كنت أعلم بأنني لن أصادف اليوم سوى أطفال الحي،
الذين سيتجمعون للعب كرة القدم ككلِ صباحِ، بعد إغلاق مدارسهم إلى أجلٍ غير مسمىً
بسبب السيولٍ والأمطارِ التي ضربت مؤخرًا ولاية الخرطوم.
سيول وأمطار كتلكَ التي أصابت البلاد
بالدمار عام 1988م، حيث تهدمت فيها الكثير من المدارس والمنازل والمستشفيات،
نفقت فيها النوق والجِمال والأبقار والحمير، والكثير من الحيوانات الأخرى، كما هكلت
الطيور والدواجن، ومات فيها العديد من الناس.
أخذتُ صحيفتي التي اشتريتها من كشك صغير يبيع الصحف
اليومية بجوار موقف مواصلات "الحاج يُوسِف"، وخرجت إلى الشارع؛ لأمارس
عادتي اليومية في قراءتها تحت شجرة النيم الظليلة، التي يذكرني عبق أوراقها بأنفاس
المرحوم جدِّي.
مثلتْ هذه الشجرة طيلة عقود رمزًا للقاء سكان شارع "الشَّلالية"
الذين كانوا يترددون على جديّ ثم على والدي، قبل أن يتعودوا إلقاء السلام عليّ كل
يوم، مرة في الصباح وهم ذاهبون إلى العمل، وأخرى بعد العصر وهم عائدون منه.
لكن اليوم الجمعة، ولن يمر أحد من أمامي، قبل ثلاث
ساعات، إلّا المصلين الذين سيتوجهون لأداء الصلاة في جامع "الشيخ
المقبول" على شارع "قصر الصداقة"، ليلتقوا ببقية سكان الحي. عندها
سأكون قد ذهبتُ بدوري للصلاة في جامع "السيد علي الميرغني" في حي
"حِلَّة خُوجَلي" المجاور، للقاء أصدقائي المنتمين للطريقة "الخَتْمِيَّة".
وضعتُ الصحيفةَ على الكرسي، ثم تقدمتُ لسقاية النباتات
بـخرطوم المياه الأخضر الذي يُزاحمني فيه عمَّار، ابن الجيران، الطفل ذو السبع
سنوات، السابق لزمانه بذكائه الحاد، الوحيد من بين أطفال الحي الذي لا يمل سماع
حكاياتي عن جدي وقصصه، التي حكاها لي تحت هذه الشجرة. وأولها وأكثره فخرًا بها،
كانت حكاية مشاركته في حصار الخرطوم حتى سقوطها، وثانيها حكاية إيمانه بالمهدي،
الذي نجح أنصاره في إنهاء فترة الاحتلال المصري العثماني، وثالثها حكايات لشخصيات
ألهمته وأثرت في حياته كجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده والحلاج وابن عربي.
عمار هو الشخص الوحيد الذي يصغي باهتمامٍ لحكاياتي
الموروثة عن جدي، ولبقية حكاياتي عن نفسي:
حكايات لعب كرة القدم، أثناء مراهقتي، مع أبناء الحي في
الميدان الترابي بجوار المقابر، ثم مزاحي معهم بتنبؤاتٍ لم أكن أظنها ستحقق، وأنا
أكرر لهم بأنني سأطوف مدنًا سودانية كثيرة قبل أن أجد حسناء جميلة أتزوج بها، يفوق
جمالها جمال من غنى لها الفنان محمد وردي: "وَشِّكْ بين مَسَايْرِكْ زَي
بَدْر اكْتَمَل"....
وحكايات دراستي في مدرسة "خُور طَقَتْ"
الثانوية بمدينة "الأُبَيِّضْ" بكُرْدُفان، وقصصنا مع أشجار "التَّبَلْدي"
هناك، ثم ذكريات الحنين لـ «نشيد الوداع» للشاعر الاسكوتلندي "روبرت برنز"،
الذي جعلنا نذرف الدموع جداولًا أثناء تعانقنا وتريد كلماته لحظة تخرجنا:
"هل
ننسى أيامًا مضت، هل ننسى ذكراها؟
هل ننسى
أيامًا مضت مرحًا قضيناها؟".
وحكايات دراستي في "بَخْتْ الرِّضا" لتدريب
المعلمين بمدينة "الدِّوِيم" بولاية النيل الأبيض، المعهد الذي تأسس قبل
ميلادي بأربع سنوات، عام1930 نتيجة تقرير اللجنة التي كونها الحاكم العام
للسودان بعد المذكرة التي تلت انتهاء إضراب طلاب كلية غردون، والتي قدمها "ج.س.سكوت"
المفتش الأول للتعليم ينتقد فيها سياسة التعليم في السودان داعيًا إلى إجراء
إصلاحات أساسية.....
وحكايات تنقلاتي كمدرس للغة العربية بمدرسة "بَرْبَرْ"
المتوسطة بنين بولاية نهر النيل، ثم بمدرسة "دُنْقُلا" الثانوية بنات
بالولاية الشمالية، فمدرسة المناقل الثانوية بنين بولاية الجزيرة، ثم بمدرسة "المؤتمر"
الثانوية بنين بأمْ دُرْمان، فبمدرسة "الحَلْفايا" بنات بِبَحْري، فبمدرسة
"الشجرة" الثانوية بنات بالخرطوم، حيث سألتقي بالحسناء الجميلة ذات المَسَايِر
والوجه الشبيه بالقمر، وأتزوج بها.
عمار، الطفل ذو السبع سنوات، يعشق سماع كل تلك الحكايات،
التي أصبح أحفادي وغيرهم من الكبار يتضجرون منها، بعد امتلاكهم لهواتف ذكية نقالة
واشتراكات إنترنت لامحدود، جعلتهم يقضون أوقاتهم في التواصل عبر العالم الافتراضي،
ويهجرون تمامًا العالم الحقيقي، فلا يأتون لمجالستي تحت ظل شجرتي إلا عند حاجتهم
لمشورة في أمر زواج أو خطوبة، أو لكي أشاركهم تشيع موتاهم إلى المقابر.
وهكذا بات الحزن رفيقي، بعد إدراكي أنني لم أعد سوى شيخ
عجوز يتوكأ عصاه ليذهب إلى المسجد، ليقابل أترابه القلائل بعد رحيل جلهم إلى دار
الحق.
فتحت الصنبور وتقدمت، لكن ما أن بدأتُ في رشِّ المياه
على أوراق شجرة الريحان، حتى أحسستُ بعمار يقف ورائي. التفتُ إليه فوجدته يطالعني بعينين
تتوسلان أن أعطيه الخرطوم لكي يمارس هوايته في رش نباتات حديقتي الصغيرة: شجرة الليمون
وشجيرات الحناء وأزهارُ "صباح الخير" البيضاء والحمراء والصفراء، وشجرتي
الأصيلة، شجرة النيم الوارفة، التي صمدت بشجاعةٍ أمامَ هجمات أسراب الجراد التي
غزت السودان في الخمسينات، وأتلفت الكثير من الأشجار والمحاصيل.
أعطيتُه خرطوم المياه ثم عدتُ لمكاني على الكرس
البلاستيكي بعد أن ألتقتُ الصحيفة. وبعد أن اطمأننتُ عليه، رفعتُ نظارتي الطبية
إلى عينيّ ثم انغمستُ في القراءة. بدأتُ بالخبر المتحدث عن " وصول وزراء
خارجية فرنسا وبريطانيا والسويد إلى الخرطوم الأسبوع المقبل"، فقلت في نفسي
ربما تعيد هذه الزيارة علاقات من الاتحاد الأوربي، فترجع شركة "سودانير-Sudanair" إلى
استئناف رحلاتها مع لندن وباريس وستوكهولم.
ثم ألقيت نظرة سريعة على عمار، قبل أن أنتقل للخبر
التالي المتحدث عن " مطالبة منظمة العفو الدولية بتسليم الرئيس المخلوع "عمر
البشير" للمحكة الجنائية الدولية". فمرت بذهني أهوال مخيمات اللاجئين في
"دارفور"، منذ نشوب الحرب الأهلية عام 2003م، وجعلتني أتساءل إن
كان تسليم الرئيس المخلوع سيشفي غليل أمهات الشهداء ولاجئي معسكرات الحرب. ثم
عبرتُ بسرعة إلى الخبر الثالث المتحدث عن "وصول خمسة بواخر محملة بمشتقات
النفط إلى ميناء بورتسودان"، فدعوت الله أن تكون بارقة أملٍ تحل أزمة البنزين
وتريح سائقي "الرَّكْشات" من الوقوف المطول في صفوف محطات الوقود.
وقبل أن أتعمق في تفاصيل خبر زيارة الرئيس الأرتري "أسياس
أفورقي" إلى الخرطوم السبت المقبل، سمعتُ أحد الأطفال ينادي عمار بصوتٍ عالٍ
راجيًا إياه للعودة واستئناف اللعب معهم، فخشيت أن يلقي الطفل بخرطوم المياه على
الأرض دون أن يغلق الصنبور فتتحول الأرض إلى بركة من الطين. التفت إليه بجزعٍ، فوجدته
منغمسًا في الرش وهو يدندن أغنية فرقة ألوان الطيف:
"أوعك
تقطع صفقة شجرة
عشان ما
يجينا جفاف وتصحر".
ولما اطمأننتُ، رجعتُ للقراءة بتركيزٍ. ولم يخرجني من
انسجامي إلا وقوف عمار أمامي عاقدًا ذراعيه أمام صدره، محدقًا فيَّ بعينين ثاقبتين
كعيني صقر. سألته ما به، فباغتني بسؤالٍ لم يسألني له أحدٌ من قبل. فتفرستُ في
وجهه الصغير بفضولٍ، ثم سألته لماذا يفترض أن يكون لدي أسمٌ آخر؟ فعلل بنبرةٍ واثقةٍ بأنه فكر طويلًا ولم يفهم
لماذا يناديني سكان الحي بـ"عم حجازي" ويطلقون على شجرتي شجرة
"غُردون". فأزحتُ النظارة عن عيني لأطالعه بذهولٍ وانبهار من حدة ذكائه.
ولما طال تأملي له فاجأني بـ:
- جدو
حجازي، إنت اسمك الحقيقي غُردون، مش كدة؟
تأملته برهة بذهول قبل أن تنفت مني قهقهة عالية جعلتْ
بائع الخردوات الذي كان يمر من أمامنا صائحًا: "خُرَدْ، خُرَدْ" ينتفض،
ثم يهوي بسوطه على ظهر حماره الهزيل؛ لينطلق مسرعًا في اتجاه "حِلِّة
خُوجَلي". ارتفعت قهقهتي من منظر الرجل المفزوع الذي ولى هاربًا وكأنه ظنَّ
أنني ضحكتُ عليه. ولما أفقت من ضحكي الهستيري، وجدتُ عمار يطالعني بغضبٍ، عَبَّرَ
عنه باتهامي بأنني أسخرُ منه. فمسحتُ دموعي وطلبتُ منه أن يقترب، ففعل منكسًا رأسه.
فتلقيته بين ذراعي وعانقته بقوة، ثم قبلته على رأسه، قبل أن أبعده قليلًا لأنظر في
عينيه وأؤكد له بأن ضحكي كان بسبب ردة فعل صاحب الكارُّو. لانت ملامحه، فاسترسلت
في مدح ذكائه، فابتسم. شعرت بالراحة، فعانقته من جديد ثم همستُ له بأنه عندما يبلغ
الثالثة عشر من عمره ويدخل الصف الثامن سيدرس عن تاريخ الثورة المهدية وسيتعرف على
"غُرْدُون" باشا. ولما ابتسم، أجلسته على حجري وأخبرته أن أصدقائي
أطلقوا على شجرتي "شجرة غُرْدُون" لأنني كنت أنقل لهم تحت ظلها، حكايات
نسيبي، والد المرحومة زوجتي، عن عمال الري المصري والبعثات المصرية التي كان قد قصَّها
عليَّ تحت "شجرة غُردون" أو شجرة "محو بيك" في حي
"الشجرة" بالخرطوم.
حك عمار رأسه ثم سألني عمن يكون "غُرْدُون" ،
فأدركت أنه لن ينتظر حتى يدرس الثورة المهدية وحصار الخرطوم في المدرسة. فقصصت
عليه حكاية الجنرال البريطاني الشهير "شارل غُردون"، الذي خاض "حرب
القرم" بين روسيا والعثمانيين (1853-1856)، ثم شارك في "حرب الأفيون
الثانية" في الصين، حيث قاد أربعة آلاف فلاح صيني لقمع ثورة "تايينغ"
كانت يستمع لي وعيناه تشعَّان فضولًا أثناء سردي لقصة الجنرال
الإنجليزي "شارل غُرْدُون"،
الذي لقبته بريطانيا بـ"غُردون الصين" تكريمًا
له، قبل أن يُبتعث إلى السودان لمواجهة الثورة المهدية، بعد دعوة من خديوي مصر
لرسم خريطة لنهر النيل في جنوب السودان وأوغندا.
ولما ختمتُ كلامي بإن الاسطورة البريطانية، الذي لم يعرف
في حياته سوى الانتصارات، لقي حتفه في فجر الاثنين السادس والعشرون من يناير
عام 1885، عندما اقتحم الثوار أنصار المهدي ومن بينهم جدي، بعد حصارٍ
استمر 317 يوم، قصر الحاكم في الخرطوم، وقتلوه لينهوا بذلك حقبة العهد
التركي التي كانت قد استمرت منذ عام 1821م، لاحظتُ أن عينا عمار تحدقان في
الفراغ. فسألته ما به، فأجاب بأن قصة "غُرْدُون"
تذكره بقصة "إدارد نِد ستارك"، بطل مسلسل "صراع العروش"،
وفانتازيا أغنية "الجليد والنار" وحاكم قلعة "وينترفل"
القديمة في شمال مملكة "ويستروس"، وبأنه سيموت في نهاية المسلسل مقطوع
الرأس مثل غُردون.
اكتفيتُ بالابتسام، فسألني إن كنت أشاهد مسلسل
"صراع العروش". هززتُ رأسي بالنفي، ثم أخبرته أن آخر عهدي بالمسلسلات
كان أيام التسعينات عندما كان أحفادي يشاهدون مسلسلات الكرتون: "مدينة
النخيل"، و"لحن الحياة"، و"ماوْكلي فتى الأدغال"،
و"طمطوم"، و"نوار"، و"عودة سنبل"،
و"سالي"، و"بابار فيل" و"كابتن ماجد".
واصل عمار التحديق في وجهي بفضولٍ أثناء تعدادي لأسماء
مسلسلات الكرتون. وقبل أن يسألني عن تفاصيل أكثر مازحته بأن هذه المسلسلات لا
يعرفها جيل "الآيفون" و"الآيباد" مثله. فضحك ثم طلب مني أن
أكلمه عن "كابتن ماجد".
في هذه اللحظة شعرتُ بوقوف ثلاثة من أصدقائه بجوارنا كانوا
يتحينون الفرصة للانقضاض عليه. وقبل أن أكلمه عن كابتن ماجد هجم عليه اثنان وسحباه
من يديه بينما ظل يدفعه الثالث من الخلف إلى أن أعادوه إلى الميدان الترابي
الملاصق لمقابر "حِلَّة حمد"، التي تضم أجساد أغلب أصدقائي، واثنان من
أبنائي وجسد زوجتي وجسد حفيدي العشريني، أحد شهداء فض اعتصام القيادة، وكثيرٌ غيره
من شهداء ثورة ديسمبر، المقتول في حي المزاد، الذي تلقى رصاصة غاضبة عندما لم
يتحمل الشرطي أن يقول له:
- "ياجنابوا اشتغلوا شغلكم وفكوا بمبانكم
وأزيلوا التَرَس، واحنا بنشتغل شغلنا وبنرجع التَرَس تاني".
تابعتُ عمار يدخل الملعب ويستأنف اللعب بمهارةٍ وحرفيةٍ
ذكرتني بحواراتٍ سابقةٍ معه، كان قد أفصح لي فيها عن أمنيته أن يصبح لاعب كرة
مشهور مثل كرستيانو رونالدو ونيمار أو ميسي، ليكي يلعبَ في يوم من الأيام في
النوادي الأوروبية الكبيرة مثل نادي برشلونة الإسباني أو اليوفنتوس الإيطالي أو
سان جيرمان الفرنسي.
ذلك اليوم عندما سألته، لكي أختبر معلوماته إن كان يعرف "قاقرين"
و"ابراهومة" و"حامد بريمة". فصمت برهة ثم أجاب بتردد بأنه
يعرف الأول فقط لأنه أول رجل وصل إلى القمر. كتمت ضحكتي خشية أن يغضب مني، ثم أوضحت
له بهدوء "يوروي قاقرين" الذي يعرفه، هو أول إنسان يتمكن من الطيران إلى
الفضاء الخارجي والدوران حول الأرض، بينما أول رجل وصل إلى القمر هو "نيل
آرمسترونغ".
نظر إليَّ بفضول، فواصلت حديثي وأخبرته أن قاقرين الذي
أقصده هو "عَلي قاقرين"، لاعب شهير في فريق المريخ السوداني، وهو وزميلاه
"ابراهومة" و"حامد بريمة"، تمامًا كشهرة ميسي ونيمار
وكرسيتانو رونالدو في العالم، فاغتم وجهه قبل أن يسـألني بصوت حزين:
- جدو حجازي،
إنت مريخابي؟
فكذبتُ ونفيتُ: "لا"، لكي أطمئنه وأعيد إليه
ابتسامته الماكرة، التي يخفي بها انهزامه الذي لن يعترف به أبدًا. عاد وجهه بالرضا،
فحاولت إدخاله في هزيمة أخرى وسألته إن كان قد سمع بهذه الكلمات:
يلا أولاد
المدراس.....في رُبَى السودان وسَهْلُه
يلا شخبطوا
في الكراريس.... أكتبوا الواجب وحَلُّه.
وكنت واثقًا من أنه لا يعرفها، لكنه خيب ظني عندما صرخ
بحماسٍ بأن صديقته الجميلة والذكية في المدرسة، "رُبَى"، علمته هذه
الأغنية لفرقة عقد الجلاد الموسيقية؛ لأنها تحمل اسمها.
فكانت تلك السهول وتلك الرُّبى هي ما جعلت عمار ينتصر
عليَّ في تلك الجولة.
نفضتُ الذكرى، وعدتُ إلى قراءة بقية أخبار الصحيفة
لتاريخ ذلك اليوم، 14 سبتمبر 2019، تاركًا عمار يصول ويجول بالكرة في الميدان
الترابي.
باريس 27 ديسمبر 2019
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق