قبل البدء :
إن المقبل على قراءة
الرواية سيتوقف ذهنه لحظات من مجرد تحديد الهوية للكاتبة "السودانية"
،ليقفز ذهنه الى السودان وصور الدموع والبكاء والنحيب والموت والدمار التي ما تزال
تقتحم مخيلة القارئ القريبة جدا والتي تنقلها في كل آن وسائل الإعلام كمادة
إعلامية دسمة تحقق نسبا عالية من المشاهدات "مصائب قوم" ، ليصاب القارئ
بارتباك يحيله على استفهام جذري وبصره يرتطم بالعنوان المتورط في ماض ليس اجمل من
الحاضر " ماذا ستقول "حفيدة " سودانية عن الماضي كله في إحالة
مباشرة على "جد" هو الشاهد الغائب الحاضر كدليل عن كل ما فات ولم ينقض
إلى اليوم ؟
وان كان العنوان لا
يحدد المكان فإن الشخصية المضافة إليها الحفيدة هي الأساس في هذا الخضم المتوتر.
ومن هذا المنطلق لابد
من معرفة هذه الركيزة التي التحقت بها الساردة وفق توظيف نحوي لغوي بيّن.
*الشخصيتان الرئيسيتان "
"غردون باشا" هو الجد الحاضر الغائب، هو ضابط بريطاني لقبه الأتراك
"باشا" أثناء صولاته وجولاته في السودان.
هو قائد عسكري بريطاني تولى قمع الثورة الصينية
"تايينغ" ثم عينه الخديوي اسماعيل حاكما للسودان من 1877 إلى 1880.
اين حاول اصلاح الإدارة
والغاء تجارة الرقيق لكنه واجه فسادا وفوضى عارمة. تقول في الصفحة على لسان احد
المجرمين "انت أوروبية، لا يمكن أن تباعي جارية في سوق النخاسة
.."
وقد قتل الجد سنة
1885بعد أن حوصرت الخرطوم أكثر من عشرة أشهر اثناء الثورة المهدية عندما ارسلته
بريطانيا لإجلاء الرعايا البريطانيين ، لكنه قرر البقاء والدفاع عن المدينة.
إذن الجد مخضرم الرمزية التاريخية ففي الغرب هو بطل تراجيدي ،
رجل شجاع قتل وهو يؤدي واجبه. في السودان: هو رمز لفترة الحكم التركي المصري والتدخل البريطاني ولحظة انتصار
الثورة المهدية .
"-ست النفور "
هي ليست مجرد ساردة
للأحداث بل هي جسد يتذكر ويحاول بناء ذاته من خلال السرد .إذ تتحول من مجرد السرد
إلى تفكيك صورتها، تاريخها، علاقتها بالماضي وبكل ما تحملته نسبتها إلى
"غردون باشا" من دلالات استعمارية تعسفية ثم إصلاحية دفاعية.
الساردة تتقلب بين ماض
خام رمادي بين التعسف واللين الفساد والصلاح وبين حاضر مضرج بالانقسامات
الأيديولوجية المتوحشة .
الساردة لا تأخذ قصص
التاريخ كوثائق وانما كمساءلة في قالب نقدي للحيثيات والأسباب والنتائج، وهي بذلك
لا تشكو وانما هي في موضع الفهم والمقاومة الناعمة من خلال الوعي والكتابة.
من خلال الساردة يقف
المتلقي على حالة الاضطراب الذي يعيشه السودان جراء الإرث الاستعماري الذي يمتد
ليصبح حالة اجتماعية ممتدة تخشى العنف وتمارسه ضد الآخر احيانا دون سبب الا كونه
لا يدين بدينه ولا يعبد ما يعبده هو.
"ست النفور" تظهر كشخصية متوترة جراء النسب الذي يأخذها إلى الخارج إلى
الغرب من جهة والانتماء إلى السودان بلد الأجداد والنشأة، من جهة اخرى.
هذا التوتر جعل الساردة
مشوشة الفكر وهي تنقل مسيرتها الآنية، ليكون الاسترجاع هو الكفيل بتوضيح ما فات كي
تقيس المسافة بين الماضي والحاضر دون ترتيب أو تنظيم وقد تتعسف على الأحداث
بسردها، لا وفق تواترها الزمني الفعليّ، وانما من منظارها هي كراو شخصية، وبذلك
تكون فاعلة في صناعة الحقيقة لا مجرد ناقلة لها فتنتج للمتلقي سردا إنسانياً
جديدا، قد يجانب الحقيقة والواقع في عديد المحطات. وهي كامرأة فاعلة ترد على
المجتمع الذي يغيب المرأة من الفعل الثقافي والاجتماعي والسياسي.
"ست النفور" ليست مجرد شخصية روائية وانما هي ساردة تكتب وهي تبحث عن
ذاتها وعن الحقيقة المنقوصة والمفروضة من الاقوى الرابح في النزاعات خاصة .
فالكتابة عندها ليست تاريخا وتوثيقها وانما هي رحلة تأمل وبحث داخل تاريخ المجتمع
و تاريخ عائلتها الممزق بين إرث استعماري غريب وواقع اجتماعي محلي متوتّر قائم على
الصراع ، هذا التذبذب والتشظي يدفع الساردة لتلتقط الحكايات الشفوية التي تحتفظ
بها النساء، لفهم هويتها وتحريرها من ثقل الماضي لتعيد رواية التاريخ بصوتها الخاص
وتحول الجرح القديم إلى وعي جديد يتجاوز المحن لبناء مستقبل اجمل يعم فيه السلام
والوئام.
هذا الثقل التاريخي
المتصدع هو الذي سيدفع بالكتابة إلى اتباع تقنيات سردية حداثية، إذ نجد السرد
وراءه سرد آخر، اي أن القصة الإطار تحيل على قصة أو هي قصص أخرى داخلها باعتماد
الاسترجاع وجعله ركيزة لحاضر مشوّه هو الآخر.
الساردة "أحيت
" الجد الذي تريد ان يبارك ارتباطها " بكيدان " المسلم ستكتب عن
عائلتها، حتى زمن الكتابة حولته إلى فعل للخلق الذاتي في إطار ما وراء السرد في
منحى علاجي جماعي لمجتمع لم يتصالح بعد مع ماضيه وتاريخه القريب والبعيد.
الكاتبة ترفض فكرة
النقاء القومي الذي فتك بهذا الشعب وجعل بعضه عدوا لبعض. تلك العقلية التي اعتنقها
هتلر إيمانا منه أن السلالة الألمانية هي الأنقى والاجدر بالبقاء والسيطرة على
الدنيا كلها.
-الزمكان في الرواية:
تنطلق الاحداث من محطة
القطار التي توفرت فيها كل مقومات الصراع والعنف بمعجم ينقل ساخة حرب ساخنة تقول
في الصفحة 12:
لم اخرج من هلعي، الا
بهلع جديد عند تصاعد أصوات هرج ومرج وجلبة سبقت ظهور أفواج جنود مدججين بالسلاح
....تسبقهم سحب الغبار التي اثارتها حوافر جيادهم الضخمة
"
ثم ان الساردة في هذه
الفترة تستحضر الماضي المرتبط بطاغية كرمز للفاشية التي خرمت الدنيا في بدايات
القرن العشرين فالقول :
_يحيى موسوليني ...
تحدد الساردة الزمن
المقصود باصرار وترصد.
فالازمنة ستتلاحق حينا وتتقاطع حينا اخر برهانا على هذا التوتر الذي يتملك
الساردة التي تصاحب حبيبا لتكون البداية عاطفية وجدانية تتقاطع مع الظروف المنتقاة
عبر تاريخ دموي أليم.
الساردة تسعى إلى وصف جمال السودان وتنوع الطبيعة فيه وهي تذكر المناطق والقرى
والفيافي بمسمياتها تقول في صفحة 17:
_" حاثا اياه على مواصلة الركض بنا في شسوع رمال " بر الدناكل"
الذهبية" ثمّ" كيف تجاوزنا صحراء الدناكل وعبر الحدود الايريترية السودانية وقطعنا فيافي شرقي السودان من كسلا.....
ختاما يمكننا القول إن
هذه الرواية مثلت انتقالا نوعيا. من الرواية التاريخية إلى رواية ما بعد الحرب
برغبة في مصالحة اجتماعية تقبل التعايش بين الفئات كلها بعيدا عن عقد التفوق
والرغبة في إزاحة الآخر لمجرد انه مختلف عنه..
من خلال حفيدة تبحث عن
أصلها وفصلها عرفنا قصة السودان وسبب همومها ومعاناتها على مر العصور.
حبيبة المحرزي/ تونس

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق