الخميس، 18 مارس 2021

ربما يعطون الشيطان مستحقاته: نص غير منشور للطيب صالح

ترجمة حسين مصدّق 



 في العام 2003 ظهرت رواية الطيب صالح "موسم الهجرة الى الشمال" للمرة الثانية في لندن عن دار بنقوين للنشر(Penguin)، فكتب لها صالح تقديماً موجزاً تحدث فيه عن علاقته الجدلية بهذه الرواية وكيف انفصلت عنه مع مرور الزمن والتحولات السياسية. وفيما كنت بصدد الإشتغال على الدورالذي لعبه الطيب صالح في القسم العربي للبي بي سي (1) قرأت هذا التقديم، الذي بدا لي فيه من الطرافة الكثير، وربما أشياء أخرى لم نكن نعرفها عن الكاتب وروايته، بعضها قد يحدث بعض الإرتباك لدى الكثيرين.

المترجم

                                                                                      ***

عندما ظهرت روايتي "موسم الهجرة إلى الشمال" لأول مرة في سبتمبر 1966، شعرت بشيء من عدم الارتياح. كنت في الخرطوم في ذلك الوقت معارًا من طرف البي بي سي  للعمل لمدة ستة أشهر مع وزارة الإعلام السودانية. كان المناخ العام في الخرطوم في تلك الأيام مبهجًا، لأن الشعب السوداني قد أطاح للتو بالحكومة العسكرية للجنرال إبراهيم عبود في انتفاضة شعبية ملحوظةلم يكن هناك إراقة دماء، وقبل الجنرال عبود، الذي يحسب له قيامه على الفور بتسليم سلمي للحكومة إلى الأحزاب السياسية.

نتج عن التغيير طفرة كبيرة في الطاقات الفكرية ، سياسية وثقافية.  وسرعان ما برزت مجموعتان إلى الواجهة: الشيوعيون، الذين كانوا بالفعل قوة سياسية هائلة ، ليس لأن لديهم قاعدة شعبية واسعة ، ولكن لأنهم كانوا متضامنين بشكل وثيق، ومنظمين جيدًا وواضحين للغاية. المجموعة الثانية كانت تتمثل في الإسلاميين الذين بدأوا في الظهور كقوة سياسية صاعدة.  لم تجد أي من هاتين المجموعتين الرواية مطابقة لرغباتهم. كلاهما أدانها صراحة، ولكن لأسباب مختلفةأدانها الشيوعيون لأنها نشرت في مجلة أدبية صادرة من بيروت "حوار"، التي كان يتم تمويلها من قبل هيئة تسمى "مؤتمر الحرية الثقافية" والتي مولت أيضا المجلة الأدبية  (لقاء (Encounter في لندن.

اكتشف فيما بعد أن تلك المنظمة تم تمويلها سرا من قبل وكالة المخابرات المركزية الأمريكية. كان لدي بالفعل قصتان قصيرتان منشورتان في (Encounter) يضاف إلى ذلك أنني أشتغل في القسم العربي للبي بي سي، الناطقة بلسان الاستعمار البريطاني من وجهة نظر اليسار العربي. كل هذا من شأنه أن يجعلهم لا يكنّون لي شيئا من الود. كنت على علم بهذه المضاعفات، ومع ذلك فقد نشرت الرواية في مجلة حوار،وهي مجلة مشبوهة، بسبب إحساس بالتضامن مع صديق. رئيس تحرير جريدة حوار المرحوم توفيق الصايغ كان صديقاً عزيزاً لي وشاعراً فلسطينياً مرموقاً. أصبحنا أصدقاء عندما كنت أعمل في هيئة الإذاعة البريطانية في لندن وكان هو يدرّس اللغة العربية في كامبريدج. كنت قد وعدت بالفعل أن أعطيه الرواية لنشرها في مجلته. وبحلول الوقت الذي اكتملت فيه روايتي، أصبح توفيق الصايغ  شبه منبوذ بين المثقفين في العالم العربي حيث كانت الحماسة القومية في أوجها في المنطقة.

ظهرت الرواية في العدد قبل الأخير من "حوار" لأنه بعد استقالة ستيفن سبند، رئيس تحرير مجلة (Encounter) والاعتداءات المستمرة على المجلة وضده شخصياً ، شعر توفيق صايغ أنه لا يستطيع الاستمرار. طوى المجلة وذهب للتدريس في بيركلي ، حيث توفي بعد ذلك ببضع سنوات.

ربما يكون من الجدير بالذكر أن أحد طلاب السيد صايغ في بيركلي كان الجنرال بيليد ، الذي ذهب بعد تقاعده من الجيش الإسرائيلي إلى بيركلي ليحضر درجة الدكتوراه في الأدب العربي. وقد أصبح أخيرًا أستاذًا للغة العربية في الجامعة العبرية بالقدس وناشطًا بارزًا في حركة السلام في إسرائيل.

لم أقابله أبدًا ولكن في إحدى زياراته إلى لندن ، أحضر لي السيد صايغ خطابًا لطيفا للغاية من الجنرال بيليد يعبر فيه عن إعجابه الكبير بعملي، خاصةً  "موسم الهجرة إلى الشمال". بعد بضع سنوات عندما كنت أعمل في اليونسكو في باريس ، تلقيت دعوة من البروفيسور محمد أركون، الباحث الفرنسي الجزائري المعروف، لتناول الغداء مع الجنرال في جامعة السوربون. يؤسفني جدا حتى يومنا هذا أنني لم أرد على رسالته ولم أتمكن من مقابلته مع الأستاذ أركون.

على الرغم من احتدام الأجواء الثقافية والسياسية في السودان عام 1966، عندما ظهرت الرواية لأول مرة ، لم يتم حظرها. لقد استغرق الأمر أكثر من خمسة وعشرين عامًا حتى يتم حظرها من قبل النظام الحالي (نظام عمر البشير). لكن في عام 1967 حدثت الهزيمة العسكرية الساحقة التي ألحقتها إسرائيل بالعرب فهزّت أشياء كثيرة، من بينها الإيمان والأيديولوجيات السياسية الحالية إذ بدأ المزيد  من الناس في التساؤل والتعبير عن شكوكهم علانية.

لسبب ما، تم دمج عملي في عملية الاستجواب الفكري هذه. بدأ الناس يرون في الرواية أشياء معيّنة لم يروها من قبل أو لم يهتموا برؤيتها. يبدو أن الإحساس الكامن باليأس والكآبة في الرواية قد تزامن مع المزاج العام لليأس في الإنتلجنسيا العربية في كل مكان، وخاصة في مصر.                  

هناك  ناقد مصري بارز وشجاع، هورجاء النقاش، كان قد تجاهل الاتهام القائل بأن الرواية ظهرت في مطبوعة ممولة من وكالة المخابرات المركزية، وكتب مقالاً بالغ الثناء في مجلة أسبوعية واسعة الانتشار. بعد ذلك بوقت قصير ، ظهر العمل في شكل كتاب، مما أثار ذعرًا كبيرًا لدى المؤسسة الدينية التي هاجمته في المساجد على أنه كتاب "فاسد" ويعتبر "إهانة للدين" و "إباحيّ" بالفعل. كانت الضجة في مثل هذا الحد لدرجة أن وزارة الإعلام المصرية، التي كانت الناشر، قامت بسحب الكتاب من المكتبات. لكن العديد من النسخ كان قد تم بيعها.

ظلت الرواية ممنوعة في مصر قرابة ثلاثين عامًا، حتى ما قبل ثلاث سنوات ، عندما أعادت مؤسسة الكتاب المحترمة، وهي أحد فروع وزارة الثقافة، نشرها. قاموا بإنتاجها في إصدار منخفض السعر من مائة ألف نسخة وبيعت في غضون أيام.

كانت دار نشر رائدة في بيروت (دار العودة) تنشر روايتي منذ عام 1970. ووزع الناشر مئات الآلاف من النسخ في جميع أنحاء العالم العربي. (وتلك هي حالة النشر في العالم العربي لدرجة أن ذلك الناشر لم يرى أنه من الضروري أن يدفع للكاتب أي حقوق للتأليف). صحيح أنني أصبحت معروفاً في كل مكان ولكن بالطبع لا عزاء لكاتب في شهرة دون مقابل.

وهكذا استمر الكتاب في طريقه ، كما تفعل الكتب ، منفصلا عني تقريبًا. يتم حظره من وقت لآخر في هذا البلد أو ذاك وبعد ذلك يتم إلغاء حظره وهو محظور بشكل دائم في جميع دول الخليج. إنه محبوب ومكروه ومهاجم وممدوح. يتم تدريسه في الجامعات وتكتب عنه أطروحات الماجستير والدكتوراه . من البديهي أن يجعلني ذلك النجاح الذي تحققه روايتي سعيدًا وهذا ما يفعله بطريقة ما.

 الترجمة هي قصة أخرى مثيرة للاهتمام - تمت ترجمتها على نطاق واسع إلى عشرين لغة حتى الآن. كانت الترجمة الأولى إلى الإنجليزية من العربية ، بقلم عميد المترجمين ، دينيس جونسون ديفيز. ظهرت في كتب هاينمان التعليمية بعد وقت قصير من نشرها باللغة العربية. لذلك يجب أن أشكر جهود Denys) Johnson-Davies للترويج للرواية التي تجاوزت واجبه كمترجم ، وكيث سامبروك وجيمس كوري اللذان كانا مسؤولين عن سلسلة الكتّاب الأفارقة التيكانت تنشرها دار (Heinemann) في ذلك الوقت.

قوبلت الرواية ببرود عندما ظهرت لأول مرة في لندن وكان هناك بعض التقديمات القصيرة. أتذكر منها تقديما سيئًا ومحتقرًا بشكل خاص في الملحق الأدبي لصحيفة التايمز، والذي نقد صاحبه الرواية بغطرسة ووصفها بأنها "عرضيّة'' (episodic) وتلك حسب رأيه نقطة ضعف شائعة في كل الكتابات العربية. كان أداؤها أفضل بكثير في الترجمة الفرنسية التي صدرت بعد فترة وجيزة من الترجمة الإنجليزية. كان لها مقدمة سخية من قبل المستعرب المرموق ، الراحل جاك بيرك، من مؤسّسة (Collège de France) المرموقة. وكان هناك مراجعات مميزة للغاية في معظم الصحف الكبرى.

 السيد فرانسوا مورياك كتب "لم نقرأ شيئًا كهذا من قبل، نحن الذين قرأنا كل شيء". وهو ما جعلني أتساءل كيف أن رواية توصف في لندن بأنها تافهة للغاية ويقع الترحيب بها بمثل هذه العبارات المتوهجة في باريس! (2)

أما المترجم الروسي فقد إتصل بي شخصيًا ليخبرني أنهم طبعوا مليون نسخة من الكتاب، مما جعلني سعيدًا للغاية بطبيعة الحال إلى أن تابع ذلك بالقول إنه للأسف لن يتم تقديم أي عائدات لأنهم لم يكونوا (في ذلك الوقت) من الممضين على اتفاقية برن بشأن حقوق النشروالتأليف.

وفي خصوص الترجمة العبرية، كما أخبرني الناشر في رسالة ، كانت الرواية من أكثر الكتب مبيعًا. لقد قاموا بنشرها بدون إذن، وعلى الرغم من أنهم عرضوا التدارك بعد ذلك، إلا أنني لم أتابع الأمر لأن الشروط المعروضة صدمتني ولم تكن مرضية تمامًا. لكنني كنت سعيدًا جدًا لظهورها بالعبرية. فكرت، ربّما، حتى ولو بحيزّ صغير جدًا، أنني قد قد ساهمت في قضية السلام بين العرب والإسرائيليين. لاقت الترجمة الألمانية استحسانًا كبيرًا. ليس لدي أي فكرة عن المصير الذي لاقته في الصين أو اليابان، و في حقيقة الأمر، ولا في أي دولة من دول أوروبا الشرقية. لسبب ما، سارعوا جميعًا لنشر الرواية. الآن بعد أن أصبحوا رأسماليين، ربما يعطون الشيطان مستحقاته!

 لكنني لست بصدد التشكي.. صحيح أنني جنيت القليل جدًا من المال من هذه الرواية أو أي من أعمالي الأخرى، سواء باللغة العربية أو أي ترجمة باستثناء القليل من هاينمان ومن لينوس، ناشري الألماني، أو من ناشري الفرنسي ''سندباد''. لكنني شعرت بسعادة كبيرة من نواحٍ عديدة أخرى، لأن كتبي جلبت لي العديد من الأصدقاء من جميع أنحاء العالم. أخبرتني سيدة فرنسية لطيفة ذات مرة أنها التقطت الكتاب بالصدفة من مكتبة باريسيّة. بدأت تقرأه في المترو وأصبحت منشغلة للغاية لدرجة محطتها قد فاتتها، وتلك مجاملة رائعة حقًا لأي كاتب. الآن ها أن (Penguin) تنشرالرواية وها أني ولأول مرة يكون لي في شخص المسّز كارولين داوني وكيلًا أدبيًا مهتمًا وفعالًا من PFD ، ربما سأبدأ في جني بعض الفوائد المادية من هذا السعي - الشاق وغير الموفّق فى كل الحالات-  ألا وهو الكتابة الروائية.

----------------------

(1)- Houcine Msaddek - BBC Arabic (1938-1995): Soft Power or Reithian Practice Abroad? 2021

https://doi.org/10.4000/rfcb.7056

 (2)- " تعقيب من المترجمعلى الأرجح أن الطيب صالح لم يطلع بصفة مباشرة على مقال مورياك فكان في ما نقل إليه خلط مورياك الأب و مورياك الإبن. والروائي الكبير فرانسوا مورياك توفي سنة 1970 أي عاما كاملا قبل صدور الترجمة الفرنسية لموسم الهجرة الى الشمال. والثابت أيضا أن كلود الولد الأكبر لمورياك، وهو كاتب معروف أيضا، كان قد نشر في صحيفة لوموند المسائية مقالا حول الرواية عند صدورها مترجمة عن دار ''سندباد للنشر'' وقد أشارت صحيفة لوموند ديبلوماتيك بتاريخ ديسمبر 1996 إلى ذلك المقال بهذا الإستشهاد القصير:

"Un monde réel et magique à la fois, dont Claude Mauriac disait : "Notre âme est rafraîchie, nos yeux sont lavés, nous n’avons jamais lu cela, nous qui avons tant lu."

 

 **-**

نُشر في موقع  " صواب الراي" بتاريخ 3 مارس 2021

لقراءة المقال من مصدره:

https://sawaab-arraii.com/ar/rbma-ytwn-alshytan-msthqath-ns-ghyr-mnshwr-balrbyt-lltyb-salh

هناك تعليق واحد:

  1. عمل خالد، رائع بكل المقاييس.. مغرق فى محليته، متسع فى عالميته. قد يكون شعور القارئ الذى عاش فى أجواء قرى شمال السودان أشد عمقا من غيره. قرأتها أكثر من عشر مرات، وسأظل أقرأها كلما وجدتها أمامى.. فى كل مرة، أشعر أنى أقرأها أول مرة. رحمك الله يالطيب صالح.

    ردحذف