الخميس، 25 أغسطس 2022

قِصَّة قَصِيرة: لَاشَاپِيل - La chapelle

 بقلم/تسنيم طه 


بأصابع يده اليسرى المتخشبة من البرد، حك رأسه الملفوح بهواء شهر ديسمبر المحمل بالثلوج، وواصل البحث عن إجابة لسؤال لخطيبته:

-    يلا قول ليّْ اتعلمتَ شْنُو بالفرنسي؟

ولم يدرِ أي جملة يمكنها أن تدخل الفرح لقلب الفتاة التي أحبها أربع سنوات قبل التخرج من الجامعة، وأربعة بعدها قبل أن تقنعه بأن الحل في الهجرة لتحسين وضعه المادي وتوفير مهر ومراسم زواج تليق بها.

تلفت حوله باضطرابٍ بحثًا عن إجابة شافية في وجوه جموع البشر المسرعين أمامه:  

- إيرانيون يُقرأ في ملامحهم خليطًا حالمًا من أبيات أشعار عمر الخيام النيسابوري وأبو القاسم الفردوسي وحافظ الشيرازي، وآخر غاضبًا من مخلفات هتافات ثوراتٍ متكررة ضد نظام الملالي وأخرها ثورة الخميني ضد الشاه.

 أفغانيون تضخ وجوهم أنواع بؤسٍ شتى تحكي عن أهوال نظام طالبان، وتذكر بما فعلوه من تخريب في تماثيل بوذا وغيرها من الازالة الشنعاء لمعالم التراث والثقافة.

-  أسيويون منحدرون من إقليم التبت تعكس حدقات عيونهم الصغيرة وميضًا من ذكريات الخوف وصدمات اضطهاد وعنصرية، عايشوها من جيرانهم في دولة الصين الحدودية.

-  أفارقة مصطفون عند مدخل محطة الميترو يروجون لبضاعتهم الرخيصة من الذرة المشوية على الفحم وهم يهتفون بنغم مغلف بلأمل: "مايْسو-مايْسو".

-  فرنسيون مسرعون في خطواتهم ليلحقوا بقطاراتهم، تلفهًا لعيش عطلة احتفالاتٍ بعيد ميلاد المسيح وأعياد رأس السنة.

-    عربٌ وهنود...أثيوبيونَ وأريتيريونَ وسودانيونَ.... وهُوَ.

واصل التحديق في كل هذا الازدحام البشري، لكنه ام يعثر إلا على تساؤلاتٍ جديدة عن سبب تسرع أولئك الأقوام الدائم، دون أن يدري أهي برودة الجو ما حولت طريقة مشيهم إلى الهرولة؟ أم أنه إيقاع البلد الذي يحسب الوقت بالدقيقة والثانية؟

حك رأسه المتعب مرة أخرى، مواصلًا التنقيب عن كلمة يتباهى بها أمام خطيبته. لكنه لم يعثر إلا على قصص البرد والجوع والتشرد والضجر من طول اجراءات اللجوء والاجراءات الادارية للدخول في السيستم الفرنسي؛ لتجتاحه من جديد مشاعر الغضب تجاهها، وهي التي زجت به إلى هذا المصير القاسي.  فبعد ثلاثة أشهرٍ من خطوبتهما، أصرت عليه أن يترك العمل كسائق "رَكْشَة"، ليتفرغ للبحث الجاد عن وظيفةٍ أسمتها "محترمةٍ" تُدر عليهما المال بصورة أسرعٍ، رغم معرفتها بطرقه لجميع أبواب الوظائف عدة مراتٍ.

ذلك اليوم ولما سألها لماذا تفترض أن يكون حظه أوفر من زملائه الخرجين الذين يحاربون شبح البطالة بالعمل في الرَّكْشَات والأمْجَادات، أو في غسيل سيارات موظفي الوزارات بشارع النيل بالخرطوم، صدمته باعترافها بأنها ستخجل أن يكون زوجها المستقبلي سائق تاكسي الطبقة الكادحة من المجتمع. لكنه خاف أن يجادلها ليقنعها بأن كل الأعمال شريفة مادام أنها أعمال مشروعة والرزق منها حلال، خشية أن تصدق رأي أمها فيه بأنه ليس الشخص المناسب لتتزوج به.

وهكذا أطاعها وترك "الرَّكْشَة". وأصبح يقضي أوقاته في مطالعة الإعلانات عن الوظائف في الصحف اليومية وعلى مواقع التواصل الاجتماعي، ويجدد إرسال سيرته الذاتية لكل تلك الجهات بالبريد وعبر الانترنت. ثم ينتظر وينتظر، وينتظر دون أن يتلقى إجابة واحدة على طلباته، لا بالرفض ولا بالإيجاب.

وذات مساء، وبعد أن تملكه اليأس، ذهب إلى بيت خطيبته في حي "وَدْ نُوبَاوِي" بأُمْ دُرْمَان، وأخذ معه كيلو حلويات "باسطة" و"بسبوسة"، ابتاعه من "البيت السوري" في الخرطوم-بَحْري، علّه يخفف مرارة الحديث معها حول خطته الجديدة.  فتحت له الباب والدتها وسملت عليه ببرود. لكن ملامحها لانت قليلًا عندما مد لها صندوق الحلويات. فدعته للدخول، ثم نادت على ابنتها. وقبل أن يجلس على الأريكة الجلدية في الصالون، جاءته الخطيبة المدللة مهرولة دون أن تأخذ وقتها في وضع بعض الزينة كما تفعل في العادة. ولم تترك له فرصة أن يشرح خطته التي ظن أن فيها الخلاص من البؤس. إذ لم يكد ينطق جملته الأولى حتى اعترضته بنبرة حازمة تميل إلى الصراخ، واستنكرت عليه تفكيره في الذهاب للعمل في"سِنَّار" مع زوج خالته في زراعة السمسم والذرة. ولكي يخفي خيبته وصدمته، عقد يديه أمام صدره، وظل يطالعها بقلة حيلة وهي تبرر له ردة فعلها لتقنها أنها تخشى أن تصيب الزراعة يديه بالتشقق والجفاف وتفقده وسامته. جعلته كلمة "وسامة" ينسى صدمته ويطفو فوق نهر من مشاعر الزهو والافتخار، خدرته شهرًا كاملًا قبل أن تعود الأفكار النيرة للانبثاق من رأسه المتلهف للحصول على حل باي ثمن يعينه على الزواج بهذا الحبيبة المدللة.

هذه المرة لم يذهب لبيتهم في "أُمْ دُرْمَان"، حتى لا يتحمل تجهم وجه أمها، بل واعدها على الكورنيش في شارع "النيل" بالخرطوم.  وبعد أن وضعت "سِت الشاي" أمامها صينية القهوة ثم انصرفت، مد يده لخطيبته التي استجابت له ووضعت كفها بين راحتيه الممدودتين. ولما أحس بدفئها تشجع وسألها إن كانت تثق فيه. هزت رأسها بالإيجاب ثم ابتسمت له.  ابتسم لها بدوره وأهداها نظرة امتنان. وبعد أن ضغط على كفها بحنان أخبرها بقراره الانضمام إلى ابن عمه في "كُرْدُفان" لكي يعمل معه في رعي الضأن مدة عامٍ واحدٍ لا أكثر، يسمح له بجني أموال كثيرة، مع موسم الأضاحي وعودة الحُجَّاج من الحجاز.

 وقبل أن يواصل الشطح بأحلامه، ليخبرها أن ثروته قد تتضاعف إذا ما نجح في شراكته مع ابن عمه لتصدير الماشية للسعودية ومصر، سحبت يدها من يده، وأطلقت صرخة هستيرية:

-    هاشم إنتَ جادي؟ عايز تبقى راعي غنم وتنسى شهادتك الجامعية؟

نكس رأسه ولاذ بالصمت، ليراقب تململها وترددها طويلًا قبل أن تفصح له بخطتها التي أسمتها "خطيرة"، لتقنعه بأن الحل الأمثل هو الهجرة. 

ولأنها كانت تعلم أن الحصول على عقد عملٍ في الخليج يفوق صعوبة الحصول على وظيفة في السودان، شرحت له بالتفصيل معالم الطريق التي سيسلكها انطلاقًا من الخرطوم ثم ليبيا فإيطاليا ثم فرنسا. تأملها فاغر الفاه مشدوهًا من حماستها هي تخلع دبلة الخطوبة وزوج أقراط ذهبية عيار 21 قدمتها له بحماس موضحة أنها ستوفر له ثمن المهرب في ليبيا. ولما لاحظت تجهمه، مدت يدها وأخذت كفه بين راحتيها، ثم أهدته نظرة حالمة وعود تشجيعية لتطمئنه بأنها ستنتظر عودته إليها سالمًا غانمًا لكي يقيما عرسًا تفتخر به أمام الجميع، وشهر عسلٍ في الكاريبي، خلافًا لأشهر عسل قريباتها وصديقاتها، اللاتي لم يبرحن الخرطوم إلا للذهاب والاختباء في فنادق بورتسودان المطلة على البحر الأحمر، أو فنادق كَسَلا المطلة على جبال "التاكا" و"توتيل".

كان يمكن أن يخبرها بأنها تهذي. لكنه يحبها ويخشى أن يفقدها. ولولا ذلك الخوف لما كان ليصدق أن الغربة هي الحل الأمثل، ولما كان ليعرف أن الطريق إلى أوروبا محفوفة بكل تلك المخاطر والأهوال. فمنذ ركوبه البحر ونجاته من الغرق قرب الشواطئ الإيطالية، ثم وصوله متقرح القديمين بعد عبوره الحدود الفرنسية سيرًا على الأقدام عبر طرق القطارات السريعة خشية الوقوع في أيدي بوليس الحدود، إلى لحظة وقوفه الآن تحت هذا الجسر الطائر للميترو رقم (2)، اللحظة التي يتمزق فيها ويتحسر بشدة على عدم إيجاد لا همة ولا قوة جسدية أو نفسية تمكنه من البدء في تعلم اللغة الفرنسية؛ لكي يجيب على سؤالها: يلا قول ليّْ اتعلمتَ شْنُو بالفرنسي؟

تنفس بعصبية وجاهد لطرد مشاعر الغضب عندما جاءه صوتها رقيقًا عبر الهاتف:

- هاشم؟ انت سامعني؟

-   أيوة سامعك.

-   طيب قول لي بحبك بالفرنسي!

انتفض عند سماع كلمة الحب، وبحث عنها في داخله فلم يجدها. فلا الزمان ولا المكان يسمحان له بالهيام وهو يقف في صف طويل منتظرًا مجيء دوره لتناول طبق الوجبة الساخنة التي تُقدهما جمعية " Resto du Cœur" الخيرية للمتشردين في شوارع باريس. وتملكه شعورٌ بالمرارة نتيجة عجزه عن البوح لخطيبته بأنه بلا مأوى ويتسول طعامه ويرجف من البرد وليس لديه نية في الكلام عن الحب. لكن شعورًا بالرأفة انتابه عند استشعاره أنها تفتقده وتحتاج لسماع كلمة حنونة تطمئنها وتعينها على تلك المسافة بينهما. فأغمض عينيه برهة وتمنى لو أنها كانت بجانبه ليعانقها بقوة، ثم يلومها على ما تسببت له فيه بتلك الغربة.  لكن بسرعة عادت مشاعر الغضب تجرف مشاعر الرأفة، عند تذكره رفضها لاقتراحه بأن يقيما عرسًا بسيطًا يجمعهما في بيت سعيد، وتمسكها برأيها بأن يكون مهرها أكثر من مهر ابنة عمها وحفل زواجها أفخم من زواج ابنة خالتها. عاد يتمزق بين شوقه وغضبه وبين رغبته في المحافظة على صورته أمام عينيها. ورجع يتلفت حوله بحثا عن كلماتٍ فرنسية تخرجه من هذا المأزق، لكيلا يعترف لها بأنه لم يستطع الالتزام بالذهاب لدروس اللغة وهو ينام في الشارع، وفي الحدائق العامة تحت العواصف والرعود وهبوب الزمهرير. وتمنى لو كان يجيد إلقاء الشعر بالفرنسية حتى يسمعها كلمات غزل قصيدة "إلزا" للشاعر الفرنسي " لوي أراغون-Louis Aragon":

"عيناكِ من شدة عمقهما،

رأيت فيهما وأنا أنحني لأشرب،

كل الشموس تنعكس،،،

كل اليائسين يلقون فيها بأنفسهم حتى الموت.

عيناك من شدة عمقهما،،،،،أني أضعت فيهما ذاكرتي".

وفي اللحظة التي أوشك أن يعلن استسلامه ليعترف لها بكل شيء، وقع بصره على لافتة محطة الميترو أمامه، فواتته الفكرة النيرة التي قرر تنفيذها فورًا. وبعد أن ألقى نظرة على الصف الطويل أمامه، وأطمأن أن دوره ما يزال بعيدا، تنحنح وحك رأسه ثم أجابها بصوتٍ هامسٍ:

-لاشَاپِيل.

فجاءه صوتها باردًا مستفهمًا:

- يعني شنو " لاشَاپِيل"؟

فبلع ريقه بتوجسٍ وخامره شكٌ في أن خطيبته قد اكتشفت كذبته، وبأنها تعرف معنى الجملة ولكنها أرادت أن تسمعها منه. وخزه ضميره تأنيبًا، فتساءل كيف يصحح ذنبه؛ ليعترف لها أن " لاشَاپِيل-La Chapelle " هو أسم محطة الميترو التي يقف أمامها الآن، وأنها تعني "الكاتدرائية" باللغة الفرنسية، وهي كناية لكنيسة عريقة صادف الوعد بأنشائها اندلاع معركة "المارن الأولى" في عام 1914، عندما أصدر أسقف باريس"أَبِيه مارغاند"، تعهدًا رسميًا أثناء مراسم تتويجه، ببناء كنيسة تكون مخصصة للقديسة الشابة "جان دارك"، رمز مقاومة الاحتلال الإنجليزي أثناء حرب المائة عام بين بريطانيا وفرنسا، في حال لم تتأثر باريس بالجيوش الألمانية.

تحمس لفكرة إخبار خطيبته بقصة الكاتدرائية وبقصة المناضلة "جان-دارك"، عندما راوده أملٌ في أن تستقبل كلامه بفخر عندما يخبرها أن هذه الكاتدرائية تذكره بها، لأنه منذ دخولها أول مرة ليؤدي صلواته الخمس فيها، بعد أن تعثر عليه فعل ذلك في الشارع بسبب قانون علمانية فرنسا، استشف لأول مرة الشبه بين "جان دارك" القديسة الشابة عذراء أورليان، رمز مقاومة الاحتلال الإنجليزي أثناء حرب المائة عام بين بريطانيا وفرنسا، وبين " مهيرة بنت عبود"، المناضلة السودانية رمز مقاومة الغزو التركي على السودان بقيادة إسماعيل بن محمد علي باشا، بقيادتها نضال قبائل الشايقية في معركة "كورتي". ومن يومها وهي تذكره بخطيبته المدللة: مهيرة.

- يعني شنو " لاشَاپِيل"؟

خرج من سهومه منتفضًا عندما كررت خطيبته سؤالها، فمحى عنه خوفه على صورته، كل أملٍ ورجاء. واكتفى بالكذب متلثمًا:

-  معناها بحبك بالفرنسي.

-  بالجد؟ عليك الله يا هاشم؟ بقيت تعرف تقول بحبك بالفرنسي؟

شعر بالارتباك وبالورطة خشية أن تسأله لمن قال هذه الجملة في بلاد الغربة، لكنها فاجأته بطلبٍ ثانٍ:

-    طيب قول لي بحبك شديد.

وهنا أدرك أن ورطته لن تنتهي ما دام أنها قررت التمادي في الكلام عن شدة الحب وألم الجوا. فأخذ نفسا عميقا وواصل كذبه بيأسٍ:

"پُوغْتْ دُو لاشَاپِيل" يامهيرة.

ثم أغلق الخط، ليواصل لوك مرارته مع ذكريات أيام بؤس أخرى كان يقضي فيها الليالي واقفًا بجوار محطة "Porte de la Chapelle" في انتظار ذوي القلوب الرحيمة، ليأتوا عبر هذا المنفذ الشمالي لمدينة باريس ويوزعوا بطاطين وأغطية صوفية للمتشردين، تعينيهم على تحمل شهور البرد القاسية. وبعد أن تأكد من إغلاقه، أدخل هاتفه في جيب سترته المهترئة، ثم رفع يده ليسمح دموعه التي غالبته بطرف قميصه البالي.  

انتابه شعور بالخزي ضاعف من آلامه، عندما لاحظ شابًا اثيوبيا هزيلًا يقف على بعد ثلاثة اشخاص منه يطالعه بنظرات شفقةٍ.  لحظاتٍ عصيبة سمرته مكانه، صارع فيها شعور العار مرارة ألم العجز عن تلبية حاجة خطيبته لحنان والحب والاهتمام في وقت يتسول فيه طعامه، ويفتقر لسقف يأويه من البرد وفراش يريح ظهره المتخشب من النوم على الأرض. وبعد أن أشاح بوجه عن نظرات الشاب الإثيوبي، تقدم في الصف الطويل بحزنٍ وانكسارٍ، طاردًا صورة خطيبته من خياله؛ عله يهنأ بتناول وجبة عشاءه الساخنة على الواقف.


-----------------------------

من المجموعة القصصية / خلف الجسر



 اللوحة: للفنان التشكيلي السوداني / محمد عتيبي  

السبت، 20 أغسطس 2022

مقال: القصة والرواية : مطاردة حذرة؛ كالمشي على الزجاج

 بقلم/تسنيم طه


ظهرت القصة القصيرة الواقعية، المختلفة عن "الفابولاFable-"، في القرن الرابع عشر، عبر الكاتب الإيطالي "بوكاتشيو-Boccacio"، مؤلف مجموعة " الديكاميرون" المكونة من 100 قصة قصيرة. ثم غابت لفترة طويلة، قبل أن تعود في القرن السادس عشر بعد انتشار قصص الرعاة (في اسبانيا وإيطاليا وفرنسا) التي تمجد أخلاق الفرسان وحياة البدو والحب العذري؛ لتظهر مجموعة "هيبتاميرون" المكونة من 72 قصة قصيرة، المكتوبة بواسطة الفرنسية "مارغريت دي ناڤار"؛ ثم مجموعة "روايات نموذجية" المكونة من 12 قصة قصيرة، المكتوبة باللغة القشتالية بواسطة الإسباني "ميغيل دي ثيرفانتس"، مؤلف رواية "دون كيشوت".

غير أن القفزة الحقيقة لازدهار كتابة القصة القصيرة كانت في القرن التاسع عشر مع انتشار الصحافة، بعد دخولها ميدان السياسة والصراع الاجتماعي والديني؛ ليصبح هذا القرن قرن القصة القصيرة بامتياز مع أسماء من فرنسا (موباسان، زولا، فلوبير، بلزاك، ستندال) وروسيا (توليستوي، بوشكين، دوستويفيسكي، تشيخوف) وألمانيا (هوفمان، جوته) وأمريكا (آلان بو).
وكان محمود تيمور (مصر) من رواد كتابة القصة القصيرة في القرن التاسع عشر في الوطن العربي.
ومما لا شك فيه، فأن القصة القصيرة بشكلها الحديث هي منتوج أوروبي. وأشبه الأجناس الأدبية بها في الأدب العربي هي "المقامة"، التي تعتمد بطلا واحدًا في الأحداث، وأشهرها مقامات الهمذاني.
وقد اختلفت معايير القصة القصيرة؛ ففي أمريكا مثلا تم تقسيم القصة إلى ثلاثة أنواع: القصية القصيرة (أقل من 7500 كلمة)، تليها النوڤيلا وتتراوح كلماته بين (7500 -17500 كلمة)، ثم الرواية ابتداء من 17500 كلمة فما فوق.  لكن هذا المعيار لا يُأخذ به في البلدان الفرنكوفونية، التي ترى أن اختلاف القصة القصيرة عن الرواية ليس في الحجم، وإنما في المفهوم: فالقصة تدور حول حدث واحد بدون وقت راحة للقارئ، بينما تتعدد أحداث النوڤيلا والرواية وتتعلق بحدث مركزي وتوفر وقت راحة للقارئ.

 كما تتمتع القصة الفرنكوفونية بإيقاع سريع وتغيب فيها الغاية التفسيرية، خلافًا للقصة الانجلو-ساكسونية أو الألمانية ذات الإيقاع البطيء، ما يسمح بشرح الأفكار وردود أفعال الشخصيات. وفي العالم العربي، انتشر حديثًا ما يسمى بالأدب الوجيز؛ لتنكمش القصة القصيرة وتصبح "أقصوصة" أو "ومضة".

 وقد يظن البعض أن كتابة القصة القصيرة أسهل من كتابة الرواية، باعتبار أن حجمها أصغر؛ ولكن الحقيقة غير ذلك. إذ يجب على الكاتب التركيز دومًا على الجزء المقطعي الذي يريد تقديمه، والانتباه (لكيلا يشطح بخياله أو يسهب في سرد تفاصيل غير ضرورية)، بوضع سمات القصة القصيرة نصب عينيه أثناء الكتابة.

وفي الوطن العربي انتشرت كتابة القصة القصيرة في القرن العشرين من خلال أسماء مثل الطيب صالح (السودان)، ومحمد زفزاف (المغرب)، ويوسف إدريس (مصر)، وزكريا تامر (سوريا)، وعيسى الناعوري(الأردن)، وغسان كنفاني (فلسطين)، وميخائيل نعيمة (لبنان)، وإبراهيم الكوني (ليبيا).

ولكن رغم هذا الانتشار، لم تنل القصة القصيرة حظها من النقد الأدبي، كما نالته الرواية. وتكاد الجوائز الأدبية المعنية بالقصة القصيرة، في الوطن العربي الممتد من المحيط إلى الخليج، تكون شبه معدومة؛ لولا "جائزة الملتقى" التي تمنح سنويًا لأفضل مجموعة قصصية منشورة.
وفي عصرنا الحالي، ورغم تزايد عدد كُتاب القصة القصيرة، لسهولة مشاركتها ونشرها على الشبكة العنكبوتية، ما تزال القصة تتلمس طريقها للوصول لشعبية الرواية، مطاردةً إياها بتحد وحذر؛ وكأن سيرها مشي على الزجاج.

--------

من ملف الاستطلاع الذي أعدته الكاتبة السورية نوار الشاطر لمجلة  ّأقلام عربية "، تحت عنوان "القصة القصيرة العربية بين الإبداع والاتِّباع".  لقراءة كامل الاستطلاع، الرابط👇:

https://www.facebook.com/100002078955043/posts/5521457334600177/

#تسنيم_طه #استطلاع #قصة_قصيرة #نوار_الشاطر #أقلام_عربية