في البداية، عندما اندفعت
نحوي بعينين محمرتين، ظننتُ أن دموعها بسبب تقشير البصل أثناء إعدادها لـ "مُلاح التَّقَلِيَّة"، الذي اعتادت تحضيره لنا كل أسبوع؛ لكي نفطر به سويًا مع ابنتيها قبل خروجي للصلاة الجمعة. لكن ظني خاب، لما اقتربتْ أكثر
قبل أن ترمي بورقةِ "الفولسكاب" على حِجْري.
تجاوزتني قشعريرة،
فسألتها بوجلٍ عن الأمر، رغم معرفتي بما يعتمل في داخلها. نظرت
إليّ بعينين متورمتين وأقسمت بغضب أنها لن تترك حق ابنها يضيع، وأنها ستجد قاتله
لتلوك كبده. تنهدتُ وقلتُ بيأس: "وإن تعفوا خيرٌ لكم..." فقاطعتني بصوتٍ
مختنق: "ولكم في القصاص حياةٌ يا أولي الألباب."
ألجمني ردها السريع؛ فلم أدرِ أي حجة يمكنها تجنيبي رؤيتها في
نوبة انهيار عصبي جديد. وبعد تفرسي برهة في وجهها الشاحب، سألتها بيأسٍ كيف لم يخفف
حجها لبيت الله الحرام وزيارتها
لقبر النبي من ألمها؛ فتسلم أمرها لله. فانهارت جاثيةً عند قدميّ، غارقة في نشيجٍ
مرير.
لم أعرف كيف
أتصرف أمام تدافع جيوش الحزن نحو وديان روحي، كتدافع الماء نحو السهل من أعلى
الجبل، إلى أن أخرجني من حالة عجزي وقلة حيلتي صوت محرك الرَّكْشَة الذي توقف
أمامنا.
-
في شْنُو يا خالة سُكَيْنَة مالك بتبكي كدة؟ ومالك قاعدة في
الواطة؟
سأل معاوية
مستنكرًا فور قفزه من مركبته الصغيرة. لكن ابنتي لم ترد على سؤال صديق ابنها إلا بمزيد
من الدموع. اقترب منها وهزّها بلطف، لكنها واصلت نحيبها. وعندما
هزّها ثانية، وقفتْ فجأة وخطفت الورقة مني وقدمتها له بيد مرتعشة.
قرأ معاوية
الورقة بارتباك، ثم صُدم عندما طلبت منه أن يوصلها بـ"رَكْشَتِه" إلى القصر الجمهوري الآن؛ لتسلم
مذكرتها لرئيس الوزراء، وتطالبه بأن
يأتي لها بحق ابنها
حاول تهدئتها
موضحًا أن اليوم الجمعة، فزمجرت:
-
إذًا بكرة من
الدّغش!
نكس رأسه ولاذ بالصمت، فحاولتُ تهدئتها بإخبارها
أن رئيس الوزراء في "جوبا" ولن يعود قبل ثلاثة أيام، لكنها انفجرت في نشيجٍ جديدٍ خيب أملي وضاعف إحساسي بالعجز.
في تلك
اللحظة، وبينما كان طفلٌ يلاحق كرته المتدحرجة تحت الكرسي الذي أجلس عليه تحت شجرة النيم الوارفة، توقف فجأة
وتفرس في وجه سُكَيْنَة الباكي. وبعد التقاطه الكرة، توقف أمامها ثم أنشد:
"يا والدة
ما تبكي.....خلي الوطن يبكي!
أنا حسي بيهو
حزين".
هو مجرد طفل في السابعة، وكل ما فعله ترديد أحد هتافات الثورة
التي تداولتْ بين الناس بعد حادثة فض اعتصام القيادة. لكن كلماته
صبّت الزيت على نارٍ كنا نحاول أنا ومعاوية إخمادها.
رمقته بنظرة حادةٍ جعلته يركض هاربًا. فعاد معاوية يكرر توسلاته:
-
يا خالة عليك الله ما تبكي... ولدك شهيد وهسه في الجنة. يا
ريتنا كلنا لو مشينا معاهو، كان أحسن لينا من معاناة الوقوف في صفوف البنزين.
رفعتْ سُكَيْنَة عينيها نحوه بدهشة
وسط دموعها. ولما شعر باهتمامها، استرسل في الشكوى من ضياع وقته في صفوف البنزين
بدل العمل.
تنهدتْ سُكَيْنَة بعصبية. فالتفتْ إليَّ معاوية مطالبًا بشهادتي
على طوابير السيارات الطويلة التي رأيناها في طريقنا، ليؤكد لها أن الذهاب إلى
الخرطوم الآن سيكون ضربًا من الجنون.
تفرستُ في وجها بيأسٍ،
واستعدتُ مشواري الصباحي، منذ خروجي من
مسجد "القُبة" بعد صلاة الفجر مع انتشار شعاع الشمس في الأفق. واستشعرتُ
امتنانًا، لتبيته ندائي ومرافقتي دون تضجر، وهو الذي
اعتاد أن ينقل الجيران في "رَكْشَته" حيثما شاءوا ومتى ما
أرادوا، شريطة ألا يجبرونه على عبور الجسور نحو أم درمان أو الخرطوم.
لذلك اشتهر بلقب "تاكسي القُبة" رغم كتابته
بخط عريض على ظهر مركبته كلمة "كّدّراوِية"، إشارة لأغنية نور الجيلاني،
والتي يقصد بها خطيبته الساكنة في حي "الكَدَرُو".
عند وصولنا إلى
"المَلَجة"، حيث الجزارون بملابسهم
البيضاء الملطخة بالدماء، استأذنني
معاوية ليذهب ويتناول كوب شاي حليب بالزلابية (لم يتمكن من تناوله في البيت حتى لا
يؤخرني) من بائعة شاي يلتف حولها نفر من الناس.
وعند عودته،
بينما أنا أراقب التفاف الناس حول بضاعة جزار أصلع صلفٍ بضاعته رغم سوء معاملته، استعجل
البائع ليحاسبني قبل الآخرين تقديرًا لكِبَر سني.
بعدها تجاوزنا
جموع النساء برفقة أطفالهن حتى وصلنا إلى بائعي الخضروات، حيث انتقيتُ لها ما
تحتاجه لإعداد أطباق الطعام: محشي، وكفتة، وبامية باللحم الضأني، وسلطة باذنجان؛
لإكرام صديقتها التي ستزورها لتناول غداء أخير معها قبل أن تسافر للالتحاق بزوجها
في الخليج.
حكيتُ لسُكَيْنَة هذه التفاصيل
حتى أشعرها أنني أهتم لأمرها ولموضوع غداءها مع صديقتها بعد قليل.
لكن رغم حكاياتي، ظلّت ملامحها جامدة. فحاولتُ استدرار
تعاطفها بسرد معاناة معاوية، الذي استرسل في شكواه من أوضاع البلد لحظة مرورنا
أمام "بلدية بَحْري"، إذ رأينا صفوف البنزين تمتد حتى مستشفى بحري،
متفرعة من طلمبة "حِلّة حمد" وصولًا إلى طلمبة "الصّبابي"، جنوب جامع "المُتْوَلِّي".
كان غضب معاوية مشحونًا بالأسى؛ يرى طاقته تُهدر وزمنه
يضيع في طوابير البنزين بدل قضائه في العمل لتأمين احتياجات أسرته: مراجع الطب
لأخته، أدوية الضغط والسكري لوالدته، ونفقات زواجه من حبيبته التي تنتظره منذ أربع
سنوات، رافضة ضغوط أهلها للارتباط برجلٍ غني يكبرها بعشرين عامًا.
حين لم ألحظ تغيرًا في وجوم سُكَيْنَة رغم قصصي، تفاقم
عجزي عن إعادتها إلى سابق عهدها؛ امرأة مفعمة بالتفاؤل والمرح، تجمع جاراتها في
فناء الحوش أو الصالون، لاحتساء الشاي وتبادل الأفكار حول تدبير المعيشة وضبط
صندوق "الجمعية" الذي يساعدهن على مواجهة نفقات كبيرة كزواج أو تعليم أو
ختان.
تضاعف ألمي حين رأيتُ سُكَيْنَة تصرُّ على إطالة حدادها على
ابنها، حدادًا أفقدها في ثلاثة أشهر نضارة وجهها، وأورثها هالاتٍ سوداء وشعرًا
أبيض فوق صدغيها، جعلها تبدو في الثمانين رغم أنها لم تتجاوز الخمسين.
تحسرتُ على صبرها وشجاعتها، فقد صمدت قبل أربعة عشر عامًا في
تربية أبنائها بعد مقتل زوجها خلال أحداث الشغب
التي سادت مدينة الخرطوم، فور انتشار خبر موت الزعيم الجنوبي "جُون قَرَنْق".
في ذلك الوقت، خرجت
من عِدتها متحزّمةً للقيام بدور الأم والأب. فكانت
تغسل وتكنس وتطبخ وتكوي الملابس تغسل وتطبخ وتراجع دروس أبنائها، وتحضر
اجتماعات أولياء الأمور، وتداوم في
"مَحَلِّية بَحْري".
ورغم هذه الواجبات، واظبت على زيارة المقابر أسبوعيًا؛
لقراءة سورتي "ياسين" و "المُلْك" على قبر زوجها، حاملةً معها
طعامًا للطلاب المقيمين بمسيد جامع "السيد علي الميرغني" صدقةً عن روحه.
لكن كل ذلك الثبات تبعثر صباح التاسع والعشرين من رمضان، حين
انتشر خبر فضّ الاعتصام أمام القيادة.
في ذلك
الثلاثاء المشؤوم من يونيو عام 2019، دخلت سُكَيْنَة في حالة هستيرية، لا تدري إن
كان ابنها حيًا أم ميتًا. جابت مشارح ومستشفيات الخرطوم بحثًا عنه، وحين يئست من
العثور عليه بين الموتى، تعلقت بأمل وجوده في أحد المعتقلات. لكن الفوضى التي عمّت
العاصمة بعد المجزرة، وانقطاع الإنترنت، أغلقت أمامها سبل التواصل.
وفي رابع
أيام العيد، الذي صار مأتمًا سُمِّي "عيد الشهيد"، ظهرت جثته في منطقة
"الفكي هاشم"، فانطفأت آخر شرارات الأمل في قلبها. رغم ذلك، كفّنت ابنها بصمتٍ وصبرٍ أذهل الجميع. وحدي كنت أعلم أن خلف
ذلك الصمت بركانًا ينتظر الانفجار، وقد كان.
أخرجني معاوية من شرودي بسعالٍ مفتعل، فالتفتُ نحوه ثم
واجهتُ ابنتي محاولًا إخراجها من حزنها العميق، بمباغتتها بسؤالٍ: هل تظنين نفسكِ
أفضل من رسول الله؟
"صلى الله
عليه وسلم"، ردت بسرعةٍ، ثم تساءلت باستغراب عن سبب سؤال، فأجبتها بترددٍ:
-
لأن رسول الله الذي زُرتِ قبره، وتنتظرين شفاعته يوم القيامة،
فقد فلذة كبده أيضًا، وقال: "إنَّ العَيْنَ تَدْمَعُ، والقَلْبَ يَحْزَنُ،
ولَا نَقُولُ إلَّا ما يَرْضَى رَبُّنَا، وإنَّا بفِرَاقِكَ يا إبْرَاهِيمُ
لَمَحْزُونُونَ".
نظرت إليّ
نظرةً لائمة، ثم انفجرت في نحيبٍ حاولتُ مقاومته كي أواصل حديثي.
-
يا سُكَيْنة، الله لن يرضيه أن تهدري وقتك في البكاء اعتراضًا
على استرداده أمانته، فتضيعي رسالتك في الحياة، وتحقيق خلافته في الأرض.
ظلت تطلعني
بألم، فواصلتُ:
-
كثير من
الأمهات الثُكالى صبرن، وآمنَّ أن دماء أبنائهن في ثورة ديسمبر ستُمهّد طريق الحرية
للأجيال القادمة، وأن العدالة ستأخذ مجراها عاجلًا أو آجلًا.
خانني صوتي،
فالتفتُّ نحو معاوية، فوجدته واقفًا كالصنم، دامع العينين. نظرتُ مجددًا إلى
سُكَيْنَة، وأحسستُ أنها على وشك الانفجار في نوبة نحيبٍ جديدة، فسألتها فجأة:
-
هل ما زلتِ
مصرة على مضغ كبد قاتل ابنك؟
طال صمتها
وهي تطالعني بذهولٍ، ويدها تعبث بثوبها. رجوتها أن تستغفر الله، فقالت:
"أستغفر الله"، وتبعها معاوية ثم استغفرتُ بدوري. وبعد برهة
صمتٍ، سألتها:
-
أتذكرين كيف
واجه جلال الدين الرومي مقتل معلمه شمس التبريزي؟
هزّت رأسها
إيجابًا، قبل أن تفيض دموعها مجددًا. فواصلتُ:
-
ألم تحبّي
أشعاره التي كثيرًا ما استشهدتِ بها؟ قصائده التي كنا ننشدها معًا تحت شجرة
الريحان أثناء تناول القهوة الضحى؟
لانت ملامحها
قليلًا، فمسحتُ على رأسها بحنان وقلتُ:
-
الخيار
لكِ... إما أن تواصلي السير في طريق هند بنت عتبة، فتبحثي عن قاتل ابنك لتلوكي
كبده بلا طائل، أو أن ترضي بقضاء الله، وتحوّلي ألمك إلى نورٍ يبدد ظلمات جرحك؛
كجلال الدين الرومي الذي جعل من حزنه مصدرًا لقصائد أدخلت إلى الإسلام كثيرًا من
الغربيين، عندما أوضحت لهم أن إله الإسلام ليس إرهابيًا ولا دمويًا، بل هو إله
محبة وسلام ورحمة، يحرق نوره قلب العاشق، فتتفتح بتلات النورانية في داخله.
فعاد نشيجها
يرتفع، فواصلتُ بآخر رمقٍ محاولةً إقناعها بأن قاتل ابنها ليس شخصًا واحدًا يسهل
الظفر به وإخراج كبده لتلوكها، وإنما عصابة لن تفلت طويلًا من يد القانون الإلهي،
الذي سيأخذ لها حقها وحقوق جميع المظلومين.
فبكت بصوتٍ
مخنوق:
-
لكن أصبر لمتين
يا أبوي؟ خلاص غلبني ما قادرة استحمل النار الجواي دي.
ربتُ على
كتفها بحنان:
-
تصبّري إلى آخر رمق يا ابنتي؛ فطريق الصبر كنهر النيلِ، أو أطول. ويتطلب يقينًا
بأن كل مصيبة ما هي إلا جزء من مشيئة الله.
فكانت تلك الجملة هي ما أعاد إلى سُكَيْنَة سكينتها وإيمانها
وصبرها، وجعلتها تكفكف دموعها، وتقبل يد معاوية لتنهض وترافقه إلى الداخل، بعد أن أقسم عليها أن يساعدها في أعداد الطعام؛ لتلحق بإكرام
صديقتها، وحتى يفوز هو بالغداء معنا، بدل الذهاب وإضاعة وقته في صفوف البنزين.
**-**
تسنيم
باريس 3 يوليو 2020
جميلة ومؤثرة للغاية، كادت دموعي تنهمر
ردحذفموفقة
شكرًا رقية.
ردحذفتحياتي تسنيم ... ستظلين ذاكرة حية و شفافة لوطن مكلوم ... فليتدفق نهر الإبداع الذي تحيكين
ردحذفخالص تحياتي وتقديري
حذف