السبت، 11 أكتوبر 2025

وَصِيَةُ جَاكُوب (فَصْلٌ مِنْ رِواية)

بقلم/ تسنيم طه

 



- أنا خائفة يا أخي، كيف سندخل البحر في هذا الليل؟

- لا تقلقي يا أختاه! فقد قال القبطان إن البحر هادئ والقمر الوليد لن يؤثّر على المدّ والجزر.

يستفزّني برود أخي دون أن تطمئنني إجابته. أتشبّث بذراعه وأغمض عينيّ، ثمّ أفتحهما، وألتفت ناحية صاحب الصوت المتضجّر:

- أيّها القبطان، افعل شيئًا! ألا ترى أن السفينة لا تريد ترك ميناء "ملقا"، كيف لها أن تبحر بهذه الأشرعة المرتخية؟

تتعالى أصوات أخرى في جوقة مردّدة ترنيمة "إيفيجنيا" في معبد أوليس للإلهة "أرتميس"، قبيل مراسم التضحية بها فداء للظبي المقدّس الذي قتله والدها أَجَامِمْنُون.

- اتركوا أرتميس وشأنها! فلن ترسل لكم الريح كما تمنّى أَجَامِمْنُون أن تسخّرها له، لكي يبحر إلى طروادة.

يزجرهم القبطان، فيؤمِّن على كلامه في جوقة رجل موريسكي وآخر يهودي، قبل أن يصيحا في جموع المسافرين المتحمّسين:

- أجل، دعونا من آرتميس، إلهة الصيد، ولنمجّد إله البحر "بوسيدون"، حتى يحرّك الأمواج ويوصلكم إلى "طنجة" بسلامٍ؛ فهي مكانه المفضّل، مكان التقاء البحر والأرض، المكان الذي أنجب فيه "عنتي"، بعد اتّحاده مع إلهة الأرض "غايا".

يسود هرج ومرج، تتبادل فيه أصوات الجموع المتعبة أحاديثَ غير متّفقة حول أسطورة "أنتايوس"، ومكانة مدينة "طنجة"، و"عنتي" ابن إله البحر وإلهة الأرض "غايا". ثمّ ترتفع أصوات أخرى ممجّدة للإله تصيب البقية بالعدوى فيصيحون ممجّدين:

- بوسيدون! بوسيدون!

في هذه اللحظة، تهبّ نسمة ريح خفيفة وتبدأ أشرعة السفن في التأرجح، فتتعالى صيحات الفرح والحماس، قبل أن يسود صمتٌ مهيبٌ عندما تعود الأشرعة للارتخاء مع خفوت الريح. ويعود الهرج والمرج عند استئناف الناس تمجيدَ إله البحر، قبل الدخول في مشادّات كلامية جديدة بين الجموع حول أصله:

بعضهم يفترض أنه أخو الإلهين الإغريقين "زيوس" إله السماوات، و"هاديس" إله العالم السفلي، وأنه هو الذي بنى طروادة،

والبعض الآخر يفترض أنه إله أمازيغي من ليبيا، وُجِدَ قبل أن توجد الحضارة الإغريقيّة.

يُطالعهم القبطان بنظرةٍ من فوق كتفه، ثمّ يمسح على شاربه الكثيف، قبل أن يُطلب منهم أن يتركوا إله البحر قليلًا ويغنّوا للقمر الآن، لعله يظلّ عطوفًا عليهم، فلا يزيد في اهتياج المياه أكثر من اللازم. تطيع الجموع، فينخرطون في تصفيقٍ ورقصٍ يصاحب دندنة أغنية "Hijo de la Luna" (ابن القمر)، ثمّ يعودون إلى تمجيد "أرتميس" مؤكّدين للقبطان أنهم لا يمجّدون هذه المرة إلهة الصيد، بل إلهة القمر.

أحاول الترديد معهم لعلّي أهزم مخاوفي، لكنني أفشل ويتضاعف هلعي عند استحضار قصة الرجل الذئب، رغم أن القمر ليس بدرًا. ولمّا ترتفع الأمواج، ينفلت لجام خوفي، فيقذف بي هلعي إلى حضن أخي، الذي كان قد رجع إلى الانكفاء على قراءة كتبه تحت إضاءة قنديل خافتة.

أبعدني أخي عنه بهدوءٍ، ثمّ أزاح نظّارته الطبّيّة قبل أن يطمئن:

- اهدئي يا راشيل!

- لا تنادِني براشيل! بل باسمي الحقيقي مثل جدّتي راحيلا! ما هذه الأمواج التي مثل الجبال يا جاكوب؟ انظر، إنها تكاد تبتلع مركبنا!

- هذه مجرد تهيّؤات يا أختي، أرجوكِ، اهدئي!

أغمض عينيّ لكي أهدأ، فلا أنجح، فأعود إلى طرح الأسئلة على أخي:

- هل لو نجونا، سنجد أنفسنا في جزيرة مع ساحرات، مثل الساحرة كيركي التي احتجزت أوديسيوس؟ يا إلهي! لو كنتُ أعلم لكنت أصغيتُ لحدسي، وبقيت في غرناطة لأشارك المسلمين في ثورة "البيازين" ضد جنود الملكة إيزابيلا والملك فيردناند، أو لربّما ذهبتُ إلى العرافة "أماندا"، التي ورثت فنّ تعاليم العرّاف تيريزياس وعرّافات ديلفي، لتقرأ لي طالعي وتطمئنني على مستقبلي.

- ما هذه التخاريف؟ كفّي عن هذا الهراء يا رحيلا! نحن نهرب من الأندلس، وبعيدون كلّ البعد عن "ديلفي" وعن اليونان، وعن افتتانك بحضارتها الوثنيّة.

وبينما أهمّ بالردّ على أخي لأوبّخه على تعامله معي بهذا البرود، تتوقّف أمامي امرأة شابّة تحمل طفلًا يسيل المخاط من أنفه لتسألني بالإسبانية:

- "بُور فَافُور، كِيهْ أُورَا إِسْ؟" (Por favor, que hora es ?).

ألتفت نحوها بذهولٍ ثم أصرخ فيها بغضبٍ:

- لماذا تسألين عن الساعة في هذه الظروف أيّتها الحمقاء؟

تطالعني بذهولٍ قبل أن تبتعد وتنضمّ لمجوعة نساء مفترشات أرضَ السفينة، يثرثرن بالقرب من مجموعة رجالٍ ينصتون باهتمامٍ لخطبة رجلين معتمرين لعمامتين تضفيان عليهما هالة هيبة ووقار.

أطالعهما بفضولٍ ينسيني خوفي برهة، ألتفت فيها ناحية أخي؛ لأسأله عن أمر هذين الخطيبين الجالسين متجاورين فوق دكّة خشبيّة.

- صاحب العمامة البيضاء يُدعى "ابن رشد"، وهو فيلسوف ومؤلّف كتاب "تهافت التهافت"، الذي ردّ فيه على كتاب "الغزالي "تهافت الفلاسفة". وصاحب العمامة السوداء يُدعى "موسى بين ميمون"، وهو فيلسوف ومؤلّف كتاب "السراج والمشناه توراة" الحاوي لمبادئ الإيمان الثلاثة عشر في الديانة اليهودية. الأول مسلم والثاني يهوديّ، وكلاهما مهتمّ بفلسفة أرسطو.

يجبني أخي بهدوءٍ قبل أن يعود للتحديق في صفحة الكتاب بين يديه. وبدل أن أفهم الرسالة وأتركه وشأنه ليهنأ بلحظة صمت، يدفعني غيظي من بروده للتمادي في الثرثرة، وابداء استغرابي وقلقي وخوفي من عدم اندماج جاليتنا اليهودية مع الجالية المسلمة الهاربة مثلنا من الأندلس، بعد أن أجبرتنا محاكم تفتيش الملكة إيزابيلا على الاختيار بين التنَصّر والقَشْتَلة أو الرحيل.

- لا تقلقي، سيتعايشون كما تعايشوا في دولة الأندلس طوال ثمانية قرون، وكما سيتعايشون في المستقبل إلى أن تفرّقهم حرب "الأيام الستة" وحرب "الكيبور".

- "الأيام الستة " و"الكيبور"؟ ولكنّ هذا مستقبل بعيد يا جاكوب؟

- الماضي والحاضر والمستقبل، كلها أزمنة تسير في خطّ لولبي يا راحيلا، وكلّها تتقاطع في نقطة خطّ الزمن اللامتناهية، لتصنع حيواتنا وقراراتنا ومصائرنا. نحن مصيرنا الأول كان الشتات بعد أن تركنا موسى وذهب للقاء ربّه، وعاد ليجدنا نعبد العجل. وها هو الشتات الثاني يلحق بنا بعد أهوال محاكم تفتيش الملكة إيزابيلا القشتالية، وسيأتي الشتات الثالث عندما ستلاحقنا الجيوش النازية بأوامر من هتلر أفظع مجرم في تاريخ البشرية. هذا هو تاريخنا يا راحيلا، ولن نستطيع الهرب منه، ومن اللعنة التي أصابت بني إسرائيل لمخالفتهم تعاليم موسى.

- وكيف لنا أن نعود إلى الصراط المستقيم، ونرث الأرض، ونكسب في معركة آخر الزمان "هَرْمَجَدُّون" يا جاكوب؟

- ولماذا علينا الدخول في معارك يا راحيلا؟ ألا يمكن تفادى الحروب؟ ألا تذكرين حرب طروادة التي اعترف أَجَامِمْنُون بعبثتيها بعد أن استنزفتهم طوال عشر سنوات؟ يقول "سون تزو" في كتاب "فنّ الحرب": إن أفضل معركة يمكنك خوضها، هي تلك التي لا تدخلها.

- هذا كلام جميل يا أخي العزيز، لكنّ أعداءك لن يتركوك حتى يجرّوك إلى معارك من الأفضل أن تستعدّ لها، بدل أن تؤخذ على حين غرّة وتعطيهم فرصة هزيمتك. نحن في غابة، وإن تكن ذئبًا، أكلتك الذئاب.

- كُفي عن التفوّه بالتُّراهّات يا راحيلا! وادعي الربّ أن يكشف عنّا هذه الغمة وأن يوصلنا إلى "طنجة" بسلامٍ، وأريحي نفسك بتذكّر قول الماوردي: "إنّما الحيلة في ترك الحيل"، ومقولة ابن عطاء الله السكندري: "أرحْ نفسك من التدبير، فما قام به غيرك لك، لا تقم به لنفسك!".

- لكن أين أبي وأمّي وأخي الصغير يا جاكوب؟

- ما الذي أصابك يا راحيلا؟! هل نسيتِ؟ لقد ذهبوا الأسبوع الماضي ليهيّئوا لنا الأجواء، وهم الآن ينتظروننا على الشواطئ الأفريقية في المغرب، بعد أن أوصوني أن أهتمّ بك حتى لا يغرّر بك أحد الشبّان المسلمين، سليل الموريسكيين الذين غرّروا بجدّتنا في الماضي. لكنّنا لن نبقى هناك طويلًا، وسنرحل إلى فرنسا العلمانية بمجرد انتهاء الانتداب الفرنسي عن المغرب. حاليًّا ملك المغرب في المنفى، ولن تتأخّر فرنسا في الرضوخ للضغوطات وإعطاء البلد استقلاله؛ فأغلب دول الشرق الأوسط نالت استقلالها من الانتداب البريطاني أو الفرنسي، خاصّة بلاد الشام، وقريبًا سيكون لنا وطن في إسرائيل وسيتحقّق وعد "بلفور".

- لقد شوّشتني يا جاكوب! في أيّ حقبة نحن؟ أفي دولة الأندلس في إسبانيا، أم في حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية، واستقلال البلدان العربية عن الاستعمار؟

- لا فرق بين الأزمنة يا راحيلا. ألم تقولي ذلك قبل قليل للفتاة الشابّة ذات الشعر الغجري، بينما كانت الجارية تعزف وتغنّي الموشح الأندلسي "لما بدا يتثنّى"؟

أطالع أخي بتشوّش، ثم أشرد عنه لأستعيد حواري قبل قليل مع المرأة المسلمة ذات السنّ الذهبية، التي كانت تحاججني في أن الذبيح ابن إبراهيم هو إسماعيل، وليس إسحاق.

- خذي هذا الكتاب يا رحيلا، واقرئيه لتفتحي لك بابًا من النور والتسامح!

يخرجني أخي من شرودي، فأمدّ يدي وأتناول منه الكتاب ثم أحدّق بفضولٍ في عنوانه "تكيّة المستنيرين" (Les confrérie des éveillés)، بينما يواصل هو:

- ستجدين داخله الكثير عن فكر موسى بن ميمون وفكر ابن رشد، وأيضًا الكثير عن الفلسفة بشكل عام. اقرئي كثيرًا يا راحيلا، عسى أن تستنيري وتتقبّلي آراء الذين يخالفونك في الرأي. وليست قراءة الفلسفة فقط هي ما ستجعلك مستنيرة، ولكن أيضًا قراءة نفسك. فالفلسفة نور العقول، والفلسفة محبّة الحكمة "فيلو-صوفيا" (Philio-Sophia)، أما قراءة النفس فهي الحكمة ذاتها. ألم تسمعي بالآية القرآنية: {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ }؟

- هل صبأتَ يا جاكوب؟ هل نسيتَ تعاليم التوراة والتلمود والمشناة، لتحدّثني عن القرآن؟!

- كلّا، يا رحيلا، لم أصبأ. لكن عندما قرأت الكتب المقدّسة، وقارنتُ بين كتب التوحيد الثلاثة، لم أجد فرقًا بين محمّد وموسى والمسيح. بل وجدتُ أنهم إخوة، تجمعهم شريعة أبيهم أبراهام، وأننا إن سلكنا الطريق المستقيم، فسنلتقيهم جميعًا، وسنتقابل عند شجرة المنتهى أو شجرة المعرفة التي أكل منها أبونا آدم بعد أن أغرته بها أمّنا حواء، فعاقبها الربّ بـ "في الألم تلدين، وإلى زوجك تحنّين". سنلتقيهم في الجنّة، هذا إن نجحنا في النجاة من أفران الربّ التي، في الحقيقة، هي أفراننا نحن الذين صنعناها بأنفسنا، وشيّدنا صروحها العاتية بمشاعر التأنيب والخوف وإطلاق الأحكام. فالجحيم الحقيقي هو أفكارنا ومشاعرنا، وليس كما قال سارتر: "الجحيم هو الآخرون". لأننا نحن من نمنح الآخرين جوازات سفر، لكي يتوغّلوا داخل مساحات تفكيرنا وحياتنا.

بعينين جاحظين، أطالع ملامح أخي الهادئة، وأقاوم جفاف حلقي لأسأله:

- من سارتر هذا يا جاكوب؟ هل هو نبيّ موحّد؟

- كلّا، على العكس تمامًا، إنه فيلسوف ولديه فلسفته التي لها وزنها الخاص، لكنني لا أتبنّاها. لذلك دعينا منه، وركّزي في قراءة كتاب "تكيّة المستنيرين"، لعلّه يفتح في روحك طريقًا من نور، ويجعلك تتقبّلين الآخر كما هو دون إطلاق أحكام، وتردعين كراهيتك لجميلة، فلا ذنب لها لأنها وُلِدت في ثقافة تلزمها بغطاء رأسها، ولأنها تشعر بالراحة بهذا الالتزام، حتى وإن كان يتعارض مع علمانية فرنسا. أنتِ نفسكِ ترتدين الحجاب بطريقة تناسب روح العصر، وتخفين شعرك الحقيقي وراء باروكة؛ حتى لا يُخلَط بينكِ وبين النساء المسلمات. كُفّي عن تصديق ادّعاءات المتطرّفين المردّدة لجملة: "لا نريد تشويهًا لعلمانيّة فرنسا"؛ فالتشويه ليس في الخارج، ولكنّه داخل نفوسهم المريضة.


#حفيدة_غردون_باشا #تسنيم_طه#رشم_للنشر_والتوزيع #كتابة #صدر_حديثا #رواية #سرد #تاريخ #أدب #سوداني #انساني #باريس #الخرطوم #السودان #سلام_للسودان #سلام_لكل_العالم 🌿🕊️

 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مَوْسِمُ العَوْدِة إلى الشَّمال

قِصَّة قَصِيرة: مَوْسِمُ العَوْدِة إلى الشَّمال