منذ طفولته التي قضاها في مدينة الفاشِر، وهو لا يهاب
المغامرات والتحديات، بل يعشقها ويسعى إليها، غير آبهٍ للرضوض والجروح والكدمات،
التي تصيب مواضع شتى في جسده النحيل، بسبب مؤامرات زملائه الذين كانوا ينتقمون من
هزائمه لهم، بمغافلته ودفعه من علوٍ، ليهوي ساقطًا مرتطمًا بجزع الشجرة.
ورغم توبيخ أمه له، واشباعها إياه ضربًا في كل مرة
يأتيها متورم الجبهة أو ملتوي الساق، لحنثه بقسمه لها بعدم اللعب مع أولئك الصبية
الغيورين، كان يرجع ليتسلى بخلق مغامراتٍ وتحدياتٍ جديدة، لينتشي بكسب رهاناته
واحراز المركز الأول في الوصول إلى قمة شجرة الباوباب العتيقة.
وحتى بعدما كبر واشتد عوده، ودخل المدرسة الثانوية وتخرج
منها بتفوق ظل يحن للتحديات ولتسلق الأشجار. ولما سافر إلى العاصمة للدراسة، لم
يفارقه ذلك الطبع المتأصل في روحه من عشق للمغامرات، والتسابق لإحراز المركز
الأول، رغم عدم وجود أشجار باوباب (تبلدي) أو رمال كثيفة للتسلية واللهو، بل
تحديات وصعوبات للاندماج في مجتمعٍ جديدٍ، وتنافس على التميز أمام طلابٍ أخرين
قدموا مثله، من مدن السودان المختلفة ليشاركوه دراسة الآداب في جامعة الخرطوم.
لكن الطفل المنطلق الذي صار رجلًا، اكتشف نوعًا آخر من
المغامرات والتحدي أضافت لحياته قيمة وطعمًا جديدين، لتحل محل نشوته بتسلق الشجرة،
متعة انغماسه في مياه "النيل الأبيض"، وانبهاره به وبأخيه
"الأزرق" الذي يلاقيه عند المقرن في الخرطوم، غير بعيدٍ من مكان سباحته
الأسبوعية تحت "جسر الفتيحاب" بأم درمان.
وفي كل مرة كان ينسلُّ منتعشًا مبتلًا من مياه النهر،
كان يتمنى لو يجلب أمه لترى شسوع رقة المياه في العاصمة، لتشاركه الانبهار بما لا
يملكونه في غرب السودان، حيث لا
مصدر للمياه إلا مياه الأمطار ومياه الآبار الجوفية.
لكن سباحته الهادئة تلك لم تكن كافية لكي تحقق له فوزًا
ساحقًا أمام أصدقائه أثناء رحلتهم إلى "جبل أَوْلِياء"، ليوشك أن يموت
غرقًا، بسبب تهوره ورميه بنفسه تقليدًا للآخرين، في وسط بحيرة الخزان.
وبينما كان أصدقاءه يصرخون في أذنه ليعدوه إلى كامل
وعيه " تاج الدين؟"، ويضغطون على صدره ليخلصوه من
بقايا المياه التي ابتعلها، كان يتساءل بمن يستعين حتى يصبح سباحًا ماهرًا.
وبعد أسبوع، كان قد سجل في مسبح "البَرَكْسْ"
على بعد خطوات من الجامعة، ليظل يواظب على ارتياده سرًا، مرتين في الأسبوع لتلقي
الدروس، ليدخر المفاجأة للرحلة القادمة، مقسمًا أن يتعلم السباحة على أصولها،
ويتقن مختلف أنواعها ابتداءً من سباحة الصدر فسباحة الظهر، ثم سباحة الفراشة،
وانتهاءً بالسباحة الحرة.
وفي الرحلة التالية، التي نُظمت إلى جزيرة توتي، وعندما
حذره الزملاء من إعادة مشهد التهور السابق، طمأنهم وسار حافيًا مجموعة أمتار على
الرمال الدافئة، ليقترب من فتيات منهمكاتٍ في شواء النقانق "السجوك" على
الفحم، متصنعًا أنه سيساعدهن ليظل يراقب من بعيد سباق الشبان قبل أن يرموا بأنفسهم
في مياه النيل الأزرق.
وهنا ابتسم بمكرٍ لاستشعاره اقتراب موعد تنفيذ الخطة التي
خبأها منذ أشهر، لمفاجأة أصدقائه. فما أن اختفت أجساد الشباب في المياه، حتى اندفع
جاريًا كالسهم، متخلصًا من ملابسه في ثوان قبل أن يرمي بنفسه في الماء.
وبينما الفتيات يصرخن بهلعٍ، ورؤوس الشبان تشرئب من
المياه، كان تاج الدين، قد عبر النهر سباحة حتى الضفة الشرقية، ووقف على رمال
الشاطئ المقابل في "حِلَّة حَمَد" ليلوح لهم بيديه، قبل أن يرمي بنفسه
من جديد في المياه ويعيد الكرة عائدًا إليهم في الضفة الغربية بسرعة دلفين ليكون
قد انجز تلك الجولتين في مدة لم تتجاوز العشرين دقيقة.
في ذلك اليوم، ولأول مرة، انتبهت نُسَيْبَة، أجمل وأذكى
فتاة في الكلية، لجمال عينيه الحالمتين الثاقبتين، اللتان اصابتاها في مقتلٍ،
دافعاتٍ بها للتساؤل كيف لغيرتها الماضية، طوال عامين من الدراسة سويًا، أن تمثل
حجابًا أماما عينيها، انقشع اليوم لترى في زميلها، الشاب الحالم القادم من مدينة
السطلان على دينار، صورة فارسٍ مقدامٍ يعتلي صهوة حصان أبيض، يسول لها التحليق معه
نحو أفاقٍ بلا حدود.
لكن ولأنها لم تتعود أن تعيره نظرة اهتمامٍ في الماضي،
وجدت صعوبة في أن تفعل مثل الأصدقاء، وتتقدم لتقترب منه أكثر لتسأله من أين له بكل
تلك المهارات، لتمدح خفته التي جعلت الجميع يتصورن بأنهم يشاهدون مشهدًا من مشاهد
الألعاب الأولمبية.
فقد كانت طوال الوقت تعتبره غريمها الأول،
لمنافسته لها احراز أعلى الدرجات في مواد الشعر والأدب والفلسفة، والتحدث بطلاقة
باللغتين الفرنسية والانجليزية، وبدون
لكنةٍ وكأنه بلبل يشدو على فننٍ.
ولكيلا تنزل، المغرورة بذكائها وجمالها، من
علياء كبريائها، اتخذتْ حجة دعوة الأصدقاء على زواج أخيها الشهر القادم، وانتهزت
الفرصة لأن تقف وقتًا أطول من المعهود لتتأمل ملامح الشاب الرقيقة ونظرته الثاقبة.
وبعد شهرٍ، من رحلة "توتي"، لبى تاج
الدين دعوة زميلته، ليس فقط لأنه لمح في عينها الواسعتين كفناجين القهوة، بريق
اهتمامٍ جديد بشخصه، ولكن أيضًا حتى ينتهز فرصة اكتشاف بقعة جديدة من بقاع الوطن،
تختلف في طقسها وعاداتها وتقاليدها عما تعود عليه في دارفور بغرب السودان.
وهناك في الشمال، بالقرب من جنائن المانجو التي أذاعت من
صيت مدينة شَنْدِي، تلقى نوعًا آخر من المفاجآت لم يكن ليتخيل أن يراه بأم عينه في
يوم من الأيام: عادة البطان.
وقف تاج الدين مبهورًا يطالع بذهولٍ شبابًا مصطفين عراة
الظهور، متلهفين لاستقبال ضربات السياط المجدولة من جلد البقر، التي ما أن تهوي
على ظهر أحدهم حتى تتفصد منها الدماء كتفصد حبيبات العرق على الجبين.
في البداية، أغمض عينيه تجنبًا للألم وهو يتخيل أن وقع
تلك الضربات على ظهره. وعندما فتحهما وجد زميلته المغرورة بجمالها، تطالعه
بفناجين واسعة، راسمةً على شفتيها الرقيقتين ابتسامة تحدي كأنها تقول له بأنه لن
يستطيع خوض معركة مثل تلك، لأنها ليست كقطع النيل الأزرق سباحة بين توتي وحلة حمد
في اقل من عشرين دقيقة.
وتذكر أنه يعرف تلك النظرة، التي كم تجرع مرارتها من
زميلته عندما كانت ترمقه بها في كل مرة كان يصفق له زملائه في قاعة الدراسة بعد
تقديمه لسمنارٍ عن مقارنة بين مسرحية لشكسبير ورواية لفكتور هوغو، أو مقارنة بين
مقولتين فلسفيتين، كـ" أنا أفكر إذا أنا موجود" لديكارت أو
"أكون أو لا أكون" لشكسبير، تشعل نقاشًا متحمسًا بين الطلاب.
ثبت تاج الدين نظرته في عيني زميلته وتقدم بثقة نحو
الدائرة، وعرى ظهره وهو يتلفت حوله ويتساءل كيف سيصمد أمام نظرات كل تلك الوجوه
أمامه.
لكن ما أن هوى "سوط العنج" على ظهره
العاري، حتى خرج من تساؤلاته منتفضًا وناطًا في الهواء ككيس خفيف عبثت به الريح في
يوم عاصف. وكاد أن يجري لكي يخفي شعوره بالألم واحساسه بالعار. لكن ما
أن وصل على أسماعه قهقهة زميلته الساخرة، حتى جعله الشعور بالخزي يستعيد روح
التحدي القديمة فيه التي لم تكن تمنعه من تسلق شجرة الباوباب وهو طفل، وتلقي
الكدمات والرضوض عند غدر اقرانه الغيورين منه به، وتلقي عقاب أمه الشديد لعدم سماع
نصائحها.
فتقدم مرة أخرى نحو الدائرة، يتبختر كطاؤوس ويستمد
شجاعته من نظرة زميلته المتحدية في الجهة المقابلة. ولم يصدق أنه قد نجح
بالفعل واثبت شجاعته كبقية الشباب الشجعان أصحاب الظهور الدامية، إلا عندما أطلقت
النساء الزغاريد، واقترب منه والد العريس فرحًا بشاعته، وبكونه حلَّ عليهم ضيفًا
ليشاركهم افراحهم، قبل أن يقدمه للجميع ويعرفهم به بأنه ابن حضارة الفاشر ومدينة
السلطان علي دينار.
واسترسل والد العريس، في مدح السلطان وأشاد
بشجاعته وبكرمه لالتزامه مدة عشرين عامًا، بإرسال القوافل إلى الأراضي المقدسة
تحمل كسوة الكعبة ومؤن الحجاج، بعد تعطيل الانجليز للقافلة التي كانت تذهب إلى مكة
عبر مصر.
وبلع والد العريس ريقه وضربه على كتفه، ثم واصل ليحكي
للجموع أمامه، كيف أن السلطان قد اظهر نوعًا آخر من الشجاعة عندما وقف بصلابة
بجوار الخلافة الاسلامية المتمثلة في الدولة العثمانية، والتزم بمساعدتها ضد
البريطانيين خلال الحرب العالمية الأولى. وبعد انتهائه من كلامه، سأل زميل
ابنته كيف بإمكانه أن يرد الجميل، ليس فقط لتلبيته دعوة حضور زواج ابنه
الوحيد، ولكن أيضا لمشاركته في عادة البطان، أحد عادات قبيلة الجعليين القاسية.
فالتفت تاج الدين يقلب عينه الحوراءين وسط الجموع،
إلى أن التقتا بنظرة زميلته، التي ما تزال تحتفظ بابتسامة فخرٍ هذه المرة، لا
ابتسامة تحدي أو شماتة. ثم عاد ينظر على وجه والدها، ليحس بأنه قد لمح ما دار
بينه وبين ابنته من نظرات، فبلع ريقه بارتباكٍ ليبدي رغبته في تذوق جميع أنواع
المانجو التي تنمو في هذه الجنائن المجاورة. فضرب والد العريس على كتفه الشاب
بحماسٍ وقال: وهو كذلك، بل وستحمل معك عندما تعود إلى العاصمة ما يكفيك من المانجو
ومن الليمون ايضًا. فشكره، واهداه ابتسامة رضى، ثم تنحنح مترددًا قبل أن يصرح بأن
لديه طلبًا آخرًا، يعشم أن يشمله كرم مضيفه. فرد والد العريس بسرعة: "أبشِر،
طلبك مُجاب".
وساد صمت طويلٌ، تعلقت فيه الأنظار بوجه الشاب النابض
بالأمل المملوء بالرجاء، الذي ما أن أفصح ليبدي رغبته بطلب يد زميلته، لمصاهرة ذلك
الرجل الذي أكرمه بمدح بلاده وسلطانها، حتى انكتمت الانفاس في انتظار رد والد
العريس، الذي ما أن تطلع لوجه ابنته ووجدها تبتسم، حتى هرع يعانق الشاب النحيل،
لتملأ الزغاريد الأجواء.
وهكذا نجحت خطة نُسَيْبَة دون أن تتخلى عن كبريائها،
لتبوح له بوقوعها في حبه ذلك اليوم على رمال "توتي"، يوم أصابها
سهم كيوبيد.
وتلك هي الحكاية التي ستقصها على زوجها، أثناء رحلة شهر العسل، عندما سترافقه إلى بريطانيا بعد احرازه المركز الأول على الدفعة والحصول على مِنحة الجامعة، قبل أن تعترف له بأنها لا تشعر بالهزيمة أمامه هذه المرة، بعد تحقيقها لفوزين عليه: مرة عندما تزوجت به لتجمع بين الباوباب والمانجو بحيل وكيد النساء، ومرة ثانية عندما تمكنت من اقتسام منحته الدراسية، والطيران معه لمدينة الضباب.
****
ربنا يوفق
ردحذف