الجمعة، 5 فبراير 2021

قِصَّة قَصِيرة: بُرْكانٌ خَامِل

 بقلم/ تسنيم طه

قال لها، والشرر يتطاير من عينيه، بأنه سيحظر اسمها في المطار إذا ما عادت للحديث في هذا الموضوع. ثم أخرج هاتفه النقال من جيبه ليرى الرسالة الواردة على الواتساب، ظانا بذلك أنه قد أغلق الحوار.

وغالبتها الدموع، وهي تشيح بوجهها عنه لتدفع عنها الشعور بالرعب من أن يتلاشي آخر أمل. ووضعت يدها على بطنها وركزت بصرها على زجاج النافذة المُغَبَّر، علها تستعيد رباطة جأشها، عملًا بنصيحة والدتها، التي أخبرتها في إحدى اجازاتها الشتوية: عندما تشعري باندلاع نيران الغضب في داخلك، ركزي على شيء بعيد عنك، وتنفسي بعمق وعدي زفراتك، لتجنبي الانزلاق في الردود المتهورة وتوفري على نفسك لحظات ندم قادمة. وهذا أيضا ما عليك فعله عندما تشعرين بزحف جيوش الخوف. فالغضب والخوف، هما أكثر الانفعالات التي تفقدنا توازننا وحكمتنا.   

واصلتْ تأمل زجاج النافذة لكيلا تستسلم للرغبة في البكاء، الذي سيقذف بها لا محالة إلى غرفتها لتكمل بقية الليل ساهرة حائرة مملوءة بالغبن، كما في مراتٍ كثيرةٍ سابقة.

وعندما التفت نحو والدها، وجددته يتبسم مع شاشة هاتفه الهواوي، ليتنامى في داخلها شعور التهميش، ولتتوسع غصتها عند استشعار أنه يهتم لأمر أصدقائه وأقاربه ومعارفه، حتى الافتراضيين على موقع "فيس بوك"، ورسائلهم، أكثر من اهتمامه بها.

وتفاقم غيظها فرمقته بحنق، ليرفع عينيه نحوها في نفس اللحظة، ليصوب نحوها نظرات وعيد، قمعت غضبها في مهده.

وخفضت رأسها لتوقف زحف جيوش الغبن والحزن التي بدأت تغزو سهول سلامها الداخلي، ولما طلب منها أن تصب له بعض الشاي، بعد أن عاد يحدق في عن شاشة الهاتف، أطاعت بصمتٍ، وتشاغلت عن اضطرابها بالتركيز في حركة الملعقة وهي تخلط السكر داخل كوب الشاي بالحليب الذي أضافت له قرفة هذا المساء ظنًا منها أن جلسة هادئة مع والدها من شأنها أن تلين قلبه تجاهها.  

تناول الأب الكوب، ورفعه إلى فمه ليأخذ رشفة بصوت مسموع كشفت عن استمتاعه الذي لم يعبر عنه، ولو بكلمه شكرًا لابنته المترقبة لأن يهديها ولو نظرة اعتبار.

ومع تنامي الأحاسيس المريرة في داخلها، عادت تركز بصرها على زجاج النافذة المتسخ، وتتساءل عن أنسب طريقة يمكنها تقنع والدها بالموافقة على ذهابها وأخيها لقضاء عطلة الصيف مع أُمها، في مدينة "كولونيا" غرب ألمانيا: هل تقوم بمحاولة انتحار حتى تخيفه عليها وتجعله يشعر أن بإمكانه فقدها إلى الأبد؟ أم تمتنع عن الأكل والشرب وتواصل البكاء ليل نهار؟ أم أن عليها اللجوء إلى حيلة أكبر والذهاب إلى مشعوذ أو دجال تعطيه قميص والدها فيضرب عليه سحرًا يجعله ينفذ كل طلباتها دون اعتراض، أو معايرة بأنها مازالت صغيرة غشيم لتمكنها سنوات الثلاثة عشر من فهم الحياة؟

وتحمست للفكرة الأخيرة، عند تذكرها لحماسة صديقتها التي أخبرتها بأنها رافقت أمها ذات يومٍ لشيخٍ بالقرب من سوق ليبيا، استنشقن عنده بخورًا غريبًا واعطينه أموالًا كثيرة، ليقوم بعمل سحرٍ أسود وتعاويذه ومحايات، نجحت في جعل والدها يطلق زوجته الثانية.

لكنها لما تذكرت مقولة أخرى لوالدتها "ما كان اللين في شيء الا زانه وما نزع من شيء إلا شانه"، أتبعتها بنصيحة عدم اللجوء إلى العنف أو المكر إلا في لحظات الدفاع عن النفس، قررت استنفاذ الطرق السلمية أولًا قبل اللجوء إلى الخطة "ب".  

وعدلت من جلستها ثم بلعت ريقها بصعوبة، لتباغت والدها بسؤالها لماذا أرسلها، هي وأخيها، إلى عمتهما عواطف في إجازة العام الماضي.

فرفع نظره عن الهاتف ليطالعها باستغراب وعدم فهم. فواصلت لتوضح له لو أن رفضه بأن يذهبا لقضاء الاجازة مع والدتهما بحجة أنه لن يقوى على البعد عنهما مدة شهر بأكمله، فها هو قد نجح بتركه لهما مع أخته، دون أن يزورهما سوى مرة واحدة خلال ثلاثة أشهر.

وهنا اشتعلت عينا والدها غضبًا قذف في نفسها خوفًا جديدًا ألجم لسانها لبرهةٍ قبل أن تنحل عقدته، لتواصل استفهامها عن الأسباب التي تجعل عمتها عواطف، تسمح لأولادها بالسفر لقضاء العطلة مع والدهم في السعودية، بينما يرفض هو أن يتركهم يذهبون إلى والدتهم في أوروبا. فزمجر الأب صارخًا:

-         عشان عواطف مَرا، وما عندها حق تمنع أولادها يمشوا لي أبوهم بعد ما طلقها.

-         يعني عشان انت الراجل بتمنعنا نشوف أُمَنا؟

-         هندة؟ إنتي كيف تكلميني بالطريقة دي؟ 

وضعت هندة يدها على أذنها لتخفف من حدة صوت والدها وهو يصرخ:

-         أنا عارفها لما تجي بتملأ ليكم رأسكم بالكلام الفاضي ده، قلت ليك ما في سفر يعني ما في سفر. وإذا فتحتي الموضوع ده تاني تأكدي أنك ما ح تشوفي أمك تاني أبدًا.

وضعت هندة يدها على فمها عند تنامى الذعر في داخلها مع تذكر كيف حرمهما رؤيتها أثناء إحدى اجازاتها القصيرة، عندما رفض أن يقضيا تلك العشرة أيام في بيت جدتهما والدة أمها، بحجة أنها تصادف الأسبوع الأول من العادم الدراسي الجديد.  

وانتشر الحزن في داخلها عند تذكر تعمده صمم أذنيه القديم عن توسلاتها وتبريراتها بأن أمها أيضًا قادرة مثله على إيصالهم إلى المدرسة في الصباح ثم أخذهم منها في أخر النهار، ثم مراجعة دروسهم إن كان هذا ما يقلقه، وأن عشرة أيام ستمر سريعا قبل أن يعودوا إلى روتين الحياة معه.

وأغمضت عينها لتطرد عنها صدى صرخته القوية ذلك اليوم:

-         انتي فاكرة العشرة يوم دي بتعمل ليكم حاجة؟ دا كله كلام فاضي. أمكم نستكم وانتو مفروض تنسوها كمان. لأنها لو كانت بتحبكم ما كانت مشت وخلتكم.

أغمضت عينها بقوة لتطرد تلك الصورة القاسية التي بدأت تراه بها منذ ذلك اليوم عند إدراكها بأنه يتعمد أن يوجع زوجته السابقة بحرمانها من أبناءها دون أن يدرك أنه يعاقب فلذات أكباده.

فتحت عينيها لتنظر إليه، لتجده منغمس في عالمه الافتراضي خلف شاشة الهاتف. وتساءلت ما إذا كان في مقدورها البوح له بأنها تعبت من هذه الصراعات، وبأنها تتوق إلى المضي إلى شيء آخر غير هذه الضغائن. واصلت التحديق في وجهه وبحثت عن كلمات تمكنها من شرح المعاناة التي تتكبدها أمها وهي تمر عبر مطارات أوروبية وأخرى عربية وتنفق أموالًا طائلة قبل أن تصل إليهم متورمة القدمين ومنهكة الميزانية. وأدخلت يدها في شعرها وهي تبحث بيأسٍ عن كلماتٍ من شأنها بث الثقة في قلب والدها. ثم أنزلتها بحركة عصبية بعد أن قطعت شعرة لتقول بصوت منخفض:

-         يا باب نحن قاعدين معاك السنين دي كلها وما ناويين نسيبك. نحن بس عايزنك توافق نمشي نقضي شهر واحد مع ماما، ونوعدك ح نرجع.

ضرب الأب الطاولة بيده. فسقط كوب الشاي بالحليب فانكسر وسال ما فيه. فتراجعت هندة إلى الخلف وتكومت في كرسيها كسلحفاة، قبل أن تقول بصوت راجف:

-         لكن يا بابا حرام عليك دي أمنا ومن حقنا نعيش معاها.

-           تحرم عيشتك، انتي شكلك ما ناوية تجيبها لي بر.

في تلك اللحظة، خرج أخوها من الغرفة المجاورة يحمل في يده مقبض "البْلِيه سْتِيشَنْ". فنظر إلى والده الثائر واخته التي تنتحب، وتمنى لو يستطيع اشعال ثورته المؤجلة منذ زمن ضد قرارات والده المجحفة في حقهم، لولا أن سمره الرعب في مكانه، ومنعه من تحريك ساكن، ليظل يراقب المشهد كتمثال.

ولما لاحظته أخته، خالجها أمل في أن يهب لنجدتها، قبل يموت سريعًا، عندما تفرست فيه بعينين دامعتين، لتقرأ في عينيه الشاردتين ظلال نظرات تحدي باهتة، انخسفت بسرعة خلف نظرات خوف سبقت انسحابه إلى الداخل، دون أن ينبث ببنت شفة.

ومات آخر أمالها، عند تزحزح قناعتها أن أخاها، الذي يصغرها بعامين، سيكون أشجع منها أمام والدهما لكونه الولد. فقد كانت ماتزال تتدرب للتخلص من تلك القناعة بعد أن وضحت لها أُمها بأنه لا فرق بين ولد وبنت لأن كل منهما لديه نفس القدرات العقلية والبدنية والنفسية. وأن كل الشائعات التي تقول إن الولد أقوى من البنت إنما نسجتها مجتمعات مختلفة لتفرض سيطرتها على الانثى منذ صغرها، لتزرع فيها عقدة نقص تلاحقها طوال حياتها، لتظل تبحث عن رجل لتستظل به لتواصل سلسلة المواريث من أبٍ فأخٍ فزوجٍ فابن قبل الذهاب إلى القبر.  

عقدت هندة يديها أمام صدرها وبدأت تلهج بدعاء في سرها، لتستعيد رباطة جأشها، وتواصل محاولاتها إقناع والدها. وكأن الأب قرأ في نظراتها المتحدية خطر يزحف نحوه، فقام من مكانه ودخل الغرفة وخرج، ثم عاد ليجلس قبالتها، ليطالع وجهها الممتقع بالغضب ودموع أبت أن تكف عن الانسكاب. ولبرهة، خُيل إليها أن ملامحه قد لانت قليلا، وظنت أنه سيتراجع عن في كلامه ليطمئنها حتى ولو بالكذب. لكنه لم يفعل، بل كرر تهديداته لها بأنه سيحظر اسمها واسم أخيها في المطار حتى لا يغادرون البلاد بدون اذنه.

وبينما المرارة تنتشر في حلقها، والخوف يسري في أوصلها، تساءلت كيف يمكنها إقناعه، بأن ذهابها إلى والدتها حق من حقوقها، وبأنها بالأمس كانت صغيرة صدقت الأحقاد التي بثها من هم حولها عندما خدعوها بقول إن أمها قاسية، وبأنها اليوم، بدأت تعي وتفهم أنه لا يمكن لأم أن تنسى أبناءها مهما حدث. لكن نظرات والدها الرامية بالشرر وقفت عائقا أمام تقدمها في خطتها الدفاعية، لتكتفي بمطالعته بحزنٍ وأسىً دون أن تنفك عقدة لسانها لبوح له بما يدور في خلدها. وكأن والدها قد قرأ أفكارها. فنهض من مكانه قبل أن يصرخ:

-         أسمعي هنا يا هندة. أوعك تفتحي الموضوع ده تاني. وانسي خالص انه عندك أم، فاهمة؟

وصعد الادرينالين إلى رأسها وهي تتساءل كيف له أن يطالبها بنسيان أمها، ولا يتخيل أن بإمكانها أن تنساه هو. رمقته بنظرات غيظ ثم قامت من مكانها. ولكنها عادت لتجلس على طرف الكنبة وكأنها تريد أن تحفظ مساحة بينها وبينه تمكنها من درء الخوف والغضب.

ولدهشتها شعرت بشلال من القوة يسري في أطرافها ويحل عقدة لسانها ليدفعها للرد عليه دون خوف.

 تحررت يداها وعلا صوتها وهي تدافع عن أمها، وتوضح بأنها ليست الأولى التي تنفصل عن زوجها، وتضيف بأن هذا من حقها مادامت غير سعيدة معه. وأحست بانعقاد معدتها ينفك شيئا فشيئا، مع نطقها لكلماتها المستنكرة عليه استخدام سلطته كرجل ليحرمها وأخيها من العيش مع أمهما. وعلت نبرتها أكثر وهي تخبره بأنهما قد يلجآن إلى وسائل أخرى غير المطار إذا لم يوافق على ذهابهما لقضاء عطلة الصيف القادم مع والدتهما.

لكن الصفعة القوية على خدها الأيمن لم تجعلها تكمل توضيح الطرق التي ستمكنهما من الخروج عبر الحدود الاريترية أو المصرية، وجعلتها تترنح قبل أن تتهاوى لسقط على الكرسي، لتمنعها شدة الألم في عنقها من الالتفات لرؤية أن أخاها يراقب المشهد بتشنجٍ ودموعٍ حبيسةٍ. وخفضت ببصرها بانكسار، لتقع عينها على النقطة الحمراء التي سقطت من فمها لتختلط بالشاي الذي انسكب على الأرض. فرفعت يدها تتحسس أسنانها خشية أن تكون احداهن قد سقطت. ولما اطمأنت على سلامة فمها رفعت بصرها ناحية ابيها الذي ازداد هياجًا وهو يواصل تهديداته دون أن يردعه منظر الدماء.

في هذه اللحظة، تنحنح المؤذن في مئذنة مسجد الحي مرتين قبل أن يبدأ النداء لصلاة العشاء، ليهمهم الأب مرددًا "الله أكبر" خرجتْ ثقيلة من فمه، قبل أن ينهض متوجهًا نحو باب الشقة وكأنه وجد المناسبة للانسحاب.

 وبقيت هندة في مكانها تتابع والدها بعينين دامعتين وفمٍ فاغرٍ من الدهشة، استغرابًا من حرصه على الصلاة، وفي نفس الوقت يتناسى الآية القرآنية: "ولا تُضارَ والدة بولدها".

وأغلق الأبُ باب الشقة وراءه تاركًا ابناءً تعساء، دون اكتراث لنظراتهما الدامعة، ظانًا بأنه قد نجح في زرع رعبٍ في نفوسهم، بمنظر تلك الدماء، سيحول بينهم وبين التفكير مجددًا في فتح موضوع ذهابهما إلى والدتهما في أوروبا، ناسيًا أن أطفاله قد رضعا حليب امرأة تمردت على الظلم، ونجحت في الوقوف أمام تحديات الأهل والمجتمع وهي تخوفها من لقب المطلقة. ولابد وأنهما قد رضعا معه افكارها وعواطفها وقناعاتها بأن الانسان يولد حُر، وسيتمر حر في اختياراته ما دام في داخله يقبع مارد عزيمةٍ خامد، وبركان كرامة خامل، يمكنه الاستيقاظ في أي لحظة، لإشعال ثورةٍ إذا ما تفاقم الظلم عليه.

 

  **-**

تسنيم

باريس 9 سبتمر 2017

22:19

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق