بقلم/تسنيم طه
"يا
الخرطوم يا العِنْدي جمالِك....جَنَّة رُضوان،
طول
عُمري ما شُفتَ مثالِك...في أيّ مكان".
هذا
مقطع من أغنية "يا وطني يا بلد أحبابي"، التي تغنى فيها الفنان السوداني
"سيد خليفة" بجمال الخرطوم.
وهذه
هي الافتتاحية التي خطرت ببالي لحظة ما أمسكتُ بالقلم لكتابة هذا المقال، ولحظة ما
طفرت لذاكرتي مقولة الشاعر " وطني لو شغلتُ بالخد عنه، نازعتني إليه في الخلد
نفسي". لكن وبما أن الحديث هنا ليس
عن الأوطان وإنما عن هويات المدن، وبما أن هوية الخرطوم (فَرَّج الله محنتها!)،
تُطمس هذه الأيام بسبب حرب أهلية تدور فيها منذ قرابة العام، وبأنه ربما ليس
مناسبًا مناقشة كيفية استثمار هويتها للترويج السياحي أو الجذب الاستثماري، سيكون
موضع هذا المقال عن هوية باريس، وكل العزاء لي في أنها وطني الثاني.
"
باريس ستكون دائما باريس"،
هكذا
تغنى "موريس شوفالييه"، بجمال مدينة الأنوار وحلم بأن تظل دومًا على
عراقتها وأصالتها.
والحقيقة
أن باريس استطاعت الحفاظ على هذه العراقة والجمال، ولكنها لم تنجو من التأثر
بالتغييرات الطارئة عليها من الخارج، وخاصة تلك المتعلقة بعدم الاستقرار السياسي
والأمني في البلدان المجاورة وغير المجاورة، التي ساقت إليها أفواجًا من المهاجرين
شرعيين وغير شرعيين عبر المطارات والقطارات والبحار ودروب النمل الوعرة بين جبال
وغابات أوروبا.
لكن
قبل الحديث عما طال باريس من تغيير في السنوات العشر الماضية خاصة بعد ثورات
الربيع العربي، لابد من تسليط الضوء على الأسباب التي صنعت لها هذه الصورة النمطية
الفخمة وتسببت في شهرتها لدرجة أن تصبح حلم كثير من الناس للمجيء والعيش فيها.
فعلى
مر
العصور، مثلت هذه
المدينة حاضنة لأهل الفن والأدب والثقافة، بعضهم تحدث عنها بصورة إيجابية، وبعضهم
صور جوانبها الخفية وحياة
القاع لسكانها. وأشهر
هذه الأعمال رواية "البؤساء" التي كتبها "فكتور هوغو" وتحدث
فيها عن بؤس الفترة ما بين 1815-1832. وقبلها كان قد نشر ديوانه الشعري "
السَّنَة المُرَوِعة" الذي أشار فيه لسنة 1871 التي شهدت الحرب الفرنسية-الألمانية ضد
البروسيين والحرب الأهلية خلال فترة الحصار ثم "كومنة باريس".
أما الروائي "إيميل زولا"، فقد نشر
رواية "بطن باريس" في
عام 1873، وجعل مسرح
أحداثها سوق "ليه-آل" لبيع المواد الغذائية بالجملة (ومنه جاءت تسمية
"بطن" لكونه المكان الذي كانت باريس تأكل منه)، السوق الذي سينتقل في سبعينيات القرن التالي
لضاحية "رانجيس" الجنوبية.
أما
الروائي "أنوريه دو بلزاك" فقد حاول من خلال سلسلته "الملهاة
الإنسانية" صنع تاريخ طبيعي للمجتمع الفرنسي برسم لوحة جدارية من عصره آملًا في أن تكون مرجعًا للأجيال القادمة.
أما
الروائي والشاعر "تيوفيل غوتييه"، أحد أنصار حركة
"البارناسية" التي تدعو إلى اعتبار الأدب كغاية في حد ذاته ووسيلة لعلاج
القضايا الاجتماعية والسياسية، فقد كتب كتاب "باريس
والباريسيون" ومقالين تحت عنوان" باريس المستقبلية"، سخر فيهما من
طراز المباني الهوسمانية، وقارن فيهما باريس القرن التاسع عشر الفقيرة بفخامة
المدن العريقة.
ومن
الشعراء، كتب "شارل بودليير" صاحب "أزهار الشر"، ديوانًا
شعريًا بعنوان "سأم باريس". بينما كتب "غيوم أبولونير"، قصيدة بعنوان "جسر
ميرابو" (أحد جسور
جنوب غرب باريس)، افتتحها قائلًا: تحت جسر ميرابو، يتدفق نهرُ
"السِّين" وقصص حُبّنا".
ومن
الفنانين الذين تغنوا بباريس "جو داسان" بأغنيته لشارع
"الشانزليزيه" و"فلوران بانييه" لحي
"شاتليه-ليه-آل" وغيرهم.
كل
هذا الزخم الفني والأدبي ساهم في رسم هوية باريس وأكسبها شهرتها داخل وخارج فرنسا؛
لتصبح اليوم أول وجهة سياحية في العالم.
لكن، وكما أن قاهرة نجيب محفوظ ليست قاهرة
اليوم، وسودان الطيب صالح ليس سودان اليوم، كذلك باريس فكتور هوغو وإيميل زولا،
ليست باريس اليوم.
فالمدن
مثل الإنسان تتأثر بالآخر وتمر بمراحل تشكل هويتها وتجبرها على التغيير، إما للأسوأ أو نحو الافضل. ويكفي
أن نتأمل الناس في المطارات والمراكز التجارية لندرك كيف أصبحوا متشابهين، لا يمكن
التعرف على هوياتهم من خلال مظهرهم، وهم يرتدون نفس الملابس من نفس الماركات
العالمية.
كذلك
المدن، منها الكثير من وقع في فخ التأثر بالقرية الكونية والتقليد الأعمى بالركض
وراء للحداثة والتجديد.
لكن
باريس صمدت صمود الأبطال من أجل الحفاظ على هويتها. وحشدت لمجابهة عوامل الزمن
والتلوث والحرائق العرضية أو عمليات التخريب المتعمد وغيرها مما يهدد التراث
وحضارات المدن التاريخية، جهودًا جبارة. فليس من السهل الحفاظ على تراث بهذه
الضخامة والتنوع. والفضل يعود لسياسة بلديتها الصارمة، التي جمعت مهارات تقنية
واسعة وتعاونت مع شركات متخصصة لضمان نقل التماثيل والجسور والنوافير والكنائس
والأعمال الفنية والآثار الباريسية، حتى تجدها الأجيال القادمة في أفضل الظروف.
كما
وواظبت بلدية باريس على القيام بعمليات صيانة دورية لأسقف المباني وتأهيل البناؤون
والنحاتون والكهربائيون؛ بتوفير السقالات والرافعات الحديدة المتخصصة في الطلاء
والتذهيب وتركيب الزجاج الملون وغيرها، من أجل الحفاظ على الطابع العمراني
"الهوسماني"، الذي هجاه "تيوفيل غوتييه" في مقاله "باريس
المستقبل".
وعودة لـ "تيوفيل غوتييه" ولباريس
المستقبلية التي حلم بها، لابد من الرجوع إلى الخرطوم، وذكر أن هناك شباب سودانيون
حلموا بـ"خرطوم مستقبلية"، بعضهم تحدث عنها وبعضهم كتب عنها مقالات أو
قصصًا قصيرة، رسموا لها ملامح مشرقة إبان فترة أحلامهم العريضة أثناء اعتصامهم بين
أبريل ويونيو عام 2019 أمام مقر القيادة العامة. خرطومٌ جديدة سموها
"بالمدينة الفاضلة" تخيلوها تكون نقطة وصل بين بلدان أفريقيا ومصدر
ثورات ورخاء. خرطومٌ أجمل وأعرق وأكرم وأسهل؛ يعود فيها خط "الترام" يعمل
كما كان أيام الاستعمار الإنجليزي، ليربط بين أطرافها الممتدة من الجيلي شمالًا
وحتى جبل أولياء جنوبًا. خرطومٌ تقوم بتطوير شبكة خطوط السكة حديد وتربط مواني
السودان البحرية بوسط افريقيا في خط يصل بورتسودان وسواكن بالعاصمة التشادية
"انجمينا"؛ ليعزز الاستثمارات التجارية والسياحية الروحية بتوفير طريق
يمر به التجار والحجاج إلى بيت الله، يشابه "درب الأربعين" في الماضي.
خرطومٌ تنجح في تحويل السودان لبلد مضيف بموصفات راقية يجتذب السياح من جميع أنحاء
العالم ويوفر لهم إمكانية زيارة منتجعاته ومحمياته الطبيعية واهراماته وبقية مواقعه
الأثرية حيث مدافن الفراعنة السود، ملوك وكنداكات حضارة "كوش" إحدى أقدم
الحضارات في إفريقيا لها كبير الأثر والترابط بين الحضارة المجاورة: الفراعنة في
مصر، و"عدوليس" في شرق افريقيًا، وسبأ في اليمن.
ولو
تحسنت الظروف، سوف تُحقق الخرطوم حلمها، كما فعلت باريس للاستفادة من هويتها للجذب
السياحي من داخل وخارج فرنسا من خلال الترويج عبر الدعاية والإعلان للترويج وترتيب
الرحلات الطلابية والوفود السياحية لزيارة الأماكن التاريخية والمتاحف والكنائس
والمكتبات وغيرها من الأماكن العريقة.
أما
من ناحية الجذب الاستثماري، فقد قدمت باريس الإغراءات والتسهيلات لدعم الشركات
والمستثمرين على مختلف الأصعدة، وذلك بتسهيل القروض البنكية لشراء المكاتب أو
استئجارها، وبتوفير شبكة مواصلات تربط وسط المدينة ببقية مدن الضواحي لإقليم باريس
الكبرى "إيل دو فرانس"، لتيسير حياة الموظفين الجدد الذين لن يتحملوا
تكاليف السكن الباهظة في وسط باريس.
وفوق
ذلك كله، حافظ مدينة الأنور بالحفاظ على هويتها، من خلال القوانين. فبيمنا تُعطى
التصريحات لإنشاء أبراج سكنية في الضواحي؛ لتلبيه حاجات الكثافة السكانية، ظلت
باريس تتمسك بقوانين الصارمة لمنع طلاء مبنى من الخارج يخالف طراز المباني
الهوسمانية، ومنع تشيد أي مبنى جديد في علو يشوه طابع المدينة العريقة.
من أجل كل هذه الجهود استحقت شهرتها ومكانتها
كعاصمة للعالم.
باريس عاصمة العالم، نعم. هذه ليست
مبالغة. فالسائر في شوارعها والراكب لمواصلاتها العامة والمرتاد لأماكنها
السياحية، سيسمع جميع لغات العالم (لو كان بالإمكان حصرها)، وسيرى الكثير الكثير
من سحنات وألوان لبشر جاؤوها من بقاع الأرض الأربعة؛ ليزروا برج إيفيل وشارع
الشانزليزيه وقلعة فيرساي وكاتدرائية نوتردام والحي اللاتيني ونافورة سان ميشيل،
وكاتدرائية القلب المقدس وحي مونمارتر العريق، ومتحف اللوفر ومنزه ديزني لاند،
والمقر الدائم لليونسكو.
17 فبراير 2024.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق