بقلم / تسنيم طه
هذه المرة استجمعتُ
شجاعتي، ثم استدرتُ. ولكن وقبل أن أتبين ملامحه، كان متتبعي قد أشاح بوجهه في نفس
اللحظة التي وقعت فيها عيني على هيئته.
وهكذا لم أرَ منه
سوي شعره المجدول ضفائر "راستا، ذكرتني بمغني الريغي الجمايكي
"بُوبْ-مَارْلِي"، وجلبت لذاكرتي كلمات اغنيته" No Woman No Cry"، التي اكتشفتها
لأول مرة مع صديقتي الفرنسية، التي قطعتُ معها "درب إسرائيل القوميSvil-"، المعروف
بـ"درب الملائكة".
انشغلتُ عن خوفي من خطوات متتبعي،
بشرودي في خوف آخر عشته خلال تلك الرحلة مع صديقتي الفرنسية في ذلك الطريق الطويل،
الذي يعبر كامل فلسطين، أو إسرائيل كما تسمى على الخريطة الجغرافية اليوم، من
الحدود اللبنانية شمالًا، وحتى الحدود المصرية جنوبًا.
ففي نهاية ذلك اليوم الممطر من شهر
يناير، وفي أول ليلة نوم لنا في العراء، هاجمتنا حيوانات "بنات آوى"
المفترسة. ولم نكن لننجح في التخلص منها لو لم أن كان بحوزتها تلك العصي التي كنا
كدعامات للحماية من الانزلاق في الأرض الطينية. سيلاحقني خوفي من لمعان عيون تلك
الحيوانات الشريرة وأنيابها البارزة لأيام متتالية، رغم أننا كنا نبيت داخل بيوت
أناس يقترحون تقديم ضيفاتهم للذين يقطعون هذا الطريق مشيًا على الأقدام، أو في غرف
فنادق كنا نتشارك دفع ثمنها.
ولن أتخلص من خوفي
ذلك، إلا عند وصولنا إلى أورشليم-القدس، وبكائي بحرقة دون معرفة السبب، بكاء غسل
أدران روحي وأزال الران عن قلبي، لأولد من جديد في ذلك المكان العظيم الذي شملني
ببركاته وبطاقته الروحانية أثناء تأملي لقبة المسجد الأقصى، المكان الذي يأتيه
الحُجاج من جميع بقاع الأرض من مختلف الديانات الثلاث الموحدة: اليهودية والمسيحية
والإسلام.
نسيتُ الماضي الذي ولى، ورجعتُ
للواقع لحظة رفعه ليده وإدخالها في ضفائره. فعاد الخوف يجتاحني. ونسيتُ أن أتنفس
ما أن لاح لي جانبٌ من وجهه ووميضًا ماكرًا في نظرته المسترقة نحوي، بطريقة ذكرتني
بنظرة بطل مسلسل الكرتون "المحقق كونان".
استأنفتُ سيري بتوتر. وكان سيرًا
أقرب للهرولة هذه المرة، شغلني معه عن التركيز مع ضربات قلبي الذي كان يصل لإذني
من الداخل كقرع طبول. لكن خطواتي الواسعة لم تفعل سوى مضاعفة خوفي مع كل وقع خطوة
خلفي كانت تسرع في أثري.
راودتني فكرة الانطلاق ركضًا دون أن
أدري إلى أين. وهممتُ برفع تنورتي الطويلة لكيلا يعقيني ضيقها عند الكاحل من
الجري. لكنني لم أفعل. وتملكني الإحباط عند تذكر معلومة قرأتها عن أن الغزالة لما
تهرب من الأسد وهي مدفوعة بالخوف، يتسبب خوفها في أن تركض برعونة تجعل الأسد يلحق
بها ويفترسها، رغم أن سرعتها أكبر من سرعته.
توقفتُ من جديد. فإذا بتابعي يتوقف
بدوره. لكنني لم ألتفت نحوه هذه المرة، بل رميت ببصري نحو جموع البشر الفرحين
المنهمكين في اللعب والثرثرة مصدرين ضوضاء اختلطت مع أصوات تلاطم أمواج النيل
الأزرق على الشاطئ:
شبابٌ يلعبون الشطرنج، رجالٌ يلعبون
الورق "الكوتشينة". نساءٌ يأخذن صورًا لوجوههن المطلية بالمكياج،
ويتعمدن إظهار أياديهن المزينة بنقوش الحناء والأساور الذهبية. أطفالٌ رضعٌ نائمون
في حجور أمهاتهم وآخرون يبكون. طلابٌ جامعيون يتمايلون مع عازف عودٍ متمرسٍ
يدندنون معه أغنية "عثمان الشفيع":
في الضّواحي وطَرَف المَدائن،،،يلا
نَنْظر شَفَق الصَّباح
احسستُ بالعرق ينزلق على طول ظهري
رغم برودة الجو. بلعت ريقي بصعوبة ثم أخذت نفسًا عميقًا لأستعيد رباطة جأشي، قبل
أن أعاود التحديد في الجموع حولي بحثًا عن شخص شهم يهب لنجدتي إذا ما انحلت عقدة
حلقي ونجحت في الصراخ. في الحقيقة، لم أكن أعرف مم كنت خائفة بالضبط:
هل بسبب مشاهد
محاولات اغتصاب الفتيات في أفلام الدراما المصرية التي رأيتها في مراهقتي؟
أم بسبب بشاعة قصص مصاصي الدماء في روايات الفانتازيا للكاتبة الأمريكية
"استيفاني مايير"، وقصص القتلة المحترفين في روايات "أجاثا
كريستي" البوليسية، التي كنتُ أقرأها تحت شجرة النيم في فناء مدرسة
"بحري القديمة" الخلفي، عندما كنتُ أهرب من حصص الرياضيات؟
انتابني غيظ من غياب الجموع عني في
نشوة عالمهم. وتساءلتُ: ماذا سيحدث لو أطلقتُ صرخة هستيرية تُخرجهم من حالة النشوة
السكرانين فيها؛ وتجبرهم للانتباه لي؟ ثم وأدتُ الفكرة عندما أحسستُ أن حبالي
الصوتية ستخونني.
وهكذا قررتُ دخول المعركة بمفردي.
وبعد أن ملأتُ صدري بالهواء، استدرتُ بسرعة لم تمكن صاحب الضفائر من الاشاحة بوجه
عني هذه المرة. والغريبة، شعرتُ بخوفي يتبدد لما تفاجأت بوسامة ملامحه، لحظة
تسمره في مكانه دون أن يبدو عليه الانزعاج من مباغتتي له من نظراتي المستفهمة
بتحدٍ.
ألجمتني المفاجأة للحظات، قبل أن
أخرج صوتًا مهزوزًا لأسأله لماذا يتبعني. تراجع الشاب خطوة للوراء وممر يده اليسرى
في ضفائره، ثم تلعثم قائًلا إن نيته طيبة.
-
كيف يعني، ممكن تشرح لي؟
استفهمتُ بصوت أكثر اهتزازً. فمرر
أصابع يده اليمنى على شفتيه أثناء تحديقه في وجهي بعينين عسليتين عكستا جرأة
أصابتني بألم في معدتي. ولا أدري إن كان حقًا يفكر في الإجابة على سؤالي، أم
أنه تعمد إطالة الصمت، ليزيد من توتري.
ولما نطق، كانت نبرته هادئة وهو
يدعوني للجلوس على أحد "البنابر" حول إحدى "سِتات الشاي"،
لتناول قهوة بالزنجبيل في الهواء الطلق، قبل أن يكرر قوله، وابتسامة ماكرة ترتسم
على شفتيه المكتنزين، بأن نواياه الطيبة.
أخرستني جرأته، فحدقتُ فيه بذهول ولم
أقوَ على النطق. تمادى وسأل ببساطة: ماذا سيضير فتاة تسير بمفردها في الليل من
تناول قهوة مع شاب معجب بقوامها الفارع وبمشيتها المختالة. هل حقًا مشيتي مختالة؟
اللعنة على الكعب العالي!
تضاربت مشاعري بين الغضب والخوف، مع
تسارع صور مشاهد أفلام الدراما داخل رأسي، وإصرار خيالي على أن يركز على أسوأ
المشاهد، ليؤكد لي أن هذا الشاب يريد أن يلحق بي الأذى.
وتنامى غضبي، ولكن تجاه نفسي هذه المرة، لعدم تقديري لحجم الخطر باتخاذ قرار
التنزه في شارع النيل ليلًا بمفردي من أجل أن أمسح آخر الذكريات مع حبيب متخاذل
آخر، علني أنجح في فتح صفحة جديدة مع الحياة، تجعلني أغير فكرتي عن الحب والزواج
وعن الصدق والوفاء وعلاقة ذلك كله بالعادات والتقاليد.
ومن جديد راودتني فكرة رفع تنورتي
وإطلاق ساقيَّ للريح. لكنني ظللتُ متسمرة في مكاني، أطالع مُحدثي ببلاهة
وشك، أثناء استعادتي لقصة الغزالة والأسد، وإقناع نفسي بأنني مهما كنت رشيقة وذات
لياقة بدنية عالية، مكنتني من قطع "درب الملائكة Svil-" سيرًا على
الأقدام، فأنني لن أستطيع الهرب من شاب يفوقني طولًا، إن قرر اللحاق بي.
بلعتُ ريقي وطمأنتُ نفسي بأنني لستُ
بحاجة للهرب ومن حولي كل هذه الجموع، وبأن الطريق الذي أسير عليه ليس مظلمًا لدرجة
تخيل أن بإمكان هذا الشاب الحاق الأذى بي دون أن يلاحظه أحد.
مدني هذا التحليل بالراحة. لكن راحة
لحظية، تبددت مع اقتراب الشاب مني خطوة، دفعتني للتراجع بحركة غريزية، سمعتها
خلالها كالفحيح وهو يغير عرضه لي مفترضًا أن الأفضل لنا سيكون الابتعاد عن هذا
الزحام، والذهاب لتناول القهوة في شقته الهادئة بالجوار، قبالة مستشفى
"ساهرون"، وبأننا يمكن أن نصلها سيرًا على الأقدام في أقل من نصف ساعة.
- وهناك طعم القهوة سيكون ألذ،
أنهى جملته بابتسامة ماكرة.
من تظن نفسك أيها المغرور؟ ولماذا
تعتقد أنني سأكون صيدك لهذه الليلة؟
هذا هو الصراخ الذي تعالى داخل رأسي
دون أن أتجرأ على النطق به. هربتُ من نظرته المتفحصة لتفاصيل جسدي النحيل، وأخذتُ
التلفت حولي بحثًا عن مخرج من هذه الورطة التي وضعت نفسي فيها، أثناء لوكي للندم
على ارتداء هذه التنورة الضيقة التي لابد حددت استدارة مؤخرتي بوضوح. أدرتُ رأسي
عدة مرات يمنة ويسرى أصابني فيها اليأس، قبل أن ألمح في آخر لحظة شابًا يجلس
وحيدًا موليًا الجموع ظهره، يتأمل مياه النيل.
لا أدري كيف ولدت الفكرة في رأسي
بهذه السرعة، ولا أدري كيف نفذتها بتلك الثقة. وكم شعرتُ بالفرح عند ملاحظة تحول
ملامح محدثي من الجرأة إلى الإحباط، عند تصديقه ادعائي: كنتُ سأفرح بقبول دعوتك
وكرمك لو لم أكن مستعجلة في الانضمام لخطيبي الجالس هناك. واحتفظتُ بصورة فكه
المتدلي من الدهشة أثناء اتباعه لإشارة يدي ناحية "كُوبْري المَكْ
نِمِر"، وانصرفتُ بسرعة دون أن أنتظر رده.
خمسون مترًا قطعتها في ثوانٍ، صارعتُ
فيها مشاعر الخوف والرجاء والشك، قبل أن أصل وراء مناجي النيل. توقفتُ برهة
لالتقاط أنفاسي ثم تقدمت. لكن ما أن وضعتُ قدمي على حافة سجادة الحصير الملونة،
حتى كدتُ أقع للخلف هلعًا من شدة صرخة مناجي النيل، خطيبي المزعوم:
- انتي كمان عايزة مني
شنو؟
مشاعر كثيرة تضاربت في داخلي، بسبب
ارتفاع ادرينالين الخوف في دمي، وانعقاد حلقي بالغصة، وشعوري بالعار والهزيمة،
لحظة التفاتتي وملاحظة أن شبيه "بُوبْ-مَارْلِي" الذي كان قد سار في
أثري، يراقب الموقف على بعد خطوات بنظرات انتصار وتشفي.
بلعتُ ريقي بصعوبة، وأخذتُ ألتفت
حولي بحثًا عن حلٍ آخر يخرجني من هذه الورطة الجديدة التي وضعت نفسي فيها. لكنني
ندمت عندما التهمتني نظرات الفضوليين الذين أثارت انتباههم صرخة مناجي النيلية
الهستيرية، وتمنيتُ في هذه اللحظة لو تنشق الأرض وتبتلعني.
وفجأة، انبثقت في رأسي فكرة نيرة
نفذتها في الحال، وأنا أستجدي أملًا جديدًا عسى أن يكون فيها مخرجًا ونجاة من شعور
العار الذي جعلني اتصبب عرقًا من راسي حتى أخمص قدميَّ، رغم برودة الجو.
تجاهلتُ نظرات الفضوليين وأدرت رأسي
بين الرجلين اللذان يحدقان فيَّ بتأهب، ثم أدخلتُ يدي في حقيبة يدي بحركة رعناء لأخرج
هاتفي النقال، واتصنع ردًا على مكالمة وهمية مع أمي:
- ألووو. أهلين يا
أمي...أيوة أكيد نِحنَ جايين للعَشا، بس هيثم خطيبي لسة زهجان،
خليهو..أيوة....أيوة...صدقيني ما ح نتأخر.
وللحظة غمرني شعور بالراحة، تلاشى
سريعًا عند ملاحظة تقلص ملامح خطيبي المزعوم وانعقاد حاجبيه غضبًا. لكنني
شجعتُ نفسي وواصلتُ:
- بس عليك الله يا أمي ما تنسي
تكتري الليمون والشطة الخضرا بالدَّكْوة. انتي عارفة انو خطيبي بيحبها شديد مع
"شَيَّة الجَمُر"....يلا مع السلامة.
كاد الهاتف ينزلق من يدي أثناء
إعادتي له لمكانه. مسحتُ يدي المتعرقة طرف طرحتي وأخذتُ أتلفتُ في الوجوه الفضولية
بجرأة علها تخجل وتتركني وشأني. لكن سريعًا نسيتُ الفضوليين وشعوري بالعار من
نظراتهم، عند ملاحظة أن شبيه "بُوبْ-مَارْلِي" قد أدار عقبيه الاتجاه
المعاكس ناحية جسر "كُوبَر".
ولم أفهم سبب شعوري بالحزن بدل أن
أفرح. وربما هو حزن لاستسلامه بتلك البساطة، وتركه إياي أجابه خوفًا جديدًا من
بقائي بمفردي مع هذا الخطيب المزعوم، الذي لا أعرف إن كانت قواه العقلية سليمة، أم
أنه مجنون سيلحق بي أذًا من نوع آخر بجوار هذه الجموع الغافلة.
تقدم مناجي النيل نحوي، فتطلعتُ
بتوجس لعينيه اللتان تقذفان الشرر، وأدركت بأنني لا بد سأنتهي هذا المساء مضروبة
أو مقتولة على يديه؛ جزاءً على اطلاقي عليه اسمًا من أسماء الصقر بدون إذنه.
أي ريح قذفتك نحوي لتقتحمي عليَّ
خلوتي؟ هكذا بدأ تعنيفه، فاعتذرتُ بسرعة وأخذتُ أبرر موقفي لظني بأنني سأمتص غضبه
واكسب تعاطفه عندما أشرح له خوفي من ملاحقة صاحب الضفائر المجدولة، الذي كان يبتعد
رويدًا رويدًا دون أن يكف عن التلفت نحونا كل برهة.
لكن ظني خاب. إذ ضاقت حدقتي مناجي
النيل وتبعثر لعابه أمام فمه أثناء صبه لجام غضبه عليَّ، معنفًا إيايَّ على الخروج
بمفردي من البيت في هذا الوقت المتأخر، والسير هذه المنطقة التي ليس فيها مكان
للوحيدين.
أدهشتني جملته الأخيرة، لكنني لم
أجرؤ على سؤاله إن كان يكلم جنيًا متواري داخل مياه النيل، حتى لا يعتبر نفسه
وحيدًا. في الحقيقة لم يكن الوقت متأخرًا، وكانت الساعة بالكاد تجاوزت الثامنة
مساءً، وما زال يُسمع أصداء تلاوة صلاة العشاء من بعض المساجد المجاورة.
تأملتُ ملامحه المتشنجة وانتابني شعور بالأمان وحدس بأنه صادق في خوفه عليَّ.
فتنفستُ الصعداء وقلتُ في نفسي بان الدنيا ما تزال بخير، وبأن ليس كل الشباب الذين
سأقابلهم سيكونون ذئابًا بشرية تريد الانقضاض عليَّ. دفعني هذا الشعور بالأمن
الاطمئنان لأن أبوح له بأن سبب خروجي في هذا الليل هو نيتي قطع خيوط ذكراي مع
حبيبي السابق في هذا المكان، بعد تخليه عني في آخر لحظة، إلغائه مراسم الخطوبة
التي كانت مفترض أن تكون الأسبوع القادم، بعد اكتشافه لأصل جدتي، متخذًا نهج ثلاثة
من الشبان قبله.
- وما هو أصل جدتك ليدفع
العرسان للهرب منك؟
سأل بنبرة بدت لي ساخرة أكثر منها
فضولية. تطلعتُ فيه باستغراب وضبطتُ في نظراته اعجاب أثناء تأمله لخصلات شعري
الخارجة من أمام الطرحة، التي لا أخرج بدونها في السودان، احترامًا للعرف الذي نشأتُ
وتربيتُ فيه، حتى وإن كنتُ قد خبرتُ ثقافات أخرى، وعشتُ في بلد آخر، النطق باسمه
يعتبر تابو.
لذتُ بالصمت ورميتُ ببصري على المياه
المتلألئة تحت انعكاس نور القمر وأضواء المدينة، وشيعتُ بنظري قارب سياح مبهرج
الإضاءة نشر في الأرجاء ضوضاء تصفيق الركاب وغناءهم مقطع أغنية سيد خليفة:
"إزيَكُم؟ كيفِنَكُم.... أنا لَيْ زمان ما شفتكم".
تضاءل حجم القارب عند محاذاته جزيرة
"توتي"، متجها نحو ملتقى "النيلين" في المُقْرَن، فرجعتُ أنظر
في وجه محدثي المنتظر لإجابتي عن أصل جدتي. لو كانت جدتك غَرْبَاوِية لرفض أهل
العرسان التقدم لخطبتك، هكذا تخيلته يقول في نفسه، كما قال أهل صديقتي الجَعَلِية
رشا، ورفضوا أن يتقدم زميلها لخطبتها بعد أن أخبرتهم أنه ينتمي لقبيلة الزَّغَاوة
المتركزين غرب السودان وشرق تشاد.
كسر خطيبي المزعوم صمتي المحتار،
بالحديث الشريف "لا فرق على عجمي على عربي إلا بالتقوى"، ثم أسهب في
حديث منمق عن العدالة والمساواة وحقوق الإنسانية، قبل أن يضيف بنبرة بدت لي
متألمة، أن أكبر عيوب السودانيين رغم كثرة مزاياهم، هي مشكلة العنصرية والقبلية
والتعصب، مشكلة تسببت في الماضي وستسبب في المستقبل في كثير من البلاء.
في هذه اللحظة، احسستُ تجاهه بأمان
كبير، شجعني للخروج من صمتي المحتار واخباره بالجزئية التي لا أجرؤ للبوح بها لمن
هَبَّ ودَبَّ: جدتي يهودية.
جحظت عيناه دهشة وارتخى فكه ببلاهة.
ثم ساد صمتٌ جديد للحظات بدت لي كأنها أبدية، قبل أن يخرج محدثي من ذهوله ليستفهم
بصوت يشبه الهمس:
- وهل يوجد يهود في
السودان؟
تأملتُ ملامح الدهشة على وجهه
النحيل، وتأكدتُ بأنه مثل أغلبية الشباب من جيلي، المولودين في ثمانينات القرن
الماضي، الذين لم يشهدوا تهجير اليهود (الفلاشا والسفارديم) في عهد الرئيس جعفر
نميري، لا يعرفون تاريخ السودان إلا الذي تعلموه في المدارس، أو الذي سمعوه من قصص
الجدات.
- كانوا يوجدون قبل أن نولد
أنا وأنت، أجبتُه باختصار.
أجبتُه باختصار ثم رميتُ ببصري
مجددًا ناحية النيل. وهنا دعاني للجلوس على نفس السجادة الملونة التي انتهرني قبل
قليل بسبب دوسي عليها بحذائي. فغمرني فرح وشعور بالأريحية، دفعاني للتلفت حولي
لتبديد ارتباكي وتفقد نظرات الفضوليين.
تنفستُ الصعداء، لما وجدتهم عادوا
لانشغالهم بأمورهم ولانغماسهم في نشوة عوالم لهوهم. دققتُ النظر في الاتجاه الذي
ذهب فيه شبيه بُوبْ-مَارْلِي، فلم أجد له أثرًا. ولكن بدل أن أشعر بالارتياح،
انتابني شعور حزين وكأنني فقدتُ انسانًا عزيزًا.
***
مرت ست سنوات على ذلك اللقاء على
ضفاف "النيل الأزرق" بالخرطوم، لم أسترجع فيها تفاصيله إلا اليوم.
كنت أنظر حولي واتساءل: إلى أين يسير
هذا العالم؟، أثناء مراقبتي لابني ذو الخمس سنوات، وهو يلعب مع الأطفال في سنه،
واستعجب قدرته على قلب لسانه والتحدث معهم بلهجة مصرية سليمة، وكأنه ولد وعاش طوال
حياته معهم، رغم أننا لم نصل إلى القاهرة إلا قبل خمسة أشهر فقط.
خمسة أشهر، كنتُ فيها من المحظوظين
لمغادرتي السودان قبل يوم واحد من صدور قرار إغلاق الحدود بين مصر والسودان، في
نهاية شهر مايو. أما بقية أهلي والكثير من معارفي وأصدقائي، ما يزالون
عالقين في المعابر في "وادي حلفا" وفي بورتسودان"، لكي يحصلوا على
تأشيرة دخول لم يكونوا يحتاجونها في الماضي وخاصة النساء، وكانوا يتنقلون بين
البلدين كتنقلهم بين بقية مدن السودان.
والوحيدة المحظوظة مثلي بدخولها قبل
إسدال الستار على القوانين القديمة بين مصر والسودان، كانت صديقتي رشا، التي انتظر
قدومها في أي لحظة، بعد تواعدنا على اللقاء هذا المساء هنا على كورنيش "ممشى
أهل مصر".
كنتُ أتابع ابني بعين وعيني الأخرى
على شاشة الهاتف في انتظار وصول رسالتها لتخبرني بأنها قد وصلت. وفي الوقت نفسه
كنتُ أواصل المقاومة لكيلا أدخل على مواقع التواصل الاجتماعي، لعلمي بأنني سأكتئب
من مناظر الموت والدماء والحرائق والدمار التي تضاعفت منذ الأسبوع الماضي، بعد
نشوب حرب جديدة بين الإسرائيليين والفلسطينيين في قطاع غزة، وأضافت مآسي أخرى
ووجعًا إلى وجعنا الكبير على الخرطوم التي مازال الهمج يواصلون تدميرها وطمس
هويتها.
أبعدتُ الهاتف عن يدي، ووضعته على
مرمى من عيني أمامي على السجادة التي أجلس عليها في انتظار قدوم صديقتي ومعها
تيرموس شاي اللبن بالقرفة والهبهان على الطريقة السودانية، وفطائر الزَّلابية
واللِّقِيمات، التي قالت بأنها ستحضرها بنفسها، ولن تشتريها من المحل السوداني
أسفل عمارتها في حي "فيصل" في منطقة "الجيزة"، الحي الذي يشعر
السائر فيه وكأنه في الخرطوم، وليس في القاهرة، من كثرة الوجوه السودانية التي
سيقابلها، والروائح والنكهات من عطور (خُمرة وصندلية) وبخور (صندل وتيمان) وبهارات
(شَمار وويكة وكَوَل)، التي ستشمها أنفه.
أحيانًا كنتُ أغمض عيني، لأتأمل
وأتنفس من بطني، علني أنجح في ترتيب فوضاي الداخلية. ولما يشتتني الخارج، أفتحهما
ولكنني أواصل مقاومة رغبتي في الإمساك بالهاتف والدخول على فيس-بوك، وأعود استجدي
الاسترخاء والحضور بطريقة أخرى، عبر تركيز مع ملمس بتلات الوردة الصفراء، التي
التقطها قبل قليل من الأرض عند مدخل الكورنيش، عندما ذكرتني بوردة الفتاة السمراء
المليحة التي كانت تضع واحدة مثلها خلف أذنها اليسرى وتحرس المتاريس أيام ثورة
ديسمبر.
تذكرتُ تلك الأيام البعيدة بحسرة على
الآمال المجهضة، وتمنيتُ لو لم تندلع تلك الثورة، التي نادى الشعب فيها بالتغيير؛
بعد تفاقم ضيق العيش وتضيق الحريات، ليدفع الثمن اليوم غاليًا بعد فقده لأهم
مقومات الحياة الكريمة: نعمة الأمن.
اجتاحتني رائحة خُمرة سودانية وبخور
صندل شتتت احساسي بملمس بتلات الوردة، فرفعتُ عيني بفضول، ولاحظتُ فتاة ممتلئة بعض
الشيء تخفي قصر قامتها بارتداء حذاء بكعب عالٍ.
تأملتُ بإعجاب نقوش الحناء على قدميها وعلى يديها، وعلمتُ بأنها عروسًا، طازجة؛
لأن عريسها كان يمسك بيدها برومانسية وثقة، نادرًا ما تستمر مع الأزواج الذين مر
على زواجهم وقت.
تأملتهما، وتذكرتُ أنني كنتُ قد
خططتُ ذات مرة للمجيء إلى القاهرة لقضاء شهر العسل، مع حبيبي الرابع. فقد كانت
القاهرة، حلم أغلب البنات في جيلي، وكانت دومًا أول وجهة لقضاء شهر العسل للعرسان
السودانيين ميسوري الحال، لسهولة التنقل بين البلدين، اللذان يجمعها تاريخ وحضارة
وادي النيل.
لكن حبيبي ذاك،
تخلى عن فكرة الارتباط بي في آخر لحظة لما علم بأن لديَّ أصول يهودية من ناحية
جدتي لوالدي، التي جاء أهلها من المغرب إلى السودان من أجل التجارة في ثلاثينات
القرن الماضي، أيام كان السودان تحت الاحتلال الإنجليزي-المصري، حاملين معهم
ذكريات شتات أجدادهم منذ خمسة قرون، لما طردتهم، هم ومسلمو الأندلس، محاكم تفتيش
الملكة ايزابيلا القشتالية، بعد سقوط غرناطة.
عند مرور العروس وعريسها من أمامي،
ألقيا عليَّ بالتحية، فرددتها عليهما ومع ابتسامة. فمنذ وصولي إلى القاهرة
والسودانيون يسلمون على بعضهم البعض عندما يتقاطعون في الشارع وفي الميترو
والمحلات. أصبحنا نشعر وكأننا في الخرطوم، رغم أننا في الخرطوم لم نكن نلقي
التحية على بعض هكذا جذافًا.
وربما هو إحساس
الحاجة للتضامن والمواساة ومشاركة مرارة الغربة والنزوح واللجوء في أرض الغير،
والحزن العميق على خيرات أرضنا المنهوبة وطننا الجريح.
شيعتُ العروسين بنظري إلى أن اختفيا،
ثم أغمضتُ عيني لأحظى بلحظة تأمل جديدة على بقايا رائحة البخور السوداني الشارحة
للصدر. لكن سريعًا فتحتُهما لما تشوشتُ من جديد، لا بسبب الرائحة هذه المرة، ولكن
بسبب طاقة خفية اخترقتني لحظة مرور شاب سوداني من أمامي. وما أكثر
السودانيين في القاهرة هذه الأيام.
شيعته بنظري وخامرني شكٌ بأنني أعرف
تلك الضفائر المرتاحة على كتفه. ولما التفت ناحيتي وكأنه أحس بنظراتي على ظهره،
تضاعف شعوري بالتشوش جراء قشعريرة تجاوزتني. وهنا وعندما تلاقت نظراتنا، وطفت
لذاكرتي تفاصيل خوفي ذلك المساء في شارع النيل، تحول شكي إلى يقين بأنني قابلته من
قبل. وبدون أن أشعر همهمت بالاسم الذي أطلقته عليه، بصوت ضعيف ما كان ليسمعه من
تلك المسافة التي تفصلنا، ولكن لا بد أن قرأ حركة شفاهي:
"بُوبْ-مَارْلِي".
بُوبْ-مَارْلِي؟
سأل ثم أجاب على نفسه: لا أنا لستُ بُوبْ-مَارْلِي، قبل أن يسألني:
- سودانية؟
وحتى تلك اللحظة لم يكن قد تعرف
عليَّ، لأن شكلي قد تغير في هذه السنوات، ولم أعد تلك الرشيقة ذات المشية
المختالة، بعد العشرة كيلوجرامات التي اكتسبتها أثناء حملي بطفلي، ثم بعدها بسبب
إدماني على تناول السكر وأكل المعجنات، عادة ما زلتُ أثابر لكي أتخلص منها.
هززتُ رأسي بالإيجاب، فواصل يسألني
السؤال الروتيني بين السودانيين: كيف أخبار الاهل في السودان؟ ثم ضرب على جبينه
وكأنه تذكر شيئًا قبل أن يهتف:
- إنتي..........شارع
النيل؟
- نعم أنا هي، أجبتُ ببساطة.
لحظات من الصمت مرت وكأنها الأبدية
تطلعنا فيها في وجوه بعض، حتى آلمني عنقي. دعوته للجلوس، فتردد برهة ثم خلع حذاءه
قبل أن يجلس على طرف السجادة على بعد مسافة مترين مني، سمحت لي بقراءة ملامح الفرح
على وجهه.
تأملته اثناء تذكري للمثل السوداني
"مصير الحَيْ يِلاقي"، واستشعرتُ سعادة وراحة لرؤيته، دون أن أفهم، كيف
يمكن أن أرتاح له اليوم، رغم الخوف الذي أدخله فيَّ قبل سنوات.
انتشلني من هوة التساؤلات عديمة
الأجوبة، وأنقذنا من حرج تبادل النظرات الصامتة، وصول ابني الذي اندفع لحضني ليشكو
من أحد الأطفال الذين يلعب معهم:
- ماما، أحمد ضربني، أعمل له
إيه؟
طالعتُ ملامحه المتكدرة وأمرته بهدوء:
- في الأول قول: ماما أحمد دَقَّاني،
أَسَوِّي لِيهو شْنُو؟
تراجع إلى الوراء وطالعني بذهول ثم
انصرف باكيًا.
- طفلكِ لا يشبهكِ، لا بد أنه
يشبه أباه، علقَ جليسي وتطلعَ في وجهي ينتظر اجابتي.
لم تخنقني العبرة، ولم تتملكني رغبة
في البكاء. فمنذ صدمتي بتلقي خبر موته، وأنا ما أزال أعيش حالة ذهول، وأبحث عن
إجابة لسؤال: هل كل شيء يمكن أن يتوقف بهذه البساطة؟
- نعم يشبه هيثم.
أجبتُ بهدوء دون أن أدري لماذا لم
استخدم اسم زوجي الحقيقي، وإنما الاسم الذي تعودتُ على مناداته به منذ أن أطلقته
عليه في لقاءنا الأول. ولم أكن أتصور أن بُوبْ-مَارْلِي سيتذكر تفاصيل تلك
الأمسية الرهيبة، وبأن ذاكرته قد خزنت حواري الوهمي في الهاتف مع أمي التي لم أرها
في حياتي إلا في الصور.
- يعني اتزوجتوا
في النهاية؟
سأل بصوت حزين، فكدتُ استنكر: ولماذا
لا أتزوج به؟ هل تظن أن ابني هذا ابن حرام؟
طبعًا كانت هذه إحدى ذكريات ارتفاع
أدرينالين غضبي القديم منه، التي اعادت إليَّ خوفي ذلك منه اليوم. تراجعت ذكريات
الأدرينالين في دمي مع عودة طفلي، ليكرر عليّ نفس الجملة:
- ماما، أحمد
ضربني، أعمل له إيه؟
- في الأول قول:
ماما أحمد دَقَّاني، أَسَوِّي لِيهو شْنُو؟
كررتُ عليه توجيهي بنفس البرود، فنظر
إليَّ بغيظ، ثم انصرف غاضبًا هذه المرة، دون أن يبكي. طالعني جليسي بنظرة تحمل
معانٍ كثيرة قبل يسألني عن حال هيثم زوجي، وحال بقية أهله في السودان.
نظرتُ إليه وتفكرتُ في هذا السؤال
أصبح ديدن السودانيين عندما يتقاطعون في شوارع القاهرة، وتساءلتُ:
هل يا ترى يستعيدون
مرارة التاريخ؟
أم أنهم يجهلون
التاريخ ولا يعرفون أن ما أشبه اليوم بالبارحة؟
وأن ما يحدث في
الخرطوم اليوم من تدمير ونهب وسلب، حدث في الماضي قبل أكثر من قرن، عندما سقطت
الخرطوم في أيدي الدراويش أنصار المهدي، بعد اقتحامهم لسرايا الحاكم وقطعهم لرأس
الجنرال الإنجليزي غردون باشا؟
تأملتُ ملامح جليسي المترقبة لإجابتي
ثم خفضتُ بصري ناحية بتلات الزهرة الصفراء بين أصابعي، وأجبتُ بصوت خفيض:
- الأهل كويسين،
لكن هيثم مات.
قلتُ ببساطة ولم استشعر رغبة في
البكاء، من كثرة ما بكيتُ في الأشهر الماضية، على الرجل الذي رضي أن يتزوجني رغم
معارضة أهله، وثابر حتى أقنعهم بحجته بعد تذكيره لهم بأن إحدى زوجات النبي محمد،
صفية بنت حُيّْ ابن أخطب، يهودية من يهود بني النضير، الرجل حقق لي حلمي بالزواج
من شاب سوداني وإقامة جميع مراسم العرس السودانية (حِنة وجرتق ورقيص عروس)،
وأهداني أجمل طفل، ثم غادر قبل أن أحقق له حلمه وأنجب له بنتًا تشبهني.
واساني جليسي بجملة "البركة
فيكم"، ثم سأل بتردد:
- مات في الحرب؟
هززتُ رأسي بالإيجاب، وواصلت تقليب
الوردة بين اصابعي ثم حكيتُ له بأنه مات بعد أسبوع فقط من مغادرتي الخرطوم مع
جيراننا في حي "الوابورات".
تخلفتُ عنه وتركته
ورائي وركبتُ معهم في الحافلة، لما اشتد القلق والخوف، ولم يكونوا لينتظروني أنتظر
عودته من بيت أهله في الخرطوم، لينضم إلينا في بَحْري، المهددة بالأخطار، من كثرة
الصواريخ المحلقة فوق سمائها ودوي صوت الدانات المرعب الذي كان يصم الآذان.
غادرته وتركته ورائي وظللتُ أتابع اخباره بعد وصولي إلى القاهرة، وأحاول اقناعه أن
يتخلى عن تجميع أمواله عند التجار، وأن يتوجه فورًا مع أمه واخته إلى وادي حلفا،
لطلب التأشيرة، لكي إلينا أنا وابنه. لكن الأقدار لم تمله، وأرسلت له رصاصة
دَعَّامي غاضب، لم يقبل أن يقاومه ويرفض اعطائه نقوده التي جمعها بعد جهد جهيد من
شركائه التجار في سوق "السّجانة" بالخرطوم.
واساني جليسي هذ المرة بجملة
"ربنا يرحمه ويجعل مثواه الجنة"، ثم نكس رأسه أثناء تعبيره حزنه على
أصدقاء له وأهل لقوا حتفهم في شوارع الخرطوم بالرصاص أو داخل بيوتهم بالدانات
وشظايا الانفجارات في هذه الحرب اللعينة.
ثم ساد صمت طويل بيننا لم يكن يقطعه
سوى صرخات الأطفال المرحة وحوارات النساء والرجال والعشاق المختلطة بإزعاج أبواق
السيارات وضجيج القاهرة المميز.
انتهزت الصمت وأخذتُ الهاتف لأتفقده
خشية أن تكون صديقتي قد اتصلت أو أرسلت رسالة لم انتبه لها. ثم وضعته بسرعة لما لم
أجد منها شيئًا خشية أن أميل على وسائل التواصل، فأقع في فخ الاكتئاب.
قطع جليسي الصمت بسؤاله عن كيفية
تطور علاقتي بخطيبي المزعوم الذي هزأني ذلك اليوم لاقتحامي خلوته، حتى يتزوج بي.
- يعني ما صدقت خدعتي
إنه خطيبي؟ سألتُ باستنكار.
بالطبع لا، لم تنطلي عليَّ الحيلة،
لكنني تركتك بعد احساسي بالتأنيب لأنني اخفتك، وبعد تأكدي من أنك لست من الفتيات
الغشيمات اللاتي يسهل خدعتهن، هكذا اعترف لي. ثم فتح لي قلبه وصارحني بتفاصيل
حياته القديمة التي جعلته يظن أن الحل اصطياد الفتيات ومضاعفة العلاقات العابرة،
لسد هوة ضياعه واشباع جوعه العاطفي. ثم صمت برهة وتفرس في وجهي، قبل أن يواصل بصوت
مهزوز بأن تاب من تلك الحياة المملة، وبأنه يتمنى أن يعثر على فتاة يعيش معها
مشاعر صادقة، وليس علاقة جسدية لا روح فيها.
فتاة غير متطلبة
تتزوج به ويكون معها عائلة، بدون أن ترهقه ماديًا بتفاصيل إقامة حفل زواج تدعوا له
من هب ودب، لتتفاخر هي وتصنع من زوجها رجلًا تعيسًا مثقلًا بالديون.
ساد صمتُ جديد قبل أن يسألني كنتُ قد
تزوجتُ بهيثم عن قصة حب. طالعته ثم أجبتُ بتردد بأنني فعلًا لا أعرف إن كان ما
عشته مع هيثم حبًا، أم شعورًا بالامتنان. فقد التقينا وكل منا جريح: هو بسبب تكرار
ترك حبيباته له ليتزوجن بأول خاطب غني، وأنا بسبب جدتي.
وهنا تفرس في وجهي مطولًا قبل أن
يسأل بتردد:
- هل تضعين الطرحة على
حافة رأسكِ لكي تُخفي ديانتك؟
لم أشعر بإهانة من جملته، بل برغبة
صادقة في التعرف على جانب خفي من حياتي. تنهدتُ ثم أخبرته بأن اليهوديات المتعصبات
للدين، اللاتي قابلتهن في إسرائيل، يرتدين الحجاب مثل المسلمات، وأحيانا يتحايلن
على قطعة القماش بوضع باروكة تخفي شعورهم الأصلية. ولما طالعني بذهول فاغر الفاه،
لم أهرب من نظرته الحاملة لكثير من المعاني والتساؤلات، ولم أعطيه فرصة أن يسأل
كيف ذهبتُ إلى إسرائيل بجواز سفر سوداني، حتى لا أخوض في الحديث الطويل الذي أخبرت
به هيثم ذلك المساء قبل ست سنوات.
تأملتُ ملامحه المذهولة، ونظرتُ في
عينه برهة ثم أعطيته الإجابة التي ستثلج صدره:
- أنا مسلمة. فرغم
أنني ترعرعتُ بين ثقافتين وديانتين، إلا أن قلبي متعلق بحب النبي "محمد"
صلى الله عليه وسلم، عسى أن يشفع لي يوم القيامة.
ثم انهمرت دموعي عند تذكري لأغنية
ماهر زين "يا نبي"، وخاصة مقطعها:
أنت في الوجدان حيٌّ،،،،أنت للعينين
ضيٌّ
أنت عند الحوض ريٌّ....أنتَ هادٍ
وصفيٌّ
يا حبيبي يا محمد.
أطلق تنهيدة ارتياح، وأخذ يتفرس في
وجهي بتأثر، أصابني بالارتباك. فخفضتُ بصري ومسحتُ دموعي بطرف طرحتي. ولكي أتلهى
عن مشاعري، رجعتُ اتشاغل ببتلات الوردة الصفراء، فسألني وكأنه يتعمد اخراجي من
ارتباكي إن كنتُ أحب الورد.
رمقته بنظرة بعتاب ثم واستفهمتُ
باستغراب: وهل هناك من لا يحب الورود؟
في هذه اللحظة، عاد طفلي مرة أخرى،
ووقف أمامي واضعًا يده على خصره، قبل أن يسأل بتحدٍ وثقة هذه المرة:
- ماما أحمد دَقَّاني،
أَسَوِّي لِيهو شْنُو؟
ابتسمتُ وغمرني فرح بأنه طبق أخيرًا
نصيحتي بتعديل الجملة، ففتحتُ له ذراعي، لما هرع لحضني.
- قول ليهو: لو
دَقِيتْني تاني، ما ح ألعب معاك.
أجبته بهدوء وأنا أعانقه بحنان،
فتراجع وأهداني نظرة امتنان على جوابي. طبعتُ قبلة على خده وابتسمتُ له بفخر.
فابتسم بدوره وهتف صائحًا: أنا بحبك يا ماما. ثم انصرف راكضًا نحو الأطفال.
نظر بُوبْ-مَارْلِي إليَّ بدهشة
وهنأني على صبري وهدوئي. ابتسمتُ له بأريحية ثم أخبرته أننا نحن الأمهات، لا
خيار لنا سوى الصبر في هذه الحياة. فكبيرة هي مسؤولينا لتنشئة الأجيال، وتوريث العادات والتقاليد،
واللغة الأم.
أليس شرفًا أن
يرتبط اسم الأم باللغة الأم؟
واللغة تعني
الثقافة.
والثقافة تعني
الأم.
والأم مدرسة إذا
أعددتها أعددت شعبًا طيب الأعراق.
قلتُ له هذا كله، وحكيُت له قصة جدتي
التي ربتني منذ وفاة أمي في الولادة، وأصبحت أمي الثانية، شربتني لغتها وحنانها
وثقافتها وتعاليم ديانتها اليهودية التي ورثتها عن أمها وأمها عن جدتها، وهكذا
دواليك.
ثم أسهبتُ في حديث
عن الصراع من أجل الحفاظ على الهوية الذي تقع مسؤوليته على الأمهات منذ نعومة
أظافر أطفالهن.
شكرني على الوقت اللطيف، ثم قال بأنه
مضطر للمغادرة لمقابله أحدهم. فلذتُ بصمت مرتبك واستعجبتُ من احساسي بنفس الشعور
الحزين الذي شعرتُ به قبل ست سنوات، لما بحثتُ عنه ولم أجد له أثرًا بعد انضمامي
لمناجي النيل.
ولما طال صمتي، سألني بتردد إن كنتُ
لا أمانع في أن نتبادل أرقام الهواتف. ابتسمتُ له بفرح ثم هززتُ رأسي بالإيجاب.
في هذه اللحظة لمحتُ صديقتي تتلفت
حولها في المكان بحثًا عني. وما أن لوحتُ لها بيدي، حتى هرعت نحوي في خطوات سريعة
أقرب للهرولة، رغم خطوتها المتثاقلة من فرط الوزن الذي اكتسبته مؤخرًا في هذه
الخمس شهور منذ وصولها القاهرة، تسبقها ابتسامتها الطفولية العريضة المليئة
بالبراءة والفرح.
انتصبت واقفة وهممتُ بمعانقتها،
لكنها توقفت مندهشة، عندما لاحظت بُوبْ-مَارْلِي يجلس على سجادتي، ثم قرصتني على
كتفي قبل أن تهمس خشية إسماعه:
- ما قُلتي لِيْ معاك
ضيوف.
في هذه اللحظة، نهض بُوبْ-مَارْلِي،
وهمَّ بوضع حذائه. لكنه تسمر مكانه عندما لاحظ صديقتي، ثم ويضع يده على فمه، قبل
أن يصرخ مستغربًا:
- رشا؟
- مجتبى؟
مجتبى؟ يا له من اسم جميل، قلت في
سري فرحًا بتعرفي لأول مرة على اسمه.
بدهشة طالعتهما يندفعان نحو بعضهما
ليتبادلا عناقًا أخويًا، ثم عبارات مألوفة تسأل عن أحوال بقية الأهل بالأسماء
فردًا فردًا.
- كيفك يا مجتبى، إنْتَ
بتعرف صاحبتي صِفُورا دي مِن وين؟
صِفُورا؟ تحركت بها شفتاه في صوت
هامس، أثناء التفاتته نحوي:
- تشرفنا، أخيرًا عرفت
اسمك.
لاحظت نظرات صديقتي وهي تراقب،
بابتسامة مشاكسة، اضطرابي لحظة قبولي ليده الممدودة لي ليصافحني.
وبعد أن أطلقت ضحكة
مجلجلة، سخرت من محاولتنا اقناعها بأننا نتعارف للتو، بينما كنا نتشارك قبل قليل
الجلوس على السجادة بأريحية.
هذه قصة طويلة سنشرحها لها لاحقًا،
كما ستخبرني في المستقبل أن بُوبْ-مَارْلِي أو مجتبى هو ابن خالتها، وبأنه تجمعهما
ذكريات طفولة منذ أنا كانا يذهبان إلى جدتهما لوالدتهما في مدينة
"الدُّويم"، على النيل الأبيض.
- يعني شْنُو صِفُورا؟
دي اسم غريب أول مرة اسمع بيهو في السودان، سأل مجتبى، وابتسامة تزين وجهه الناضح
بالفرح.
معناه العصفورة. وصِفُورا هي بنت
النبي "شُعَيب"، أو "رعوئيل" أو "يثرون"، كما في
العهد القديم من الكتاب المقدس، الفتاة التي التقاها النبي موسى في الغدير
مع اختها عندما ذهب إلى "مَدْيَن"، وسقى لهما قبل أن يتولى إلى الظل
ويقول " رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ ".
هذه هي الفتاة التي سيتزوجها أبوها لموسى؛ لأنه ساعد في انقاذ ابنتيه وقطعان
مواشيه من الرعاة المنافسين. وصِفُورا، زوجة موسى، مدفونة في قبر الأمهات في طبريا
هكذا أخبرت رشا، بينما عيناها
تطالعنني بمحبة، ابن خالتها عن القصة التي قصصتها عليها أيام تعارفنا الأولى في
مدرسة "بحري القديمة" في نهايات التسعينات.
- لكن صِفُورا صاحبتي ما
يهودية، زي حَبُوبتها.
همست له صديقتي، وأخذت تتلفت حولها
خشية أن يسمع أحد كلمتها فتجلب على نفسها مشاكل، خاصة بعد توتر الأجواء منذ
الاسبوع الماضي بعد قصف حزب الله لمواقع اسرا*ئيلية وتسبب في اشتعال حرب جديدة في
قطاع غ*زة.
-
عارف، لقد تأكدتُ من أنها مسلمة، ومن حبها لرسول الله.
في هذه اللحظة رجع طفلي ليشكو من
صديقه ولكن بالجملة التي لقنتها إياه:
-
ماما أحمد دَقَّاني تاني، أَسَوِّي لِيهو شْنُو؟
وقبل أن أجيب عليه، هتف صائحًا لما
لاحظ صديقتي، وركض نحوها يطلب هديته الروتينية.
والغريبة، كانت هذه المرة الأولى
التي ينتبه فيها لوجود بُوبْ-مَارْلِي. فما أن انفك عن حضن صديقتي التي أخرجت له
شوكولاتة من حقيبة يدها، أدار نظراته بيننا قبل أن يستفهم:
- ماما، مين
دا؟
تطلعتُ فيه وأمرته بهدوء: في الأول
قول: ماما دا مْنُو!
فعقد حاجبيه ثم كرر سؤاله بنفس
اللهجة المصرية، فكررتُ أمري بنفس البرود. فصرخ مستسلمًا:
- ماما دا
مْنُو؟
وهنا ابتسمتُ، وقمعتُ نفسي من إعطائه
الاسم الذي أطلقته عليه، ثم وأجبتُ بهدوء:
- دا عمو مجتبى.
يلا سلِّم عليهو!
فسلم عليه قبل أن يركض ليعاود اللعب
مع اقرانه.
وبعد هذا المشهد الذي جعلنا نضحك،
تركنا مجتبى، الذي لن أتعود على اسمه، وسأظل أناديه بالاسم الذي أطلقته عليه منذ
ست سنوات: بُوبْ-مَارْلِي، وسيظل هو يضيف على اسمي كلمة العصفورة في كل مرة ينطق
فيها باسمي، لأصبح منذ تلك الأمسية في كورنيش "ممشى أهل مصر" بالقاهرة:
صِفورا العُصفورة.
-----------------------------------------
باريس / أبريل 2024
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق