الثلاثاء، 18 نوفمبر 2025

"الغوص بماء السرد دون غرق" ....لعبة سردية ما بعد حداثية"/ ريم محمد

 تعدد الثيمات في العمل الروائي «#حفيدة_غردون_باشا» للروائية والمترجمة السودانية "#تسنيم_طه" أنموذجًا


~~~~~~~

قرأت العديد من الأعمال ذات النمط السردي البوليفوني، شدني وأسرني هذا الأسلوب بجاذبيته للمتلقي، بينما وجدته أضعف من غيره من الطرائق في بعض النماذج الروائية وقليل الإقناع ويمكن أن يتحول إلى مثلبة ووبال على مستخدمه، أما وأن يجتمع السرد البوليفوني مع تعدد الثيمات والتنقل بين الأزمنة فهذا يحتاج الكثير من النباهة والانتباه ليكون ماء رائقا للسرد و يتطلب قدرة هائلة على ضبط الخيوط وحبكها، فما هي أسباب تمايز هذه التقنية هنا وكيف استطاعت الكاتبة تضفيرها بمهارة؟ 

 اعتمدت" تسنيم" كرافد لهذه التقنية على ذكر التفاصيل وتفاصيل التفاصيل-البعض يعده إسهاباً منها ومثلبة وطبعاً احترم رؤيته- بينما تلك قدرة وميزة وأحقيّة وسلاسة طرّزت هذا الأنموذج لتثبت مصداقية ماتسرده بالاضافة إلى أنه تمكين للولوج على عقل القارىء ومداعبة الحالة الوجدانية لديه 

 وأذكر كمثال "ذكر أسماء الأمكنة وتفاصيلها وحتى ذكر اللوحات خلف الشخوص في بعض الأمكنة وطريقة الجلوس وكل تلك التفاصيل الصغيرة والتي العديد من الكتّاب يبتعد عن إدراجها في سرديته ويكتفي بالتركيز على الحدث، وذكر عناوين لكتب وتفاصيل دقيقة في عدة مواضيع دفعة واحدة أو على دفعات ومع ذلك فلم تُسهب أو تدقق في ذكر الملامح للشخوص والأسماء مباشرة وذلك يعد أيضاً أسلوباً ذكياً في السرد ما بين مدٍ وجزر، أخذٍ وردّ، وقد بررتُ لها ذلك بأنه إعطاء ومنح للعمومية بدل التخصيص فعدم ذكر الملامح جيدا" تمكين للرؤية السردية للشخوص التي من الممكن أن تكون سحب للحالة الخاصة إلى حالة عامة، فأي إنسان بظروف مماثلة قد يكون بطلاً أو أحد أبطال هذه السردية" وذلك بالخروج من الجرح الشخصي إلى الألم الإنساني المتنقل، على الرغم من أن السردية بكاملها تتحدث عن الوجع السوداني، لكن تلك الإشارات تجعله ممكن التعميم وقابل للإسقاط من الجرح السوداني إلى الجرح الإنساني، فهل وصلت الرسالة بمهارة؟ أظنها قد وصلت 

 وكي أبرر رؤيتي تلك لابد أن أطرح هذا السؤال المحدد، أليس ما جرى ويجري في السودان الشقيق حصل في عدة دول وعواصم عربية وأجنبية؟ أليس ما حصل مع الأبطال ممكن حدوثه على الامتداد الإنساني البشري وفي مختلف الحالات!

 ولو حيدنا الجانب السياسي والديني ربما وحساسية الطرح من وحدة الأديان والدخول في تابوهات قد يرفض مناقشتها البعض، نسأل سؤالاً بريئاً أليس من حق كل الشعوب أن تحصل على حريتها وأمانها كما تناضل بطلات هذه الرواية على اختلاف مشاربهن ومعتقداتهن وميولهن وآمالهن وأحلامهن؟ ألم يكن النضال في المرتبة الأولى نضالاً إنسانياً بحتاً للحصول على حق الحياة وحق تقرير المصير وحق الحب والمساواة، بغضّ النظر عن أي إضافات أخرى، أليس نضال الخير ضد الشر بالمطلق يستحق تسليط الضوء، أليس السلام مطلب الأسوياء؟ 

 الأفكار متشعبة والمعلومات كثيرة وكثيفة مابين الأمكنة والأزمنة والجغرافيا والأدب والفلسفة والتاريخ

والآثار، الكتب، اللوحات الفنية، الحب، التمميز العرقي والطائفي والديني والعنصري، والضياع وفقدان الهوية الدينية والسياسية والفوضى والجريمة والموت الكثير، ولكن تغلب الإنسانية وتجاهد البطلات للحفاظ عليها… 

 "حفيدة غردون باشا" سردية وجع من النمط الطويل، تقع في ٤٠٠ صفحة صادرة عن" دار رشم للنشر والتوزيع"، مقسمة إلى سبعة أقسام والكثير من العنونات، لكن كل قسم افتتح بمقولة فلسفية تركز الأفكار وتساهم في سلاسة السرد، بيد أنها تجتمع في أغلبها على ذكر الأحلام والكوابيس من وجهات نظر لعظماء مختلفي المشارب والبلدان والأعراق والميول.

 *افتتحت القسم الأول بمقولة ل "أوسكار وايلد"  

« لقد وعدوا أن الأحلام يمكن أن تتحقق، ولكنهم نسوا أن يذكروا أن الكوابيس هي أيضاً أحلام» 

 *وافتتحت القسم الثاني بمقولة ل" ريتشارد آرمور

«هناك بعض العزاء في حقيقة أنه على الرغم من أن أحلامك لم تتحقق، فإن كوابيسك لن تتحقق أيضاً» 

 *والقسم الثالث افتتحته بمقولة لريتشارد جيني« قد لاتتحقق أحلامك في الحياة…ولكن عاجلاً أم آجلاً، ستتحقق إحدى كوابيسك» 

وبقية الاقتباسات الفلسفية كلها كانت من الركائز المؤثثة والداعمة لهذه السردية الطويلة المتشعبة 

فمن "إيلين باجلز" إلى "ألبرت أينشتاين" إلى "فريدا كاهلو" وكل هذه الألسنة لها مشاربها واهتماماتها وأعراقها ولكن تجمعهم فلسفة الحياة ومنطقها الإنساني؛ فالحلم بشقيّه "حلم/كابوس" ماهو إلا تتبع أثر لصفحاتِ الحياة

 

الشخوص

٭لدينا ثلاثة شخوص أنثوية

 - 1الشابّة الكاتبة والتي تبحث عن نهاية جامعة مقنعة لروايتها "رواية داخل رواية" «ست النفور الفتاة السودانية في الزمن الحاضر

 - 2الباحثة عن أحلامها «آن موريس». 

 - 3الباحثة عن الرضا «راشيل أو راحيلا». 

٭وهذه الشخوص الثلاثة ساعدت على تدفق السرد على امتداد الرواية لإثبات أحقيتهن في الوصول إلى مبتغاهن من "أمان/تحرر/قبول/حب/.. 


٭الشخوص الذكورية الفاعلة

زكريا» الجد وهو ركيزة أساسية في السرد عاصر الأزمنة المطروحة في الرواية وكان شاهداً وأداة ربط 

قرشي» ذلك العاشق المنتظر على الأعتاب لينال الرضا والقبول" استمرارية للعادات

- «كيدان» الضائع بين الحب والواجب والأخلاق 

- «جاك» الشخصية المستقرة المحبة 

والعديد من الشخوص التي مرت خلال السرد لتزيد التدفق وتحقق التوازنات :

هيباتيا ابنة عنايات، العبد المخلص، الآنسة سين، حسنى، زنوبيا، جميلة، … 

وجود الأنساق الثلاثة السردية جعلت القارئ عادياً كان أم نخبوياً يميز تلك الأنساق، وكأنها ثلاث رواياتٍ تسرد معاً "اكتناز بالمضمون والثيمات" بالإضافة للرواية التي كانت تكتبها "ست النفور" عن" آن موريس" والتي أخبرها جدها أنها روايتها هي؛ أي رواية الشرق ممثلاً بالسودان هو من يحقّ له كتابة السرديات وخاصة ما يتعلق منها بالوجع وإسقاطاته، وليس الغرب ممثلاً ب "آن موريس" والذي كان له دوره المشبوه في تواريخنا وجغرافيتنا على اختلاف وامتداد العصور وتبدل الطّغيان والاحتلالات والنهب، ومؤخراً بافتعال انشقاقاتٍ بين الأخوة بذرائع مختلفة أغلبها متوهّمة غذاها الاستعمار وكرسها التخلف والجهل والتعصب.

فالخاسر ست النفور الباحثة عن ذاتها وحلمها بعيداً عن قلقها من كوابيسها وقبول الآخر لها، ذلك القبول المستحيل الذي يتوجب عليها أن تبرره ب" ٧٧سبب" ليثبت ويستمر، وكأنه كابوسها وليس حلمها بعد أن بدأ الشيب يغزو شعرها والقلق يسود مستقبلها والألم يغلف قلبها، فوجعها قديم ومستمر كأمها السودان وكأشقائها وشقيقاتها في الإنسانية المتألمون والمألومون..

فلا تلك التي تزوجت مبكراً "قاصر" قد نجت ولا التي حصلت على حريتها بالاختيار دون قيود أو شروط نجت، ولا تلك التي مازالت تنتظر نجت...فمتى ستنجو إنسانيتنا من الضياع ومتى نسترد الحقوق ونحقق الأحلام دون كوابيس؟ 


تقول "تسنيم " في الصفحة ٢٢١

«ذلك اليوم، بكيت بحرقةٍ على ذكرياتنا في مدينة فاس العتيقة أيام طفولتي، لما تذكرت "كنيس دنان" وباب السمارين في فاس العتيقة، وحديقة "جنان السبيل" وباب بوجلود" و"العطارين" و"راس الجنان" و"مقبرة معيرة" التي تقع في باب الجياف، والتي كنا نزورها كل عام برفقة أمي لزيارة قبور والديها وبقية أهلها وفاء لذكراهم في عيد الأموات

ووصلت شجوني أوجها لما تناهى لسمعي أصوات اليhود المغاربة يتحدثون، ليس بالعب. رية، وإنما بلغتنا القديمة التي كنا نتحدث بها في ملاح فاس. فأرخيت أذني لحديثهم، ثم بكيت بحرقة مع تألمهم، وهم يبدون حنينهم إلى المغرب وإلى جيرانهم المسلمين القدامى الذين يشعرون نحوهم بالانتماء لتشاركهم في العادات والتقاليد واللغة، أكثر من انتمائهم إلى جيرانهم هنا من اليhود الأشكيناز الوافدين من شرقي أوروبا الذين يتكبرون عليهم، ويعاملونهم بتعالٍ وعنصرية كتعاليهم على بقية يhود السفارديم من الجزائر وتونس والأندلس، أو يhود اليمن والعراق أو يhود الفلاشا القادمين من إثيوبيا والسودان» 

 *مازالت الأطماع مستمرة منذ القدم فالذهب والنفط والبترول والآثار والموقع الجغرافي بالإضافة للمبررات وتجار السلاح وضعاف النفوس مازالوا على رقعة الشطرنج والرهان الأقوى الإنسانية الجامعة والتي ستنقذ من الكوابيس

 تقول في الصفحة ٢٨٩:

« استرجعت رحلة مجيئي إلى السودان قبل ثماني سنوات عندما وصلت محمّلة بأحلام البحث والتنقيب في آثار حضارة فراعنة كوش»


هذه الرواية المركبة، هي سردية مميزة بأفكارها وطريقة طرحها المتشعّب وكثرة شخوصها وأمكنتها وأزمنتها، والمرتبطة بخيوط شخوصها على امتدادات شاسعة من الجغرافيا والتاريخ والحلم، هي رواية عن الألم والوجع وفلسفة الحياة، والبحث عن الطمأنينة والجذور لكتابة فصلٍ صادق من فصول الحياة قد نصله فيما بعد دون تكرار للألم وبكل إنسانية


 ريم محمد /سورية

 نُشر في المنتدى العربي للنقد المعاصر:  https://www.facebook.com/share/p/1KWMRaAChN/

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مَوْسِمُ العَوْدِة إلى الشَّمال

قِصَّة قَصِيرة: مَوْسِمُ العَوْدِة إلى الشَّمال