الاثنين، 15 فبراير 2021

قصة قصيرة: كَنْداكَة أصيلة

بقلم/تسنيم طه


لأن المواضيع كانت تستهويها، ظل قلمها طوع حروفها ورهن اشارتها، ينزلق منها انزلاقًا، فيسبقها فتلحق به، فتنتصر عليه دون حاجة للتوقف لالتقاط أنفاسها أو ترتيب افكارها.

فبعد سنواتٍ من العمل الدؤوب بلا كلل أو ملل من البحث والكتابة والنشر، نجحت في صقل موهبتها. وبفخرٍ استمرت في مناقشة ما تكتبه وتنشره مع صديقاتها وأهلها. وأنا.

لكن منذ أسبوعين تغيرت أحوالها. وأصبحت تعيش في أرقٍ وعصيبة، وتقضي الليل ساهرةً ساهدةً، تتجول بين الصفحات على شبكة الانترنت بقلقٍ ذكرني بذلك القلق القديم الذي انتابها عندما صممت تغطية الآراء حول موضوع انفصال الجنوب لتثبت لمدير التحرير جدارتها المهنية.

في الماضي عندما لاحظت ارتجاف أطرافها وهي تحدثني عن تفاصيل مقالاتها المستقبلية، حاولتُ تثبيط همتها لكي أثنيها عن الاسترسال في القلق، بالتعليل بأنه مادامت تعاني من تجميع الأفكار، فهذا يعني أن إن كتابة المقالات السياسية لا تناسبها.

ذلك اليوم، حدجتني بنظرة عتابٍ، قبل أن تهز كتفيها بعدم اكتراث، لتقول بإصرار بأنها لن تستسلم ما دام قاموسها لا يحتوي على كلمة "مستحيل".

فقررت استخدام طريقة أخرى غير الإحباط، بدأتُها بالثناء على مقالاتها السابقة، التي نجحت في كتابتها بسلاسة ودون تعب، فالتمعت عيناها فخرًا شجعني على الاسترسال في إطراء مقالاتها الأخيرة المتناولة لأربعة من ممالك السودان القديمة (علوة في سوبا، والمغرة في دنقلا، والفونج في سنار، وكوش في مروي).

ولما أحنت رأسها دلالًا زاد من التماع الزهو في رعينيها، نقلتُ لها اعجاب والدي بطريقتها المميزة في الكتابة، وبمدحه لبراعتها في تصوير موقع المصورات الصفراء ومعبد "أبادماك"، إله الحرب عند النوبيين وسلسلة الكثبان الرملية المنتشرة حول أهرامات البجرواية، حيث ازدهرت في الماضي، مملك نبتة وكوش وكرمة ومروي، والتم شمل ملوك عظماء مثل تِرهاقها وبَعانْخِي الذين امتد نفوذ ملكهم عبر مصر القديمة حتى حدود فلسطين.

 ولما اتسعت ابتسامتها الواثقة، وتوهمتُ بأنها اللحظة المناسبة لتنفيذ خطتي، دخلتُ في لب الموضع وسألتها لماذا لا تجرب الكتابة في مواضيع الثقافة والفولكلور، بعد نجاحها في كتابة التاريخ.

وعند ملاحظة اتساع حدقتها فضولًا، قلتُ لها بأنني سأصحبها معي في المرة القادمة إلى نيالا، لتشاهد بأم عينها رقصات "الكنقا" و"الجارو" وغيرها من الرقصات الشعبية المنتشرة في جبال النوبة، لتعود مشبعة بالتراث والتاريخ والفلكور، فتكتب مقالًا تاريخيًا عن سلطنة "الداجو"، لا محالة ستتقنه كما أتقنت ببراعة تصويرها لموقع المصورات الصفراء ومعبد الإله الكوشي "أبادماك".

في تلك الفترة، كنت أتابع قضية شاب تورط في جريمة قتل، أثناء مشادات كلامية حول أحد المشاكل القائمة بين قبيلتي المعاليا والرزيقات. ففي تلك الأنحاء تكثر المشاكل القبيلة التي يروح فيها كثير من الشباب ضحايا للنعرات القبلية والتهور، نتيجة امتلاكهم على الدوام لسلاح أبيض أو ناري، ينغرس أو ينطلق في صدر الخصم في لحظة غضب.

ذلك اليوم، فاجأتني بأنها لم تسمع من قبل عن شعب الداجو، رغم قراءتها الواسعة في ثقافات الشعوب. ثم طلبتْ مني أن أحدثها عنهم قليلًا.

فابتسمتُ بزهوٍ، وعملتُ بأنه لم يخامرها شكٌ في نواياي.

وبثقة أخذتُ أحدثها شارحًا لها بأنهم أحد شعوب غرب وادي النيل، الذين يعتبرون أن مملكتهم هي امتدادًا لمملكة "مروي" المدمرة بواسطة غزو مملكة "أكسوم" نحو عام 350م، اضطروا بعدها للتوجه جنوبًا في فازوغلي، فالجنوب الغربي، في كردفان الحالية. 

وتحمستُ وأنا الاحظ حدقاتها تتسعان وهي تتابع شرحي وتعديدي للسلاطين الذين تعاقبوا على حكم السلطنة على مدار سبعة قرونٍ: ابتداءً من "شات دايم" و"دينقا" مرورًا بـ"طقت" والسلطان "أحمد"، وانتهاءً بالسلطان "عمر أمني"، آخر السلاطين المقلب بـ"كسفروك"، والمتسبب في سقوط مملكة الداجو.

ولما صمتُ هنيهة لالتقاط أنفاسي، عقدت ذراعيها أمام صدرها وطالبتني بنفاذ صبر، أن أقص عليها حكاية زوال ملكه. فتحمسُ أكثر وأنا أروي الأسطورة القائلة بأن السلطان الطاغية كان قد أقام في قصور "ناري" و"كالكوتنج" و"كندير" في قمة "جبل مَرَّة" قبل أن يستقر في جبل "كيلو" شرق نيالا، حيث قرر تكملة سلسلة جبال "الداجو" التسع وتسعين إلى مائة جبل. فأمر شعبه بنقل جبل "أم كردوس" من شرق مدينة "نيالا البحير" ليضموه إلى سلسلة الجبال. فكانت النتيجة هلاك الكثير من أفراد الشعب، تارة بسبب سقوط الحجارة عليهم، وتارة أخرى لدغات الثعابين والعقارب التي أفزعها تحريك الحجارة الضخمة وأخرجها من أوكارها. 

ورغم تلك المخاطر ظل السلطان متمسكًا برأيه في نقل جبل أم كردوس إلى بقية الجبال.

وهنا فطنت زوجة السلطان إلى أن رغبات زوجها ستهلك الشعب، فقررت التخلص منه. فأتت بحَكَّامة، واتفقت معها على ترديد أبيات من الشعر لتتغنى بها للسلطان، أثناء احتفال كبير رتبته ودعت إليه كافة الشعب. وفي اليوم الموعود، أطاعت الحَكَّامة[1]، وأنشدت الأبيات بلغة الداجو:   

سلطان كسفورك دا ملك الملوك وقائد الشجعان،

مابيركب بعير، ما بيركب فرس زي الناس الهوان،

سلطان كسفورك بيركب فرنديت التيتل ملك الغزلان.

ولما أحست الزوجة أن الحماسة قد ملأت زوجها، طالبته بامتطاء "تيتل" أمام الجموع موضحة له ما دام أن أشعار "الحَكَّامة" قد أوضحت بأنه لا يركب فرسًا أو بعيرًا كبقية الناس الهوان.

فأمر السلطان بإحضار "تيتل". فأطاع الخدم وأحضروا الحيوان قبل أن يسرجوه بسرج السلطان الملكي، ويقربوه من السلطان المملوء بالحماس. لكن الحيوان البرِّي، غير المعتاد على ركوب البشر على ظهره، تملص ولم يثبت في مكانه وكاد أن يطرح السلطان أرضًا.

ولما رأت الزوجة تخوف السلطان وخشيته من أن يفضحه الحيوان أمام رعاياه، نفذت آخر خطوات الخطة، ونصحته بأن يُربطوه بحبالٍ لكي يثبتوه على ظهر الحيوان. فوافق دون أن يخامره شكٌ في نواياها.

 وهكذا أنقذت الزوجة الذكية شعبها.

فما أن تم إطلاق سراح "التيل"، حتى أندفع مهرولًا قافزًا راكضًا بالسلطان في جميع الاتجاهات، صادمًا به الأشجار والجبال إلى أن قطعه إربًا إربًا. لتكتمل الأسطورة بقول إنه في كل أرضٍ سقط جزء من جسده، أنشأ الناس الفرحين بالخلاص قريةً".

صفقت لي زوجتي، وهتفت بكلمة "برافو"، قبل أن تهديني ابتسامة واسعة افهمتني أنها اكتشفت أخيرًا خطتي في إلهائها عن المضي قدمًا في كتابة المقالات التاريخية.

ولكي تغلق النقاش، رفعت حاجبها الأيسر بتحدٍ وأعادت شعارها القديم، بأنه مادام قاموسها لا يحتوي على كلمة "مستحيل"، فإنها ستواصل في طريقها رغم الصعوبات، وستنجح في كتابة مقال ناجحٍ يتناول بتفصيل "الأسباب السياسية لانفصال جنوب السودان"، لكي تحقق حلمها وتترقى من مجرد صحفية متدربة تكتب عمودًا ثقافيًا كل شهرين مرة، إلى صحفية تستحق أن تتقلد منصب رئيس التحرير.

فكانت تلك الحادثة هي أول خطوة في سلم نجاحها الوظيفي. ومنذ ذلك اليوم فهمت بأنني لن أستطيع تغيير رأيها في أمر هي مقتنعة به.

فخلال سنوات زواجنا الثماني، جاهدتُ كثيرًا لكي أقنعها بالتخفيف من حدة طموحها المهني، لكي تتفرغ قليلًا للبيت بدل ترك جميع المهام للخادمة الحبشية، ولكي تتوقف عن رفض الخروج معي في المناسبات الاجتماعية متحججة بواهي الحجج لتبقى في البيت لمراجعة مقالًا ستنشره في الغد، أو الانكفاء على مواقع الانترنت لتجهيز مقالات أخرى.  

وهكذا تركتها وشأنها لما أدركتُ أن عنادي وعنادها، إن اجتمعا، لا بد أن يقطعا الحبل الذي بيننا، فأعود أجد نفسي وحيدًا من جديد أبحث عن نبرة صوت أنثى يدفئني ليلًا ويطرد عني الارق عبر مكالمات هاتفية سطحية.

فنحن الرجال، لكي نحصل على تلك الأنثى نتبع سبلًا شتى: هناك من ينتهج الكذب ويستخدم الكلام المعسول للإيقاع بالفتيات البريئات في حباله لكي يوافقن على تلك المكالمات الليلية، ومنا من لا تكفيه تلك الأصوات التي تساعده لبلوغ النشوة بمفرده، فيتجرأ ويغوي ويطارد حتى ينجح في الحصول على التحام حقيقي. وهناك من، عندما لا يجد لا هذا ولا ذاك، تدفعه هرموناته الفائرة لاتباع قانون الغاب والتحول إلى صياد يلتهم فريسته دون اذن أو مشاورة، ويلاحقها كما يفعل أسد جائع بالانقضاض على غزالة.

وكنت محظوظًا لتوقفي سريعًا عن استخدام تلك الطرق الملتوية، عندما أرسل لي القدر هذه الزوجة التي تقبلتني رغم ماضي غير المشرف مع الجنس اللطيف، بحجة أنها تحبني، وبأن الحب يَجُبُّ ما قبله.

 لذلك حافظت عليها ولم أرضخ لكلام أمي لأتزوج بأخرى تنجب لي، بدل قضاء الوقت في الذهاب لأطباء النساء والتوليد بحثًا عن الإنجاب من امرأة طموحة لن تحقيق لي حلمي بأن أعود للبيت لأجد زوجة متزينة متطيبة تنتظرني بلهفة، وتتحرك بنشاطٍ كنحلة وسط مزيج من روائح البخور والعطور وبهارات الكفتة والمحشي والأكل الشهي، بدل أن أمر عليها في مكان عملها بسيارتي كل مساء لنعود سويًا البيت.

وهكذا تابعت زوجتي وهي تحقق حلمها وتصبح صحفية لا يشق لها غبار، بعد أن تمرست وتمرنت في كتابة المقالات، بسلاسةٍ وسرعةٍ لا تتجاوز مدة قضائي أمسيةً أمام التلفاز لمشاهدة فيلمٍ على قناة "روتانا زمان" أو قناة MBC2.

لكن اليوم، وبعد مرور ثماني سنوات، وتعودي على مصاحبة حسرتي، مكتفيًا بلحظاتٍ حميمة صادقة كل شهرٍ مرة أو مرتين، ها أنا ذا أعود أقلق من جديد عليها، عند ملاحظة تضاعف قلقها وتوترها وأرقها بعد أن أكلفها مدير التحرير، بتغطية إعلامية شاملةٍ قد تتطلب تواجدها في ميدان ساحة الاعتصام أيامًا بأكملها، وربما بلياليها.

ورغم خوفي عليها، ظللتُ أراقبها من بعيدٍ حتى لا أؤثر عليها، فأزيد من تشوشها، فيقلل ذلك من جدارتها في اتخاذ القرارات، ويحرمها متعة التلذذ بنشوة الانتصار على صعوبات مهنتها التي تمجدها حتى القدسية، ولا ترضى بالتقصير في واجبها تجاهها حتى وإن كانت حامل في الشهور الأخيرة.

لكن أبريل هذا العام، لم يكن كبقية "الأباريل"، ولا يشبه إلا ذلك الذي أطاح بحكم الرئيس جعفر النميري، وغنى له صلاح مصطفى "جددناك يا أكتوبر في أبريل".

لذلك لم تكن زوجتي المثابرة الطموحة لتتركه ينساب من بين أيديها دون أن تمسك بأمجاده، وتزين بتقاريرها صفحات الصحيفة وقلوب الشعب بتسلطيها الضوء على ساحة الاعتصام بعد تنحي الرئيس، وما تلاها من تبعيات من إصرار الشعب على مواصلة الاعتصام، حتى يستجيب المجلس العسكري لمطالبه ويسلم السلطة للمدنيين.

وواصلت تغطياتها الإعلامية وأرقها وإهمالي.

وتقبلتُ الوضع بدون تضجر أو شكوى، متناسيًا أحلامي القديمة في تحويل زوجتي إلى ربة منزل بجدارة تدللني بتجريب طبخات بنكهات عالمية وبهارات وتوابل مستوردة، ووصفات من مطابخ "منال العالِم" و"أسامة السيد"، وترقص لي في الأمسيات كالراقصات المصريات، وتقص عليَّ قصصًا شيقة كتلك التي حكتها شهرزاد لشهريار في "ألف ليلة وليلة".

ولأتناسى تكرر خيباتي، ركزتُ كل جهودي في العمل بين ملفات القضايا الجنائية، أملًا في أن يكون قدوم الطفلة بعد أشهرٍ سببًا في تحقيق حلمي برؤية زوجتي تنشر حضورها الأنثوي في البيت، وتنتظرني عند العودة من العمل، بدل أن أمر عليها بسيارتي كل يوم، لنعود سويًا مرهقين منهوكي القوى.

لكن يبدو أن الأحلام تتحقق أسرع عندما نفك الارتباط بها.

فذات صباحٍ، ولما استيقظتُ ولم أجدها بقربي، وكنتُ متأكدًا بأنها تعمل في غرفة المكتب، وتجهز مقالًا أو ترتب لتغطية ميدانية جديدة تتناول تطورات الاعتصام أمام القيادة العامة، تفاجأتُ بوجودها في المطبخ، تدندن أغنية "الشجن الأليم" الصادرة من راديو "الرابعة" بصوت الفنان مصطفى سيد أحمد، أثناء صبها للشاي بالحليب في التيرمس الذهبي بجوار صحن "الزلابية".

 فوقفتُ وراءها وطوقتها بحنانٍ، ثم دعوت لها بالتوفيق في التغطية التي تشغلها وتشغل جميع السودانيين، وهم يتابعون الثوار المواصلين اعتصامهم في انتظار أن يسلم الجيش السلطة للمدنيين.

لكنها فاجأتني باستدارة غنجة، لتهديني ابتسامة واسعة ولمعانا من عينيها الحنونتين، سبقا افصاحها عن قرارها بالتوقف عن الكتابة في المواضيع السياسية، بل وأخذ فترة راحة من العمل في الصحافة بأكملها.

فانتابني قلقٌ وخامرني شكٌ في أن تكون قد تعرضت لتهديدات أو مضايقات. فأبديتُ خوفي عليها، فطمأنني بأن قرارها نابعٌ من داخلها، عند تأملها لحالها واكتشاف أن تدهور حالتها الصحية والنفسية وازدياد تقلصات الجنين في رحمها ناتجٌ من انغماسها في متابعة مواقع التواصل الاجتماعي.

فعانقتها بقوةٍ وفرحٌ عارمٌ غمر صدر الرجل الشرقي في داخلي، الحالم منذ سنواتٍ تسعٍ بأن يسمع زوجته تخبره بقرارها التفرغ له ولإدارة مملكتها المنزلية. ثم عبرتُ عن امتناني لقرارها وعقبتُ لأغريها بالعودة لكتابة المقالات التاريخية، على أن يكون موضوع مقالها القادم، بعد العودة للعمل، عن ملكة سبأ، للبحث في جدلية انتمائها لمملكة "كوش"، لتكون مدخلًا للحديث عن محاربات المملكة الكوشية، وخاصة الكنداكة أماني ريناس أو أماني شاخيتو، وقصة دحرهما لتقدم الإمبراطورية الرومانية داخل السودان.

فطالعتني بذهولٍ واستنكرتْ:

-       جبريل أنتي جادي؟ عايزني أكتب عن الكنداكات؟

فتراجعتُ للخلف وأخذت اتفرس في ملامحها المستغربة وأتساءل أي خطأ فادحٍ ارتكبته باقتراحي ذاك.  ولما طال صمتي، تقدمت مني خطوةً وأمسكتْ بيدي، وقالت وهي تنظر في عيني، بأن تناولها لموضوع "الكنداكات" سيعيدها سيرتها الأولى لتناول المواضيع السياسية. فواصلتُ التحديق فيها بدهشة، فابتسمت وسألتني ممازحة:

-          انت ما عارف انو أغلب الثوار من الكنداكات؟

فظللتُ في صمتي عاجزًا عن التعبير عن امتناني وفرحي بصدق قرارها. فبادرت بكسر الصمت، لتخبرني وابتسامة تضيء وجهها المليح، بأنها ستحقق لي حلمي وستدخل الكنداكات في حياتنا، إن وافقتُ على تسمية ابنتنا "كنداكة"، حتى لا تنسى أنها شهدت معها من وراء ظلمات الأجنة تغطياتها الميدانية للثورة السودانية طوال خمسة أشهر منذ اندلاعها في ديسمبر 2018.

فعانقتها من جديد، وقلت بفرحٍ طفولي:

-         أكيد موافق يا أجمل زوجة، يا كنداكة[2] يا أصيلة.

**-**

 

باريس/ 29 مايو2019

19:03 



[1]  الحَكَّامة هي امرأة ذات مكانة عالية في مجتمع غرب السودان الريفي من مناطق كردفان ودارفور، ولها دور في تدبير أمور المجتمع على الصعيدين الاجتماعي والسياسي، كما تساهم في وضع قوانين وأسس المجتمع في الشجاعة والكرم والأخلاق عبر اشعارها وأناشيدها وأقاويل مرتجلة تنطق بها، وتلعب دور مهمًا في الوساطة في حل الخلافات والنزاعات وإيقاف الحروب.

[2] كَنْدَاكَة هو لقب الملكات الحاكمات أو مسمى يعني الزوجة الملكية الأولى في حضارة كوش الإفريقية القديمة ببلاد السودان والتي عرفت أيضاً باسم الحضارة النوبية أو أثيوبيا التي تعني أرض السود أو السودان، وقد ذكر الاسم في الجديد الجديد أو الإنجيل في قصة حارس كنوز الكنداكة ملكة إثيوبيا وهو عائد من أورشليم بعد أن عمده القديس فيليب الأنجيلي عندما أمره ملاك الرب في رؤيا أن يذهب إلى الجنوب من أورشليم وغزة إلى الصحراء. الجدير بالذكر أن كلمة أثيوبيا في العهد القديم والعهد الجديد تشير إلى أرض السودان الحالية، لا إلى أثيوبيا الحالية، وبعض ترجمات التوراة والإنجيل اليونانية تورد اسم السودان كما هو. (ويكبيديا)

** اللوحة بعنوان "الكنداكات: لؤلؤ ولوتس النيل"،  للفنان التشكيلي أحمد عامر

الجمعة، 5 فبراير 2021

قِصَّة قَصِيرة: بُرْكانٌ خَامِل

 بقلم/ تسنيم طه

قال لها، والشرر يتطاير من عينيه، بأنه سيحظر اسمها في المطار إذا ما عادت للحديث في هذا الموضوع. ثم أخرج هاتفه النقال من جيبه ليرى الرسالة الواردة على الواتساب، ظانا بذلك أنه قد أغلق الحوار.

وغالبتها الدموع، وهي تشيح بوجهها عنه لتدفع عنها الشعور بالرعب من أن يتلاشي آخر أمل. ووضعت يدها على بطنها وركزت بصرها على زجاج النافذة المُغَبَّر، علها تستعيد رباطة جأشها، عملًا بنصيحة والدتها، التي أخبرتها في إحدى اجازاتها الشتوية: عندما تشعري باندلاع نيران الغضب في داخلك، ركزي على شيء بعيد عنك، وتنفسي بعمق وعدي زفراتك، لتجنبي الانزلاق في الردود المتهورة وتوفري على نفسك لحظات ندم قادمة. وهذا أيضا ما عليك فعله عندما تشعرين بزحف جيوش الخوف. فالغضب والخوف، هما أكثر الانفعالات التي تفقدنا توازننا وحكمتنا.   

واصلتْ تأمل زجاج النافذة لكيلا تستسلم للرغبة في البكاء، الذي سيقذف بها لا محالة إلى غرفتها لتكمل بقية الليل ساهرة حائرة مملوءة بالغبن، كما في مراتٍ كثيرةٍ سابقة.

وعندما التفت نحو والدها، وجددته يتبسم مع شاشة هاتفه الهواوي، ليتنامى في داخلها شعور التهميش، ولتتوسع غصتها عند استشعار أنه يهتم لأمر أصدقائه وأقاربه ومعارفه، حتى الافتراضيين على موقع "فيس بوك"، ورسائلهم، أكثر من اهتمامه بها.

وتفاقم غيظها فرمقته بحنق، ليرفع عينيه نحوها في نفس اللحظة، ليصوب نحوها نظرات وعيد، قمعت غضبها في مهده.

وخفضت رأسها لتوقف زحف جيوش الغبن والحزن التي بدأت تغزو سهول سلامها الداخلي، ولما طلب منها أن تصب له بعض الشاي، بعد أن عاد يحدق في عن شاشة الهاتف، أطاعت بصمتٍ، وتشاغلت عن اضطرابها بالتركيز في حركة الملعقة وهي تخلط السكر داخل كوب الشاي بالحليب الذي أضافت له قرفة هذا المساء ظنًا منها أن جلسة هادئة مع والدها من شأنها أن تلين قلبه تجاهها.  

تناول الأب الكوب، ورفعه إلى فمه ليأخذ رشفة بصوت مسموع كشفت عن استمتاعه الذي لم يعبر عنه، ولو بكلمه شكرًا لابنته المترقبة لأن يهديها ولو نظرة اعتبار.

ومع تنامي الأحاسيس المريرة في داخلها، عادت تركز بصرها على زجاج النافذة المتسخ، وتتساءل عن أنسب طريقة يمكنها تقنع والدها بالموافقة على ذهابها وأخيها لقضاء عطلة الصيف مع أُمها، في مدينة "كولونيا" غرب ألمانيا: هل تقوم بمحاولة انتحار حتى تخيفه عليها وتجعله يشعر أن بإمكانه فقدها إلى الأبد؟ أم تمتنع عن الأكل والشرب وتواصل البكاء ليل نهار؟ أم أن عليها اللجوء إلى حيلة أكبر والذهاب إلى مشعوذ أو دجال تعطيه قميص والدها فيضرب عليه سحرًا يجعله ينفذ كل طلباتها دون اعتراض، أو معايرة بأنها مازالت صغيرة غشيم لتمكنها سنوات الثلاثة عشر من فهم الحياة؟

وتحمست للفكرة الأخيرة، عند تذكرها لحماسة صديقتها التي أخبرتها بأنها رافقت أمها ذات يومٍ لشيخٍ بالقرب من سوق ليبيا، استنشقن عنده بخورًا غريبًا واعطينه أموالًا كثيرة، ليقوم بعمل سحرٍ أسود وتعاويذه ومحايات، نجحت في جعل والدها يطلق زوجته الثانية.

لكنها لما تذكرت مقولة أخرى لوالدتها "ما كان اللين في شيء الا زانه وما نزع من شيء إلا شانه"، أتبعتها بنصيحة عدم اللجوء إلى العنف أو المكر إلا في لحظات الدفاع عن النفس، قررت استنفاذ الطرق السلمية أولًا قبل اللجوء إلى الخطة "ب".  

وعدلت من جلستها ثم بلعت ريقها بصعوبة، لتباغت والدها بسؤالها لماذا أرسلها، هي وأخيها، إلى عمتهما عواطف في إجازة العام الماضي.

فرفع نظره عن الهاتف ليطالعها باستغراب وعدم فهم. فواصلت لتوضح له لو أن رفضه بأن يذهبا لقضاء الاجازة مع والدتهما بحجة أنه لن يقوى على البعد عنهما مدة شهر بأكمله، فها هو قد نجح بتركه لهما مع أخته، دون أن يزورهما سوى مرة واحدة خلال ثلاثة أشهر.

وهنا اشتعلت عينا والدها غضبًا قذف في نفسها خوفًا جديدًا ألجم لسانها لبرهةٍ قبل أن تنحل عقدته، لتواصل استفهامها عن الأسباب التي تجعل عمتها عواطف، تسمح لأولادها بالسفر لقضاء العطلة مع والدهم في السعودية، بينما يرفض هو أن يتركهم يذهبون إلى والدتهم في أوروبا. فزمجر الأب صارخًا:

-         عشان عواطف مَرا، وما عندها حق تمنع أولادها يمشوا لي أبوهم بعد ما طلقها.

-         يعني عشان انت الراجل بتمنعنا نشوف أُمَنا؟

-         هندة؟ إنتي كيف تكلميني بالطريقة دي؟ 

وضعت هندة يدها على أذنها لتخفف من حدة صوت والدها وهو يصرخ:

-         أنا عارفها لما تجي بتملأ ليكم رأسكم بالكلام الفاضي ده، قلت ليك ما في سفر يعني ما في سفر. وإذا فتحتي الموضوع ده تاني تأكدي أنك ما ح تشوفي أمك تاني أبدًا.

وضعت هندة يدها على فمها عند تنامى الذعر في داخلها مع تذكر كيف حرمهما رؤيتها أثناء إحدى اجازاتها القصيرة، عندما رفض أن يقضيا تلك العشرة أيام في بيت جدتهما والدة أمها، بحجة أنها تصادف الأسبوع الأول من العادم الدراسي الجديد.  

وانتشر الحزن في داخلها عند تذكر تعمده صمم أذنيه القديم عن توسلاتها وتبريراتها بأن أمها أيضًا قادرة مثله على إيصالهم إلى المدرسة في الصباح ثم أخذهم منها في أخر النهار، ثم مراجعة دروسهم إن كان هذا ما يقلقه، وأن عشرة أيام ستمر سريعا قبل أن يعودوا إلى روتين الحياة معه.

وأغمضت عينها لتطرد عنها صدى صرخته القوية ذلك اليوم:

-         انتي فاكرة العشرة يوم دي بتعمل ليكم حاجة؟ دا كله كلام فاضي. أمكم نستكم وانتو مفروض تنسوها كمان. لأنها لو كانت بتحبكم ما كانت مشت وخلتكم.

أغمضت عينها بقوة لتطرد تلك الصورة القاسية التي بدأت تراه بها منذ ذلك اليوم عند إدراكها بأنه يتعمد أن يوجع زوجته السابقة بحرمانها من أبناءها دون أن يدرك أنه يعاقب فلذات أكباده.

فتحت عينيها لتنظر إليه، لتجده منغمس في عالمه الافتراضي خلف شاشة الهاتف. وتساءلت ما إذا كان في مقدورها البوح له بأنها تعبت من هذه الصراعات، وبأنها تتوق إلى المضي إلى شيء آخر غير هذه الضغائن. واصلت التحديق في وجهه وبحثت عن كلمات تمكنها من شرح المعاناة التي تتكبدها أمها وهي تمر عبر مطارات أوروبية وأخرى عربية وتنفق أموالًا طائلة قبل أن تصل إليهم متورمة القدمين ومنهكة الميزانية. وأدخلت يدها في شعرها وهي تبحث بيأسٍ عن كلماتٍ من شأنها بث الثقة في قلب والدها. ثم أنزلتها بحركة عصبية بعد أن قطعت شعرة لتقول بصوت منخفض:

-         يا باب نحن قاعدين معاك السنين دي كلها وما ناويين نسيبك. نحن بس عايزنك توافق نمشي نقضي شهر واحد مع ماما، ونوعدك ح نرجع.

ضرب الأب الطاولة بيده. فسقط كوب الشاي بالحليب فانكسر وسال ما فيه. فتراجعت هندة إلى الخلف وتكومت في كرسيها كسلحفاة، قبل أن تقول بصوت راجف:

-         لكن يا بابا حرام عليك دي أمنا ومن حقنا نعيش معاها.

-           تحرم عيشتك، انتي شكلك ما ناوية تجيبها لي بر.

في تلك اللحظة، خرج أخوها من الغرفة المجاورة يحمل في يده مقبض "البْلِيه سْتِيشَنْ". فنظر إلى والده الثائر واخته التي تنتحب، وتمنى لو يستطيع اشعال ثورته المؤجلة منذ زمن ضد قرارات والده المجحفة في حقهم، لولا أن سمره الرعب في مكانه، ومنعه من تحريك ساكن، ليظل يراقب المشهد كتمثال.

ولما لاحظته أخته، خالجها أمل في أن يهب لنجدتها، قبل يموت سريعًا، عندما تفرست فيه بعينين دامعتين، لتقرأ في عينيه الشاردتين ظلال نظرات تحدي باهتة، انخسفت بسرعة خلف نظرات خوف سبقت انسحابه إلى الداخل، دون أن ينبث ببنت شفة.

ومات آخر أمالها، عند تزحزح قناعتها أن أخاها، الذي يصغرها بعامين، سيكون أشجع منها أمام والدهما لكونه الولد. فقد كانت ماتزال تتدرب للتخلص من تلك القناعة بعد أن وضحت لها أُمها بأنه لا فرق بين ولد وبنت لأن كل منهما لديه نفس القدرات العقلية والبدنية والنفسية. وأن كل الشائعات التي تقول إن الولد أقوى من البنت إنما نسجتها مجتمعات مختلفة لتفرض سيطرتها على الانثى منذ صغرها، لتزرع فيها عقدة نقص تلاحقها طوال حياتها، لتظل تبحث عن رجل لتستظل به لتواصل سلسلة المواريث من أبٍ فأخٍ فزوجٍ فابن قبل الذهاب إلى القبر.  

عقدت هندة يديها أمام صدرها وبدأت تلهج بدعاء في سرها، لتستعيد رباطة جأشها، وتواصل محاولاتها إقناع والدها. وكأن الأب قرأ في نظراتها المتحدية خطر يزحف نحوه، فقام من مكانه ودخل الغرفة وخرج، ثم عاد ليجلس قبالتها، ليطالع وجهها الممتقع بالغضب ودموع أبت أن تكف عن الانسكاب. ولبرهة، خُيل إليها أن ملامحه قد لانت قليلا، وظنت أنه سيتراجع عن في كلامه ليطمئنها حتى ولو بالكذب. لكنه لم يفعل، بل كرر تهديداته لها بأنه سيحظر اسمها واسم أخيها في المطار حتى لا يغادرون البلاد بدون اذنه.

وبينما المرارة تنتشر في حلقها، والخوف يسري في أوصلها، تساءلت كيف يمكنها إقناعه، بأن ذهابها إلى والدتها حق من حقوقها، وبأنها بالأمس كانت صغيرة صدقت الأحقاد التي بثها من هم حولها عندما خدعوها بقول إن أمها قاسية، وبأنها اليوم، بدأت تعي وتفهم أنه لا يمكن لأم أن تنسى أبناءها مهما حدث. لكن نظرات والدها الرامية بالشرر وقفت عائقا أمام تقدمها في خطتها الدفاعية، لتكتفي بمطالعته بحزنٍ وأسىً دون أن تنفك عقدة لسانها لبوح له بما يدور في خلدها. وكأن والدها قد قرأ أفكارها. فنهض من مكانه قبل أن يصرخ:

-         أسمعي هنا يا هندة. أوعك تفتحي الموضوع ده تاني. وانسي خالص انه عندك أم، فاهمة؟

وصعد الادرينالين إلى رأسها وهي تتساءل كيف له أن يطالبها بنسيان أمها، ولا يتخيل أن بإمكانها أن تنساه هو. رمقته بنظرات غيظ ثم قامت من مكانها. ولكنها عادت لتجلس على طرف الكنبة وكأنها تريد أن تحفظ مساحة بينها وبينه تمكنها من درء الخوف والغضب.

ولدهشتها شعرت بشلال من القوة يسري في أطرافها ويحل عقدة لسانها ليدفعها للرد عليه دون خوف.

 تحررت يداها وعلا صوتها وهي تدافع عن أمها، وتوضح بأنها ليست الأولى التي تنفصل عن زوجها، وتضيف بأن هذا من حقها مادامت غير سعيدة معه. وأحست بانعقاد معدتها ينفك شيئا فشيئا، مع نطقها لكلماتها المستنكرة عليه استخدام سلطته كرجل ليحرمها وأخيها من العيش مع أمهما. وعلت نبرتها أكثر وهي تخبره بأنهما قد يلجآن إلى وسائل أخرى غير المطار إذا لم يوافق على ذهابهما لقضاء عطلة الصيف القادم مع والدتهما.

لكن الصفعة القوية على خدها الأيمن لم تجعلها تكمل توضيح الطرق التي ستمكنهما من الخروج عبر الحدود الاريترية أو المصرية، وجعلتها تترنح قبل أن تتهاوى لسقط على الكرسي، لتمنعها شدة الألم في عنقها من الالتفات لرؤية أن أخاها يراقب المشهد بتشنجٍ ودموعٍ حبيسةٍ. وخفضت ببصرها بانكسار، لتقع عينها على النقطة الحمراء التي سقطت من فمها لتختلط بالشاي الذي انسكب على الأرض. فرفعت يدها تتحسس أسنانها خشية أن تكون احداهن قد سقطت. ولما اطمأنت على سلامة فمها رفعت بصرها ناحية ابيها الذي ازداد هياجًا وهو يواصل تهديداته دون أن يردعه منظر الدماء.

في هذه اللحظة، تنحنح المؤذن في مئذنة مسجد الحي مرتين قبل أن يبدأ النداء لصلاة العشاء، ليهمهم الأب مرددًا "الله أكبر" خرجتْ ثقيلة من فمه، قبل أن ينهض متوجهًا نحو باب الشقة وكأنه وجد المناسبة للانسحاب.

 وبقيت هندة في مكانها تتابع والدها بعينين دامعتين وفمٍ فاغرٍ من الدهشة، استغرابًا من حرصه على الصلاة، وفي نفس الوقت يتناسى الآية القرآنية: "ولا تُضارَ والدة بولدها".

وأغلق الأبُ باب الشقة وراءه تاركًا ابناءً تعساء، دون اكتراث لنظراتهما الدامعة، ظانًا بأنه قد نجح في زرع رعبٍ في نفوسهم، بمنظر تلك الدماء، سيحول بينهم وبين التفكير مجددًا في فتح موضوع ذهابهما إلى والدتهما في أوروبا، ناسيًا أن أطفاله قد رضعا حليب امرأة تمردت على الظلم، ونجحت في الوقوف أمام تحديات الأهل والمجتمع وهي تخوفها من لقب المطلقة. ولابد وأنهما قد رضعا معه افكارها وعواطفها وقناعاتها بأن الانسان يولد حُر، وسيتمر حر في اختياراته ما دام في داخله يقبع مارد عزيمةٍ خامد، وبركان كرامة خامل، يمكنه الاستيقاظ في أي لحظة، لإشعال ثورةٍ إذا ما تفاقم الظلم عليه.

 

  **-**

تسنيم

باريس 9 سبتمر 2017

22:19

الخميس، 4 فبراير 2021

"الحكامة" الدارفورية: دور في الحرب وأدوار في السلام

 

 الحكامة هي الشاعرة الشعبية في المجتمع السوداني والناطقة باسم الأوضاع الاجتماعية والسياسية والاقتصادية عبر أشعارها الحماسية، التي توظف للدعوة للحرب أو المناداة بإحلال السلام. وبكلماتها المؤثرة استطاعت أن تكون جزءا من منظومة الحكم الأهلي في المجتمع الدارفوري بغرب السودان كما أنها لعبت دوراً في تشكل شخصية الرجل في الغرب مما جعله قريباً من ثقافة الحرب ونجدة المحتاج من أجل حماية مال وعرض وشرف القبيلة لأنها تستفز حماسهم ونخوتهم وتستنهض مشاعرهم لخوض الحروب، ولما للحكامة من أدوار هامة في المجتمع السوداني عامة ومجتمع دارفور خاصة حظيت بالكثير من الاهتمام من قبل المسؤولين والمثقفين والمبدعين والفنانين والنقاد. الحكامة مكون تراثي تقول أروى الربيع، الناقدة والموسيقية.

 إن الوظيفة الأساسية للحكامة في ثقافة غرب السودان هي المكون للتراث الشعبي الذي تكون نتاجا لمعتقدات ومفاهيم شكلت ذهنية شعبية للحكامة لدرجة ارتفعت إلى مستوى القانون في القبيلة وليس هذا فحسب بل تربط الحكامة لتبين الظواهر الثقافية وتكشف عنها، وتبين كيف يعمل المجتمع، ولماذا؟ وبهذا كونت مفاهيم لقوانين تحرك المجتمع وتواصل أروى حديثها عن الحكامة قائلة: «لا نستطيع إلا أن نقول إن دورها في الثقافة كبير وتقوم بالتعبئة من خلال مفردات مستنبطة من مفاهيم أصبحت راسخة تسهم في دفع الحياة بإنتاج المنظوم شعراً وغناءً حيث حفظت لها ذاكرة المجتمع العديد من الأغاني التي أخذت الطابع الشعبي في نشر ثقافة الحرب والسلام».

وتصف الربيع غناء الحكامة بأنه وثيقة من الوثائق التي يمكن الرجوع إليها للتعرف على جميع أوجه الحياة فهي الحكامة عندما تمتدح شخصاً وتصفه بالشجاعة والفراسة والكرم، يمكن أن يعتلي مكانة في مجتمعه الكبير والصغير، وعندما تذم شخصاً وتصفه بالجبن والبخل يمكن بقوة هذا الهجاء أن يطرد من القبيلة، وهنا تكمن خطورة الدور الذي تلعبه خاصة أن لها مقدرة في إشعال الحرب بكلمات كبيرة مثال لذلك: "بركب جلال الخيل الرسن مقايدا وقت الموت برز ما الدنيا زايلة" وهي كلمات تدفع الفارس لمواجهة الموت بكل شجاعة.

وتختم الناقدة الربيع حديثها بالقول إن مناطق السودان تتميز بالثقافات المتعددة، وكل ثقافة تعبّر عن بيئة معينة ومقومات حضارية محدودة، إلا أن أغاني النساء في السودان تتشابه فهي تغني للحماس ودفع الرجل للحرب والدفاع عن الشرف والقبيلة مع الحفاظ على خصوصية تناسب الأغنية.

في مرتبة الأميرات يقول الإعلامي عبدالله خاطر، المثقف الدارفوي بتحالف المبدعين من أجل سلام دارفور، إن طبيعة الوجود الدارفوري قائم على نشاط هائل للمرأة وطبيعية التكوين الدارفوري الموروث فهي في وجدان المجتمع والأسرة، والرجل وهذا التأثير تم استخدامه في بعض البيئات المستقرة للمشاركة في الحكم عبر (الميارم) وهن في مرتبة الأميرات في المجتمع الدارفوري لأنهن من سلالة الأسر الحاكمة، أو الجدات اللائي يتميزن بالحكمة، حيث يقمن بأدوار مهمة في إدارة الحكم، كما تقوم المرأة في دارفور عبرالحكامة بالتحريض على فعل الخير وإرساء القيم النبيلة، النجدة التي تصل أحياناً إلى درجة الحرب، ويواصل خاطر حديثه قائلاً : دور الحكامة وبتطور النزاعات، ودخول الحكومة كطرف في النزاعات تطورت وصارت تحظى بالهدايا المادية والتحفيز المعنوي ما جعلها قبلة المثقفين لتوظيف دورها لصالح السلام، وتحالف المبدعين من أجل دارفور أتاح لها هذه الفرصة للعب دور في السلام.

حل القضايا التقت «دنيا» بالحكامة هدى مشار من ولاية جنوب دارفور التي تؤكد أن لهن دورا فعالا في حسم الكثير من القضايا وأنهن جزء من مجلس الناظر والعمدة للفصل في قضايا النزاعات التي تحل (بالجودية) فضلا عن كونهن إحدى أساليب القضاء في الإدارة الأهلية المحلية. وتضيف أن الحكامة الأصل عندها السلام، وعندما تنادي بالحرب فهو من أجل نصرة المظلوم وإحقاق الحق، وفي هذا تقول: «أوصيكم الأخوان جملة كبار وصغار الحرب بطال حزن العوين ويتم الأطفال عندي رسالة للعمد والنظار القبيلة ما بتحل إشكال ويا المعارض تعال نعمر الأوطان».

وهجت مشار قبل عشر سنوات بعض الشبان الذين فروا تاركين رجلا لقطاع الطرق نهبوا أمواله، واستطاع الفزع استردادها بعد مطاردة عنيفة مع قطاع الطرق فقالت: «بعير البطال إن شاء الله أمو ما جابتو يشبه من لبسة القبة الرجالة ما بخلص الناقة ولا يخلص القبة». وهي أيضاً دعت للسلام فقالت: "راقدة في الليل جنبي أخبار عمر البشير رأسو ملان أفكار جاب التعداد السكاني عشان نحفظ الأموال ونعلم الأطفال ونزرع أرضنا خصبة وبوار عندي رسالة للعمد والنظار القبلية ما بتحل إشكال تعال يا المعارض فعمر الأوطان"

 **-**

 

لقراءة المقال من مصدره:

https://www.alittihad.ae/article/19120/2009/%C2%AB%D8%A7%D9%84%D8%AD%D9%83%D8%A7%D9%85%D8%A9%C2%BB-%D8%A7%D9%84%D8%AF%D8%A7%D8%B1%D9%81%D9%88%D8%B1%D9%8A%D8%A9-%D8%AF%D9%88%D8%B1-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%B1%D8%A8-%D9%88%D8%A3%D8%AF%D9%88%D8%A7%D8%B1-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85