الخميس، 1 مايو 2025

حَوْلَ شَنْدِي في 19 يَوْم

 بقلم/ تسنيم طه



نهلة: الحاج يوسف-الخرطوم بحري -نوفمبر 2014

كنا على سطح فندق "كورال" نزاحم سياحًا وعرسانًا صعدوا مثلنا لالتقاط صورا تذكارية على خلفية قرص الشمس البرتغالي النازل على أفق البحر الأحمر من وراء السفن الضخمة الأتية من أوروبا وآسيا وأمريكا الجنوبية محملة بحاويات بضائع وبترول.  وبينما نسيم وقت الغروب العليل يتلاعب بشعري، كنتُ أمازح الفاضل وأشير بأصبعي خلف سفينة تحمل العلم اليوناني، بأننا سنسافر قريبًا بالباخرة مادام أنه يخشى الطائرة، لزيارة أحد مدن ساحل البحر الأحمر القريبة، قبل أن أخيره للاختيار بين عَدَنْ في اليمن، ومُصَوَّع في إريتريا، وجَدَّة في السعودية، وشرم الشيخ في مصر، والعقبة في الأردن.

ولما لمحتُ ترددًا في ملامحه، علمتُ بأنه ما زال عالقًا في خوفه من تجربة البارحة الأليمة مع البحر. وهممتُ بإعطاء الحجج حتى أقنعه بفكرتي، لولا أن جاءه الاتصال الذي سيغير جميع الخطط: بوفاة جدته لوالده بنت مَسَاعَد، المرأة التي سقتها حبها ولقنته حكايات وتاريخ القبيلة.

ولما برك الفاضل على الأرض مجهشا في البكاء كطفل، نسيتُ فكرة السفر والترحال، وانشغلتُ بمحاولاتي لتهدئته لكي يكف عن العويل، خشية جلب المزيد من الناس والالتفاف حولنا، بعضهم يسأل بفضول عن الخطب، وأغلبهم فهم من تلقاء نفسه، وتقدم معزيًا رافعًا يديه بالفاتحة على روح الفقيدة

كنتُ ممزقة بين الرهبة والهلع والذهول، لعدم تصوري أن أرى زوجي يبكي يومًا، بعد أوهمني، أثناء فترة خطوبتنا الطويلة وطوافنا على مطاعم ومقاهي العاصمة، بأنه الجَعَلي القوي الشجاع، الذي يقف ببسالة في مناسبات الأعراس داخل دائرة "الركزة"، لكي يجلده العريس على ظهره العاري بـ"سوط العنج"، دون أن يرمش له طرف، اثناء طقس "البطان".

وفي غمرة تمزقي ذلك، وضوضاء المعزين المتلفين حولنا، تجاوزتني قشعريرة عندما لمحتُ وميض ذعر في عيني الفاضل، قوي معها حدسي بأنه لابد أنه استعاد لحظات رعب البارحة، ونجاته من الموت بأعجوبة غرقًا في وسط البحر. واستشعرتُ ارتجاف اطرافي عند تذكر صدمة الأمس، وعد تصديق أنني نجحتُ بصراخي في جلب البحارة والصيادين، لينقذوه قبل أن يختفي داخل المياه.

ومنذ الأمس، وأنا أصارع التردد في الاتصال بأحد أفراد عائلتي لأفضفض معه هول ما رأيتُه يحدث لزوجي داخل البحر، لا خشية أن أُنعت بالجنون لاعتقادي في قصص الجنيات وحسب، بل خوفًا من أن يقنعونني بأن ما رأيته مجرد تهيؤات، وألا وجود لحوريات يتربصن بالرجال ليخطفنهم إلى جزر البحر النائية كما حدث مع "أوديسيوس". ذلك لقناعتي التامة بوجود قوة خارجية خارقة، جذبت الفاضل زوجي لأن يتوغل داخل البحر بكامل ملابسه كالمنوم مغنطيسيا، وصمت أذنيه عن سماع صراخي الهستيري وتحذيراتي له من التقدم أكثر، وعن أوامري له بالعودة فورًا.

مرت لحظا قبل أن ينهض الفاضل من الأرض، وهم يكفكف دمعه. وبعد أن شكر الجموع مواساتهم، سحبني من يحثني للإسراع في أثره. وما أن دلفنا إلى غرفتنا، حتى طفق يضب الأغراض آمرًا إياي بالإسراع في لملمة أغراضي وأخلاء الغرفة قبل السفر فورًا للحاق بمراسم الدفن. تابعتُ بذهول وهو يتحرك في المكان الضيق ليجمع أغراضه، بسرعة أصابتني بدوار فظيع. 

ولما أفقتُ من ذهولي إثر سقوط كوب ماء بسبب حركة خرقاء منه، خرجتُ أخيرًا من بكمي وأخبرته بعدم جدوى الاستعجال لأننها لن نتمكن من الوصول إلى شَنْدِي  قبل أربع عشرين ساعة، ليس بسبب طول المسافة الخرطوم وبورتسودان وحسب، بل لعدم وجود مواصلات عامة تقلنا إلى العاصمة قبل صباح الغد. لكنه فأجابني، دون أن يزيح بصره من حقيبة السفر التي شرع في ملئها بالملابس المعلقة على الخزانة، بأننا سنسافر بالطائرة.

ظللتُ أطالعه فاغرة الفاه من الدهشة، بينما خليط من المرارة والغصة يربط حلقي، عند تذكر رفضه القاطع العام الماضي السفر لقضاء شهر العسل خارج السودان بحجة خوفه من الطائرة، دون أن تغريه اقتراحاتي لأن أعرف على مدينة موسكو حيث درستُ، قبل أن نتوجه لمدينة موسكو لكي تريه مكان دراستها، قبل أن التوجه لمدينة "سُوتْشَي-Sotchi (Сочи)" المطلة على البحر الأسود، لرؤية التجهيزات لاستضافة دورة الألعاب الأولمبية الشتوية لعام 2014،  قبل العروج لمدينة "سان بطرسبوغ" لكي تريه المكان الذي  نجت فيه بأعجوبة من تفجيرات ذلك اليوم الذي صادف تنزهها بالجوار بحثًا عن آثار شخصية "راسكولينكوف" بطل رواية الجريمة والعقاب لدوستويفيسكي.  وليس ذلك وحسب، بل رفض اقتراحاتي التالية التي كنتُ أظنها حلًا وسطًا لقربها الجغرافي: جولة في القاهرة ثم في "أسوان" و"الأقصر" لمشاهدة معبد الكرنك، والبحث عن آثار ملوك كوش داخله، ورؤية جدارية الفرعون "تهارقا" فرعون الأرضين (مصر وكوش)، وهو يقدم النبيذ للمعبود "أوزوريس".

وفي الطائرة، أصبتُ بدهشة جديدة عند اكتشاف جانب آخر من شخصية زوجي، المتباهي بشجاعة الجعليين، وهو يرتجف كعصفور ويصرخ كالأطفال بمجرد إقلاع الطائرة، ويهرب من خوفه بإخفاء رأسه في حضني طوال الرحلة.

وطوال السبعة أشهر القادمة، سأجتهد لكي أُنسي زوجي فوبيا الطائرة، وأجدد محاولاتي لأقناعه أن نسافر ولو مرة واحدة خارج السودان، لأستسلم بمرارة أمام فشلي في إقناعه، وهو يدعم حجته ويكرر عليً بإصرار بأنه يتمنى الطواف على العالم مثلي، ويعشق السفر كعشقه الأكل وكرة القدم، ولكن بوسيلة نقل أخر غير الطائرة.

 لما وصلنا شَنْدِي ، كان المساء قد حل؛ فلم أتبين بوضوح ملامح النساء اللاتي كن يعزينني في المرحومة جدة زوجي، لا بسبب الظلام وحسب، بل لتشتتي بين مشاعر الرعب والخيبة التي عشتها مع زوجي اليومين الماضيين. كانت النساء تتناوبن على معانقتي والبكاء في حضني، ثم إفلاتي ثم احتضاني من جديد ليهمسن في أذني بنفس السؤال: أها يا نهلة، ما بقيتوا تلاتة؟

كنت أطالعهن بذهول وغيظ، من اهتمامهن جميعهن، وهن اللاتي يقابلنني لأول مرة ربما، أن يعرفني عني، رغم أجواء الحزن والحداد، أمرًا بتلك الحميمية. لذلك لم أفهم أي شيء في رحلتي الأولى لديار أهل زوجي.

وفي المرة الثانية أيضًا، عندما سأعود لحضور مراسم الأربعين على وفاة الجدة، لن أتعرف على الكثير عن مدينة "شَنْدِي ". ذلك أن مديري الغضوب رفض تمديد اجازتي لأسبوع. 

لكن الزيارة الثالثة كانت مكللة بالنجاح، بعد بقائي تسعة عشر يومًا في شَنْدِي تلت عيد الأضحى، طفنا فيها على أهله المنتشرين في ضواحي شَنْدِي ("الشَّقالو" و"قَنْدَتو" و"حوش بانَقَا" و"قريش") والمَتَمَّة ("الشُّكابة" و"السيال" و"حجر الطير").

فكان لتلك الأيام فضل في أن أنسى حسرتي على عدم السفر بالطائرة، وبالتعرف أكثر من أولئك النسوة البسيطات والوقوع في حبهن بعد أن كنتُ أراهن مجرد متطفلات، بعد أن أغرقنني بالمحبة والحنان وطيبة القلب أثناء إلحاحهن عليَّ عند تقديم للطعام مقسمات عليّ أن آكل من جميع أصناف الطعام الذي يحضرنه لي بحب وكرم. ورغم تكرار تكرارهن للسؤال الفضولي الذي كان يُحرجني، لمعرفة سبب تأخر حملي، كنتُ أنظر إليهن بتسامح واستشعر انتمائي لهن بحق. ولكيلا أجرحهن، كنتُ أكتفي بالابتسام دون أن أحاول تبرير بأنه لم يمضِ على زواجي سوى ستة أشهر، ودون أن أقوى على الاعتراف لهن بحقيقة أنني أتعاطى حبوب منع الحمل، وأخطط أولًا للاستقرار ماديًا والانفصال بعيدًا عن بيت عائلة زوجي قبل التفكير في إنجاب طفل. فقد كنتُ أعرف أنهن لن يفهمن مثل تلك التفسيرات، وهن المقتنعات بأن الغرض الأول من الزواج هو الانجاب، وأن كل طفل يأتي برزقه.

وقبل يومين من عودتنا إلى الخرطوم، وبعد اكمال جولة الطواف على أهله في قرى شَنْدِي والمَتَمَّة، أخذني الفاضل، في جولة داخل أحياء " شَنْدِي، عاصمة "دار جَعَل" كما كان يتباهى، ليريني الأماكن التي تردد عليها منذ نعومة أظافره: بيت عمته الصغرى في حي "الثورة مربع 14" بجوار جامع "خالد"، وبيت خاله الأوسط في حي "شَنْدي فوق مربع 8" خلف مستشفى المك نمر، ثم فندق الكوثر وسوق شندي ومحلات "حِزْقِيَال" حيث كان والده يشتري أقمشة جلابيب "الدَّمُور" وعمم "الكِرِب" وأقمشة النقادة، ثم مدرسة الرَّي للأساس ومدرسة الشيخ مصطفى الأمين المتوسطة حيث درس، ودكان يوسِف الفَوَّال، بل حتى بيت الداية التي أخرجته من بطن أمه "بنت مَدَني" أراها إياه وتغزل في طينه المبنى به، وفي حظيرة الحيوانات الملتحقة به من الخلف، وخاصة الدجاجات البلدية التي كان يلاحقها حتى ينقطع نفسه.

وفي صباح اليوم الثاني، استأجر الفاضل "رَكْشة" وأخذني ليريني مصنع نسيج "شَنْدِي"، أحد معالم المدينة، الذي تأسف على حال جدرانه الموشكة على الاختفاء وسط الرمال بسبب الزحف الصحراوي. وبعد لحظات ألتقنا فيها صورًا تذكارية على خلفية الكثبان الرمال الذهبية، قبل أن ننطلق شمالًا في الاتجاه المعاكس للمدينة ناحية منطقة "سِلِك على حدود منطقة الشَّقالو. وهناك، صرف زوجي سائق الركشة بعد أن أعطاه أجرته، ثم أمسك بيدي وقادني ناحية بقعة مهجورة مليئة بشجر "المِسْكِيتْ"، ليريني قبر عنزة جدته، قبل أن ينفجر في نشيج محموم. اجتاحتني قشعريرة عند رؤية دموعه مجددًا، وملأني حزن صم أذنيّ عن سماع كلماته الراجفة من بين عبراته وهو يقص على قصة "العَنَاق"، عنزة جدته التي ماتت وهي فتية، فبكتها جدته بحرقة، ونظمت فيها قصيدة رثاء حفظها الجميع من كثرة ما كانت ترددها بألم كل يوم:  

"سِلْك الدِّيش ناداكِ،  لا شُفْتَ جناكِ، لا ضُقْتَ لباكِ".

كانت تلك أصعب لحظات عشتها في شندي، أعادت إليَّ دهشتي من رؤية دموعه لأول مرة على سطح فندق "كورال" في بورتسودان قبل أشهر، وذكرتني بحسرتي على عدم تحقيق حلمي بالسفر بالطائرة أو حتى بالباخرة نحو أحد مدن حوض البحر الأحمر.  وبعد تفريغه لدموع حزنه على جدته، التي ربته منذ نعومة أظافره، واصلنا طريقنا إلى "الشقالو"، ليحدثني، ولمعة أسى في عينيه، عن أحلامه القديمة لأن يصبح لاعبًا ضمن فريق "سادرية"، أقوى فريق كرة قدم ساهم في شهرة عمه في السبعينات والثمانينات، وكيف أنه كاد تحقيق الحلم لولا انتقالهم إلى العاصمة الخرطوم قبل تجازوه سن الثالثة عشر عام 1995.

ومنذ تلك اللحظة، علمتُ بأن زوجي لا محالة عائدٌ إلى تلك البقعة ليستقر فيها، وكأنه شجرة، لا يمكنها العيش إن اجتثت من جذورها. لكن يقيني بأنني سأشاركه تلك العودة لمسقط رأسه، أخذ يتزحزح الآن، مع تعمده إرهاق أعصابي وصم أذنيه عن مبرراتي بأن هذا الزي الذي يرفض خروجي به للاحتفال بعيد ميلادي، هو نفس الزي الذي قابلني به أول مرة في مكتب شركة "سوداني" بعمارة "طلب"، قبل أن يطلب مني أرافقه به لأطوف معه محل "أبو الفاضل بلازا" بالجوار في حي الأملاك" بالخرطوم بحري؛ لأساعده في انتقاء خلاطة "مونوليكس" لوالدته، وبأنه كان سعيدًا برفقتي دون أن يخبرني بأنه يستعار من طريقة لباسي. ولما رد عليّ ببرودٍ: يومها لم يكن لي عليك سلطة، انفجرتُ صارخة: واليوم؟ هل لكَ عليَّ سلطة؟

ظل الفاضل يطالعني مذهولًا، دون أن يقوى على النطق. واصلتُ صراخي واستجوابه لكنه ظل منكس الرأس وكأنه أدرك فداحة الخطأ الذي وقع فيه. في هذه اللحظة، جاءت أمه تسأله بهلع عن الخطب؛ فأخبرتها بالقصة. نظرتْ إليه بتوجس وتوسلته أن يلعن الشيطان وينهض لمرافقتي للاحتفال معي بعيد ميلادي في "البيت السوري" كما كنا قد خططنا. لكن الفاضل رفض، وأكد بأنه لن يرافقني وأنا أرتدي مثل هذا الزي الخليع المحدد لمعالم جسدي بدقة. أذن سأذهب بمفردي، ما دام أن زوجي لا يهمه إدخال السرور إلى نفسي، أجبتُ بغضب؛ فرمقني بنظرة متحدية قبل أن يهدد: لو خرجتي هكذا، فأنتِ طالِق!

ولما وضعت والدته يدها على فمها، أحسستُ بأن الفاضل يتعمد إثبات رجولته أمام أمه. وكان بإمكاني رمي كوب الماء الذي أمامه، لأراه يتصدع على البلاط ويتبعثر شظايا، علَّ سماع تكسير الزجاج يخرج ما بي من غبن. في هذه اللحظة، ومع وقوعي فريسة تحت سطوة هرمونات الغضب، استحضرتُ مواقف مهينة كم كرهتُ فيها نفسي أمام غضب مديري، وطأطأتُ الرأس فيها بانكسار حفاظًا على راتبي.

وبينما حماتي تطالع تدير نظراتها الهلعة بين ابنها المنفوش بوهم سلطة الرجل على زوجته، وبين نظرات التحدي الذي كنتُ أسددها له، كنتُ أستعيد بتحسرٍ جمال تلك الأيام التسعة عشر التي قضيناها في شَنْدِي قبل أشهر، وأصغي بانتباه لوسوسة كبريائي المُلحة بأن زوجي ليس المدير الذي أسدى له خدمة مقابل عائد شهري، وبأن حياة زوجية بلا تفاهم ومودة وانسجام وتقبل الآخر، فلا داعي لها.

لحظات صمت عصيب سادت بيننا، أدرتُ فيها نظراتي بين وجه زوجي المتأهب، وبين حقيبة يدي الرمادية بجواره التي كانت تدعوني لاتخاذ قرار سريع يحفظ كرامتي. وبعد أن ألقيتُ نظرة عطف على حماتي، رجعتُ أثبت عيني في نظراته المتحدية، ثم التقطتُ حقيبتي وخرجت.

--------------------------------------------------

من رواية "سهام أرتميس"، الصادرة عن دار "مسعى 2023




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق