رواية طويلة بعدد صفحاتها؛ خاطفة ثريّة أخذتني إلى دهشة التدفق السردي؛ بأسلوب فيه الكثير من التحكّم والسحر. شكلت الكاتبة 400 صفحة في سبعة فصول ذاخرة بمشاهد وصور وأحداث وضعتنا أمام اللؤلؤ الأسود الأندر والأغلى على جيد فاتنة استثنائية الحضور والصفات هي السودان..
"حفيدة غوردون باشا" رواية
بعنوان أعجمي؛ فلماذا؟
ماذا أرادت أن تقول؟
النيلين الأبيض والأزرق هُمَا هُما على جمال اختراقهما
روعة الغابات والمدن و الحقول.
بدءاً من أعالي منابع النيل؛ رمال صحراء الحبشة؛ بر
الدناكل؛ وادي النهر العظيم؛ الخرطوم؛ أم درمان؛ القاهرة؛ اسبانية؛ فرنسا؛
بريطانيا، المكان الذي استحضره خيال (الراويةـ الكاتبة) بينما امتد الزمان من
الحرب العالمية الثانية وما قبلها أحياناً إلى الآن حيث حرب طاحنة في السودان بين
قوى متناحرة متحاربة.
هنا؛ افسحتِ الكاتبة للحلم مساحة، وللخيال ما أمكن من
تحليق؛ فأنجزت رواية في لغة تشبه غابات المناطق المدارية والاستوائية غنية بالظلال
واللون والغرابة والمفاجآت والعراقة بدءاً من تشابك الجذور والأنساب.
في روي وتداخل حكائي تَقَارب السّرد القصصي مع شهرزاد
الحكاية فكانت؛ آن موريس الشابة آتية من فرنسا لتغطية عمل يتعلق بأبحاث أثرية كوجه
لـ
-حفيدة غوردون باشا الامتداد لاسم/
بريطانية/ في المنطقة كلاهما وجهان لـ
- ست النفور رمز الأم السودانية
المتجذرة في المكان والزمان.
إذن نحن أمام بطلات ثلاث في شخصية واحدة لا تُشكّل وجهَ
امرأة أنثى عميقة الانتماء؛ بقدر ما تُشكّل هويةَ المكان وتاريخه وعادات المجتمعات
فيه؛ كما تُشكّل حضور الغرب مع نبض حياة متغيرة بين جيل و جيل، وبين مرحلة زمنية
ومرحلة، وبين المناطق والجغرافيا أيضاً؛ رغم الحروب الدائرة التي تقتل المبادئ
والقيم ؛ وتقتل الشباب وتسبب الهجرات، وتجعل من بقي مضطرباً على الدوام..
يحمل لقب ست النفور الجدة طابع ربة الأسرة، جامعة أفراد
العائلة الكثر تحت عنوان الإلفة والالتزام وقد أطلقه الجد على البطلة.
توسّع السّرد وتشعب بما يشبه الحكايات التي يُعرف بها
السودان وسائر افريقيا عموماً فمتعة الحكي لا تنطفيء ولا يخبو نورها...
خطوط عريضة للرواية:
الحلم في البناء الدرامي:
كان الحلم نموذجاً إبداعياً انطلقت منه بداية الروي ما
جعل القارئ يقظاً منتبهاً إلى كيفية تشكّله (الحلم)وما تبعه من صور و تداعيات أتبعتهُ
الرّاوية بحلم ثان فثالث.. حيث تشابكت الغرابة مع الممكن مع الواقع و الخيال في
آن؛ فأخذنا إلى العدم مرة، وإلى العبث أخرى، والى الإدهاش في كل مرة؛ كي يصل إلى
هدفه ...
الشخصيات بين الحكاية والرواية:
الشخصيات ابنة بيئاتها فهي أوروبية في اسبانية و فرنسا
ابنة حضارة تحياها هناك تختلف عنها في الطريق إلى بيت جدها حين تعرضها لهجوم من
(عصابة تخطف وتغتصب).
تصبح لطيفة رقيقة دامعة العينين في المقبرة أمام ضريح
جدتها وأبيها رقيقة ذكية تستدرج جدها لإقناعه برؤية حبيبها والموافقة على خطوبتهما
حبيبها الإرتيري القوي الشاب الذي تزور معه في الحلم
أماكن كثيرة ، لا يتصل بها في الواقع إلا نادراً ومع ذلك تستدعي له 77عذراً
..
تقدم بيئة أفريقيا عالم القص الشعبي والطقوس والأساطير
ما يجعلها خصبة اللغة والخيال والصور ينهل منها السارد مهارة وذائقة، كما تُقَدّم
بيئة خصبة للجمال الطبيعي، وخصوبةً في العلاقات والعادات وأنواع الطعام والأعراس
والزواج والأعياد فيها القبلية والمدنية والتنوع الإثني والديني والعرقي أثرت فيها
المنازعات بين القبائل والدول وحروب الكبار على أرضها مما عمّق الغربة و التوتر
والهجرة القسرية والطوعية.
تعدد الأماكن وتنوع الجغرافية:
جعل الرواية رغم تشعبها وتشابك شخصياتها وفصولها لا
تنتمي إلى مكان وعادات ولغة وحسب؛ وإنما تنتمي إلى العالم الجامع في إنسانية واحدة.
الأب من دين وطائفة والأم من دين آخر والجد ينتمي إلى
قبيلة وجغرافيا ولغة وعادات..
يتبع الحفيد (كل هؤلاء الذين اجتمعوا في واحد) تجذرت فيه
الأصول ونبتت حوله عشرات الحالات المشابهة المتشابكة.
هذا ما قدمته الراوية على طبق السرد مع كل من الجد
زكريا، قرشي كيدان، ناصر، حُسنى(الجمال والأمومة) العمات والخالات والصديقات....
فكتبت عن كل شيء بما فيه الحب العصابات الزواج والذهاب إلى النيل لنيل البركة.
تداخل الأسماء والأحداث
الأسماء في الرواية:
أسماء الأشخاص صفاتهم القوة الرجولة خوض الحروب الشهداء
ثم أسماء المرافئ والشواطئ والمطارات الشوارع المدن الأحياء القرى الطعام البهارات
الفنادق المطاعم الكافيهات كمادة للسرد.
أجيال متعددة وتفاعلها مع تاريخ طويل من المتغيرات.
الأحداث التاريخية الحروب الثقافات العادات الأديان
التعصب للدين والمذهب التشابك الشديد لدرجة التعقيد بين الذاتي والعام.
ممارسات أراها متناقضة:
البطلةُ تحب صديقتها حُسنى التي تقف إلى جانبها في
المرض، ومع ذلك تخونها مع زوجها، فيما بعد تترك كل شيء وتذهب للبحث عنه في ارتيريا.
البكاء طقس شعبي قائم لدى جميع الأعمار وفي كل مكان، البكاء
على الأبناء والأحبة والأضرحة عالم له شخصياته وأحداثه وبُنَاها وحقول دلالة تشير
إلى تاريخ مجتمعات وأماكن أثرية.
يصعب على القارئ تمييز خط سير الرواية من صفحات عشر..
يحتاج أن يغوص في عوالم الشخصيات مع الكاتبة الحرة
البعيدة عن الكتابة التقليدية بأسلوب تعدد الرواة، بتوظيف الحلم، بتشكيل خطوط
السرد، كل شخصية على حدة وكأن لكل راو حكاية غنية متشعبة لا تشبه سابقتها أو
سابقاتها.
عوالم وأزمنة متفاوتة بين فرنسا القاهرة الطائرة السودان
قبل الحرب العالمية الثانية، أثناء الحرب وبعدها أثناء حروب الجوار الحرب الأهلية
منابع النيل البحث عن الذهب حرب العلمين حرب السودان الأخيرة الدعم السريع، فترة
استقلال الجزائر استقلال المغرب....
الرواية عامرة بتواريخ ومتغيرات مستمرة ساهمت في بناء
حركة الشخصيات عبر تاريخ امتد بين الجد ووالده والجدة والأبناء والأحفاد في بيئة
منوعة الطوائف والديانات متآلفة في كل شيء، متفقة على رفض الزواج من طائفة أخرى
وحين يقرر الحبُّ التمرد على تلك التعاليم الفاصلة بقي رهين ندم واضطراب علاقات
طوال الحياة الزوجية....رغم الانتقال إلى بريطانيا وفرنسا واسبانيا.
ست النفور البطلة آن موريس
القادمة من فرنسا لإجراء بحث لصالح مؤسسة السيدة المتهورة/ سين/
وصلت مسبقاً إلى الخرطوم ثم أم درمان لتهيئ الفرصة لحضور
خطيبها لكسب موافقة جدها على خطوبتهما.
كيدان متزوج من أجنبية لا
تسمح له القوانين بالطلاق كما أنه يحب زوجته.
استثمرت الراوية كما هائلاً من الصور والأفكار في مشاهد
لا تقف على فكرة ولوحة ومعنى بل تتجاوز إلى ما هو أعمق وقد استثمرت فن الحكاية
بغناه وتشويقه وغرابته وقد ذكرني بألف ليلة وليلة (التماهي بين الخيال والحلم
والحقيقة والأسماء والأماكن بما يدعم حاجة الراوي ويوظفها بلغة حية مقنعة).
حين قال نزار قباني عن سيدات السودان بأنهن جواهر لم يكن
بعيداً عن الحقيقة.
الحب هو الكائن الهلامي الوحيد الذي لا يستطيع المرء في
هذه البلاد التحكم به أو السيطرة عليه ولا الاستغناء عنه، يولد مع المرء وينمو كما
الجسد والوعي ويترك كل شيء جانباً كي يحقق السعادة التي لا يحققها أي شيء آخر.
وتبقى تجارب الحب فردية تصيب كالسهم أو تخطئ فيتوه المرء
إلى الأبد..
الحب لم يكن وحده الخيط الناظم للرواية...الخيط الناظم
هو اضطراب الحالة التي تعيشها الشخصيات..
السبب الأساسي هو الحب والمغامرة ثم قدوم آن موريس للعمل
لصالح شركة غربية ترأسها (الآنسة سين) وهي شخصية إشكالية لها هدف معلن وأهداف
غامضة..
الخيط المستمر هو التوتر الذي تحياه المنطقة ظاهراً
بينما في الخفاء تمارس قوى كبرى أقصى ما تستطيع كي تستحوذ على منابع الثروة.
فهل جاء التلميح في العنوان (حفيدة غوردون باشا ابنة المكان
ولها حق فيه)؟
من هنا تصبح الأهداف الفردية باهتة في سياق الحروب؛ فسبب
الحرب هو تلك اللآلئ الأغلى على(جيد البلاد) الجميلة الفاتنة.
ضرورة العودة إلى فرنسا وبريطانيا كوطن بديل رغبة
بالاستقرار والكتابة والتأليف...المنازعات هنا والاستقرار والازدهار هناك.
موت البطلة ملحوظ
رغم ذلك تستمر الأحداث لإقفال الدوائر المفتوحة..
تتحق النهايات في أوروبا حيث مسقط رأس جيلين على الأقل، فمن
تتوه الحياة عنهم في بلادهم الأصلية تجدهم هناك بين مطعم وجامعة ومحطة مترو أو
قاعة انتظار.
أشعر أن لكل عمل روائي نكهة حضور ومادة تفرض ذاتها على القارئ
فتنعش في وجدانه شيئاً أو وعياً، وتحييه..
شكراً للكاتبة تسنيم طه ....شكراً جزيلاً.
جدوى عبود/ سورية
نُشر بتاريخ 15 نوفمبر
في صفحة المنتدى العربي للنقد المعاصر
:
https://www.facebook.com/share/p/1CBpqYHY9H/
#حفيدة_غردون_باشا
#تسنيم_طه #رواية

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق