بقلم/ تسنيم طه
في عام 1491 تم توقيع المعاهدة السرية بين أبي عبد الله
محمد الصغير (آخر ملوك غرناطة) وملكي قشتالة وأراجون (فرديناند وإيزابيلا)، والتي
تنازل بمقتضاها عن ملكه وتسليم مفاتيح الحمراء فنال مكافأة قدرها ثلاثين ألف جنيه
قشتالي وصون حقه الأبدي في ممتلكاته. فانتشر الخبر بين السكان انتشار النار في
الهشيم، وافتضح أمر الملك الصغير، وعاش الناس أيامهم ولياليهم في خيبة تثقلهم
مرارة اكتشافهم أنهم بيعوا كالأغنام والماشية. وماهي إلا أيام معدودات حتى بدأت
رحلتهم مع أعظم معاناة في تاريخ الأندلس. فبالرغم أن من شروط مرسوم الحمراء
المكتوب على ورق معاهدة غرناطة أن يتمكن المسلمون من الحفاظ على ديانتهم وعاداتهم
وتقاليديهم، إلا أنه على أرض الواقع تم ارتكاب جميع الخروقات والجرائم المتصورة.
عندما تقرأ هذه الرواية ستعيش مع سكان غرناطة قهرهم وذلهم، وستشعر
بأنك موريسكيٌّ مضطهدٌّ على استعداد لصعود أول سفينة بدون مقاومة للإبحار بعيدًا
عن الأندلس.
وكيف لك أن تقاوم لتؤثر البقاء وكل هذه الأهوال تنتظر؟
فأول أمر سيفرض عليك هو تغيير دينك لأن النصرانية هي الدين
الوحيد المعترف به، وإذا رفضت تُقْتَل. ثانيًا عليك تغيير اسمك وتختار واحدًا مثل
ألفونسو أو خوان أو فيرنانديد أو ماريا أو اسبيرانزا، لأن الأسماء العربية مثل
محمد وحسن وفاطمة لم يعد مسموحٌ بها، وإذا رفضت تُقْتَل. ثالثًا أنت ملزمٌ بحضور
القداس في الكنيسة، وعليك ألا تنسى ترك باب بيتك مفتوحًا يومي الخميس والجمعة فقد
يأتي جنود التفتيش ليتأكدوا من عدم اتباعك لعادات وشعائر دينية تعظم ليلة أو يوم
الجمعة. وإذا رفضت تُقْتَل. رابعًا، استعمال اللغة العربية من الجرائم، وكل من
يتحدث بها يكون مصيره القتل. خامسًا وسادسًا والقائمة تطول. مداواة المرضى تعتبر من أعمال السحر وممارس
السحر يُصلب في ساحة الرملة المركزية وتضرم فيه النيران وسط حضور السكان. جميع
مظاهر العادات العربية ممنوعة: عقد القِران على إيقاع الدفوف والأهازيج، تخضيب
اليدين والشعر بالحناء، طهور الصبية، استطلاع هلال رمضان والعيدين، غطاء الرأس
للنساء، حياكة ولبس الملابس العربية، الذهاب إلى الحمام. بل أنه لم يعد هناك
حمامات بعد أن أصدر القشتاليون مرسومًا بإغلاقها جميًعا فور دخولهم غرناطة، بحجة
أنها عادات عربية انشر الجراثيم والأوبئة.
الآن وبعد أن أخذوا منك كل شيء (الدين والهوية والثقافة) هل تظن أن يتركوك وشأنك؟ كلا، سيقومون بطردك من بيتك وبلدك كالكلب، لتتحول أملاك إلى الإقطاعيين، وإن تعمدت اخفائها أو حرقها ستقتل وتموت شر ميتة. مُت؟ وتنتظر أن يغسلك أهلك ويكفنوك ويصلون عليك صلاة الجنازة؟ سيكون ذلك في الأحلام، لأن تلك الطقوس أصبحت تعد الجرائم ستسوق ممارسيها إلى الحرق في الساحة المركزية.
كل هذه الأساليب من القهر والظلم والضيم دفعت الأهالي إلى حالة قصوة من اليأس، فقامت ثورتين
لم تنجح أيٌّ منهما إلى أن أُصدر قرار الترحيل.
ثلاثية غرناطة هي رواية تاريخية تتكون من ثلاثة أجزاء وهي على التوالي:
غرناطة-مريمة-الرحيل. نشرت الرواية الأولى (غرناطة) في عام 1994، بينما نشرت
روايتي ( مريمة والرحيل) في طبعة واحدة عام 1995. وتدور الاحداث، ضمن معاهدة
التنازل عن غرناطة وحرق الكتب وثورتي البيازيين والبشرات، وتتناول مواضيع التشتت
الجماعي لأهالي غرناطة والترحيل النهائي لعرب الأندلس، وتشابك الأحداث ببطء لتصوير
حياة أهل غرناطة بعد توقيع المعاهدة، وانقلاب الأمور رأسًا على عقب دفعت بأبي جعفر
الوراق، تعليم حفيدته (سليمة) اللغة العربية لمعرفته أن اللغة القشتالية لا محالة
قادمة لتهدد بطمس الهوية العربية.
تدور أحداث الرواية في خط
زمني يتجاوز المائة عام، تبدأ في عام 1491 لحظة سقوط غرناطة (آخر
الممالك الإسلامية) وتنتهي عام 1609، بمخالفة عليّ ابن هشام، حفيد مريمة، آخر
أبطال الرواية الأحياء، قرار الترحيل عند اكتشافه أن الموت في الرحيل عن الأندلس
وليس في البقاء، عندما يدير ظهره للبحر، مهرولًا مبتعدًا نحو الأرض، يتمتم: (لا
وحشة في قبرك يا مريمة).
اتخذت رضوى عاشور لعرض أحداث روايتها شخصيات حقيقية وأخرى
خيالية، من أهمها أبو جعفر الوراق وعائلته (سليمة، حسن، أم حسن، أم جعفر،
نعيم ، مريمة ، هشام ، وعليّ ) وأبو منصور صاحب
الحمام، وعمر الشاطبي شيخ قرية الجعفرية.
وصفت الرواية حياة أهل الأندلس قبل وبعد الاحتلال القشتالي
بجميع نواحيها الاجتماعية (مراسم
الزواج، مواسم قطاف الزيتون، دفن الموتى) والسياسية (ثورتي البيازين والبشرات)
والاقتصادية (الضرائب والميراث) والدينية (طقوس العبادة، طهور الصبية، احياء
الأعياد)، وتناولت بدقة مظاهر الظلم والاضطهاد التي عاناها أهل غرناطة وخاصة أبي
جعفر الذي مات كمدًا بعد عملية حرق الكتب في ميدان الرملة، ثم حفيدته سليمة التي أُحرقتْ في
نفس الميدان بتهمة ممارسة السحر لمداواتها المرضى بوصفاتها العشبية، ثم زوجها سعد
الذي مات كمدًا عليها. كما عقدت الرواية مقارنة بين غرناطة والقدس، بطرح
تساؤلٍ (على لسان عَلِيّ بن هشام، حفيد مريمة، الشخصية الرئيسية في الجزء الثالث،
والناجي الوحيد من تلك الأسرة) عن الأسباب التي جعلت القدس تعود لأيدي المسلمين
بعد الحروب الصلبية وجعلت غرناطة تسقط دون رجعة.
بأسلوب أدبي بديع راقٍ، وصفت رضوى عاشور أماكن في الحمراء مثل مسجد البيازيين
والحوانيت والأزقة الملتوية والحمامات، وأسوار المدينة وابراجها وبساتينها ودروبها
(دروب الوراقين والصياغين والفخاريين والنحاسين والزجاجيين)، واستخدمت معجمًا
لغويًا غنيًا بكلماتٍ ذات إيقاعٍ موسيقيٍّ جعل الرواية تبدو وكأنها قصيدة نثرية.
تعتبر ثلاثية غرناطة من الروايات التاريخية الرائعة الناجحة التي أضافت الكثير إلى الأدب العربي، غير أن واحدة من نقاط ضعفها هي البطء الكبير في بناء الأحداث. فلم تعتمد رضوى عاشور على التشويق منذ البداية، وركزت اهتمامها على تفاصيل الحياتية اليومية لأهل غرناطة المتمثلة في عائلة أبي جعفر (من زواج وولادة واغتراب وسجن ووفاة)، وتفاصيل تبديل أسماء الحارات والأزقة والشوارع والجوامع، دون أن تهتم بتفاصيل الشخصيات السياسية. وهذا الأمر قد يدفع العديد من القراء لترك الرواية في مراحلها الأولى. لكن ما أن تكمل هذه الرواية حتى تشعر بألم عميق في الروح.
* اقتباسات من
الرواية:
- (أنا مريمة
ابنة أبي إبراهيم منشد سيرة نبيك ومصطفاك وصحابته الأكرمين، ولدت يوم كان
القشتاليون على أبواب غرناطة يحكمون الطرق عليها، والناس جوع، والزاد شحيح، ولكن
أبي كان رجلاً صالحاً، لم يقل: هذه الوليدة تحمل لي نحساً، ضمّني وأنشأني في ظله
الضافي. ولما دخلتُ دار أبي جعفر فرض القشتاليون على العباد تغيير دينهم، فلم تقل
أم جعفر دخلت علينا العروس والمصائب في أذيالها. حملت وهناً على وهن كباقي النساء،
وربيت الصغار وكبرتهم. ما سرقت يوماً، ما خنتُ أمانة، ما كذبتُ قاصدة شراً بأحد من
العباد، فلماذا تلوح لي بنصرة في المنام أتعلق بها وتطلق الأمل من صدري ليحلق
عالياً، ثم تسقطه فأعيش بدلاً من الحسرة الواحدة حسرتين؟!)، مريمة.
- (كيف
يبدأ المرء حياته وهو في السادسة والخمسين؟ لا زوجة، لا أولاد يبددون وحشة
الأرض الغريبة، ولا قبر جدة، ينمو فوق صندوقها بستان؟ لماذا يرحلُ إذا؟ قد يكون
الموت في الرحيل، وليس البقاء! )، عليّ بن هشام.
- (يقررون عليه
الرحيل. يسحبون الأرضَ من تحت قدميه. ولم تكن الأرضُ بساطاً اشتراه من السوق، فاصل
في ثمنه ثم مد يده إلى جيبه ودفع المطلوب فيه، وعاد يحمله إلى داره وبسطه وتربع
عليه في اغتباط. لم تكن بساطاً بل أرضاً، تراباً زرع فيه عمره وعروق الزيتون...)،
رضوى عاشور.
**-*
تسنيم
باريس/ 14 أغسطس 2020