التقيا،
بينما السماءُ ترسلُ آخر زخات المطر، والسحب الزرقاء تنصهرُ في أطياف شمس الاصيل
البرتقالية، وميدان "الجمهورية" يغلي بهتافات الناس الغاضبة تعبيرًا عن قرفٍ
فاقمته حالة التأزم، المستمرة منذ أكثر من أسبوعين بسبب اعتصامات سائقي
القطارات والحافلات والباصات العامة، بعد أن دعتهم النقابة العمالية للإضراب رفضًا
لمشروع قانون نظام التقاعد الجديد.
بتحنانٍ
ولهفةٍ، وكأنها المرة الأولى التي يلتقيان فيها، تفرس كل منهما في وجه الآخر. وبفرحٍ
وهيامٍ تعانقت نظراتهما لتنشر في دواخلهما أمانًا مؤقتًا، سامحةً لأرواحهما أن
تنهل من نبع ذلك العناق الحميم لمقلٍ حددتها الهالات من فرط الأرق ونيران
الأشواق. وبعفويةٍ، تشابكت أيديهما ليسيرا جنبًا إلى جنبٍ، ليصغيا لذلك الصمت
المجلجل في دواخلهما، الواقف حاجزًا بينمها، القاطع لسبل التواصل، إلا عبر العيون
المشتاقة ودفء الانامل المرتعشة.
وكمدخلٍ للحديث، أبدى كلٌ منهما رأفته بحال هذه الجموع
ولحاله أيضًا، بعد طفح الكيل من تكرر النهوض باكرًا كل صباحٍ
أكثر من ساعتين من المواعيد المعتادة، من أجل المكابدة مع المكابدين، والمزاحمة مع
المزاحمين في الصعود على متن القطارات المحدودة، التي لم تعد تسع تكدسات البشر
فيها كتكدس السمك داخل علبة الساردين.
في العام الماضي،
عندما التقيا في هذه الساحة التي أصبحت رمزًا للتعبير عن الاحتجاجات في باريس، وفي
زمان يشبه مساء هذا السبت البارد من مساءات شهر ديسمبر، صادفا تظاهرات "ذوي
السترات الصفراء" الذين كانوا يواصلون احتجاجاتهم الأسبوعية اعتراضًا على
ارتفاع ضريبة الوقود، وعلى سياسات أخرى للرئيس الفرنسي الشاب.
واليوم، ها
هما، يصادفان المتظاهرين.
وليهربًا من
ضوضاء ساحة "الجمهورية"، اتجها شرقًا ثم شمالًا بمحاذاة قنال "سان
مارتان"، بحثًا عن استرخاء على ضفاف المياه، يعيد لهما تفاصيل نزهات رومانسية
سابقة وذكريات تنزهات في شوارع باريس دامت أكثر من عامين، علقا فيها بتلقائية على
هيئات الناس وأنواع الكلاب، وماركات السيارات وجمال طراز المباني "الهوسمانية - Haussmanniens "، وتبادلا فيها الآراء حول مفاهيم العدالة والديمقراطية والحرية،
وتوافق الأبراج وانسجام الأرواح، والحب والسعادة الزوجية.
من خطواته
المضطربة، أحست باستعجاله، فأصابها غمٌ كسف ابتسامتها مع استشعارها بأنه سيخذلها
اليوم أيضًا. ولما أحس هو بتغيير طاقتها، وهم بالتبرير ليطمئنها بأنه سيظل يشاق إليها
ويتألم بسبب بعده ومسؤولياته الأخرى التي تشغله عنها، أخرسته نظرتها
الكسيرة، الناضحة عتابًا وأشواقًا عقدت لسانه، ورمته في معاناة وتمزقٍ بين قلبٍ
يتضرع وعقل تنهشه الأفكار المخوفة من الغد.
وأخذ يتلفت حوله، ليتشاغل عن شعوره بالعجز،
ويحدق في وجوه البارسيين السائرين
كآلاتٍ يحملون في طياتهم أشباح حياة وهم يهرولون، كلٌ يغني
على ليلاه: هذا يحمل خبزًا تحت ابطه ويشتم زوجته في هاتفه النقال، وذاك ينزه كلبه
"الكانيش" الأبيض، وأولئك
يتسكعون برفقة أطفالهم، وتلك تركض بملابس رياضية صفراء
مثيرة.
ولم
يخرجه من شروده، إلا اشتداد ضغطة يدها على يده لتسحبه نحو الرصيف، وتمنع تقدمه نحو
الشارع الذي أراد عبوره رغم إشارة مرور المشاة الحمراء، وازعاج احتكاك إطارات
السيارة "البيجو" بعد أن ضغط سائقها على الفرامل بقوة ليتفادى
صدمه.
فتراجع وتسمر مكانه، ثم التفت نحوها ليجدها تحدق
فيه بحزنٍ وقلق. فبادلها النظرات والتنهدات وهم بالاعتذار عن شروده.
لكن
في اللحظة التي فتح فمه، حركت هي شفتيها، فتوقف ليترك لها مبادرة كسر الصمت. وظلا برهة كلٌ منهما يطالع الآخر بصمتٍ مهيب.
كانت
ستتوسل:
-
قبل أن
تتركني أتجرع ألم الفراق، ككل مرة بعد رحيلك، دعني أنظر اليك اليوم دقيقة إضافية
من دون أن تكون مستعجلاً!
وكان
سيعتذر بعد قراءة العتاب في مقلتيها:
-
سامحيني
وصدقيني بأنه ليس معي أحد إلا أنتِ! ولكنك يا عزيزتي أتيتِ في زمان سُلبت فيه إرادتي،
وصرت مكبلاً بقيود اجتماعية، وأنا الذي قبل عشر سنوات، كنت أقسم بتغيير العالم.
فكرت
هي، وأثنت نفسها:
-
لا جدوى
من تأجيل جرعة الألم دقيقة إضافية، ما دام أن قلبي، في كل الأحوال، على موعدٍ مع
الرقص على رائحة النزيف.
وفهم
هو انسحابها، وأدرك بأنه لن ينجح في مداواة نتوءات الحرمان في عيني أصدق من عرف من
النساء، وأعز من عشق قلبه. فأشاح بوجهه عنها لتقع
عينه على عاشقين يتبادلان
القبلات الحارة، لتراوده فكرة أن يفعل مثلهما ويأخذها في حضنه علها تسامحه على تلك
المساحة الشاسعة بينهما.
وفجأة جاءته فكرة أخرى، تغريه أن يتناسى مهمة الذهاب
لمحل "دَاغْتي-Darty" لشراء خلاطة "المونوكليس"، ليرافقها إلى شقتها
الصغيرة في حي
"بيل-ڤـيل -Belleville"، التي لم يدخلها منذ أكثر من شهرين. وأخذ يحلم بقضاء بقية الأمسية معها بهدوء بعيدًا عن صغب الشوارع والاحتجاجات، ليستمتع بدندنتها لأحد اغنيات مطربيها المفضلين (عبد الحليم
حافظ وفرانك سيناترا وجورج وسوف ومحمد قنديل وإلهام المدفعي، أو شارل أزنافور) اثناء تحضيرها للعشاء الذي يحبه (شرائح سمك
السلمون والبروكلي بالفرن)، قبل
أن يهنآ بليلة رومانسية ينسيهما أمانها مخاوف السنوات الماضية والقادمة، فيستيقظا
متأخرين في صباح غدٍ الأحد ويخرجا لتناول الإفطار في أحد القهاوي المطلة على مطاعم
اليهود التونسيين المنتشرة على الشارع الرئيسي، ليستمتعا برؤية حركة الحياة تدب في
حي "بِيلْـڤِـيل-Bellevile" الشعبي، حيث تسكن أكبر جالية صينية في
باريس، ليعلقا من
جديد على غرابة تلك الجالية المنغلقة على نفسها، التي تعمل بنشاط نحلٍ، لا يشبه إلا
نشاط الجالية الهندية المتمركزة في الدائرة العاشرة بجوار محطة الشمال "Gare du nord".
كانا كثيرًا ما يتناقشان حول
اندماج الجاليات الأجنبية في المجتمع الفرنسي، ويخرجان بنفس النتيجة: أكثر جاليتين
ترهقان خزينة الدولة هما الجالية العربية والجالية الأفريقية دون أن يفهما سبب
تكاسلهما واعتمادهما على الإعانات الاجتماعية طوال الوقت، والإصرار على تضييع
الوقت أمام التلفاز، أو في أشياء أخرى، ثم تجديد الشكوى من العنصرية.
تمنى أن يرافقها ليستعيد معها كل
تلك اللحظات وتلك الحوارات، لينسى قساوة الروتين في حياته.
لكن هيهات
هيهات.
فأمنياته لن
تتحقق وهو يتوقع في أي لحظة أن تتصل به زوجته الأولى لتسأله إن كان قد وجد الخلاطة في محل "داغْتي-Darty "
بساحة "الجمهورية". فبلع ريقه لانزال الغصة، وقتل أمنياته في مهدها،
مخرسًا ضميره لكيلا يتذكر خذلانه المستمر لفتاة تزوجها على سنة الله ورسوله، وعجز
عن إعلان زواجه بها، ليس فقط خوفًا من شراسة زوجته الأولى ووالدها الواصل، ولكن
أيضًا من عقاب القانون الذي يمنع التعدد، والذي قد يرمي به خارج الحدود ليعيده إلى
وطنه أرض الحروب والنزاعات القبلية، إذا ما ثبت انتهاكه لقوانين علمانية فرنسا.
وتشاغل عن ألمه بمراقبة بشرٍ يسيرون مسرعين على
جانب الطريق في اتجاه شارع "جْيُول فيغي-Jules Ferry". ثم
أغمض عينه برهة ليرى من ورائهما ذكرى لقائهما الأول في ساحة "بلاس دي فوج-Place des Vosges".
ذلك اليوم حكت له عن ذكريات طفولتها في قرية
"ميت بدر حلاة"، في ضواحي مدينة المنصورة شمال القاهرة. وحكى لها عن
طفولته في قرية "الحمائر" بالقرب من مدينة "تّعِز" جنوب
العاصمة صنعاء. ثم اكتشفا تشابه مصائرهما: طفولةٌ مميزةٌ في
قريةٍ هادئةٍ بجوار جدة حنونة تثري بحكايتها وسط حيوانات أليفة من دجاجٍ
وأرانبٍ وماعز ونعاج، ثم نبوغٌ في الدراسة مهد للحصول على منحة السفارة الفرنسية، ثم
دراسةٌ ثم تدريسٌ في مدرسة "الإزيت-Isit" للترجمة
بجامعة السربون، ثم أحلامٌ تتحدى المسافات والقارات وتطير وراء شلالات
"نيجارا" جنوب كندا ومضيق "ماجلان" جنوب شيلي.
في ذلك
اليوم، اكتشفا أيضًا تشابه هوايتهما: عشقهما لعبد الحليم حافظ وفرانك سيناترا
وجورج وسوف ومحمد قنديل وإلهام المدفعي وشارل أزنافور. وحبهما لأكلات شعبية من مختلف
أنحاء الوطن العربي، يتقنان طبخها ولا يملان من أكلها يوميًا (الكشري المصري، والسَّلْتة
اليمينة، والدولمة العراقية، والكبسة السعودية، والتبولة اللبنانية، والكِبة
السورية، والأموش الكويتية، والويكة السودانية، وكسكسي شمال افريقيا).
في ذلك اليوم
انبهرا من تطابق آراءهما حول الفن التشكيلي والسياسة، ومن عشقهما لشخصية جمال عبد
الناصر والاتفاق في تشبيه دوره في القومية العربية بدور سيمون بوليفار، القائد
الفنزويلي، الذي ساهم في تحرير الكثير من دول أمريكا اللاتينية من الاستعمار
الاسباني.
في ذلك
المساء الصيفي، وعلى ممرات ساحة "بلاس دي فوج" تناقشا حول اللوحات
المنتشرة على الغاليري وعن جمال الرسم بالألوان الزيتية وبألوان الإكريليك وعن
فنون الفن التشكيلي، وتبادلا الاعجاب بتقليدٍ بديعٍ بأقلام الرصاص يحاكي لوحات
عالمية كلوحة "الرجل الفيتروفي" للإيطالي ليوناردو دافنشي، ولوحة
"الزرافة المحترقة" للإسباني سلفادور دالي، ولوحة "عند بوابة
الخلود" للهولندي فان خوخ.
وعندما ستتكرر لقاءاتها في هذه الساحة الناضحة بالفن،
وتشتعل شرارة الحب بينهما، سيجدان أفكارًا خلاقة لتتويج حبها بحفل زواج بسيط
سيتشاركان فرحته بحضور شاهدين فقط، وجارة واحدة من أصولٍ جزائرية، قبل أن تتطور
أحلامها ويبدأ في التفكير بجدية في كيفية ايجاد عشٌ زوجي أوسع يجمعهما معًا ويعرفه
الجميع، فيغنيها سرقة الأوقات تكاسلاً في أرائك المقاهي، أو تنزهًا على كورنيش نهر
السين تحت "برج إيفيل"، أو تسكعًا في شارع الشانزليزيه لتذكر أغنية
"جو داسان- Joe Dassin" التي تحمل اسم أشهر شارع
في باريس "شانزليزيه" أثناء تفرسهما في واجهات مقاهيه المزدحمة بعرب الخليج، أو في الحدائق العامة وسط صرخات ولعب الأطفال
الفرحين بتحريرهم من يومٍ دراسي طويل.
ألمٌ فظيعٌ داهم صدره، وهو يستشعر ضعفه وجبنه، بسبب
الثقة التي أعطته إياه وعجز في أن يكون محلها، لينصفها ويعطيها حقوقها كزوجةٍ
شرعية تُلي القرآن على رباطهما ليعمق قدسية حبها له وعاطفتها الجياشة تجاهه
وليضاعف فرحتها بتلك المراسم البسيطة.
بألمٍ، غاص في نظرتها المُشككة المُحبَطة الحزينة. وفهم
ألا جدوى من الاعتذار لأن عذره سيكون أقبح من ذنبه، ولن يلقى قبولًا في نفس زوجته
الحبيبة التي كم أشبعها إحباطات خلال العامين الماضيين، منذ اقترانهما ببعض.
فلاذ بالصمت، ولاذت هي.
وخفض بصره إلى الأرض، وقلدته هي.
وفي نفس اللحظة، بلع كلٌ منهما ريقه ليخفف من مرارة
الغصة.
وتناغمت زفراتهما الحارة المتألمة.
وبينما قرص الشمس يتسلل من بين السحب الكثيفة، راكضًا
نحو الأفق، قفلا راجعين نحو ساحة الجمهورية، لينفذ هو المهمة التي كفلته بها
زوجته الأولى، ولكي تبحث هي في داخلها عن إيجاد عذر له يغفر له خذلانها من جديد،
لحين أن تعود للبيت لتملأ وحشة الليل بقراءة رسائلهما القديمة.
واصلا السير بصمتٍ مستحٍ وآمالٍ مكلومةٍ، ثم افترقا
ليواجه كل منهما أنشودة ألمه المعهودة.
تسنيم
باريس/ 2 فبراير 2019
15:44
***-**
اللوحة للفنانة البولندية/ تمارا دي لامبيكا
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق