الخميس، 28 يناير 2021

قراءة في ثلاثية غرناطة: رواية المقموعين

 بقلم/ تسنيم طه


     في عام 1491 تم توقيع المعاهدة السرية بين أبي عبد الله محمد الصغير (آخر ملوك غرناطة) وملكي قشتالة وأراجون (فرديناند وإيزابيلا)، والتي تنازل بمقتضاها عن ملكه وتسليم مفاتيح الحمراء فنال مكافأة قدرها ثلاثين ألف جنيه قشتالي وصون حقه الأبدي في ممتلكاته. فانتشر الخبر بين السكان انتشار النار في الهشيم، وافتضح أمر الملك الصغير، وعاش الناس أيامهم ولياليهم في خيبة تثقلهم مرارة اكتشافهم أنهم بيعوا كالأغنام والماشية. وماهي إلا أيام معدودات حتى بدأت رحلتهم مع أعظم معاناة في تاريخ الأندلس. فبالرغم أن من شروط مرسوم الحمراء المكتوب على ورق معاهدة غرناطة أن يتمكن المسلمون من الحفاظ على ديانتهم وعاداتهم وتقاليديهم، إلا أنه على أرض الواقع تم ارتكاب جميع الخروقات والجرائم المتصورة.

عندما تقرأ هذه الرواية ستعيش مع سكان غرناطة قهرهم وذلهم، وستشعر بأنك موريسكيٌّ مضطهدٌّ على استعداد لصعود أول سفينة بدون مقاومة للإبحار بعيدًا عن الأندلس.

وكيف لك أن تقاوم لتؤثر البقاء وكل هذه الأهوال تنتظر؟

 فأول أمر سيفرض عليك هو تغيير دينك لأن النصرانية هي الدين الوحيد المعترف به، وإذا رفضت تُقْتَل. ثانيًا عليك تغيير اسمك وتختار واحدًا مثل ألفونسو أو خوان أو فيرنانديد أو ماريا أو اسبيرانزا، لأن الأسماء العربية مثل محمد وحسن وفاطمة لم يعد مسموحٌ بها، وإذا رفضت تُقْتَل. ثالثًا أنت ملزمٌ بحضور القداس في الكنيسة، وعليك ألا تنسى ترك باب بيتك مفتوحًا يومي الخميس والجمعة فقد يأتي جنود التفتيش ليتأكدوا من عدم اتباعك لعادات وشعائر دينية تعظم ليلة أو يوم الجمعة. وإذا رفضت تُقْتَل. رابعًا، استعمال اللغة العربية من الجرائم، وكل من يتحدث بها يكون مصيره القتل. خامسًا وسادسًا والقائمة تطول. مداواة المرضى تعتبر من أعمال السحر وممارس السحر يُصلب في ساحة الرملة المركزية وتضرم فيه النيران وسط حضور السكان. جميع مظاهر العادات العربية ممنوعة: عقد القِران على إيقاع الدفوف والأهازيج، تخضيب اليدين والشعر بالحناء، طهور الصبية، استطلاع هلال رمضان والعيدين، غطاء الرأس للنساء، حياكة ولبس الملابس العربية، الذهاب إلى الحمام. بل أنه لم يعد هناك حمامات بعد أن أصدر القشتاليون مرسومًا بإغلاقها جميًعا فور دخولهم غرناطة، بحجة أنها عادات عربية انشر الجراثيم والأوبئة.

 الآن وبعد أن أخذوا منك كل شيء (الدين والهوية والثقافة) هل تظن أن يتركوك وشأنك؟ كلا، سيقومون بطردك من بيتك وبلدك كالكلب، لتتحول أملاك إلى الإقطاعيين، وإن تعمدت اخفائها أو حرقها ستقتل وتموت شر ميتة.  مُت؟ وتنتظر أن يغسلك أهلك ويكفنوك ويصلون عليك صلاة الجنازة؟ سيكون ذلك في الأحلام، لأن تلك الطقوس أصبحت تعد الجرائم ستسوق ممارسيها إلى الحرق في الساحة المركزية.

  كل هذه الأساليب من القهر والظلم والضيم دفعت الأهالي إلى حالة قصوة من اليأس، فقامت ثورتين لم تنجح أيٌّ منهما إلى أن أُصدر قرار الترحيل.

 ثلاثية غرناطة هي رواية تاريخية تتكون من ثلاثة أجزاء وهي على التوالي: غرناطة-مريمة-الرحيل. نشرت الرواية الأولى (غرناطة) في عام 1994، بينما نشرت روايتي ( مريمة والرحيل) في طبعة واحدة عام 1995. وتدور الاحداث، ضمن معاهدة التنازل عن غرناطة وحرق الكتب وثورتي البيازيين والبشرات، وتتناول مواضيع التشتت الجماعي لأهالي غرناطة والترحيل النهائي لعرب الأندلس، وتشابك الأحداث ببطء لتصوير حياة أهل غرناطة بعد توقيع المعاهدة، وانقلاب الأمور رأسًا على عقب دفعت بأبي جعفر الوراق، تعليم حفيدته (سليمة) اللغة العربية لمعرفته أن اللغة القشتالية لا محالة قادمة لتهدد بطمس الهوية العربية.

  تدور أحداث الرواية في خط زمني يتجاوز المائة عام، تبدأ في عام 1491 لحظة سقوط غرناطة (آخر الممالك الإسلامية) وتنتهي عام 1609، بمخالفة عليّ ابن هشام، حفيد مريمة، آخر أبطال الرواية الأحياء، قرار الترحيل عند اكتشافه أن الموت في الرحيل عن الأندلس وليس في البقاء، عندما يدير ظهره للبحر، مهرولًا مبتعدًا نحو الأرض، يتمتم: (لا وحشة في قبرك يا مريمة).

 اتخذت رضوى عاشور لعرض أحداث روايتها شخصيات حقيقية وأخرى خيالية، من أهمها أبو جعفر الوراق وعائلته (سليمة، حسن، أم حسن، أم جعفر، نعيم ، مريمة ، هشام ، وعليّ  ) وأبو منصور صاحب الحمام، وعمر الشاطبي شيخ قرية الجعفرية.  

 وصفت الرواية حياة أهل الأندلس قبل وبعد الاحتلال القشتالي بجميع نواحيها الاجتماعية (مراسم الزواج، مواسم قطاف الزيتون، دفن الموتى) والسياسية (ثورتي البيازين والبشرات) والاقتصادية (الضرائب والميراث) والدينية (طقوس العبادة، طهور الصبية، احياء الأعياد)، وتناولت بدقة مظاهر الظلم والاضطهاد التي عاناها أهل غرناطة وخاصة أبي جعفر الذي مات كمدًا بعد عملية حرق الكتب في ميدان الرملة، ثم حفيدته سليمة التي أُحرقتْ في نفس الميدان بتهمة ممارسة السحر لمداواتها المرضى بوصفاتها العشبية، ثم زوجها سعد الذي مات كمدًا عليها.  كما عقدت الرواية مقارنة بين غرناطة والقدس، بطرح تساؤلٍ (على لسان عَلِيّ بن هشام، حفيد مريمة، الشخصية الرئيسية في الجزء الثالث، والناجي الوحيد من تلك الأسرة) عن الأسباب التي جعلت القدس تعود لأيدي المسلمين بعد الحروب الصلبية وجعلت غرناطة تسقط دون رجعة.

بأسلوب أدبي بديع راقٍ، وصفت رضوى عاشور أماكن في الحمراء مثل مسجد البيازيين والحوانيت والأزقة الملتوية والحمامات، وأسوار المدينة وابراجها وبساتينها ودروبها (دروب الوراقين والصياغين والفخاريين والنحاسين والزجاجيين)، واستخدمت معجمًا لغويًا غنيًا بكلماتٍ ذات إيقاعٍ موسيقيٍّ جعل الرواية تبدو وكأنها قصيدة نثرية.

 تعتبر ثلاثية غرناطة من الروايات التاريخية الرائعة الناجحة التي أضافت الكثير إلى الأدب العربي، غير أن واحدة من نقاط ضعفها هي البطء الكبير في بناء الأحداث. فلم تعتمد رضوى عاشور على التشويق منذ البداية، وركزت اهتمامها على تفاصيل الحياتية اليومية لأهل غرناطة المتمثلة في عائلة أبي جعفر (من زواج وولادة واغتراب وسجن ووفاة)، وتفاصيل تبديل أسماء الحارات والأزقة والشوارع والجوامع، دون أن تهتم بتفاصيل الشخصيات السياسية. وهذا الأمر قد يدفع العديد من القراء لترك الرواية في مراحلها الأولى. لكن ما أن تكمل هذه الرواية حتى تشعر بألم عميق في الروح. 


*   اقتباسات من الرواية:

- (أنا مريمة ابنة أبي إبراهيم منشد سيرة نبيك ومصطفاك وصحابته الأكرمين، ولدت يوم كان القشتاليون على أبواب غرناطة يحكمون الطرق عليها، والناس جوع، والزاد شحيح، ولكن أبي كان رجلاً صالحاً، لم يقل: هذه الوليدة تحمل لي نحساً، ضمّني وأنشأني في ظله الضافي. ولما دخلتُ دار أبي جعفر فرض القشتاليون على العباد تغيير دينهم، فلم تقل أم جعفر دخلت علينا العروس والمصائب في أذيالها. حملت وهناً على وهن كباقي النساء، وربيت الصغار وكبرتهم. ما سرقت يوماً، ما خنتُ أمانة، ما كذبتُ قاصدة شراً بأحد من العباد، فلماذا تلوح لي بنصرة في المنام أتعلق بها وتطلق الأمل من صدري ليحلق عالياً، ثم تسقطه فأعيش بدلاً من الحسرة الواحدة حسرتين؟!)، مريمة.

-  (كيف يبدأ المرء حياته وهو في السادسة والخمسين؟ لا زوجة، لا أولاد يبددون وحشة الأرض الغريبة، ولا قبر جدة، ينمو فوق صندوقها بستان؟ لماذا يرحلُ إذا؟ قد يكون الموت في الرحيل، وليس البقاء! )، عليّ بن هشام.

-  (يقررون عليه الرحيل. يسحبون الأرضَ من تحت قدميه. ولم تكن الأرضُ بساطاً اشتراه من السوق، فاصل في ثمنه ثم مد يده إلى جيبه ودفع المطلوب فيه، وعاد يحمله إلى داره وبسطه وتربع عليه في اغتباط. لم تكن بساطاً بل أرضاً، تراباً زرع فيه عمره وعروق الزيتون...)، رضوى عاشور.


**-*

تسنيم

باريس/ 14 أغسطس 2020

الاثنين، 18 يناير 2021

فن اليوميات: كتابة التجارب الفارقة

 بقلم/كمال الرياحي



يمثل فن اليوميات أحد أهم الفنون التعبيرية العريقة في الثقافة الغربية، ويعتبر الأكثر تداولا بين الناس من فنون أخرى حتى وصف بأنه أكثر الأنواع ديمقراطية لعدم اشتراطه في من يمارسه سنا معينة أو علما أو انتماء لطبقة اجتماعية بذاتها، وقد انتشر هذا الفن بين الكتاب والفنانين والسياسيين وتلبس بأساليبهم وتنوع بحسب انتماءاتهم الايديولوجية والثقافية وتجاربهم الخاصة

وقد تجاوز هذا النوع من الأداء الكتابة لما هو أشمل منها ليقبض على كل أدوات التعبير الفني الأخرى من رسم وسينما ومسرح.

ولكن في المقابل ظل هذا النوع من الممارسة التعبيرية غير رائج في الثقافة العربية. ويرجع بعض النقاد عدم الرواج إلى أسباب كثيرة منها صلة هذا النوع بثقافة الاعتراف المسيحية باعتباره واحدا من فروع الكتابة عن الذات.

وهذه الندرة لهذا النوع عربيا انجر عنها غياب شبه كلي للاهتمام به نقديا فلم تظهر بحوث جادة تناقش هذه الممارسة الفنية لعقود خلت.

غير أن اهتمام دور النشر اليوم بهذا النوع من الممارسة الفنية واطلاق بعض المؤسسات الثقافية العربية، الخاصة والعامة، جوائز بشأن هذا النوع حرك الأقلام النقدية وبدأنا نسمع عن شروع بعض الباحثين في العمل على مدونة اليوميات والمذكرات بعد أن حظيت السيرة الذاتية وما جاورها ببحوث كثيرة أواخر القرن العشرين وبداية هذا القرن

أسلوب حياة أم حالة طارئة؟

تنقسم اليوميات حسب رؤيتنا إلى نوعين:

1-     نوع أول ما يمكن أن يسمى ب"أسلوب حياة" حيث يختار الكاتب أن يعيش كاتبا لليوميات وتصبح ممارستها شيئا ملزما في حياته لا ينقطع عنه إلا ليعود إليه وهذا ما نجده عند عدد من الكتاب شكلت اليوميات وجها من وجوه هويتهم الابداعية، ونمثل لهؤلاء بالكاتبة الفرنسية الأمريكية "أنييس نن" التي قضت حياتها كلها تكتب اليوميات لتترك مجلدات كثيرة والكاتب البلجيكي الشهير جورج سيمنون والذي جعل، بدوره، من اليوميات مشروعا حياتيا مواز لمشروعه الروائي في الرواية البوليسية وكان ينشر كل مرة كتابا في اليوميات عن تجربة معينة أو فترة معينة من حياته.

2-    أما النوع الثاني، وهو الأهم، فهو اليوميات الطارئة على الحياة وعلى المشروع الأدبي أو الفني حيث تنطلق من تجربة مخصوصة وجد فيها الكاتب نفسه؛ تجربة فارقة مثلت تحولا في حياته أو قطيعة أو حدثا جللا لا ينسى.

وقد أكدت الناقدة الفرنسية هيلين كاماراد في مؤلفها "كتابة المقاومة، اليوميات الحميمة تحت الرايخ الثالث " أن الحالات الفارقة التي يعيشها الكاتب تكون عادة دافعا لشروعه في كتابة اليوميات الحميمة. وبتأملنا في عدد مهم مما وقع تحت أيدينا من اليوميات العالمية والعربية وجدنا أن حالات اللاسلم و"اللاطمأنينة" هي التي دفعت أغلب الكتاب لخوض مغامرة تسجيل اليوميات.

ونستحضر من اليوميات العالمية في هذا النوع " يوميات أنا فرانك" في الحرب العالمية الثانية و"يوميات الحداد" لرولان بارت إثر موت أمه أو يوميات المجندين والمحاصرين والمساجين من الأدباء والفنانين وغيرهم الذين أقدموا على كتابة تجاربهم يوما بيوم ولم تكن تلك اليوميات تخطر ببال الواحد منهم قبل مروره بتلك التجربة.

ومن ثمة فالمشترك بينهم جميعا هو هذا الطارئ الذي يسمى "التجربة الفارقة".

ويلاحظ أن هذه التجارب الفارقة هي نفسها تنقسم إلى نوعين كبيرين تجارب جماعية وأخرى فردية.

ففي التجارب الجماعية أو المشتركة يمكننا أن ندرج يوميات؛ الحروب والحصار والثورات والانتفاضات أما ضمن التجارب الخاصة والفردية فيمكن أن ندرج فيها تجارب المرض والمنفى والاعتقال والفقدان والابداع.

والمتأمل في المدونة العربية لليوميات من بداية القرن العشرين إلى اليوم يلاحظ أنها الفترة المفصلية في تشكيل المشهد الجيوسياسي العربي وتشكل الوعي لدى هذه الشعوب العربية التي يعكسها ويسجلها صوت كاتب اليوميات. وهذا ما يكسب هذه الدفاتر، على قلتها قيمة استثنائية في رصد الوعي والتأريخ له وللأحداث لا من خلال الخطاب التاريخي الرسمي بل من خلال الخطاب الذاتي الفردي لصاحب التجربة؛ الكاتب والفنان.

ولأن هذه التجارب المنشورة في أغلبها كتبها كتاب وفنانون فهي خطابات نخبة عن تجارب خاصة وعامة ومن هنا تكتسب هذه الدفاتر أهمية أخرى في قراءتها بصفتها أعمالا

اليوميات فن الخطر

كتابة اليوميات هي في وجه من وجوهها تمرّد على الذات باعتبارها مؤسسة فرضت ضوابط حضورها الذي تواجه به الناس والعالم وكتابتها بطريقة أخرى غير التي تظهر بها هو تمرّد على قوانينها التي وضعتها بنفسها. ومن ثم فالذات الكاتبة تصبح في مواجهة أولى للذات المكتوبة نفسها التي ستتصدى لها بالتمنع وبردود أفعال أخرى مختلفة لردّها على ما عزمت عليه: الاعتراف.

فاليوميات تقترب من" الاعترافات، ويعد أدب الاعترافات من أهم الأجناس الأدبية، الحميمية، وهو بمثابة المراجعة للذات الإنسانية أو للتأمل فيها، أو التفكر فيما علق بها، أو فيما عاشته تلك الذات من تجارب، وقد وجدت نفسها مجبرة على كتمانه أو على إعلانه بطرق رمزية شتى، فإذا الكتابة تتأتى لإعلانه على حقيقته" .

وتستجير الذات المكتوبة باستحضار ترسانة من الموانع والمحظورات لتوقيف جنون الذات الكاتبة، ومن تلك الموانع الحرام الديني والعيب الاجتماعي ونواميس الحياة والقوانين الأخلاقية وطبيعة الحميمي واكراهاته والأسرار العليا و"واجب التحفظ "إن كانت الحوادث تهم الأسرة أو المؤسسة أو الوطن أو حتى الكتابة نفسها. ومن ثمة يعلو منسوب أسباب الإحجام عن ممارسة كتابة اليوميات من خطر الجرأة والفضيحة إلى تهمة الخيانة والوشاية والقتل العمد، فتحويل الأسرار من طابعها الشفوي إلى المكتوب يفضحها أو يضعها موضع خطر قد يهدد بقاءها سرا حتى لو لم يفكّر كاتب اليوميات في افشائها عبر النشر، وهنا يمكن أن نفهم ما أقدم عليه بعض الكتاب من حرق يومياتهم بعد أن باشروها ولنا في الأدب العربي الحديث عباس محمود العقاد، الذي أتلف يومياته الخاصة، مثالا

وفي حديث له عن اليوميات ميز بين نوعين من اليوميات أو المذكرات كما يسميها؛ المذكّرات التي تقتصر على الفكر والقراءة وهي التي كتب فيها ونشر الكتب. والمذكرات الأخرى المتعلقة بحوادث الحياة فيقول

-        "أما النوع الآخر وهو المذكرات عن حوادث الحياة وعوارضها فلم أشرع في الكتابة فيه إلا مرة واحدة طالت بضعة شهور، ثم مزقت ما كتبت وأحرقته ولم أعد إلى تجربة الكتابة في هذا النوع مرة أخرى، ولعلي لا أعود."  

وقد استدرك العقاد بأنه لا يحكم على أدب اليوميات كله بالتمزيق والإحراق كما فعل، بل يعترف بأن الموانع هي التي دفعته لذلك تبقى ذاتية وموضوعية فالمحظورات التي منعته من الكتابة وتمزيق ما كتبه مختلفة عن حدود الكتابة ومحظوراتها عند غيره

وأبان العقاد عن معرفة دقيقة بفن اليوميات في الغرب عندما أشار إلى ازدهاره عند الشعوب الأوروبية والإنجليز تحديدا. ولكنه يتجنبه لأسباب أخرى غير أدبية، فهو يصفه بأدب اليوميات وهذا دليل على أن العقاد يجل هذه الكتابة على عكس الآخرين الذين يعتبرونها كتابة أقل درجة من الأدب.

واعتبر العقاد أن ذلك النوع أنفع للمؤخرين والعلماء والمحللين وغيرهم من الناس العاديين فأولئك المختصين تساعدهم اليوميات على معرفة الفترات التي عاشها كاتب اليوميات ووثقها والتحولات التي عرفها مجتمعه ... فهذا الأدب، كما يقول، "موضع دراسة المؤرخ والناقد النفساني، والفيلسوف، والباحث العلمي، وكل من تعنيه سير الجماعات والأفراد؛ يشتركون في دراسته وبحثه تارة لبيان الأسباب التي تدعو الناس في فترة خاصة من الزمن إلى تدوين مذكراتهم والعكوف على أسرار ضمائرهم بمعزل عن الجماهير وشواغلهم العلنية، وتارة لتحقيق الوقائع واستكشاف دخائل الرجال، ويأتون في جميع هذه التعليلات والتخريجات بما يلذ الوقوف عليه ويفيد!" 

 بينما غايته التوجه إلى عموم الناس بما ينفعهم في يومياته التي استبعد منها الحميمي والحوادث التي عاشها.

ويعتبر العقاد أن ما دفعه إلى حرق يومياته الخاصة هما أمران الأول أنه لا يعنيه الاعتراف الذي يلمح أنه تقليد غربي مسيحي لذلك انتشرت تلك الكتابة عند الشعوب الأوروبية ضمن تقاليدها اليومية في الذهاب إلى الكنائس للاستغفار.

وثانيا لأنه لا يريد أن يؤذى بسببه أحد إن وقعت تلك اليوميات بين أيدي الذين يستغلونها لأغراض غير نبيلة ولتصفية حسابات مع أشخاص بعينهم، والذين سيجدون اليوميات بما يمكن أن تحمل من أسرار تلك الشخصيات في تقاطع حيواتهم مع حياته، أدلة لضربهم، وهذا ما دفعه إلى التخلص منها.

يجيب عباس محمود العقاد عن سؤال اليوميات من أحمد عبد اللطيف الحضراوي من المعهد البريطاني:

إنني دونت تلك اليوميات لأستعين بها على تاريخ الفترة وتحليل أخلاق رجالها. ثم رأيت في أثناء الثورة الوطنية وبعدها بقليل أن ملفقي التهم ومدبري المكائد يستعينون بأمثال هذه اليوميات على طبخ القضايا وإحراج الأبرياء، وظهر لي أن إثبات ملاحظاتي على رجال الفترة من العسر بمكان مع تعرض اليوميات للمصادرة والسؤال، فآثرت إحراقها أيام اشتداد المحكمات والمصادرات وأحرقت معها رسائل شتى وصوراً وأوراقاً لها في حياتي الخاصة اثر لا يزول، وفاتني بإحراق هذه وتلك نفع كبير في مراجعة الحوادث التاريخية وصيانة الذكريات النفيسة، ولكنه اقل من الضرر الذي كنت متعرضاً له ومعرضاً له غيري لو أبقيت عليها وحدث ما كنت أتوقعه بسبيلها

ومن خلال هذا المثال الحي نلاحظ بعض أشكال المقاومة التي تبديها الذات موضوع الكتابة لتقي نفسها من خطر الانكتاب، فالكتابة تتحول إلى جرم وارتكاب معصية ذاتية وأسرية واجتماعية ووطنية وتحريض ووشاية. وتجنبها هو عمل أخلاقي بالأساس يمنع الطغاة من ممارسة قمعهم ويحفظ أسرار الآخرين. فكيف يمكن للكاتب أن يتخلص من كل هذه المحظورات ليكتب يومياته؟ ومن أين يستمد مشروعيته لكتابتها؟ 

إن اقدام كاتب اليوميات على كتابة ذاته هو شأن فردي وهو شأن نفسي يتعلق بإحدى أشكال التصالح مع الذات من ناحية وشكلا من أشكال اثباتها بتوثيق تجربتها في الحياة وتقصي أثرها. فالحياة ليست سوى سلسلة من الآثار يوقعها المرء بجسده وفعله وقوله وفكره. ومن ثمة فجر تلك التجربة إلى التدوين هو اختبار وجودي للذات الكاتبة لتتعرف على نفسها.


 ---------------------------------------------------

نُشر في موقع رصيف 22، بتاريخ 26 سبتمبر 2021.

*لقراءة المقال من مصدره:

فن اليوميات... كتابة التجارب الفارقة - رصيف 22 (raseef22.net)


**لزيارة صفحة الكاتب:

https://www.facebook.com/kamel.r.novelist

الجمعة، 1 يناير 2021

5 روائيين يجيبون عن سؤال: كيف تكتب رواية؟


رغم أن هناك كمًا هائلًا من الكتابات الأكاديمية حول فن الرواية ونقدها وتاريخها، إلا أن أبدع الكتب وأمتعها في هذا الباب هي تلك التي يصدرها الروائيون أنفسهم، لأنهم حين يكتبونها يمزجون في بوتقة واحدة: الحب والخبرة، فتكتسب اللحظات النقدية مسحة من التشويق لا يمكن أن نجدها في الكتب ذات الطابع الأكاديمي الصارم، وتصبح شهادات الخبرة تلك أشبه بسير ذاتية للنصوص. هنا وقفة مع خمسة روائيين عالميين ممن كتبوا في حب الرواية، ويحاولون إجابة سؤال يتكرر، ببساطته وتعقيده: كيف تكتب رواية؟ 


1- ميلان كونديرا.. كواليس وموسيقى

ربما يكون الروائي التشيكي ميلان كونديرا من أكثر الروائيين الذي تحدثوا وأجابوا عن سؤال "كيف تكتب رواية"، من خلال ما نقرأه في ثلاثيته الشهيرة "فن الرواية"، و"الوصايا المغدورة"، و"الستارة". 

كونديرا في كتبه تلك يقيم علاقات غريبة بين البناء الروائي والبناء الموسيقي، كما يكشف ملامح خفية من أسرار نصوصه، فيبدو في الوقت الذي يحاول أن يقول فيه رأيه في الرواية ككل يقول أسرار مطبخه ورواياته.

في كتاب "فن الرواية" الذي كتبه في 1986، يتحدث عن ثلاث نقاط تتعلق بآلية كتابة الرواية الأوروبية، في الفصلين الأول والسابع يتحدث كونديرا عن فن الرواية الأوروبية، بينما كان الفصلان الثاني والرابع مخصصين لحوارين أجراهما كونديرا، يتحدث في الأول عن فن الرواية، وفي الحوار الثاني عن فن تأليف الرواية، وكيف تكتب رواية. أما الفصل السادس فهو قاموس شخصي يتضمن واحدًا وسبعين كلمة، الفصول الثلاثة السابقة تتحدث عن التجربة الروائية الشخصية لصاحب "كتاب الضحك والنسيان"، أما الفصلان الثالث والخامس فخصصهما لدراسة التجربة الروائية لكل من فرانز كافكا وهرمان بروخ.


 

2- غابرييل غارسيا ماركيز.. دزينة أحلام

لم يكتب ماركيز كتابًا مكرسًا للرواية، لكنه فعل ذلك في مقالات متفرقة، قام صالح علماني بجمع دزينة منها تحت عنوان "كيف تكتب الرواية؟" وهي مقالات نُشرت في فترات متباعدة في عدد من الصحف الأمريكية اللاتينية والإسبانية.

يوجّه ماركيز حديثه إلى الكتاب المبتدئين الراغبين في كشف السر عن سؤال "كيف تكتب رواية"، وهو يعني بذلك من يعتقدون أن "الأدب هو فن موجه لتحسين العالم"، أما الآخرون الذين "يرون أنه فن مكرس لتحسين حساباتهم المصرفية فلديهم معادلات للكتابة ليست صائبة وحسب، بل يمكن حلها بدقة متناهية وكأنها معادلات رياضية".

وعن آلية الكتابة الروائية يرى ماركيز صاحب "مائة عام من العزلة" أنّ "القصص القصيرة أمر لا مناص منه، لأن كتابتها أشبه بصب الإسمنت المسلح. أما كتابة الرواية فهي أشبه ببناء الآجر. وهذا يعني أنه إذا لم تنجح القصة القصيرة من المحاولة الأولى فالأفضل عدم الإصرار على كتابتها. بينما الأمر في الرواية أسهل من ذلك: إذ من الممكن العود للبدء فيها من جديد. وهذا ما حدث معي الآن. فلا الإيقاع، ولا الأسلوب، ولا تصوير الشخصيات كانت مناسبة التي تركتها نصف مكتملة. وتفسير هذه الحالة هو واحد أيضًا: فحتى أنا نفسي لم أقتنع بها".

بالإضافة إلى كل ما يقدمه "غابو" من أفكار ثاقبة، تحضر في مقالاته هذه روحه الصاخبة التي نقرؤها من خلال ولعه بالرواية اليابانية، وتمنيه لو أنه صاحب رواية "الجميلات النائمات" التي حاكاها في روايته "ذاكرة عاهراتي الحزينات". كذلك تحضر روح السخرية والتهكم في مقال "بيجي أعطه قبلة" و"الريف: ذلك المكان الرهيب حيث الدجاجات تمشي نيئة". قراءة أعمال ماركيز ومقالاته شرط لا غنى عنه لكل باحث عن سؤال: "كيف تكتب رواية". 


 

3- ماريو بارغاس يوسا.. دودة الكتابة الشريطيّة

في كتابه "رسائل إلى روائي شاب"، يقدم ماريو بارغاس يوسا من خلال اثنتي عشرة رسالة إلى روائي شاب مفترض طرقًا مختلفة يمكن استخدامها في الكتابة الروائية، مستشهدًا بنماذج مختلفة في أسلوب روائيين عالميين، من خلال الأسلوب والزمن والمكان والواقع الروائي، ليساعد في تقديم إجابة شبه شافية عن سؤال الكتاب الشباب عن "كيف تكتب رواية". 

يصف يوسا في رسالته الثانية طريقة كتابة الرواية بأنها "تعادل ما تقوم به المحترفة التي تخلع ملابسها، أمام الجمهور، حتى تظهر جسدها عاريًا. غير أن الروائي يمارس العملية في اتجاه معاكس"، مشبهًا إياه بـ"الكاتوبليباس" المخلوق الذي يلتهم نفسه بنفسه، من حيث أن الروائي يقوم بـ"النبش في تجربته الحياتية الخاصة، بحثًا عن دعائم ومرتكزات لكي يبتكر قصصًا". وعلى صلة بالتشبيه الأخير، يرى يوسا أن الكاتب يجب أن يشعر أن الكتابة دودة وحيدة، تمتص خلاصة حياته.

ميزة كتاب يوسا وإجابته عن سؤال "كيف تكتب رواية" هو أنه ينتمي إلى تطوير إبداعي لكتابات يوسا النقدية التي يكتبها بشكل منهجي كما في كتابه "حقيقة الأكاذيب"، لكنه هنا يتحول إلى ما يشبه راويًا لحكاية وتقنيات الكتابة، بعد اختراع ندّ افتراضي هو القارئ الشاب. وعمومًا يحفل تاريخ الأدب بكتابات إلى شباب، بعضها حقيقي مثل رسائل ريلكه، وبعضها الآخر متخيل مثل قصيدة محمود درويش "إلى شاعر شاب".


 

4- أورهان باموك.. الروايات هي الدرس

يفتتح أروهان باموك كتابه "الروائي الساذج والحساس"، بجملة يعتمدها عتبة أساسية لباقي فصول الكتاب، يقول فيها "هذا الكتاب هو كل متكامل يضم معظم الأشياء المهمة التي عرفتها وتعلمتها من الرواية". يستعير باموك عبارة "الساذج والحساس" من الألماني شيلر، ويعني بها الموهبة والصنعة، والروائي الجيد بالنسبة له من يجمع بين الاثنين. يعتمد باموك في كتابه على العديد من الأسماء الروائية مثل فرجينيا وولف، وفلاديمير نابوكوف، وهوميروس، والفردوسي.. وآخرين كثر، لتقديم رؤيته الشخصية للكتابة الروائية مع الشخصيات الأدبية، الحبكة والزمن الروائيين، وطريقة استخدامه الكلمات والصور والأشياء روائيًا، من خلال تجربته كقارئ رواية، وككاتب رواية في الوقت نفسه، ليكون كتابه من أهم ما يلزم الكاتب المبتدئ للبدء في الإمساك بطرف إجابة عن سؤال "كيف تكتب رواية". 

قارن أورهان باموك صاحب "اسمي أحمر" بين الرسم والسينما والرواية، وبين المتحف والرواية. في نهاية الكتاب يقول: "أردت الحديث عن رحلتي الروائية، عن الوقفات التي صنعتها على طول الطريق، ماذا علمني أسلوب وشكل الرواية، عن القيود التي فرضوها عليّ، كفاحي مع هذه القيود وارتباطي بها". لا يجد باموك ما ينصح به الكتاب الشباب الذين يسألونه عن كيف تكتب الرواية إلا أن يقول لهم: "أفضل طريقة لدراسة الرواية هو قراءة روايات عظيمة والرغبة في كتابة شيء مشابه لها".


 

5- أمبرتو إيكو.. جريمة الكتابة

بعد صدور روايته "اسم الوردة" عام 1980، وصلت إلى الروائي الإيطالي أمبرتو إيكو العديد من الرسائل والاتصالات مستفسرة عن العديد من الوقائع والأشياء المتعلقة بروايته التي كتبت بالاعتماد على مجموعة من الوثائق والكتابات المرتبطة بالعصور الوسطى، حيث اعتمد على أدب الجريمة كتكنيك ليخوض رحلة استكشاف كبرى للفلسفة في القرون الوسطى، والتاريخ واللاهوت والمنطق أيضًا. وبسبب إلحاح الرسائل وغزارتها وجد إيكو نفسه يكتب "حاشية على اسم الوردة"، وينشرها في العدد 49 لمجلة ألفابيتا الإيطالية عام 1983. ثم سيتم التعامل مع الدراسة بوصفها كتيّبًا مستقلاً.

يجيب إيكو في هذه الحاشية، على العديد من الاستفسارات التي وصلته حول الرواية البوليسية، وكيف تكتب الرواية من ناحية العنوان والمعنى والسيرورة الكتابية، وكيفية بنائه لعمارته الروائية، وطريقة اعتماده على مراجع ووثائق تعود إلى العصور الوسطى، والحبكة البوليسية التي يصفها بـ "السؤال الأس في الفلسفة (كما في التحليل النفسي، كذلك)، هو نفس السؤال الذي نجده في الرواية البوليسية: من المذنب؟".

يقول مترجم الكتاب سعيد بنكراد في المقدمة: "إن إيكو وهو يحكي سيرورته لا يتوقف عند تأويل أو تفسير لحدث ما، ولكنه يومئ إلى ما يقف خلف هذا الحدث ويحيط به ويبرره ويمنحه معنى: دوافع اختيار هذه الفترة التاريخية دون غيرها، دوافع اختيار المحقق، إحالات على قراءة الإمارات، صراع بين أجنحة الكنيسة، غطرسة التفتيش الكنسي.. إلخ، وهو في كل هذا لا يوحي بأنه يريد أن يضمن نصه معرفة (عالمة)، ولكنه يبث المعرفة في الحدث والشيء والشخصية". 

وهكذا نجد كل كاتب عظيم يقدم إجابة منفردة وفريدة من وحي تجربته الخاصة عن سؤال "كيف تكتب رواية"، وهو سؤال يكون نابعاً من فضول معرفي لدى بعض القراء، كما يكون نابعاً من أمل وحرص من قبل بعض الكتاب الشباب الباحثين عن إشارات تهديهم في تلك الطريق الطويلة للرواية وعالمها الفذ

 ***

نُشر في  ألترا صوت.

لقراءة المقال من مصدره:

https://www.ultrasawt.com/5-%D8%B1%D9%88%D8%A7%D8%A6%D9%8A%D9%8A%D9%86-%D9%8A%D8%AC%D9%8A%D8%A8%D9%88%D9%86-%D8%B9%D9%86-%D8%B3%D8%A4%D8%A7%D9%84-%D9%83%D9%8A%D9%81-%D8%AA%D9%83%D8%AA%D8%A8-%D8%A7%D9%84%D8%B1%D9%88%D8%A7%D9%8A%D8%A9%D8%9F/%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%B1%D8%A7-%D8%B5%D9%88%D8%AA/%D8%A3%D8%AF%D8%A8-%D9%88%D8%AD%D9%8A%D8%A7%D8%A9/%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D8%A9