بقلم/ تسنيم طه
كَسَلَا / أبريل 2013
لم نكد ننتهي الأسبوع الأول في مدينة كَسَلا، حتى فاجأني الفاضل بقراره أن نتوجه لمدينة
بورتسودان.
أبديتُ
دهشتي واخبرته بأننا لم نخطط لزيارتها ضمن جولة رحلة "شهر العسل"، وبأنني
لم أكتفِ من كَسَلا ولم أعاود زيارة جبل "توتيل" والشرب من ماء بئره، ولم
نزُر السواقي لأخذ صورٍ على ضفاف نهر "القاش"، ولم أحقق حلمي بعبور
الحدود الإريترية وزيارة مكان معركة "كرن"، التي قتل فيها جده (خاله
لأمه)، أثناء قتاله مع الإنجليز ضد الطليان في أحد معارك الحرب العالمية الثانية بشرق
أفريقيا.
لكن الفاضل تمسك برأيه مؤكدًا أن صوتًا داخليًا يُلح
عليه بالتوجه فورًا لعروس البحر الأحمر.
ولما
سألته بقلقٍ إن كان حدسه نتيجة كابوس، نفى ووضح بأنه منذ زواجه بي قبل أسبوع لم يرَ
كوابيس مفزعة، رغم تزايد مخاوفه الداخلية من تهديدات الجِنية "حَسِينة"،
التي توعدته قبل أن تفارق الحياة احتراقًا برقية شرعية من تلاوة شيخ يداوي بالقرآن
وعسل النحل في منطقة "العِزبة" بِبَحري، بأنها لن تتركه يهنأ بامرأة من
بعدها، وبأنها لا محالة ستخطفه يومًا ما معها إلى عالم برزخ الجن.
افترستني الهواجس والقلق بعد بوحه لي بمخاوفه، فحاولت
التملص من تلك الرحلة متحججة بخوفي من البحر، الذي لم أره في حياتي. وحتى أدعم
حجتي، قصصتُ عليه قصصًا من الإلياذة والأوديسا، عن حوريات يخطفن الرجال إلى الجزر
النائية، وتوقفتُ طويلًا عند قصة "أوديسيوس" واختفائه بسبب الجنيات عن
زوجته الوفية "بينلوب" عشرة سنوات، بسبب جنيات وحوريات البحر، وآخرهن
الجنية "كيركي"، التي حولت رفاقه إلى خنازير؛ لينجو هو منها بفضل تحصنه
بعشبة أعطاها إياها "هيرميز" رسول الآلهة الإغريق، بل وينتصر عليها بنيل حبها، الذي سيجعله يقيم
معها عامًا كاملًا، قبل أن تدله، لما رغب بالرحيل، على طرق الإبحار الآمنة إلى أرض
"الظلال" الواقعة على حافة المحيط، لكي يعلم مصيره من العراف الأعمى
"تيريزياس".
تفرس
الفاضل في وجهي بذهول، قبل أن ينفجر ضاحكًا. وبعد أن حك ذقنه الحليق بأصابعه
المخضبة بالحناء برهة، سخر من إيماني بأساطير لا وجود لها في الواقع، قبل أن
يستلقى على الأريكية الجلدية قبالة التلفاز، مواصلًا ثرثرته عن تلهفه للتعرف على
البحر؛ ليقارنه بنهر "النيل"، الذي سبح فيه كثيرًا رغم غدره وابتلاعه
لكثير من أبناء عمومته في قرى شَنْدِي
والمَتَمَّة، كابتلاعه في الماضي لكثير من نساء "الجَعَليين"،
جداته اللاتي رمين بأنفسهن في مياه النيل خوفًا من السبي أيام الحكم التركي، أثناء
حملة محمود ود أحمد، الشهيرة بـ"كَتْلة المَتَمَّة"[1]، كما لقنته جدته لوالده
"بنت مَسَاعَد"، التي يناديها بـ"حَبُّوبَة الحَلاوة".
كثيرًا
ما كنتُ أصاب بغيرة، عندما يذكر جدته تلك، ليتباهى بحبها له من بين جميع بقية
أحفادها الكثرين، كتباهيه بحبه لها من بين جميع نساء الأرض بعد والدته، لتضيق
مساحة الود في قلبه لكائنٍ من كان، حتى والده الذي يحمل اسمه.
وكثيرًا ما
تساءلتُ أيام خطوبتنا الطويلة، التي طفنا فيها على مطاعم العاصمة المثلثة
ومقاهيها، وعلى ستات الشاي قبالة شارع النيل، لتبادل كلمات الغرام والغزل والأحلام
المستقبلية، إن كنت سأنجح في منافسة هاتين المرأتين، أم أنه سيستوجب علىَّ العيش
في ظلهما، وتجنب أي موقفٍ سيجبره أن يختار بيننا. وكنتُ أعلم أنها لم تكن فكرة
صائبة لوضع نفسي في منافسة مع امرأة انجبته وربته، وأخرى سقته الحب والحنان ولقنته
بحكاويها تاريخ القبيلة وتراثها وعاداتها وتقاليدها. لكن يبدو أن الأنثى تفقد التفكير
المنطقي عند الوقوع في الحب، وتنجرف وراء مخاوف ومشاعر عدم الأمان لا تفعل شيء سوى
غض مضجعها.
وها أنا
أقع من جديد، في فخ التفكير غير المنطقي، بتخيل أن يكون وراء قراره التوجه إلى "بورتسودان"
علاقة بتلك الفتاة الجامعية، التي صادفناها الاسبوع الماضي في الباص السياحي.
ذلك
اليوم، وبعد اتخاذنا لمقاعدنا على خلف السائق على اليمين حيث يظهر جليًا اسم الباص
"كربكان"، مذكرًا بالمعركة، التي بين القوات البريطانية وقوات المهدية
عام 1885، وضعتُ رأسي على كتف الفاضل، هربًا من وهج نظراته المشتاقة اللاتي كادتا
تلتهمانني، وهو يذكرني بغضبي منه البارحة أثناء طقوس "الجَرْتِق" لحظة
بخ اللبن[2]، عندما نحج في بخي قبل أن أخفي
وجهي عنه، واصابني بغم نتيجة تخريب مكياجي وسقوط الرموش الصناعية من جفني الأيسر.
أطلق الفاضل ضحكة، ثم لامني على عدم تنبيهه إياه قبل الجَرْتِق، لكي يقوم بشرب كوب
الحليب بدل سماع كلام والدته، لكي يسبقني ويرشني به حتى يكون فألي معه حسنًا.
في هذه
اللحظة، أدار السائق محرك المركبة استعدادًا للانطلاق، فسينا مشهد "بخ
اللبن"، وأخذنا ندندن: "لو سعيد زورها وشوفها بي مهلة، وشوف جمال تاجوج
في خصال أهلها، سمحة كَسَلا"
جذبت
دندنتها المتغنية بجمال مدينة "كَسَلا"، تلك الفتاة، التي كانت توازينا
من ناحية اليسار. فنبهتني غريزتي الأنثوية لخطر محدق؛ دفعني لإلهاء زوجي عن
نظراتها الفضولية التي انزرعت في يديه المخضبة بالحناء، بسؤاله إن كان يحفظ
أغنياتٍ أخرى تغنت بجمال المدن؛ ليدندن بسرعة مقطع: "أنا أُمْ دُرْمان، أنا
السودان، أنا الدُّر البَزِين بلدي".
ولكي
أُلهيه أكثر، طلبتُ مني أن ينشدني أغنية أخرى لا تكون معروفة لدى جميع السودانيين.
ففكر برهة ثم دندن بنبرة صوته المبحوح التي أعشقها: " ليمون بارا، ويا أخوانا
شيلوا الجلالة". وهنا أطلقت الفتاة صرخة إعجاب، قبل أن تنبهل في كلامٍ منمقٍ
للتغني بجمال مدينة "بارا"، معلقةً أن فيها ناضل أجدادها ببسالة رغم
هزيمتهم أمام قوة سلاح الغزاة الاتراك في معركة "بارا"، قبل أن تضيف
أنها كانت فيها بالأمس مع ابنة خالتها الجالسة بجوارها كصنم تحدق في المشهد بخجل
وترفع كل لحظة للخمار فوق شعرها.
رمقت
الفتاة، بنظرة مقت مستهجنة خفتها تجاه عريسي؛ فتلعثمتُ ثم باركت لنا زواجنا قبل أن
تتوجه بحديثها مرة أخرى لعريس:
-
عروسك عيونها زي الفناجين أكيد جَعَلية.
ضحك
الفاضل بفخرٍ وأخبرها بأنه هو الجَعَلي؛ لتتمادى تغزلها بسؤاله بغنج إن كان أخ
الفنان "طه سليمان" حتى يشببه هذا الشبه. ولما نفى بهزة من رأسه، وسعت
ابتسامتها لتخبره بأنه يفوقه جمالًا ووسامةً بفضل تلك الشامة المتربعة فوق حاجبه،
اشتعلت نيران الغيرة في قلبي؛ لتجتاحني رغبة مميتة في النهوض واشباع الفتاة لطما على
فمها حتى تتساقط أسنانها؛ حتى تكف عن الثرثرة وتوزيع البسمات لإغواء عريسي بتلك
الطريقة الفاضحة.
لم تكن
غيرتي منطقية، لكي ينسى الفاضل، أنني عروسه الطازجة التي لم ينلها بعد، وينسى أنني
كرست شهرًا كاملً من "الحبسة"، كرسته للاحتراق يوميًا بدخان
"الطَّلِح" لكي أبدو في أبهى حُلة لأفرح قلبه، أو يتجاهل رائحة الدِّلْكة
والبخور والخُمْرة التي تفوح مني وتفح معها لهفتي لكي أسلمه نفسي له؛ حتى يشتهي
فتاة جامعية مغبرة والوجه والملابس.
وازاد
سعير نيراني، عند ملاحظة لمعان عيون الفتاة وهي تمد له رواية بعنوان "غرب
القاش"، كانت تمسك بها، قبل أن تهديها إياه مؤكدة بأنه سيستمع بقراءتها عندما
يكتشف براعة الكاتبة اليمنية "محاسن الحواتي" في وصف تفاصيل الحي الذي
يسكنونه في مدينة كسلا، قبل أن تدعوه، وابتسامة عريضة تصل لأذنيها، لأن يزورهم في
بيتهم في هذا الحي، قبالة نهر "القاش" للسلام على والدها، قبل عودته لعمله
في ميناء بورتسودان.
من أجل
جملتها تلك، ها أنا اليوم أقع فريسة للتفكير عدم المنطقي، وأشك أن قرار الفاضل في
التوجه لعروس البحر الأحمر، ما هو إلى وسوسة من تلك الفتاة الجامعية، التي ما هي
إلا الجنية "حَسِينة" متنكرة في هيئة بشرية، وبأنها تستدرجه للذهاب
إلى بورتسودان حتى تنتقم مني.
[1] "كتلة المتمة" حملة شنّها محمود ود
أحمد، ابن أخ الخليفة عبد الله التعايشي، على المتمة في يوليو1897، والتقى بجيش ود سعد في قتال شرس، قتلت فيه أعداد كبيرة منهم من
بينها عبد الله ود سعد نفسه في عملية وصفت بالمجزرة.
[2] بخ اللبن من العادات السودانية التي تقوم بها أم العروس لبنتها يوم عرسها، خاصة أثناء طقس الجرتق، والهدف الأساسي من رش اللبن هو جلب الفأل الطيب كما يعتقدون، وأن حياة العروسين سوف تكون كلها بيضاء.