"تفكيك الهوية السودانية بين سردية التاريخ وتعددية الذات"
تقديم:
رواية "حفيدة غوردن باشا" للكاتبة السودانية
تسنيم طه تمثل عملاً أدبيًا مهمًا يعكس هشاشة وصراعات الهوية السودانية من منظور
إنساني ونفسي عميق، متخذًا من التاريخ السوداني المأزوم وعقود من الانقسامات
الاجتماعية والسياسية خلفية سردية مركبة من خلال سرد متعدد الأجيال يربط بين جذور
تاريخية مستمدة من حقب الاستعمار ومآسي الحروب الأهلية والصراعات الاجتماعية
والسياسية في السودان الحديث.
تقدم الكاتبة قراءة مغايرة للنزاعات
السودانية، لا تقتصر على سرد الأسباب السياسية فحسب، بل تعيد بناء الذاكرة
الجماعية كوصف للصراع بين روايات متنازعة تعكس تصدع الهوية واحتدام الصراعات
الداخلية. تستخدم الرواية تقنيات سردية غير خطية، تعتمد على تقاطعات زمنية
لاستكشاف أثر الاستعمار والانقسامات العرقية والدينية والاجتماعية عبر الأجيال،
مركزة على شخصية الحفيدة التي تعاني من صراعات داخلية تمثل أزمة الهوية المتشابكة
في السودان.
⭐️أهمية الرواية
تأتي "حفيدة غوردن باشا" في زمن فارق من تاريخ
السودان، حيث تتقاطع لحظة نشرها مع تفجّر أزمات سياسية واجتماعية عميقة. فهي لا
تقدم مجرد سرد لتاريخ مآسي السودان، بل تحاول إعادة بناء الذاكرة الجماعية، وتحليل
الجذور المعقدة للصراعات، مع إيمان بأن الخلاص يبدأ بالاعتراف والاحتضان للأصالة
المركبة، لا بمحاكاة الهوية الغربية أو الانغلاق على قوالب جامدة.
✅الجوانب الأدبية والسردية
الرواية تبني سردًا متشابكًا معتمدًا على الحكي المتعدد
الأصوات والأزمنة، مما يفتح المجال للتأمل في الذاكرة الجماعية والصراعات الشخصية
في آنٍ معًا. الأسلوب السردي غير الخطي يُمَكّن من إبراز العوامل المتراكمة التي
تؤدي إلى الانقسامات الاجتماعية والسياسية، ويخلق توترًا بين الماضي والحاضر، بين
الثابت والمتغير. كما تعتمد الرواية على رمزية الجسد والجغرافيا لتمثيل الصراعات
النفسية والاجتماعية، مع لغة تعبّر عن معاناة الفقد والانقسام.
✅الجوانب الفكرية
ترتكز الرواية على نقد خطابات السلطة الرسمية التي تسعى
إلى صياغة هوية وطنية موحدة عبر قوالب جامدة، في مقابل هوية مشتركة متعددة الأنساق
تنبع من تداخل الدين، العرق، والتاريخ الشخصي. كما تتناول الرواية الصراعات
الداخلية للمرأة السودانية، حيث تمثل شخصية البطلة ستّ النفور بُعدًا نقديًا على
بنية المجتمع الذكورية، وحصار التقاليد التي تعيق تحقيق الذات والحب الحقيقي.
تُطرح الرواية كدعوة للاعتراف بالتعددية في الهوية
الوطنية، كنموذج بديل يعتنق التنوع الثقافي والاجتماعي كأصل للبقاء والانصهار، مع
تصديق على أن التصالح ممكن رغم كل الانقسامات والعنف المستمر عبر التاريخ والحاضر.
⭐️الثيمات الفكرية و الأدبية التي تعالجها الرواية
تعد الرواية قراءة أنثروبولوجية ونفسية للصراع السوداني،
ليس فقط كتوثيق للأحداث السياسية، بل كإعادة بناء للذاكرة الجماعية والصراعات
المتعددة للهوية، مع استحضار رمزي للتاريخ وتأثيراته على الحاضر. تسنيم طه تعيد
عبر سردها طرح سؤال مركزي عن كيفية ترميم الانشقاق في السودان، مقدمة بذلك دراسة
نقدية سردية تسلط الضوء على هموم وطنية وإنسانية عميقة.
تتناول الرواية قضايا عدة منها تعدد الأنساق الدينية
والعرقية، مع التركيز على رفضها لفكرة النقاء الوطني، وتطرح بديلًا هو وجود هوية
متعددة الأنساق كمصدر للحياة المشتركة. كما تكشف الرواية عمق التصدعات داخل
المجتمع السوداني، خاصة مع التركيز على معاناة النساء داخل البنية الذكورية
والاجتماعية وكذلك على الانقسامات التي أدت إلى نزاعات متكررة في البلاد.
✅هشاشة الهوية وتعدد الأنساق
تطرح الرواية مفهوم الهوية بوصفها بنية متصدعة تعيش على
حافة السؤال والتشظي.
تظهر أزمة الهوية في تناقضين: بين انتماء البطلة لفرنسا
وارتباطها بالسودان، وبين حريتها الشخصية والتقاليد المجتمعية
"هيّا يا سِتّ النِفور، تنازلي عن جواز
سفرك الفرنسي" - حيث تمزج المزاح بالحقيقة
شخصية البطلة "ست النفور" تحمل بشكل رمزي هذا
الانقسام بين ماضي الاستعمار وحاضر السودان، تمثل أجيالًا متشابكة من الانتماءات
العرقية والدينية والثقافية. تعبير الرواية عن الهوية كفسيفساء من ذاكرات متشابكة
توضح وجع الذات السودانية التي تعيش حالة انقسام مستمر بين الانتماءات المتنوعة.
"ست النفور لا تنتمي لقالب واحد، هي مزج
بين ماضي الاستعمار وحاضر السودان المضطرب، بين أطياف الدين والعرق والذاكرة
المجزأة."
يقدم تصويرًا حادًا لمعاناة السودان المستمرة من
النزاعات الدموية، مع التأكيد على أن الصراع مرتبط بالذاكرة الجماعية وليس مجرد
حوادث منفصلة.
"الهوية ليست كيانًا جامدًا، بل فسيفساء من
ذاكرات متشابكة، وكل جزء فيه يحكي قصة الألم والانتماء."
توضيح رمزي يعبر عن مفهوم الهوية المركبة كتركيب معقد من
تجارب متعددة، حيث كل جزء يساهم في تشكيل الواقع النفسي والاجتماعي للشخصية
وللمجتمع.
✅الصراع الاجتماعي والسياسي
تُقدّم الرواية سردًا للأزمات السودانية المتكررة، لا
كوقائع منفصلة بل كامتداد طبيعي لتراكمات سياسية واجتماعية ونفسية تنبع من تداخلات
داخلية وخارجية. الصراعات المسلحة والطائفية تعكس أزمات عميقة في البنية
الاجتماعية، حيث النزاعات ليست فقط سياسية بل تشتعل في نفوس الأفراد والمجتمع.
"في السودان، لا ينسى التاريخ أبدًا، الحرب
لا تنتهي، والدم علاقات متجددة من القهر والمعاناة."
يقدم تصويرًا حادًا لمعاناة السودان المستمرة من
النزاعات الدموية، مع التأكيد على أن الصراع مرتبط بالذاكرة الجماعية وليس مجرد
حوادث منفصلة.
"الطائفية والعنصرية ليستا إلا عناوين
للحروب التي تشتعل داخل النفوس قبل أن تشتعل في الشوارع."
يشير إلى أن العوامل النفسية والثقافية العميقة هي التي
تهيّئ الأرضية للنزاعات الخارجية، مما يربط بين البُعد الداخلي والخارجي للصراع.
✅دور المرأة والهوية الشخصية
تقدم الكاتبة عبر شخصية ست النفور معالجة فريدة لصراعات
المرأة السودانية في وجه إرث تقليدي وقيود اجتماعية واقعية تتشابك مع الإرهاب
الشخصي والوطني. تصوير المرأة يتجاوز الرمز إلى تناول مأساة شخصية واجتماعية تحاول
التحرر من قهر مضاعف.
"ست النفور تمثل امرأة محاصرة بين إرث
العائلة ومقاومة الواقع، تجد في صراعها مساحة للتحرر من قيود الماضي."
وهذا يعكس صراع الشخصية النسائي بين الالتزام والتقاليد
من جهة، ورغبتها في التحرر والتحديث من جهة أخرى، مما يجسد تمثيل أزمة النساء في
بيئة اجتماعية تقليدية.
كما تشير إلى التناقض و المفارقة بين التقدّميّة
الظاهريّة و المحافظة الضمنية في تقبل العائلات لأصدقاء الأبناء الذكور
رفضهم لأصدقاء البنات
"ستظلّ تتقبّل بأريحية الصديقات مع أبنائهم
الذكور ما لن تتقبله مع أصدقاء بناتهم"
"المرأة في الرواية ليست فقط رمزًا، بل
مشكلة اجتماعية تواجهها بصمت، تحاول تحرير ذاتها وسط بشاعة الحرب والحنين."
يدلل على أن الرواية لا تعالج المرأة كرمز فقط بل كشخصية
واقعها صعب، تواجه تحديات مركبة من الاضطهاد والحرب واليأس، وتسعى لبناء ذاتها على
الرغم من ذلك.
✅الذاكرة الجماعية وإعادة البناء
الرواية تعمل على إعادة كتابة التاريخ من منظور المرأة
والمهمشين، محاولة علاج جراح الذاكرة السودانية المشوهة، والنداء للاعتراف
بالتعددية كطريق للخلاص رغم الألم والخراب.
"الرواية هي محاولة لإعادة كتابة التاريخ،
لإعطاء الصوت لمن لم يُسمعوا، ولإعادة بناء الذات الوطنية من خرائط الألم
والانقسام."
يوضح دور الرواية كشكل من أشكال المقاومة الثقافية التي
تحاول أن تعيد سرد التاريخ من منظور الهامش، مسلطة الضوء على قصص مهملة ومصير شعوب
منسية.
"ذاكرة السودان مليئة بالتقاطع والتمزق،
هذه الكلمات محاولة للشفاء عبر سرد متقطع لكنه صادق."
يعكس اقتباسًا على الأسلوب السردي الذي يتبعه النص، حيث
التقطع والتداخل في السرد هو تعبير فني عن واقع الذاكرة المشوهة والمتداخلة في
السودان، ورغبة في التعافي والاعتراف.
⭐️الشخصيات
تتمحور رواية "حفيدة غوردن باشا" لتسنيم طه
حول عدة شخصيات رئيسية تعكس عبرها الكاتبة تعقيدات الهوية السودانية وتاريخها
المضطرب. تظهر الشخصيات بكل تعقيدها الإنساني؛ الجد الحكيم الذي يمثل الجذور
والهوية، الأم التي تتراوح بين القسوة والحنان، والراوية نفسها التي تعاني من
اغتراب مزدوج - اغتراب في الغربة عن وطنها، واغتراب في وطنها عن نفسها. نرى هذا
جلياً في مشهد العودة إلى شندي حيث "انقبض قلبي وأنا لا أكاد أصدق أن يكون قد
تغير بهذا الشكل خلال هذين العامين"، في إشارة إلى التغير الذي أصاب الجد
والوطن معاً.
⭐️أهم هذه الشخصيات:
✅ستّ النفور: البطلة ومحور الرواية، حفيدة ذات جذور
سودانية-فرنسية. تجسد ستّ النفور الهوية المختلطة المتصدعة بين الماضي الاستعماري
والحاضر السوداني المضطرب. تعيش صراعات داخلية مرتبطة بارتباطاتها العائلية
والدينية، وتواجه تحديات الهوية والانتماء في بيئة مليئة بالتناقضات الاجتماعية
والسياسية.
☑️علاقة ست النفور بالشخصيات الأخرى
علاقات معقدة ومليئة بالعواطف المتضاربة، وتشكل الدافع
الرئيسي للبطلة:
الراوية وجدها "غردون باشا": هذه هي العلاقة
المركزية والأكثر حميمية واستقرارًا في حياة البطلة. العلاقة تتميز بـ:
*الحب غير المشروط والفخر: الجد هو صديقها
الأول ومصدر دعمها الدائم منذ الطفولة، وهو يفخر بها بشكل خاص لأنها تحمل اسم جدته.
*المصدر العاطفي: هو ملاذها الآمن، ومصدر
الحنان والتفهم الذي تفتقده في علاقات أخرى. ذكريات الجلوس معه تحت "شجرة
غردون" ترمز إلى الاستقرار والجذور.
*المشجع والحافز: هو من شجعها على ترك
وظيفتها التي تكرهها والسعي وراء حلمها في الكتابة.
☑️الراوية وأمها: العلاقة بينهما تبدو أكثر تعقيدًا وتوترًا:
*الانتقاد وعدم التفهم: الأم تعترض على
"إسراف" الجد في تدليل ابنتها، مما يشير إلى وجود فجوة في التفاهم بين
الأم والابنة.
*المراقبة والخوف من الاكتشاف: البطلة
تحاول إخفاء دموعها ومشاعرها الحقيقية خوفًا من إثارة شكوك أمها، مما يدل على عدم
وجود انفتاح كامل بينهما.
☑️الراوية وكيدان: هذه العلاقة هي مصدر القلق والصراع الداخلي للبطلة. علاقة
تتسم بـ:
*التوق والشك: هي متيمة به ولكنها لا تثق
فيه بسبب "لعبة الغموض" التي يمارسها وتردده في الإفصاح عن مشاعره.
*الجرح العاطفي: تسبب لها بجروح عميقة
نتيجة انقطاعه عن التواصل لسبعة أشهر، وهي تخشى أن يخيب ظنها مرة أخرى.
*السرية: لم تجرؤ على إخبار جدها بهذه
العلاقة، مما يشعرها بالذنب والتوتر.
☑️الراوية وجان-فيليب: تمثل هذه العلاقة "الواقع الممل والمستقر"
ولكن غير المُرضي عاطفيًا. هي علاقة آمنة ولكنها تفتقر إلى الشغف، وهي على حافة
الانهيار لصالح المجهول المتمثل بكيدان.
✅البنية النفسية
كشف عن حالة من التمزق والقلق الوجودي:
*التشتت: هي مشتتة بين ماضيها وحاضرها، بين
جدها وأمها، بين حبيبها المستقر (جان-فيليب) والحبيب الغامض (كيدان)، بين وظيفتها
القانونية المجهدة وحلمها الأدبي.
*الخوف من المجهول: تخشى من تغيير مسار
حياتها من أجل كيدان، ومن أن أحلامها قد "تُجهض".
*الشعور بالذنب: تشعر بالذنب لخداعها
جان-فيليب وإخفائها علاقتها بكيدان عن جدها.
*الحنين والشوق: حنين شديد لجذورها
المتمثلة في جدها ووطنها الأصلي (السودان).
شخصيّة عالقة في حالة من "الترانزيت"
الجغرافي والنفسي. و باستخدام تقنية تيار الوعي والاسترجاع، تنجح الكاتبة في نسج
لوحة معقدة لشخصية تعاني من صراع الهوية والانتماء، وتتوق إلى الاستقرار العاطفي بينما
تجذبها مغامرة المجهول. اللغة الشعرية والتفاصيل الرمزية تثري النص وتجعله غوصًا
عميقًا في الأعماق النفسية للإنسان المعاصر.
✅جدّها زكريا: يمثل الرابط التاريخي بين الأجيال،
جسراً حكائياً بين الماضي والحاضر، وهو جزء من تاريخ عائلة يمتد إلى زمن الاستعمار
ويحتوي على تداخلات علاقات معقدة بينها وبين التاريخ الوطني.
و تمثل الشخصية المحورية كحلقة وصل بين عالمين: عالم
الواقع الملموس بعيوبه وآلامه، وعالم الأسرار والذاكرة والتراث الذي يتجاوز
المألوف. من خلاله، تُجسّد الكاتبة رحلة البحث عن الهوية في بيئة تختلط فيها الحدود
بين الحقيقي والخرافي.
دور زكريا في الرواية يتجاوز كونه مجرد بطل للأحداث، فهو
حامل للأسرار والوصايا وجسر بين الأجيال. تظهر هذه المكانة من خلال علاقته
المتشعبة مع الشخصيات الأخرى:
☑️علاقته بجده ناصر هي علاقة تقديس ووفاء. الجد ليس
merely مجرد ذكرى، بل هو ضمير حي يوجه زكريا
ويحمله مسؤولية "هم العثور على الخواجية وعلى أخي". هذه الوصية هي
المحرك الأساسي لرحلة زكريا الداخلية والخارجية.
☑️علاقته بأمه تبدو أكثر تعقيدًا وقائماً على التكتّم، فهو يغافلها ليزور
المقبرة ويخفي عنها مشاعره الحقيقية، مما يشير إلى وجود هوة في التفاهم أو محاولة
منه لحماية ذاكرته الشخصية من تدخل الآخرين.
☑️العلاقة الأكثر إثارة هي مع الكلب / الكائن الغامض. هذه العلاقة هي جوهر المزج
بين الواقع والتخييل (الواقعية السحرية). فالكلب ليس حيوانًا عاديًا، بل كائن يثير
الرعب ويحمل سمات بشرية: "عَيْنَيْن زيتونيتين، ذكرتانى بعيني أختي"،
و"حاجبين شبيهين بحواجب البشر". هذا التشويش المتعمد بين الحقيقي
والخيالي يجعل من زكريا شخصية تعيش في عالمين متوازيين، عالم المادة (المقبرة،
الحمار، الحر) وعالم الأرواح والجن.
ما أرادته الكاتبة هو كشف الغطاء عن اللاوعي الجمعي
للمجتمع، حيث تتداخل المعتقدات الشعبية (الجن، العين الحاسدة، التعاويذ) مع
الوقائع التاريخية المؤلمة (الحرب، الموت، فقدان الأحبة). من خلال رحلة زكريا إلى
المقبرة، تطرح الكاتبة أسئلة وجودية حول الزمن والذاكرة والهوية. زكريا هو تجسيد
لهذه الأسئلة: "هل توقف الزمن عنده وحكم عليه بالطفولة الأبدية، وعاقبني أنا
بالشيخوخة؛ كي أشهد موت أحبائي ودفنهم؟!" هذا الاستفهام يلخص أزمة الزمن
المشوّش والهوية الممزقة بين ماضٍ مفقود وحاضر قاسٍ.
من خلال شخصية زكريا، تبنى الكاتبة عالماً سردياً هو
مرآة للوجدان الجمعي. إنه ليس مجرد رجل عجوز يزور المقبرة، بل هو راوٍ للتاريخ
الشخصي والجماعي، يحمل أعباء الماضي ويواجه أشباح الحاضر. السرد ، بمزيجه الماهر
بين الواقعي والتخييلي، لا يروي قصة زكريا فحسب، بل يحفر في طبقات الذاكرة
الإنسانية، مُظهرًا كيف أن أعظم الأشياء واقعيةً هي تلك التي تلامس حدود الأسطورة
في نفوسنا.
✅ آن موريس
☑️شخصية آن موريس صراع الهوية في بيئة مستعمرة: تمثل آن موريس، الباحثة
الأوروبية الشابة، صورة المرء الغريب الذي يبحث عن ذاته في أرض غريبة. تصل إلى
السودان بحماس أكاديمي طامحة لنيل المجد في علم الآثار، لكنها سرعان ما تصطدم
بواقع مختلف تماماً. إصابتها بالمرض وعلاجها بالطب الشعبي والسحر يمثل تحولاً
وجودياً، حيث تنتقل من الاعتماد على العلم الغربي إلى الاستسلام لـ
"تعويذات" حَسْنَى ووصفاتها الشعبية التي أنقذتها حين فشل الأطباء. هذا
التحول يرمز إلى هزيمة المركزية الأوروبية وبرودة علمها أمام دفء المعرفة المحلية
وحكمتها البديهية.
☑️العلاقات الإنسانية كجسر للعبور نحو الذات: العلاقة بين آن وحَسْنَى هي نقيض
تام للعلاقة الاستعمارية النمطية. فبدلاً من أن تكون آن هي "المُنقذة"
أو "المُعلمة"، نراها تلميذة تتلقى دروساً في الإنسانية من حَسْنَى،
الفتاة القاصر الحامل التي تتحول إلى ملاك حارس. هذه العلاقة تتجاوز حواجز اللغة
والثقافة لتكشف عن قوة الضعف الإنساني المشترك. مشاهد جلوسهما في الصالون، وترجمة
الجد الكبير، وتعلم آن لمفردات اللهجة السودانية، كلها تفاصيل تؤكد أن العلاقات
الإنسانية الأصيلة هي وحدها القادرة على كسر عزلة الغربة.
تمثل شخصية آن موريس تجسيد لاستمرار موضوع الصراع بين
الماضي والحاضر. إذا كان زكريا في المقاطع السابقة يحمل أعباء ماضي عائلته عبر
الأجيال، فإن آن تحمل عبء الماضي الاستعماري وتاريخ جدها الحكمدار. اكتشافها أن
الجد الكبير الذي يعتني بها كان يعمل تحت إمرة جدها يخلق تشابكاً درامياً مثيراً،
ويجعل علاقتها بالسودان أكثر تعقيداً من مجرد زيارة باحثة أكاديمية.
من خلال شخصية آن موريس، تقدم الكاتبة نقداً ذاتياً
لمركزية النظرة الغربية دون تعصب أو إدانة. آن ليست شريرة، بل هي ضحية لوعيها
المغترب عن ذاته. رحلتها من "مدينة التّراب" (أم درمان) إلى الخرطوم
تمثل انتقالاً من اللاوعي الجمعي الأصيل إلى الوعي الاستعماري المصطنع. هذا
المقطع، مع سابقه، ينسج معاً لوحة معقدة لسودان متعدد الهويات، حيث الغريب
والمواطن يتقاسمان جراح الماضي وأمل المصير المشترك.
✅راحيل/راشيل: شخصية تعبر عن التداخل الديني والعائلي، يبرز فيها مدى تأثير
الزواج والاختلافات الدينية في تشكيل وصراع الهوية الشخصية والعائلية.
✅فريحة: خالة راشيل، تمثل جانباً من النواة السردية التي تهز فكرة
الهوية المطلقة، وتقدم نموذجاً للتعايش المختلط بين الأديان والثقافات المختلف.
✅قرشي: شخصية تعود إليها ست النفور بعد تجارب خيبة، ويرمز إلى البدايات الجديدة
ومحاولة التصالح رغم كل الانقسامات.
تستعرض الرواية أيضاً علاقات مركبة بين شخصيات تمثل
المناطق المختلفة والسودان منقسماً إلى مكونين رئيسيين (الشمالية والجنوبية)، مع
تسليط الضوء على قضايا الخذلان والذنب والتبعية التي أدت إلى الانقسام والاقتتال
الداخلي.
هذه الشخصيات مركبة تعكس مشكلات الهوية، الصراعات
السياسية والاجتماعية، وكذلك أدوار المرأة وصراعاتها في بيئة مضطربة، مما يجعل
الرواية لوحة سردية تجسد واقع السودان المركب والمعقد.
⭐️الشخصيات الثانوية
في رواية "حفيدة غوردن باشا" لتسنيم طه، تلعب
الشخصيات الثانوية دورًا هامًا في تطوير الحبكة وتعميق ثيمات الرواية، رغم أنها
ليست في محور الأحداث كالشخصيات الرئيسية، إلا أنها تضيف أبعادًا معقدة للنص
وتساعد في إبراز الجوانب المختلفة للشخصيات الرئيسية وللصراعات الراهنة.
☑️الشخصيات الثانوية ودورها في الحبكة:
*أصدقاء وأقارب ست النفور: هؤلاء يمثلون
الرابط بين الشخصية الرئيسية وبيئتها الاجتماعية، يقدمون دعمًا نفسيًا أو ماديًا
في بعض الأحيان، ويبرزون التحديات التي تواجه ست النفور في علاقتها بالعائلة
والمجتمع. مثلاً، وجود شخصيات تساعدها أو تساعد في رفع التحديات يعزز إحساس القارئ
بالواقع المعقد الذي تعيشه.
*الشخصيات الدينية والاجتماعية: عبر شخصيات
مثل رجال الدين أو كبار العشائر الذين يظهرون في الرواية، تستعرض الكاتبة الصراعات
الثقافية والدينية العميقة التي تشكل خلفية النزاع الأوسع، وتشير إلى الدور الذي
تلعبه الأيديولوجيات المختلفة في تقسيم المجتمع.
*الأعداء والخصوم: بعض الشخصيات الثانوية
تؤدي دور الخصم أو تعقيد المسار لسرد الأحداث، حيث تمثل المانع أو القوة المعارضة،
مما يزيد من التوتر الدرامي ويبرز تحديات الشخصية الرئيسية في تحقيق هويتها
والتصالح مع ماضيها ومع المجتمع.
*شخصيات من البيئة المحلية والخارجية**:
تمثل مختلف طبقات المجتمع السوداني، إضافة إلى تأثير القوى الخارجية، عاكسة بذلك
الأبعاد السياسية والاجتماعية للرواية. دورهم يتراوح بين تقديم الحكايات المصغرة
التي تساعد على بناء خلفية الأحداث، والرصد الاجتماعي الذي يعكس الواقع السوداني
المعقد.
☑️تحليل دَوْر الشخصيات الثانوية:
تقوم الشخصيات الثانوية بربط الأحداث وتدعيم الحبكة
بإظهار ملامح من الظروف الاجتماعية والتاريخية التي تحيط بالبطل، كما تكشف أوجه
مختلفة من شخصية ست النفور ومبادئها ورغباتها، وتظهر الصراعات الداخلية والخارجية
التي تواجهها. إضافة إلى ذلك، فإن بعض الشخصيات الثانوية تعمل كحجر عثرة، مما يجعل
صراع الشخصية الرئيسية أكثر واقعية ويعمق من جدلية الهوية والانتماء.
⭐️الأسلوب والتقنية السردية
تتبنى تسنيم طه أسلوب السرد غير الخطي الذي يقلب تسلسل
الزمن، متتبعة الأحداث عبر أجيال وأزمنة متداخلة تعكس التشظي والتمزق في ذاتهما.
هذا الأسلوب يزيد من فاعلية الرواية في تصوير الانقسامات النفسية والاجتماعية. كما
توظف تعدد الأصوات والصيغ السردية لتقديم وجهات نظر متباينة داخل سرد واحد، مما
يثري النص ويعمق فهم التوترات بين الفرد والمجتمع، والانتماءات المتعددة.
✅تيار الوعي: هذا هو الأسلوب المسيطر على المقطع. الكاتبة تتبع تدفق الأفكار
والمشاعر والذكريات في عقل البطلة بشكل حر ومتدفق، دون ترتيب منطقي صارم، مما ينقل
حالة التشتت والقلق التي تعيشها.
✅الاسترجاع (الفلاش باك): تستخدم الكاتبة الاسترجاع بكثافة لنقل خلفية العلاقات
المهمة مع الجد، مع كيدان وشرح أسباب المشاعر الحالية.
✅التكثيف الرمزي:
*شجرة غردون: ترمز إلى الجذور، التاريخ،
الاستقرار، والملاذ الآمن.
*الطائرة ومطار القاهرة: يرمزان إلى حالة
"الترانزيت" وعدم الاستقرار التي تعيشها البطلة في حياتها العاطفية. هي
بين ماضيها وحاضرها، بين باريس والخرطوم، بين جان-فيليب وكيدان.
*الموسيقى: تعمل كمحفز للذاكرة والعاطفة،
حيث تنقلها من حالة إلى أخرى (من التوتر إلى الحنين).
*الحوار الداخلي: الحوار يكون داخليًا في
معظمه، مما يعمق التعريف بالصراع النفسي للبطلة مع نفسها ومخاوفها.
✅الانساق (التيارات) الفنية والموضوعية في رواية تسنيم طه
☑️نسق الحلم مقابل الواقع:
هذا هو النسق المهيمن على النص. الكاتبة تبني عالماً
شعورياً غنياً ومكثفاً من خلال:
☑️التفاصيل الحسية: تستخدم الكاتبة كل الحواس لجعل الحلم يبدو حقيقياً: حرارة
جسد كيدان، رائحة الصحراء، خشونة ظهر الحصان، نبرة الصوت المرتجفة.
☑️الانزياحات المكانية غير المنطقية: الانتقال السحري من صحراء الدناكل عبر
الحدود إلى بيت الجد في السودان على ظهر حصان هو دليل قوي على أننا داخل حلم.
☑️المفارقة الدرامية: القارئ، مثل الراوية، ينغمس كلياً في "واقعية"
الحلم، مما يجعل الصدمة النهائية (الاستيقاظ في الطائرة) أكثر تأثيراً. هذا يكشف
أن الحلم هو تعبير عن رغبة جامحة وخوف عميق للرواة.
✅نسق الرغبة والخوف:
الحلم هو مرآة للصراع الداخلي للرواة:
☑️الرغبة: تتجلى في الشوق لسماع كلمة "بحبك"، والتوق للقرب الجسدي
والعاطفي، وحلم الزواج والاستقرار. هذه الرغبة هي التي تشكل الجزء
"الرومانسي" من الحلم.
☑️الخوف: يتجلى في الرؤية المفاجئة للأمهات وهاجس المؤامرة. هذا الخوف هو تعبير
عن عقبات اجتماعية أو عائلية حقيقية تواجهها الراوية في الواقع (ربما اختلاف الدين
أو الثقافة، حيث تذكر أن أملها في الزواج مرتبط باعتناق جان-فيليب الإسلام). الخوف من
الفقدان يطغى حتى على لحظة السعادة القصوى.
✅نسق الانزياح المكاني والزماني (الفانتازيا):
الحلم يلغي كل قيود الجغرافيا والمنطق:
☑️الرحلة الخيالية: اجتياز صحراء الدناكل (في إريتريا/جيبوتي) والحدود
الإريترية-السودانية ومساحات السودان الشاسعة كلها في رحلة واحدة على ظهر حصان.
☑️الرمزية: قد ترمز هذه الرحلة عبر الصحراء إلى رحلة العشق الشاقة والمحفوفة
بالمخاطر التي تخوضها البطلة في حياتها الواقعية.
✅نسق التداخل الثقافي والتاريخي:
☑️الخلفية السودانية: تظهر جلياً في ذكرى الجد الذي حاصر الخرطوم مع المهدي،
وتمثال "أبواب أورشليم السبعة" في مارسيليا (والذي قد يكون إشارة إلى
التراث الثقافي المشترك أو الشتات)، وشجرة النيم.
☑️التعدد اللغوي: مزج العربية الفصحى بلهجة سودانية عامية ("سِت
النفور"، "غُرْدُون") يضفي واقعية ومحلية على النص.
☑️الإشارات التاريخية: قصة "غردون" (تشارلز جورج غوردون) وسقوط
الخرطوم هي استعارة للصراع بين القوى الاستعمارية والمقاومة المحلية، مما يضيف
عمقاً تاريخياً لشخصية الجد وربط الماضي بالحاضر.
✅ تداخل الخيال بالواقع
هذا التداخل هو عصب النص وقلبه النابض. الكاتبة تخلط بين
المستويين ببراعة:
☑️الواقع يغذي الحلم: انطلاق الحلم من رغبة حقيقية (الاعتراف بالحب) وخوف حقيقي
(معارضة العائلة). الاستيقاظ على صوت عجلات الطائرة يثبت أن الراوية كانت مسافرة،
مما يفسر إحساسها بالحركة والرحلة في الحلم.
☑️الحلم يُضخم الواقع: يحول الحلم المشاعر الدفينة إلى قصة ملحمية فيها رحلات
خيالية، اعترافات مصيرية، ومخاوف وجودية.
☑️تقنية تيار الوعي: السرد يسير مع تدفق أفكار ومشاعر الراوية دون ترتيب منطقي،
مما يخلق شعوراً مباشراً وغير مصَفّى بتجربتها الداخلية، ويذيب الحدود بين ما هو
داخلي (الفكر) وخارجي (الواقع).
☑️النهاية المربكة: اكتشاف أن كل شيء كان حلماً يخلق صدمة للقارئ والرواية معاً،
ويدفع إلى التساؤل: أيُّهما أكثر حقيقة؟ العالم الواقعي البارد أم العالم الداخلي
المشحون بالعواطف والرموز؟
✅تقنية الواقعية السحرية هي العمود الفقري للسرد.
الكاتبة لا تقدم الخرافة كشيء منفصل، بل تدمجها في نسيج الواقع اليومي بشكل طبيعي:
☑️الكلب الغامض: هو أفضل مثال. فهو يظهر في سياق واقعي /مجموعة كلاب في ميدان/،
لكن تصرفاته وملامحه تخرجه من المألوف إلى عالم الأشباح والجن. رد فعل زكريا –
بقراءة المعوذات – هو رد فعل طبيعي في هذا السياق الثقافي، مما يجعل الخارق جزءًا
من المنطق السردي.
☑️الطفل الأبدي (أخوه): وجود طفل لا يكبر هو عنصر سحري بحت، يرمز إلى الذاكرة
المتجمدة والجرح الذي لم يندمل. تحوّل هذا الطفل في نهاية المقطع إلى محارب بسيفين
يطلب المبارزة، في مشهد يخلط بين براءة الطفولة وشراسة الرغبة في الانتقام، مجسدًا
الصراع الداخلي لزكريا.
☑️المشاهد الحلمية / الكابوسية: المشهد الذي ينتهي بطعن زكريا ثم استيقاظه ليجد
ابنته بجانبه يؤكد أن الحد الفاصل بين الواقع والحلم (أو الكابوس) متهاوٍ في عالم
الشخصية. هذا الكابوس ليس هروبًا من الواقع، بل هو تعبير مكثف عن رغبات زكريا
المكبوتة (الرغبة في قتل خطيب حفيدته المتغطرس) ومخاوفه العميقة.
⭐️دراسة تقنية: الاستيقاظ من الحلم/الكابوس في أدب تسنيم طه
تُعتبر هذه التقنية من أبرز أدوات تسنيم طه الفنية، حيث
تستخدمها ليس كمجرد نهاية ميكانيكية، بل كآلية:
☑️سيكولوجية: لاستكشاف الأعماق النفسية للشخصيات ومخاوفها المكبوتة.
☑️درامية: لخلق صدمة سردية ومفارقة بين عالمي الوعي واللاوعي.
☑️موضوعاتية: للتأكيد على هشاشة الواقع واختلاطه بالرغبة والخوف.
✅كيفية عمل التقنية: أختار المقطع الأول كنموذج:
يمكن تقسيم العملية إلى ثلاثة أطوار مترابطة:
☑️الطور الأول: بناء عالم كابوسي مكثف (الحلم ذاته)
لا تقدم الكاتبة حلماً رومانسياً، بل كابوساً مركباً
يجمع بين المخاوف الشخصية والصراعات التاريخية والاجتماعية.
*المحتوى الكابوسي:
التهديد الجسدي والجنسي: محاولة الاغتصاب
المتكررة من قبل الرجال "الكريهين"، وصفاتهم الجسدية المقززة (الأسنان
الصفراء، العينان المحمرتان، الرائحة النتنة). هذا يعكس خوف الأنثى العميق من
العنف والاستباحة في عالمٍ عدائي. ("يرهقني بقوّته ويرميني على الأرض قبل أن
يجثم فوقي... يداه تتحركان بسرعة لنزع سروالي الداخلي").
*فقدان السيطرة والعجز: الإمساك بالشباك،
الأصفاد، الشعور بالحصار. "أجدني كحيوان جريح حُبس في قفص".
*خيانة الأمانة والعجز عن الإنقاذ: مشهد
عدم قدرة "آن موريس" على إنقاذ صديقتها "حسنى" وهو الأكثر
إيلاماً. إنها تراقب صديقتها تُربط ويُتفاوض على بيعها كجارية، وتفشل مراراً في
الوصول إليها. هذا يعكس شعوراً عميقاً بالذنب والعجز. "قلبي ينفطر ألما...
وأنا أراها تسيل حمراء كالدّم".
*تشويه صورة الأمومة: مشهد حسنى وهي تُفصل
عن طفلها الرضيع بشكل عنيف، وهو يبكي وتتناثر حليبها. هذا يمزق أحد أكثر المشاهد قدسية
/الرابط بين الأم وطفلها/.
*الملاحقة والتهديد بالموت: الثعبان
المُرقط، صراخ القرد الساخر، مطاردة الرجال لها بالسهام. ("يثبّت عينين
بلهاوين... أثناء إشارته إلى الأعلى... ثعبان مرقّط يفحّ").
☑️الطور الثاني: الذروة والانفجار -الاستعداد للاستيقاظ-
قبل الاستيقاظ مباشرة، تدفع الكاتبة بالتوتر إلى ذروته،
مما يجعل الهروب إلى "الواقع" أمراً حتمياً ومرغوباً.
*المواجهة مع رمز السلطة: ظهور
"الآنسة (سين)" ليس إنقاذاً حقيقياً، بل هو انتقال من سجن إلى آخر، من
برابرة واضحين إلى سلطة متوحشة متحضرة. هي تعلن ملكيتها للرواية ("هذه
الجارية من ممتلكاتي")، مما يزيد الإحساس بالمهانة.
*الكشف المروع: انكشاف هوية "الآنسة
(سين)" يربط الكابوس بواقع الشخصية. إنها ليست شراً مجهولاً، بل هي تجسيد
للسلطة القمعية التي تواجهها "آن" في حياتها اليقظة (ربما في عملها أو
استكشافها).
*العنف المادي الصادم: صفعة "الآنسة
(سين)" التي تتساقط معها أسنان "آن" الأمامية هي لحظة عنف مفرط، breaking point لا يمكن للعقل الباطن تحملها بعد الآن.
"لطمةً تتساقط معها أسناني الأمامية؛ فأصرخ
من فرط الألم".
*الوظيفة: هذا الألم الجسدي الوهمي الشديد
في الحلم يعمل غالباً كمحفز فيزيولوجي للاستيقاظ في العالم الحقيقي.
☑️الطور الثالث: الصدمة والانتقال -لحظة الاستيقاظ-
هنا تكمن براعة التقنية، في الانتقال المفاجئ الذي لا
يلغي الكابوس، بل يضعه في إطار مأساوي جديد.
*الاستيقاظ على صوت خارجي: لا تستيقظ
"آن" من تلقاء نفسها، بل يتم إنقاذها من الكابوس بواسطة هزة من العالم
الواقعي. "أخرج من ألمي... على يد العبد بخيت تهزّني".
هذا يعزز شعورها بعدم السيطر ة حتى على يقظتها.
*الالتباس بين الحلم والواقع
/Hypnopompic State/: حالة التوهان التي تعقب الاستيقاظ مباشرة.
"أطالعه ببلاهة، ويخيّل إليَّ أنّني لا
أزال أَحلُم".
هذه اللحظة حاسمة، فهي تخلق مساحة حيث يكون الكابوس هو
"الواقع" والواقع هو "الحلم" لفترة وجيزة.
*الصدمة السردية
/The Narrative Twist/: هذه هي النقطة الأهم. الكابوس لا ينتهي
إلى الراحة، بل إلى واقع أكثر إيلاماً. الخادم يخبرها بأن "حسنى" حقاً
جاءها المخاض وتطلبها.
☑️الوظيفة: هذا يخلق مفارقة مروعة:
*في الكابوس: كانت حسنى مع طفلها الرضيع
مهددة بالاستعباد.
*في الواقع: هي على وشك ولادة طفلها
الحقيقي في ظروف صعمة (ربما تكون مرتبطة بمخاوف الاستعباد والعنصرية في ذلك العصر).
*الكابوس لم يكن هروباً من الواقع، بل كان
استباقاً له أو تشخيصاً له. الواقع يلاحق الحلم ولا يطيقه. الخوف من فقدان حسنى في
الكابوس يتحول إلى حقيقة أنها قد تفقدها (أو تفقد صورتها عنها) في الواقع بسبب
الولادة أو تغير الظروف.
✅ *لماذا هذه التقنية فعالة؟
"تقنية "الاستيقاظ من الكابوس"
عند تسنيم طه هي محاكاة سردية للعملية النفسية. إنها تظهر أن:
*لا يوجد هروب: الحد الفاصل بين اللاوعي
والوعي وهمي. مخاوفنا تتبعنا إلى أحلامنا، وأحلامنا تلوث يقظتنا.
*الكابوس تشخيص: الأحلام ليست عشوائية، بل
هي تعبير مكثف ومشفر عن الصراعات الواقعية (الاستعمار، العبودية، العنف ضد المرأة،
الذنب، الخيانة).
*الصدمة مستمرة: بنهاية المقطع، لا نشعر
بالارتياح، بل بالقلق. الاستيقاظ ليس حلاً، بل هو انتقال إلى طبقة أخرى من الصراع.
الكاتبة تستخدم هذه النهايات لرفض إغلاق الأزمات التي تطرحها، مما يترك القارئ في
حالة من الترقب والتفكّر العميق في التداخل المعقد بين التاريخ، والذاكرة، والصراع
النفسي.
✅الأسلوب و اللغة السردية
لغة الرواية تحمل طابعًا تعبيريًا دراميًا يوظف الرموز
الجسدية والجغرافية ليعبر عن مفاهيم الهوية والانتماء والصراع بشكل أدبي جمالي.
اللغة في الرواية مكثّفة لكنها مشحونة بالعاطفة، متناسبة
مع البيئة الاجتماعية والثقافية، فيها من التصوير التعبيري ما يعكس حجم المعاناة
والتمزقات النفسية، مع استخدام تقنيات الاستعارة والتناص التاريخي لإثراء النص
وتوجيهه لقراءة تاريخية وإنسانية عميقة.
☑️لغة شعرية حسية: تستخدم الكاتبة لغة موحية وغنية بالصور الحسية /رائحة العطور،
صوت الموسيقى، الإحساس بالحنان/
☑️جمل طويلة ومتدفقة: تعكس الجمل الطويلة والمعقدة تيار الوعي وتدفق المشاعر
والأفكار دون توقف، مما يخلق إيقاعًا يشبه الإلهام النفسي.
☑️مزيج بين الواقعي والعاطفي: تخلط الكاتبة بين وصف التفاصيل الواقعية الملموسة
/حديث الركاب، إجراءات الطائرة/ وبين المشاعر والأحاسيس الداخلية للبطلة، مما يخلق
واقعًا غنيًا ومتعدد الطبقات.
☑️التفاصيل الدقيقة: تولي الكاتبة اهتمامًا بالتفاصيل الصغيرة التي تثير
الذكريات مثل غلاف رواية "أسمرة والقضايا الخاسرة" لربط الحاضر بالماضي.
الرواية تبرع أيضاً في توثيق التفاصيل الثقافية
السودانية الأصيلة، من طقوس "شهر الحبسة" قبل الزفاف، إلى تقاليد
"عواميد الأكل" ورفض العروس لتسمين نفسها لأن خطيبها "لا يحب
الأبقار". هذه التفاصيل لا تزخرف النص بل تعمق إحساسنا بأزمة الهوية التي
تعيشها الشخصيات بين التمسك بالتقاليد والانفتاح على العالم.
ختامًا، يمكن اعتبار الرواية عملًا نقديًا مقاومًا
للخطاب الرسمي، تستخدم السرد كأداة لتفكيك الرواية الوطنية الأحادية، وتمنح صوتًا
للأصوات المضطهدة، خصوصًا نساء السودان، في رؤية تعددية تمثل خلاصة جهد أدبي فكري
إنساني في لحظة مفصلية من تاريخ السودان المعاصر.
تنجح الراوية في تحويل الرحلة الشخصية للشخصيات إلى
ملحمة إنسانية عن البحث عن الذات في عالم مليء بالتناقضات، حيث تتداخل الحروب
الشخصية مع الحروب السياسية، والهزائم الفردية مع الانتصارات الصغيرة، في نسيج
روائي معقد يؤكد أن الأدب الحقيقي هو الذي يمسك بتلابيب الحياة في أعمق تجلياتها.
مع تحياتي للروائية المبدعة: تسنيم طه
سمية الإسماعيل/ سورية
22-11-2025