الأحد، 7 يناير 2024

مقال: ثُقُوبُ الغُرْبَالِ

بقلم / تسنيم طه


منذ فجر التاريخ، وخلال رحلة تطور وجوده على هذه الأرض، سعى الانسان إلى تخليد ذكراه بشتى الطرق. قام الفراعنة والسومريون وشعوب الإنكا والمايا وغيرهم من الحضارات القديمة بالنقش على الجدران.

طرق أخرى كثيرة سلكها الانسان ليشبع شهوة الخلود ويحارب شبح الفناء، بحث فيها عن وسائل صادقة تعبر عن أحواله من فرح وحزن وخيبة وألم وغضب وتمرد وحروب وانتصارات وغيرها، تارة عبر فن الكلام والخطابة وتارة أخرى عبر الموسيقى وتارات كثيرة عبر النحت والرسم والتصوير أو الكتابة.

والكتابة، التي بدأ ظهورها في بلاد ما بين النهرين في حوالي سنة 3500 قبل الميلاد، عن طريق النحت بمسمار على الطين قبل تجفيفه بالنار أو الشمس، أصبحت اليوم، وخاصة هي السرد القصصي، أكثر صور التعبير عن أحوال الإنسان. والسرد القصصي، الذي لم يغفل حتى الخطاب الديني عن أهميته ومدى فعاليته في التأثير والإقناع، يستخدم في الصحافة وفي الأدب وتربطهما علاقة وثيقة. وهناك الكثير من الأدباء قضوا معظم حياتهم في الصحافة مثل غابرييل غارسيا ماركيز وأمين معلوف وجوزيف سارماغو وأرنست همنجواي وإيزابيل الليندي وغيرهم.

ورغم وجود اختلافات بين السرد الصحفي والسرد الروائي، إلا أن الصحافة تأثرت كثيرًا بالرواية وأخذت الكثير من عوالهما، خاصة آليات بناء التشويق والإثارة واستخدام لغة شعرية تبتعد عن المباشرة والتقريرية. وأصبحت، بعد أن كانت تعد تكتفي بملاحقة الخبر، تستخدم تقنية النبش الروائي، للنقيب في الدوافع وراء الأخبار. ومما لا شك فيه أن أكثر أنواع الكتابة استهلاكًا في عصرنا الحالي هما الصحافة والرواية. وقد يرى البعض أنه من البديعة استهلاك الصحافة لأنه يشبع الفضول لمعرفة ومواكبة أحداث العصر، ولكن يصعب عليه تقبل فكرة صدارة الرواية لبقية الأجناس الأدبي. والسبب سبب شهرة الرواية واكتسابها هذه الشعبية، يعود لكونها تخاطب اللاوعي عن الانسان بملامستها مشاعره وعواطفه وأحاسيسه، وتسمح له بالسفر عبر خياله.

وكتابة الرواية أصعب الأنواع الكتابة؛ فهي تتطلب وقتًا ومجهودًا ذهنيًا ونفسيًا أثناء عملية اختمار فكرتها داخل الرأس، قبل أن تتضح وتتشكل ملامح شخصياتها، وتُحْكَم حبكتها، وينجح كاتبها في الانعتاق من سجنها المنيع. ولأن كتابتها مهمة صعبة، ترجمتها أيضًا صعبة وشاقة. فالمترجم لا يترجم معاني كلمات وجمل وحسب، وإنما يترجم أحاسيس ومشاعر مختبئة خلف ستائر الثقافة، وبين طيات خبايا النفس البشرية، وداخل أنماط تفكير وتقنيات استخدمها الروائي لبناء وكتابة روايته. فالمترجم كاتب ثان يتحتم عليه مصير نجاح العمل أو فشله. وكم من أعمال أدبية عظيمة قتلتها رداءة الترجمة.

 والسؤال الذي يطرح نفسه: ما السبب في وجود كل تلك الترجمات الرديئة التي تكتظ بها أسواق الكتب؟

ودون الخوض في موضوع إلقاء اللوم على دور النشر، لأنه ليس الغرض من كتابة هذا المقال، سنحاول فهم الجوانب المتعلقة بالمترجم، كونه الناقل والمصفاة التي يعبر من خلالها النص الجديد. 

تُعَرَّف الترجمة على أنها علمية تحويل نص أصلي مكتوب بلغة ما وتسمى بـ"اللغة المصدر"، إلى لغة أخرى وتسمى "اللغة الهدف". ولكن عملية النقل هذه لا تمر بسلام في معظم الأوقات، وقد تفشل فشلًا ذريعًا وتسبب في قتل النص الأصلي، وتدفع القارئ أن يقذف بالكتاب منذ الصفحات الأولى. وتقول إحدى نظريات الترجمة: "الترجمةُ خيانة"، مقولة تمثل أولى العقبات أمام بعض المترجمين، وتسبب لهم الرعب وتجعلهم يدورون في حلقة مفرغة من الخوف ومن تكرار المحاولات المستميتة للوفاء للنص الأصلي وتوخي الكثير من الحذر والظن بوجوب نقل المعنى كلمة كلمة، دون أن يفهموا أن هذه هي الخيانة بعينها. فنقل الكلام بهذه الطريقة يخلق معنى غير مترابط، ولا يوصل الصورة النهائية بوضوح، بل وقد يشوهها ويطمس معالمها بالكامل.

ولكي ينجح المترجم عليه أن يرى الصورة شاملة. ولكي يرى الصورة كاملة، يحتاج للابتعاد قليلًا عن الجملة وأن يعيد قراءتها مرات ومرات ويتساءل عن الفكرة التي أراد الكاتب إيصالها، قبل أن يبدأ في نقلها بكلماته التي تناسب مدلولات اللغة "الهدف" وتشرح معناها بصورة دقيقة، بل ويمكنه عرضها من زاويته التي رآها منها بدون أن يُحدث ذلك خللًا أو تشويها للنص الأصلي. فالترجمة فن مثل بقية الفنون يحتاج إلى أدوات وتقنيات، ثم إلى التحلي بالشجاعة وعدم الخوف من الوصم بصفة الخيانة. وإذا كان ولابد أن يكون خائنًا فليخن خيانة جميلة، وألا يتجنب تحرير النص الأصلي أثناء نقله، مادام أنه قرر أن يصبح مصفاة تسمح بتمرير النص بعد تنقيه من الشوائب.

ولولا الترجمة لما تعرفنا على عناوين تركت بصمتها في تاريخ روائع الأدب العالمي الكلاسيكي مثل: "الجريمة والعقاب" ..."دون كيشوت"..."وروميو وجولييت" ..."البؤساء"..."مائة عام من العزلة"..."أنَّا كارينا"..."الكونت دو مونت كريستو"..."الحارس في حقل الشوفان"..."غاتبسي العظيم"..."أشياء تتداعى" ..."السيدة دالاوي" ..."مدام بوفاري"..."المحاكمة" ..."آلام فارتر"..."ذئب السهوب"..."مزرعة الحيوان" ..."اسم الوردة"..."جين آير" ..."العمى"..."أليس في بلاد العجائب" ...وغيرها.

في الماضي، كان المترجمين يعكفون شهورًا وربنا سنوات قبل أن يخرجوا عملًا أدبيا متقنًا.  لكن اليوم مع سهولة استخدام التكنولوجيا وسرعة إيقاع الحياة، استسهل المترجمين الشباب هذه العملية، وظن البعض أن بقدورهم تطويع القواميس الإلكترونية والانطلاق؛ للمنافسة في سوق الترجمة. لكن هذه التقنية السريعة المواكبة لروح العصر قد تنفع مع المصطلحات الجامدة جمود القوانين والمصطلحات العلمية أو القانونية أو المالية، لكنها لن تنفع مع الأدب. فلغة الأدب لغة حية متحركة متطورة كتطور أحوال البشر، ونقلها لا يعني نقل معاني الكلمات وحسب، وإنما أيضًا نقل الثقافة المتغيرة تغير العصور. وهذه تمثل إحدى العقبات التي تضطر المترجم أحيانًا إلى التواصل مع كاتب النص، إذا كان على قيد الحياة. فهناك اللغات الصامتة كلغة الجسد والأمثال الشعبية التي يختلف تأويلها حسب المجتمع، بل وحتى كلمات فصحى لها استخدامات ثقافية بعيدة عن معناها الأصلي. وإذا لم يكن المترجم على دراية بهذه المدلولات الثقافية فقد يقع في سوء التأويل ومن ثم النقل الخاطئ.

مثال على ذلك عبارة "دفأ قلبي" التي تُستخدم في الثقافات الأوربية. فإذا لم يأخذ المترجم بعين الاعتبار الخلفية الثقافية والبيئة لكاتبها أو ناطقها، سيقوم بنقل المعنى حرفيًا. وهذا لن يوصل الصورة كما أرادها الكاتب. فالدفء هو ما يحتاجه سكان الأراضي الباردة، والبرودة وهو ما يتوق إليه سكان البلدان الحارة. وهكذا تكون الترجمة الأصح هي عبارة " أثلج صدري"؛ فمدح البرودة والحرارة والشمس والمطر أو هجاؤها أمور نسبية ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالثقافة وبالبيئة. وكمثال للغة الجسد، خفض البصر أثناء الكلام، الذي قد يترجم في بعض المجتمعات العربية ترجمة إيجابية على أنه دليل على الأدب والاحترام. في حين أنه قد يترجم في ثقافات أخرى على أنه إشارة لانعدام للثقة بالنفس أو الخوف.

 وكمثال لكلمات فصيحة لها استخدامات ثقافية كلمة " شَّمار".  هذه النبتة تعرفها القواميس على أنها "بقلة عشبية من فصيلة الخيميات، منها نوع حلو يزرع يؤكل نيئا أو مطبوخًا"، وبأنها "الرازيانج عند أهل مصر والشام"، وبأنها "نبات أصفر الزهر أخضر الحب له فوائد طبية". قدمت المعاجم وصفًا تفصيليًا لشكل النبتة ولونها وطعهما واستخداماتها في الطبخ وفي طب الأعشاب، بدون أن تتطرق لاحتمالية استخدامها كاستعارة أو تورية، لمعنى آخر.  ففي السودان مثلًا يستخدمون كلمة "الشمار" للتلميح على الفضول أو التطفل. ولو سمعتَ أحدهم ينطق هذه الكلمة، فهناك احتمال كبير ألا يكون للطعام والبهارات أي صلة بالموضوع.

كل ما سبق ذكره يوضح مدى صعوبة الترجمة الأدبية، ويدفعنا للتساؤل: ما هو الحل إذًا؟

وقد تكون الإجابة أبسط مما نتصور: وهي اختيار مترجم يتقن التعامل مع اللغة الأدبية، مثلما فعل الشاعر الفرنسي "شارل بودليير"، الذي ترجم أعمال الكاتب والشاعر الأمريكي إدغار آلان بو من الإنجليزية إلى الفرنسية. والحل البديل، انتقاء مترجم يكون قارئًا نهمًا للأدب، ويكون عقله قد تشرب تقنيات الكتابة الأدبية.

وفي كلا الحالتين، يحتاج المترجم لكي يخرج عملًا ناضجًا ومشدود بالالتزام بمراحل الكتابة، كما يفعل الكاتب الأصلي. فالترجمة إعادة كتابة مثلها مثل مراحل الكتابة تبدأ بالمسودة الأولى تليها مرحلة المراجعة وملء الفراغات، ثم مرحلة مقارنة النصين تليها التحرير والتدقيق وإعادة صياغة الجمل، وأحيانًا أعادة الكتابة بمجملها إذا لزم الأمر، قبل وضع اللمسات الأخيرة على النص نهائي خالٍ من الزوائد. فالكتابة عمل ذهني بحت في المقام الأول، يخاطب المنطق في العقل حتى وإن كان يستخدم الخيال وعناصر لا وجود لها في الواقع، ويحتاج إلى زمن ومراحل مثل بذرة القمح التي تحتاج إلى رعاية منذ لحظة دفنها داخل التربة، مرورًا بمرحلة حصدها ثم تنقيتها من الشوائب قبل طحنها، ثم تحويل الطحين إلى عجين وتركه الوقت الكافي ليختمر قبل ادخال الفرن وإخراجه خبزًا شهيًا. وجودة هذا الخبز، ترتبط بأهم مرحلة وهي مرحلة التنقية من الشوائب. فلو مرت شائبة أو حبة رمل واحدة في الغربال مع الطحين، ستفسد هذا الخبز وقد يستحيل أكله.

هكذا هو الحال مع الكاتب والمترجم: كلٌ منهما يمثل مصفاة أو غربال. فالأول مصفاة يمرر عبر لغته أفكاره إلى القاري. والثاني غربال يمر من خلاله كامل النص من اللغة الأصل إلى اللغة الهدف. وإذا كانت ثقوب كل منهما كبيرة، ستسبب في تمرير شوائب وزوائد، وستخرج نصًا غير مستساغ.

إنها مهمة صعبة بلا شك، بل مهام متعددة ومركبة، لكنها ليست مستحيلة، مهمة التسلح بالتبحر في الثقافة وما ورائها، ومهمة فهم التقنيات وتحليلها، ومهمة ضبط ميزان اللغة لإيصال المعاني والأفكار والصور بوضوح وبلاغة وسلاسة وبساطة؛ فخير الكلام ما قَلَّ ودَلَّ. 

 


------

نُشر بتاريخ  1 يناير 2024، في العدد الثالث عشر من مجلة "أوتار" الأدبية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق