قراءة في رواية "حفيدة غردون باشا" للروائية السودانية- تسنيم طه
رواية "حفيدة غوردون" هي رواية متشعبة الأحداث
متعددة الطبقات الزمكانية، كتبت بأسلوب بعد حداثي يستعمل التشظي في التناول
الزماني والتداخل بين الأماكن ليأخذ القارئ في متاهة من الأحداث تتقافز بين
الازمنة والأماكن والشخصيات ليخرج بعدها بقناعة أن التاريخ يعيد نفسه وان قراءة
التاريخ تتجاوز الأحداث الظرفية لتخلص إلى أن نفس المسببات لتؤدي لنفس النتائج.
تلك هي فلسفة التاريخ التي اسسها ابن خلدون، وسماها بتلك
التسمية فولتير قبل أن يطورها روسو ثم هيجل وماركس.،
وضمن فلسفة للتاريخ، ترتكز الرواية على فلسفة الحروب كإطار نظري لإيصال الفكرة...التمرين بسيط، نجرد الحروب عبر التاريخ من ظروفها الزمكانية ونحللها كمثال أو صورة مجردة على الطريقة الافلاطونية لنستخلص فكرتها العامة كظاهرة كونية متكررة عبر الازمنة والأماكن.
ذلك ما حاولت الرواية إبرازه من خلال تطرقها إلى مختلف
الصراعات والحروب منذ حرب طروادة إلى الحرب الأهلية في السودان، مرورا بمحاكم
التفتيش في الاندلس والحربين العالميتين الأولى والثانية وما رافقها من استعمار
واستقلال ونزوح ومجازر ومحارق...
الخلاصة واحدة، هي دراسة الهندسة المجتمعية للشعوب من
طرف السياسيين، وكسر مظاهر التعايش من خلال تأجيج النعرات الطائفية وسياسة فرق
تسد، وذلك بتحويل الدين إلى هوية سياسية، لتنتقل الهوية الدينية إلى تخندق على شكل
"نحن" و "هم" فتتحول المجتمعات من خليط متجانس إلى مجموعات
متنافرة ومتعادية تتسم بتقديس "الأنا" ومعاداة "الغير".
فمحاكم التفتيش في الاندلس حولت المجتمع الأندلسي من
إطار للتعايش بين المسلمين والمسيحيين واليهود إلى حرب عرقية لا تعترف إلا بالهوية
المسيحية، والاحتلال الغاشم لإسرائيل لفلسطين أدى إلى هجرة جماعية لليهود إلى
إسرائيل بعد أن كانوا يعيشون بسلام في شتى الأقطار في شمال إفريقيا من المغرب إلى
إثيوبيا، فتغدت النعرات الطائفية وانتفت اسباب وظروف التعايش، كما أن الحرب
العالمية الثانية والمحرقة التي تعرض لها اليهود من طرف النظام النازي ومجزرة
الارمن من طرف الاتراك قضت على التعايش الإنساني بين بني البشر. كل ذلك خدمة لأجندات
سياسية إمبريالية غرضها التحكم في مصائر الناس وثرواتهم ضمن نسق ليبرالي متوحش.
تنقلت الكاتبة بسلاسة بين الأماكن ناقلة الأحداث بين
السودان كمكان مرجعي وإرتيريا ومصر وفرنسا وإسبانيا والمغرب والجزائر ومسافرة بين
الأزمنة من أربعينيات القرن الماضي وفترة الحرب العالمية الثانية إلى ستينيات نفس
القرن ثم تسعينياته إلى الزمن المعاصر رجوعا إلى نهاية القرن الخامس عشر ومحاكم
التفتيش في الاندلس، ناقلة شخصياتها المتعددة المشارب والثقافات والاديان، من
مسلمين ومسيحيين ويهود، ناقلة إياهم عبر الزمكان مستعملة خلطات علائقية عبر
تقاربات وتنافرات بين مختلف الانتماءات، كما استعملت تقنية تعدد الرواة أو ما
يصطلح عليه بالبوليفونية لتنقل لنا الأحداث من زوايا ورؤى ومرجعيات مختلفة.
استعملت الكاتبة أسلوب الرواية بعد
الحداثية في الانتقالات الزمكانية رافعة الحواجز بين الأماكن والازمنة، متكئة على
تيار الوعي السردي والتداعيات الداخلية للشخصيات ومستندة على الحلم كإطار للتشظي
السردي وتراكب الازمنة والأماكن في مشهد واحد الغرض منه إيصال الفكرة الفلسفية
التي تجرد الظاهرة من زمكانها لتصل مجردة واضحة.
كما نقرأ في سرد حلم: "بعضهم يقول إنهم شباب من أبناء المورسكيين المنظمون لثورة البيازين في
كافة مدن الاندلس، المعارضين على محاكم تفتيش الملك فيرنانديد والملكة إيزابيلا،
وقد وصلوا مشاهد غرناطة، وبعضهم ينفي ويقول إننا لسنا في غرناطة، بل في باريس وإن
الثورة في الخارج ضد الإمبراطور نابليون الثالث، الذي وصل الحكم بانقلاب عسكري،
والبعض الآخر يقول إننا في الخرطوم، وهذه اشتباكات بين قوات الجيش السوداني وقوات
الدعم السريع"
فنفس المشهد يتحمل إطارات زمكانية مختلفة،
والنتيجة واحدة، حرب عبثية وتاريخ يعيد نفسه وإنسان لا يأخذ العبر.
فنقرا في الصفحة 393 : "… ولتاريخِه الذي يعيدُ نفسَه دون أن يقرأه أبناؤه وحكّامه؛
ليتجنّبوا تكرار أخطاء الماضي، وتدمير بلدهم وإتلاف خيراتِه بوَيْلات الحروب
الأهليّة.
وأُيُّ حربٍ هذه التي اشتعلت من هولُها الرؤوس شيبا؟
وأيُّ حربٍ تلك التي تودي بأعزّ المهج؟ وتذهب بأغلى
الضحايا من نفوس الشباب؟
وتوقع العداوة والبغضاء بين الإخوة؟!
هي رواية فلسفية بنكهة سودانية متبلة ببهارات فرنسية إرتيرية
مصرية اندلسية مغربية وجزائرية، يتناولها القارئ في صحن بعد حداثي متسم
بالتشظي والرمزية.
المغرب في 16 سبتمبر 2025

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق