الاثنين، 1 مايو 2023

كإسْفَــنْـجَةٍ مُبَلَّلَةٍ بالصَّابُون (فَصْلٌ مِنْ رِواية)

بقلم / تسنيم طه


لما كان عمري تسع سنوات أُصِبتُ باكتئابٍ حادٍ، منعني من مواصلة العام الدراسي في المدرسة الإنجيلية بالخرطوم-بحري، حيث درستُ أربعة سنواتٍ بجوار أخي التوأم. فنقلني والدي في العام التالي لمدرسة كَمْبوني بأُمْدُرْمَانِ، رغم بعدها عن بيتنا؛ لتشهد بداية ذاك العام الدراس (1990-1991) تعرفي بصديق عمري.

فمنذ أن رأيته، ولاحظتُ وقفته المنكسرة، شعرتُ أن وراءه حزنًا يفوق حزني في ذلك الصباح. وظللتُ أراقبه طوال حصة الطابور الصباحي، التي ما أن انتهت بترديد جميع الطلاب (مسلمون ومسيحيون ولا دينيون) لصلاة "أبانا الذي في السماوات" وتوجههم ناحية الفصول، حتى تبعته بصمت وحذر. توقف عند مفترق الصفيين الرابع والخامس، وأخذ يدير رأسه بينهما بحركة مروحية ونظرةٍ عبوسةٍ. تشجعتُ وسألته إن كان طالبًا جديدًا، فهز رأسه بالإيجاب. ابتسمتُ وأوضحت له أنني أيضًا مثله؛ فلانت ملامحه بابتسامة خجولة، كانت مدخلًا لندرك في لحظات أن القدر قد رتب لقاءنا، وبأنها لم تكن محضُ صدفة أن يكون كلانا يسكن في حي "حِلَّة حَمَد" بالخرطوم-بَحْري ليأتي لإعادة الصف الرابع في مدرسة بحي "المَسَالمْة" بِأُمْدُرْمَانِ؛ بسبب اكتئابٍ أصابه العام الماضي: هو بعد غرق أخته التوأم في نهر النيل، وأنا بعد موت أخي التوأم إثر لدغة عقرب لم تمهله سوى ساعات قبل أن تسكنه المقابر.

أمسكنا بأيدينا وسرنا نحو الصف الرابع، لنتفاجأ قبل تجازنا عتبة الفصل، بمشاجرة بين طالبتين حول الجلوس في أحد المقاعد الأمامية. وقفنا مذهولين نراقب تحول الشجار إلى تنابز طال الألقاب والعقائد والأديان؛ ما أدى لتدخل الأساتذة.

-       نحن هنا أسرة واحدة، ويلزمنا حتى نعيش بسلام وننعم بجو مدرسي سليم معافى، أن نحترم اختلاف أعراقنا وعقائدنا؛ فالرب في ديننا المسيحي يقول: " لا تَدينوا لِئلاَّ تُدانوا، فكما تَدينونَ تُدانونَ، وبِما تكيلونَ يُكالُ لكُم. لماذا تَنظُرُ إلى القَشَّةِ في عَينِ أخيكَ، ولا تُبالي بالخَشَبَةِ في عَينِكَ؟ عاملوا الآخرين مثلما تريدون أن يعاملوكم، هذه هي خلاصة الشريعة وتعاليم الأنبياء"، وعليه، يجب علينا أن نحب بعضنا، لكي نعش في سلام!

أنهت مُدرسة التربية المسيحية توجيهها ثم أعطت الحديث لمُعلمة التربية الإسلامية:

-       وجودنا في فناء مدرسي واحد يحتم علينا احترام مقدسات الاخرين وشعائرهم الدينية والاعتراف بأن الاختلاف أمرٌ طبيعي. فالله تعالى يقول في القرآن: " وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً، وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ، إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ، وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ". وعليه، يُمنع منعًا باتًا الإساءة إلى أي ديانة أخري أو التحدث بصورة مستفزة عن الأديان؛ لأنه جميع الاديان السماوية مكملة لبعضها ولا يوجد دين أحسن من دين.

وبعد انصراف المعلمتين، التفتُ ناحية صديقي وسألته إن كان مسيحيًا، لشبه ملامحه بشعره الأسود الناعم النازل على كتفيه بملامح الاقباط. هز رأسه بالنفي؛ فصمتُ برهة ثم سألته بترددٍ إن كان اختلاف أدياننا لا يمنعنا من أن نصبح أصدقاء، فهز رأسه مرة أخرى. ابتسمتُ له بامتنان؛ فرد على ابتسامتي بمثلها؛ لتترفع الشامة في خده الأيمن؛ لتكون تلك اللحظة أول نسيج في خيوط في صداقتنا المتينة. 

منذ ذلك اليوم أصبحنا أنا ومعتز كالظل حتى أُطلق علينا "تيمان بَرْقوا الما بِتْفَرْقوا"[1].  في المدرسة نجلس متجاورين في المقاعد طوال مراحلنا الدراسية، وفي العصريات نلعب في نفس فريق كرة القدم، في الميدان التُّرابي بجوار مقابر "حِلَّة حَمَد".

 وبفضل صدقاتنا تعرفت أمي بأمه واصحبن يتبادلن الزيارات، ويترافقن في مناسبات سكان الحي الاجتماعية. وأصبح هو أخًا ثاني لأختي الوحيدة، كما أصبحتُ أخًا ثانٍ لأخته الصغرى تسابيح، التي ستصبح صَحَفِية لا يُشق لقلمها غبار، وستناقشني كثيرًا أثناء كتابة مقالتها الشجاعة الداعية لمحاربة ختان الإناث وتزويج القاصرات والشلوخ[2]، وغيرها من عادات المجتمع السوداني السلبية.

وقام معتز بالإشراف على كامل رتيبات زواجي من ابنة خالتي دميانة، التي كان يمازحني بها ويغني لي أغنية "لي في المسالمة غزال" منذ أن كنا أطفالاً في مدرسة كَمْبوني في كل مرة آخذه معي لزيارة خالتي الساكنة على بعد خطوات من مدرستنا في حي المسالمة، بدءًا من المراسم الدينية داخل كنيسة "ماري جرجس"، ثم الحفلة الراقصة في المكتبة القبطية بأُمْدُرْمَانِ، إلى أن أوصلني وعروسي إلى المطار رغم خطورة الشوارع في ذلك اليوم، الذي اندلعت فيه  أحداث شغب أرعبت سكان الخرطوم فور انتشار خبر وفاة الجنوبي "جُون قَرَنْق"، زعيم الحركة الشعبية لتحرير السودان والنائب الأول لرئيس جمهورية السودان قبل الانفصال، إثر تحطم مروحيته أثناء عودته من يوغندا.

بالتأكيد لم تخلو صداقتنا من شوائب لحظات عصيبة وتوترات، لكنها كانت تزول بسرعة بكلمة اعتذار صادقة تزيل سوء الفهم كما تزيل إسفنجة مبللة بالصابون الدهون عن أواني المطبخ.

أول مرة أراني فيها معتز غضبه الأسود، كانت لما أخذته معي إلى مدينة أجدادي سِنَّار، لنحتفل ببلوغنا سن العشرين مع جدتي، ولأَرُدَ له جميل اصطحابه لي لقرية جدته في غرب شندي قبلها بأسبوعين؛ في رحلة استمتعتُ بكل لحظة فيها: بدءً من الباص السياحي لما أبهرني بترديده المنسجم مع بقية ركاب الباص عند الوصول لمشارف شندي لأغنية "يلا شندي نزور الحبايب" التي لم أكن قد سمعتُ بها من قبل، مرورًا بانبهاري من كمية البشر متنوعي السحنات في محطة "مُشْرَع شَنْدِي"، ثم رعبي عند ركوبنا "البَنْطُون" ورؤية شاحنات ومركبات وأولئك البشر ودوابهم وحيواناتهم الداجنة ومشترياتهم البقولية والخضرية تزاحمنا في الصعود على تلك "العَبَّارة"، رعبًا دفعني لقضاء زمن الرحلة في الصلاة أتوسل العذراء ويسوع المسيح أن يوصلانا سالمين إلى الضفة الغربية في محطة "السَّيَّال".

لحسن الحظ توارى خوفي سريعًا وراء الانبهار باختلاف المناظر التي كانت تجري من خلف نافذة الباص مهترئ، الذي اقلنا من محطة "السَّيَّال" وقطع بنا فيافي من جبال حجرية وكثبان رملية قبل أن يوصلنا إلى قرية جدته.

وهناك، اكتمل ذهولي لما استوقفتنا جدته أمام الباب، واقسمت عليّ إلا أخطو عتبة البيت مالم تكرمني كما يجب، قبل أن تنادي على حفيد لها أتاها يهرول، ونفذ طلبها واختار أسمن خروف من الزريبة، وذبحه بحرفية لا تتناسب مع عمر غلامٍ في العاشرة.  مِلْتُ خلسة نحو صديقي وسألته ممازحًا إن كان نسب جدته يرجع لحاتم الطائي لتكرمني كل هذا الكرم، فسمعتني وأسرعت تجيبني بينما ابتسامة تضئ وجهها المستدير وشُلوخها العريضة، بأنني استحق أكثر من ذلك ما دمت صديق الحبيب ابن الحبيب. في هذه اللحظة، فهمتُ أن والد معتز أعز أبنائها، وأن ابنه الوحيد أقرب احفادها إلى قلبها، وبأنني منذ ذلك اليوم أصبحتُ فردًا من عائلتها بفضل صداقتي به. 

عبرتُ دم الخروف وتبعنا جدته إلى برندة المطبخ ثم جلسنا بجوارها على عنقريب [3]صغير لحين أن يجهز الطعام الذي سيشبه طعام مناسبات الأعراس وأعياد الأضاحي: أضلاع الخروف، و"شَيَّة الجَّمُر" و"أم فِتْفِتْ" بـ"الدَّكْوة" والشطة الخضراء والثوم والليمون. في هذه الأثناء، أثرتنا بقصصها التي لا تنتهي، وأنشدنا أبياتًا من قصيدة "مناحة الجَعَلِيِّين"، المكتوبة بواسطة بُرة بت ود اللمين، المؤرخة لـ "كَتْلة المَتَمة"[4]، التي أباد فيها محمود ود أحمد كثيرًا من أفراد أهلها من قبائل الجَعَلِيِّين، وأحرق قراهم وأجبر نسائهم لأن يرمين بأنفسهم في مياه النيل خشية السبي، وببقية رجالهم للتشتت في أرجاء السودان البعيدة، كما شتتهم وشردتهم من قبل حملات الدفتردار الانتقامية، عقابًا لملكهم "المَكْ نِمِر" بعد احراقه اسماعيل باشا في "شندي".  وبعد تخمتنا بالأكل اللذيذ وبحكايات جدته الشيقة، خرجنا لميدان القرية تحت الصهريج، لقضاء الأمسية مع شباب متلهفين للقائي، من كثرة ما حدثهم عني.

أثناء جلستنا تحت الصهريج، تطرق شاب مُلتحي لموضوع تفجيرات الحادي عشر من سبتمبر التي نفذها تنظيم القاعدة مؤخرًا على مبنى التجارة العالمي بنيويورك، ثم رفع من نبرته الجهورية وكأنه يوجه كلامه لي، بأن النصارى الكفار استحقوا هذا التأديب، وعرج إلى دفاع عن هجمات إرهابية أخرى شنها متطرفون في أفغانستان والعراق وباكستان والصومال وكينيا وتنزانيا وغيرها من بقاع العالم.

ولما أحس معتز بتوتري لما كرر الشاب الملتحي كلمة "نَصَارى كَفَرة"، عمد لتغيير الموضوع بسؤال الشباب عن مواسم جني المانجو والبرتقال وزراعة الفاصوليا والبصل، موضحًا رغبته في الاستثمار في الموسم القادم، عارضًا شراكته لمن يرغب.

تنفستُ الصعداء عندما انغمس الشاب الملتحي في حديث التجارة والاستثمارات الزراعية وحسابات عن جني الثروة بعد موسم الحصاد، وطردتُ إحساس الإهانة لديانتي المسيحية الذي اجتاحني قبل قليل، ورجعتُ أستمتع بجمال السمر تحت لألأة النجوم التي بددت شدة حلكة الظلام وأضفت رونقًا على قصص "البَعَّاتي" و"سحاحير ناوا"، و"تيراب البِنَيَّة" وغيرها من الحكايات الشعبية.

تلك الأمسية ستظل محفورة في ذاكرتي، لا بجمالها وحسب، بل لمشاعر الامتنان تجاه معتز لنجاحه تدارك موقف كاد يدفعني لإنفاذ غضبي في وجه الشاب الملتحي لأشبعه لطماً قبل أن أعود أدراجي إلى الخرطوم في ذلك الليل، سيفعل هو بعد أسبوعين ليتركني ألوك الندم والحياء أمام أصدقائي من شباب حي"تَكْتُوك" في سِنَّار.

من أجل تلك الذكريات الجميلة التي وشمت ذاكرتي، أخذتُ معتز جنوبًا إلى لزيارة جدتي سِنَّار، لأعرفه بأصدقائي هناك في حي "تَكْتُوك"، ولأتفاخر به أمامهم عندما يبهرهم ويشبع فضولهم سرد قصصه وحكاياته الشيقة عن الخرطوم والقاهرة الذي يعيش بينهما منذ نعومة أظافره، ليصف لهم بدقة الشوارع العريضة والبنايات العالية تنوع السكان، وخصوصًا جمال الفتيات اللاتي يرتدين البنطال ويرتدن مع الشباب دور السينما والسارح والحفلات الراقصة. كنتُ أتمنى أن أقدم لهم من خلاله صورة الشاب المنفتح على العالم المتسامح المُحب للجمال. وكادت ترتيباتي أن تنجح؛ لولا أن خذلني معتز باستسلامه لغضبه الأسود.

ذلك المساء، أثناء تناولنا لعشاء خفيف مع جدتي (جبنٌ ومخلل ومِش وفسيخ مشوي ببصل أخضر) مع جدتي، طلب منها معتز أن تخبره عن أعلام مدينة سِنَّار. فابتسمت له بحنان وحدثته عن الشيخ "فرح ود تَكْتُوك" ثم أنشدته بعض أبيات من قصيدته   التي بكى فيها سقوط الدولة السِّنارية ومملكة الفونج (السلطنة الزرقاء) في القرن السابع عشر، واستشهدت بإحدى مقولاته التي تنبأ فيها بتطور وسائل الاتصالات والنقل الحديث: "آخر الزمن الكلام بالخيوط والسفر بالبيوت". ولما طالبها المزيد، حثته على الخروج للسمر مع أصدقائي على أن تواصل قصصها في الصباح.

لكن هذا الصباح لم يأتِ. فأثناء جلستنا مع شباب حي"تَكْتُوك"، طُرح سؤال عن أكثر الممالك القديمة التي أثرت في تاريخ السودان. ساقني الحماس لافتراض أنها السلطنة الزرقاء، ودفعني لتدعيم كلامي بحجة: لولا اتحاد عمارة دُنْقُس وعبد الله جَمَّاع وتأسيس دولة الفُونْج في سِنَّار لما كان للمستعمر الإنجليزي أن يلملم أطرافه شمالاً وجنوباً وشرقاً وغرباً ليرسم الحدود في أطلس الجغرافيا. وجاء رد معتز أكثر حماسًا عند افتراضه أن مملكة كوش القديمة هي أكثر الممالك تأثيرًا من غيرها مضيفًا: لولا

رفض الملكة المحاربة الكنداكة أماني لفرض الامبراطورية الرومانية الضرائب الباهظة على أتباع مملكتها، وهزيمتها لجيوش الرومان الغازية المرسلة بواسطة الإمبراطور أغسطس، لنجح هذا الأخير في تجاوز أسوان وغزو السودان ليطمس حضارته النوبية ويحولها إلى إغريقية بيزنطية أو شيءْ آخر

ونشبت مشادة كلامية بيني وبين صديقي، وتمسك كلٌ منا برأيه مصرًا على الانتصار لمنطقة أصول أجداده: هو في الشمال على ضفاف نهر النيل، وأنا في الجنوب على ضفاف النيل الأزرق.

ولم أتصور أن تتمادى لدرجة أن أتعمد التقليل من وطنية معتز وأصالته، انتقامًا من مزاحه معي بأنني لست سوى قبطيٍّ جاء اجداده المصريين للتجارة في السودان وبقوا فيه عندما طاب لهم المقام، بردٍ أقسى: هو أيضًا ليس سودانيًا مائة بالمائة؛ ما دامت أمه لا تزال تحمل جواز سفر مصري، ومادام لسانه معوجٌ بلكنةٍ مصرية.

انتصب معتز واقفًا والشرر يتطاير من عينيه، فنهض الشباب وأمسكوه محاولين تهدئته بتذكيره أننا جميعاً سودانيين نعيش في كنف بلد طيب يسع الجميع شماليين (جَعَيلين ورُباطاب وشَوايْقة ودَناقْلة ومَحَس) وجنوبيين (دينكا، شلك، نوير) وأهل شرق (بِجا ورَشايْدة وهَدَنْدَوة) وغرابة (بقارة ورزيقات ومساليت وزغاوة وفور) وأقباط وأتراك، ويضمهم تحت جناحيه بحنان وحب بكافة اختلاف عقائدهم وأديانهم: مسلمين ومسيحين ولا دينين.

لكنهم لم ينجحوا في تغيير رأيه، واطفاء نيران كلماتي التي اشعلت غضبه الأسود، ودفعته للعودة إلى الخرطوم في ذلك الليل، بين جوالات سمسمٍ في شاحنة بضائع، بعد فشله في إيجاد مركبة ركاب تعمل بعد منتصف الليل، تاركًا إياي أقضي الليل ساهدًا ألوم نفسي وألوك الندم.

هذا هو الخلاف الأول بيني وبين معتز .

أما الخلاف الثاني كان لما استقبلته في مطار الخرطوم يوم عودته من فرنسا. لكنني تداركت الموقف بسرعة؛ فلما ألححتُ لمعرفة سبب تركه لدراسة الطب مكررًا مزاحي مفترضًا أن وراء عودته النهائية من فرنسا أنثى كسرتْ قلبه، ولاحظتُ تقلص ملامحه التي ذكرتني بغضبه ذلك المساء في سنار، تراجعتُ معتذرًا عن مضايقته.

والتزمتُ الصمت لسنوات، دون أن أفاتحه مجددًا لمعرفة سبب عزوفه عن الزواج، إلى جاء بنفسه ليخبرني بعثوره أخيرًا على فتاة لا تشبه بقية النساء، تجمع بين الطفولة بابتسامتها ونظرتها البريئة وبين النضج والوعي بفضل رزانتها وثقافتها الواسعة في كتب الفكر والفلسفة والأدب، وبأنه معها فقط يمكنه تأسيس بيت قوامه الحب والمودة والتفاهم والسلام. فعملتُ بأن صديقي وقع الحب.

ولما أخبرني بنيته الذهاب إلى القاهرة للاحتفال معكِ بعيد ميلاده، ألححتُ لأن أرافقه، متحججًا بعدم تغيبي عن هذه المناسبة منذ تعرفي به في مدرسة كموني قبل تسع وعشرون عامًا، بينما كنتُ أخفي تشوقي للتعرف عليكِ لأشكرك.

 وكنت سعيدًا بالتعرف عليك، وفخورًا وأنا أسرد عليكِ محطات صداقتنا المشتركة منذ الطفولة، خاصةً عندما ضحكتِ من ممازحتي له واخفائه لوجهه خجلًا لما ذكرته كيف كان يلتهم الزلابية بشاي اللبن التي كانت تقدمها لنا خالتي عند عروجنا عليها في نهاية الأسبوع في بيتها المقابل لمدرستنا في حي المسالمة. وتابعتِ حديثي باهتمام لما أخبرتك كيف كان معتز يمازحني أمام ابنة خالتي بدندنة أغنية "لَيْ في المسالمة غزال" دون أن تشك بأنها هي الغزال المعني. ولما سألتيني إن كانت زوجتي تسمى غزال، جلجلت ضحكة معتز، فضحكتُ معه وشرحتُ لكِ بأن اسمها دميانة، وبأنها تحولت إلى جاموسٍ عجز عن العودة لأيام الرشاقة بعد أربعة ولادات تخللها التهام شره للباسطة والبسبوسة والكنافة وحلاوة الطحينية بحجة أدرار الحليب للرُّضَع.

وهنا أوصيتكِ بالاهتمام برشاقتك بعد الزواج حتى لا تملئين قلب صديقي بحسراتٍ كحسراتي؛ فأطرقتِ ببصركِ إلى الأرض خجلًا؛ فاعتذرتُ وطالبتكِ بعدم الحياء مني؛ فالتفتِ ناحية معتز وكأنكِ تستشرينه بنظرتك فيما قلتُ؛ ليبتسم لك بحنانٍ ويطلب منكِ أن تعتبريني مثل أخيك ما دام أنه يضعني في مقام أخ لم يرزقه يومًا.  شكرته على ثقته والتلفتُ نحوكِ لأشكرك على نجاحك في تغيير فكرته عن النساء واقناعه بفكرة دخول القفص الذهبي. وهنا التفتِ إليه، وحدجتيه بنظرةٍ مستفهمةٍ محتارةٍ لائمةٍ ساهمةٍ؛ أفهمتني على الفور بأن الأمسية قد تحولت بسببي إلى منحنىً آخر.

 هذا هو الخلاف الثالث في تاريخ صداقتي بمعتز، الذي لم تستطع جميع اعتذاراتي أن تمحو اثاره، بعد عزوفه عن الكلام معي فور تلقيه رسالتك بإيقاف طبع كروت دعوات الزواج، واستنتاجه أنني المتسبب في قلب كيانك، بعد إلحاحك على سماع القصة التي جعلته يكره النساء في الماضي.

حكيت لكِ هذه التفاصيل في هذا الإيميل الطويل، لتفهمي طبيعة علاقتي بمعتز؛ وتعرفي أنه ليس صديق وحسب، بل هو توأم روحي، وتصدقيني عندما أؤكد له بأنه لم يحب فتاة كما أحبك؛ وتسامحيه لأنه بالتأكد لم يتعمد أن يخفي عنكِ قصة لم يخبرني بتفاصيلها؛ بل إنه لا بد كان ينتظر الوقت المناسب ليعلمك بها.

 ولأن الله محبة، وبقوة كل الحب الموجود على كوكب الأرض وفي قلوب الأنبياء والمستنيرين، أرجوك يا شمس، أعيدي المياه إلى مجاريها؛ ليعود الفرح يغمر قلوب الجميع! أنقذيني من شراسة تأنيب الضمير لتسببي في تعاسة أعز إنسان إلى قلبي، وانسِ الماضي وأزيلي أدرانه عن قلوبنا، كما تزيل اسفنجة مبللة بالصابون الدهون بسهولة عن أواني المطبخ! 

كوني بخير

روماني روفائيل ديمتري



[1]  كناية عن التوأم التوائم الملتصقة، الملقبة بالتوائم السيامية.

[2]  الشلوخ هي عادة سودانية قديمة كانت تجرى للفتاة للدخول إلى مرحلة النضج وفقاً للمعايير الاجتماعية السائدة حينها، وهي جروح ترسم في الخدود على جانبي الوجه أو على الصدغ (طولية أو عرضية).

[3] العنقريب، هي كلمة سودانية وتعني السرير المصنوع عادة من خشب أشجار السنط المنسوج بالحبال، أو بالبلاستيك مؤخرًا.

[4] "كتلة المتمة" حملة شنّها محمود ود أحمد، ابن أخ الخليفة عبد الله التعايشي، على المتمة في يوليو1897، والتقى بجيش ود سعد في قتال شرس، قتلت فيه أعداد كبيرة منهم من بينها عبد الله ود سعد نفسه في عملية وصفت بالمجزرة.


----------------------------------------

من رواية "صنعاء القاهرة الخرطوم"، الصادرة من دار المصرية السودانية الإماراتية/2020


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق