبل أن تطلب من المصور أن يوقف التصوير؛ حتى تلقن خطيبها الدرس الذي يستحقه مع بداية هذه السنة.

تنفستُ الصعداء وابتسمت بمكر؛ لأن التصوير كان قد توقف بالفعل منذ أن غمزت للمصور لحظة بدء الفتاة في بث رسالتها الثانية الى والي الخرطوم الذي لن يسمعها أبدًا.  أطلق الخطيب المسكين ضحكة متوترة قبل أن يسحب كلامه بطريقة درامية:

-           انتي صدقتي؟ دي كذبة يناير 2031. أنا عارفك ما ح توافقي تتنازلي عن العصمة زي ما أنا ما ح أوافق أتنازل عنك.

تابعتُ ملامح خطيبته تلين ثم تبتسم له، وتخيلته يقول في سره بمرارة، أثناء مبادلتها الابتسام بافتعال: يبدو أنني لن أجد فتاة تقبل التنازل عن امتلاك العِصْمَة في هذا الزمن العجيب، الذي تطاولت فيه النساء بنيل حقوقهن، وبالغن في انتهاج الندية مع الرجل.

في هذه اللحظة دوى صوت انفجار قوي، تبعته صرخات هلع وخوف ثم تنظيرات عن سببه، فسره البعض على أنه لابد انفجار كهربائي في أحد المحلات التجارية التي تشغل مولدات كهربائية كبيرة تسمح لها بعد التوقف عن العمل عن انقطاع التيار الكهربائي عن المدينة، وبعضهم افترض بأنه صوت رصاص، ولابد أن هناك قناصة في أحد أسطح المباني حولنا.

-         قناصة؟ ولكن لماذا؟

سألتُ ولم أجد أحدًا يجب على سؤالي. ثم ارتعدت فرائصي، لما رفعتُ رأسي ولمحتُ القناص في أعلى المبنى المقابل. فخطفتُ الميكروفون من فم الخطيب، وبدأتُ أتلثم دون أن أعرف كيف أتصرف وماذا أقول لكي أنقل هذا الخبر على الهواء مباشرة. ولما تذكرتُ أنني أقوم بتسجيل برنامج ترفيهي لكي أبثه غدًا على إذاعة صوت الشعب، خطر ببالي فتح هاتفي، لنقل الخبر الجلل في بث مباشر على صفحتي على الفيس بوك.  لكن قبل أن أفعل، دوى صوت انفجار آخر أقوى، دفع بالمصور لأن يرمي بالكاميرا ويركض في أثر الهلعين وهم يتبعثرون شرقًا ناحية الكنيسة الإنجيلية وموقف موصلات "كُوبَرْ" و"الحاج يوسِف". ظللتُ في مكاني متسمرة من الدهشة ومن الرعب، أدير رأسي كالمروحة بين بقية الأفواج التي تبعثرت في جميع الاتجاهات.

 ولما تذكرتُ ذات الشعر البنفسجي وخطيبها، وبحثتُ عنهما ولم أجدهما، رفعتُ رأسي مجددًا ناحية المبنى المقابل. ولم أدرِ إن كان ما أسمعه دق طبول الحرب في الخارج، أم دقات قلبي الذي يكاد يقفز خارج صدري من شدة الخوف، حركتي عندما لمحتُ القناص يوجه فوهة بندقيته ناحيتي. ومن فرط خوفي لم أجرؤ على الالتفات؛ لكي أتبين مصدر الصوت الذي كان يهتف باسمي:

-         نِبْراس! اركضي يا نِبْراس!

وكل ما استطعتُ فعله خلسة، أن رميتُ الميكرفون وهاتفي وحقيبة يدي بجوار كاميرا المصور، وصوبتُ بصري شرقًا وهممتُ بالركض ناحية الكنيسة الإنجيلية وموقف موصلات "كُوبَرْ". لكن قدماي خانتاني وتسمرتا مكانهما، قبل أن تخونني كامل قوتي وتخور؛ لأتهاوى كالخرقة البالية بجوار أشيائي، بينما ينصب في أذنيَّ من بعيد الصوت الهاتف باسمي، ويتخافت تدريجيًا:

-         أجري يا نِبْراس! ما تقفي مكانكِ وإلا ح تموتي. يلا يا نِبْراس، أجري بسرعة .... أجري بسرعة ....بي سرعة... بي سرعة .... بي سرععععععععة!

 

*****

-         نِبْراس! نِبْراس.....قومي يا نِبْراس! ..... نِبْراااااااااس!

خرجت من كابوسها على يد أمها تهزها بعنف. ففتحت عينها بصعوبة وأخذت تتفرس في وجه أمها بذهول. لكن أمها لم تتركها تواصل فرك عينيها لتستوعب مكان تواجدها؛ إذ أخذت تكرر عليها وتتوسلها أن تسرع في النهوض. فهضت وجلست في وسط السرير، لتجده مبللًا بعرقها. فأخذت تدير عينها بين المروحة الثابتة على السقف وبين جهاز التكييف الصامت على الجدار على يسار سريرها، وتحاول إيجاد تفسير لهذا الجحيم الذي يلفها بقولها في سرها: " لابد أن التيار الكهربائي انقطع اثناء نومي"، قبل أن تتذكر أن الكهرباء مقطوعة منذ أكثر من أسبوع عن حييهم وعن أحياء أخرى في الخرطوم.

 والناس بسبب خوفهم على حياتهم، توقفوا عن التفكير في عودة الكهرباء، وتعلموا التعايش مع شدة ارتفاع درجة الحرارة التي تفوق الخمس وأربعين درجة مئوية، وكأن شمس الخرطوم تنفث غضبها على ما يفعله أبنائها فيها تخريب وفظائع.

-         قومي يا نِبْراس! قومي بي سرعة ما في وقِت!

عادت تحدق في وجه أمها بذهول. ولما لاحظت أن دموعها تسيل كالسيل وشفتيها ترجفان، صرخت بهلع:

-         في شْنُو يا أمي، الحاصل شِنُو؟

ولما بركتْ الأم على الأرض لتواصل نحيبها وصراخها، وتتوسل ابنتها بالاستعجال في النهوض وحزم بعض الأمتعة لكي يأخذوها معهم قبل مغادرتهم الخرطوم، أفاقت نِبْراس من ذهولها، ونهضت لتعانق أمها في محاولة لطمأنتها، كما فعلت كثيرًا في الأيام الماضية؛ حتى تقنعها بأنهم في مأمن في "الكلاكلة"، البعيدة عن مسارح المعارك بين الفئتين المقتتلتين، المتركزة أكثر حول الشريط الشرقي للقيادة العامة، وفي منطقة "بَحْرِي"، شمال الخرطوم. لكن الأم واصلت النواح والبكاء بحرقة، قبل أن تبوح لابنتها بسبب حزنها، الذي يفوق جميع أحزان الأيام السابقة، بعد تلقيها للتو خبر موت اختها مع أفراد أسرتها الخمسة؛ نتيجة سقوط "دانة" على بيتهم في حي "المَعْمُورة" على حدود شارع "الستين"، وخبر موت ابن صديقتها برصاصة قناص أثناء سيره في شارع "المَشْتَل" بحي الرياض؛ نتيجة تجاسره وإصراره على الخروج من البيت لإحضار الخبز لأهله من المخبز في الحي المجاور.

ألجمها عمق الحزن والخوف في عيني أمها، المنهمرة منها الدموع بغزارة. فلم تعرف أي حجة يمكنها جعل أمها ترضخ مرة أخرى لتوسلاتها، وتقبل تأجيل المغادرة، عسى أن يحدث شيء يوقف هذه الحرب، وتعود الحياة إلى طبيعتها. كانت كبقية الناس، تتابع الأخبار؛ فيصيبها الاكتئاب عند رؤية مناظر ألسنة اللهب وهي تأكل المباني والمعالم المهمة في الخرطوم، ومناظر الدماء وصور الجثث المرمية في الشوارع دون أن تجد من يدفنها.  وعندما يتفاقم اكتئابها، وتتخذ قرار اعتزال مواقع التواصل الاجتماعي ومتابعة الأخبار، ترجع رغمًا عنها؛ لتجد نفسها مضطرة لمتابعة يوميات هذه الحرب، بسبب عملها كإعلامية، بل ومراسلة لإحدى القنوات العربي. 

لكن منذ مدة، تخلت عن وظيفة المراسلة، بعد أن أقسمت عليها أمها ألا تخرج من البيت، وتعرض نفسها للخطر من أجل نقل خبر على خلفية مستشفى فارغة من المعدات الطبية، أو مبنى عريق أتلفته النيران، أو صور أفواج الناس وهم يغادرون في جماعات، رجالًا ونساء وأطفال على أقدامهم، وفوق الدواب، بعد تعذر الحصول على الوقود الذي بدونه تحولت السيارات عديمة الجدوى، كعدم جدوى الثلاجات التي تحولت لخزائن مطبخ بسبب انقطاع التيار الكهربائي طوال اليوم. منذ مدة، وهي باقية بجوار أمها في البيت، تعاني الاكتئاب من كثرة متابعة مواقع التواصل الاجتماعي، والكوابيس عندما تخلد للنوم.

-         قومي يا بتي!، عليك الله قومي، ما في زمن!

يا إلهي، هل قلبي تحجر حتى لا أقوى على البكاء على خالتي؟ أم أن نهر دموعي قد جف من كثر البكاء في الأيام الماضية؟ كانت تحاول إيجاد منطق لعدم ذرفها دمعة واحدة على خالتها وأسرتها، أثناء تفرسها في دموع أمها المنهمرة على خديها بغزارة. 

ظلت مكانها تلوك الصدمة وعدم تصديق فكرة مطاوعة أمها والسير في طريق النزوح؛ لتجد نفسها بين ليلة وضحاها منفية، تحمل أطياف مستقبل بلا ملامح، وتراكمات ماضٍ مؤلم، لبلدها الذي كم شهدت وكتبت عن جراحه، خلال مسيرتها الصحفية، وكم نقمت على أبنائه المتنافسون على السلطة، وهم يدور في نفس رحى النزاعات والصراعات الحزبية منذ عقود، دون أن يتعلموا من أخطاء الماضي، ويتجنبوا تكرار هفوات التاريخ. وأخيرًا، انهمرت دموعها، لكن ليس على خالتها وعلى اسرتها، بل على وطنها وعلى أهله، وهم يجابهون هذه الحرب الشعواء، ويعيشون صراعاتهم الداخلية مثلها الآن، بين مطرقة الخوف من البقاء وشهود الموت أو الأهوال، وبين المغادرة والنزوح، لمكان غير معروف بشكوك ومخاوف من مستقبل غير واضح الملامح.

عانقتها أمها عندما رأت دموعها، أثناء ترحمها على أختها وعائلتها، قبل أن تنهض وتعاود بمطالبتها بالإسراع في النهوض وعدم المماطلة في لملة أقل القليل من الأشياء المهمة في حقيبة سفر صغيرة، والتأكد على عدم نسيان جوازات السفر وبقية الأوراق الثبوتية، خاصة شهاداتها الجامعية، وشهادات خبرتها في العمل. وهنا وقفت الغصة في حلقها، وضاعفت من انهمار دموعها، قبل أن تتمكن أخيرًا من النطق لتسفهم من أمها التي كانت قد بدأت في لملة بعض الملابس:

-         وح نمشي وين يا أمي؟

-         بلاد الله واسعة.

أجابتها أمها دون أن تلتف نحوها. فكررت سؤالها بنبرة مخنوقة من الألم: وين يعني يا أمي؟

فقد كانت تعرف بأنه لم يعد لديهما أهل في الخرطوم بعد موت خالتها الوحيدة وأسرته، بل وحتى في بقية أقاليم السودان الأخرى، ليس لديهم أهل ولا معارف؛ لكي يذهبوا إليهم كما نزح معظم سكان الخرطوم لأهاليهم في ولايات الجزيرة أو الشمالية أو نهر النيل. 

أما غرب السودان، فأهله الآن، لا بد يواصلون النزوح منه كما فعلوا منذ حرب دارفور قبل عشرين سنة، ولكن هذه المرة، لن تكون وجهتهم الخرطوم؛ لكي يحتموا بها من لهيب الحروب، كما لن يكون لأهالي الخرطوم عزاء في أن يتوجهوا غربًا. ظلت تحدق في وجه أمها بتأهب لأجابتها؛ حتى تكرر محاولات اقناعها بأن البقاء في بيتهم النائي عن وسط الخرطوم، سيظل أفضل الخيارات. على الأقل ما يزال هناك القليل من جيرانهم، الذين يشبهونهم في الأحوال، والذي ولدوا وعاشوا طوال عمرهم في العاصمة، ولم يعرفوا لهم وطنًا سواها.

خنقتها الغصة عند توقفها مع كلمة "وطن"، غصة اتسعت في حلقها عند استعادة افتتاحية أيوب صديق على إذاعة (البي بي سي): وطني لو شغلتُ بالخلد عنه، نازعتني إليه في الخلد نفسي". ولما هزمتها الغصة التي كانت تتسع وتزيد في اتساع شعور الضعف والغبن في داخلها، استلمت للبكاء. ظنت أمها أنها تبكي اضطرارها لمغادرتها البيت الذي ولدت وتربت فيه، أو تبكي خالتها وأفراد أسرتها الخمسة الذين ماتوا جميعهم في نفس الوقت. وفي الحقيقة كانت تبكي ذلك كله، وتبكي معه جميع الذين قتلوا في هذا الحرب العبثية، وجميع الذين تشردوا ونزحوا وتركوا بيوتهم وغادروا ممتلكاتهم وعزهم وتحولوا إلى لاجئين في بلاد الغير.

بكت. وبكت. وبكت. وتذكرت في بكائها كابوسها الأخير، وفوهة بندقة القناص الموجهة نحوها من أحد أسطح المباني أعلى المباني في المحطة الوسطى بالخرطوم؛ فعاد الهلع يطبق على صدرها عند استرجاع مشهد الناس الهلعين وهم يتبعثرون في جميع الاتجاهات.

وللغرابة، شعرت ببعض الهدوء، عند استرجاع تفاصيل حوارها مع ذات الشعر البنفسجي ومضمون رسالتها لوالي الخرطوم، وخالج خالجها أملٌ في أن تكون هذه بشارة خير بأن السلام سيعود قريبًا للخرطوم، وتعود معه مشاريع التنمية والاستثمار ومشاريع الجذب السياحي، وتحول الخرطوم لمدينة عظيمة تربط بلدان شرق أفريقيا بغربها من البحر الأحمر وحتى المحيط الأطلنطي.

 مسحت دموعها، وقررت أن تحكي لأمها هذه الجزئية من كابوسها قبل قليل، أملًا في ثنيها عن فكرة الرحيل، وتبشيرها بأن خير كثير قادم لهذا البلد. لكن أمها سخرت من أحلامهما ومن تعلقها بحبال بالآمال أثناء تحركها في الغرفة وإخراج بعض الملابس من الخزانة، قبل أن تتوجه نحوها عندما طفح كيلها، لتمسكها من يدها، مجبرة إياها على النهوض:

-         قومي يا نِبْراس!  عليك الله اسمعي كلامي، ما تْتَعبيني معاك يا بِتِّي!

-         طيب وريني ح نمشي وين يا أمي؟

-         قلت ليك أرض الله واسعة.

-         طيب وريني!

وأمام عناد ابنتها، وبعد تفكير طويل، افصحت الأم بأن وجهتهم ستكون بلد النجاشي، أرض الحَبَشة، التي هاجر إليها الصحابة لما ضاقت عليهم أرضهم.

-         اثيوبيا؟

صرخت باستنكار، فأجابتها أمها بصوت تخنقه العبرات، بأن حدسها يشجعها على السير في الطريق الذي سارت فيه جارتها "أم مُزَمِل"؛ لتنضم إلى ابنها الوحيد، الذي سبقها وأخواته الإثنين قبل خمسة أعوام، أصبح فيها رجل أعمال وتاجر "بُن" لا يشق له غبار، ونجح فيها من إعادة بناء بيتهم في حي "الكَلاكْلة اللَّفة"، وحوله لبيت من الإسمنت بثلاثة طوابق بعد أن كان مجرد بيت "جالوص" بسيط مبني الطين، تصارع جدرانه قسوة عوامل الطبيعة كل عام في مواسم الخريف في شهر يوليو؛ لكيلا تسقط. وهنا، انهزمت الأم وتركت العنان لدموعها أسفًا وحزنًا على حال جارتها التي اضطرت لترك جميع ممتلكاتها الثمينة في هذا البيت، بما فيها الجدران التي أنفقوا الملايين من الأموال في بنائها، ولم تأخذ معها شيء سوى أوراقهم الثبوتية وبعض الملابس الضرورية. 

لم تتفاعل نبراس مع دموع أمها وحزنها على جارتها إلا بسؤال مستنكر:

-         ولي شنو ما نمشي مصر؟ على الأقل بلد بنعرف لغته وثقافته بتشبه ثقافتنا.

رفعت أمها رأسها وحدجتها بعينين كالمجمرتين قبل أن تعطيها قائمة طويلة بأسماء من أهلها ومعارفها المتكدسين في المعابر على الحدود المصرية السودانية في "وادي حلفا" أو في "بورتسودان" منذ أسابيع بل منذ شهور، يفترشون الأرض وينامون في الشوارع وتحت ظلال الأشجار وفي أفنية المدراس، من أجل الحصول على تأشيرة دخول، بعضهم فقد أطفاله بلدغات العقارب والحيات، وبعضهم فقد والديه من كبار السن؛ لعدم تحملهم تلك الظروف القاسية، وقد كانوا قبل أيام معززين مكرمين في بيوتهم، ينامون تحت هواء التكييف، ويأكلون ويشربون في مواعيد وجباتهم، ويتنعمون بنعمة الأمن

سامحنا يا الله، سامحنا لأننا لم نشكرك على نعمة الأمن وعلى جميع نعمك الأخرى، فسلبتها مننَا، وحكمت علينا بالتشرد، يا وجعي عليك يا السودان يا وجعي!، ظلت نبراس تردد "سامحنا يا الله"، بينما يديها تكفكفان دمعها الغزير في طرف قميصها، دموع قلة حيلتها ودموع حزنها على أمها وعلى نفسها، وعلى جميع النازحين المتكدسين في المعابر، وجميع الذي مثلها في هذه اللحظة، يجابهون الصراع الداخلي، والتردد بين البقاء وبين الرحيل. 

ولم يخرجها من بكائها المغبون ذلك، إلا دوي صوت انفجار من بعيد، أطلقت على إثر صرخة ذعر، وعلمت أن الوقت قد حان؛ لكي تطيع كلام أمها. ولما نهضت وشرعت في لملمة الأشياء من حولها، بينما عيناها تواصلان ذرف الدموع، أخذت تبرر وتحكي لأمها من بين عبراتها، أنه ربما عليها التوقف عن التمسك بحبال بالأمل، من أجل النجاة بأرواحهما.

 النجاة بروحي أنا، صححتها أمها، لأنكِ، وأنتِ بهذا الشباب والجمال، لن ليقتلوك، ولكنهم قد يغصبونك أو يأخذونك جارية أو سبية، لإيمانهم أن كل ما يقع تحت أيديهم هو غنائم حرب، أو قد يرحلونك بعيدًا؛ لكي يبيعونك في أسواق النخاسة في دارفور شرق تشاد، لأنكِ حتمًا ستجلبين لهم أموالًا كثيرة، ما دمتِ تدخلين في فئة الفتيات اللاتي يتم بيعهم بثمن غالٍ؛ لكونك من بنات الخرطوم وذات بشرة فاتحة. اختطاف الفتيات...اغتصابهن...بيعهم في أسواق النخاسة...تحويلهن لعبدات يعملن في الحقول أو في الأعمال المنزلية...في أي عصر نحن؟ يا إلهي! هل رجعت البشرية إلى عصر الظلام؟ هل رجعنا إلى العصور الوسطى؟ عصور التتار؟ جنكيز خان؟ هولاكو؟ الموت القادم من الشرق؟

كل هذه الأسئلة كانت تدور في رأس نِبْراس وهي تبكي مع أمها، التي انهارت بعد نطقها لجملتها الأخيرة. لحظات عصيبة مرت عليهما، كل منهما تصارع أحزانًا ومخاوف. وبينما أمها تكاد تمود كمدًا وهي تنوح وتترحم وتتحسر على أختها وأسرتها، الذين لن يستطيعوا الذهاب إليهم للمشاركة في تشيع جثامينهم، لأنهم حتمًا سيدفنون في بيتهم، مثل أغلبية سكان الخرطوم الذين دفنوا في بيوتهم؛ بسبب هذا الحرب التي أحالت الذهاب إلى المقابر أو المستشفيات أو الأفران أو لأي مكان، خطرًا يهدد بفقد الحياة، كانت نِبْراس تبكي على أحلام الشباب الضائعة، أحلامها هي، التي تشبه كلام ذات الخصلات البنفسجية في كابوسها قبل قليل.

 وهنا عانقتها أمها، وحاولت مواساتها بأن المستقبل أمامها، وبأنها ستعثر على وظيفة جديدة بسهولة بفضل شهاداتها وخبرتها، إما كمراسلة لإحدى القنوات العربية من هناك، أو في قناة محلية، بفضل اجادتها للغة الإنجليزية واللغة الإيطالية، وبأنه لن يصعب عليها تعلم اللغة الأمهرية إذا أرادت. فهي ما تزال شابة.

ثم ساد صمت ثقيل، ظنت نِبْراس خلاله أن الحديث قد انتهى، لكن أمها فاجأتها بفتح الموضوع الذي لم تتحدثان فيه منذ عامين، لتفترض ربما تكون في خطوة مغادرتها السودان، فاتحة خير لها وفرصة لكي تلتقي بشاب تقع في حبه ويسنيها المرحوم خطيبها، فتتزوج به وتحقق لها حلم أن تصبح جدة، وتحمل أحفادها بين يديها قبل أن تموت.

-         الله يديكِ الصحة والعافية وطول العُمر يا ست الحبايب.

 نطقت نِبْراس هذه الجملة بصوت مرتجف ثم ارتمت على حضن أمها لتواصل النشيج، علها تتخف من الثقل الجاثم على صدرها منذ أشهر. لكن ألمها كان أكبر من أن يهدئه حنان ودفئ حضن أمها الرؤوم. ألم فظيع يتحرك داخل صدرها كسكاكين حزنًا على الفقد العظيم لتاريخ حياتها، فقد رائحة تراب الأرض التي ولدت وعاشت فيها طوال حياتها، وفقد جميع ذكرياتها مع أهلها وأصدقائها ومعارفها وأحبائها. فقد الهوية وفقد الوطن.

 سملت أمرها لله وانفككت عن أمها، لكي تواصل نحيبها أثناء حزم الحقائب، مجبرة نفسها على الصمود لكيلا تسقط من فرط التعب والألم والحسرة، دون أن تصدق فكرة وجود مستقبل مشرق ينتظرها في مكان ما نتيجة هذا النزوح.

 ففي داخلها كان هناك حدسٌ كبيرٌ وصوتٌ عنيد يشوش لها بإصرار بأنها لا بد سائرة في درب "أيوب صديق"، وبأنها لابد ستخطئ في يوم من الأيام عندما يغلبها الحنين للسودان، وستفتتح برنامجها الإذاعي من أي مكان في بقاع الأرض بجملة: "هُنا أُمْ دُرْمَان...إذاعةُ جمهورية السودان".

----------------

قِصَّة "هُنَا أُمْ دُرْمَانْ" من المجموعة القصصية "الدَّعَّامي التَّائِه"، الصادرة عن "منشورات عندليب"  






ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق