الخميس، 12 يونيو 2025

قَوَاعِدُ الفَنِ: نَشْأَة وبِنْيَة الحَقْلِ الأَدَبِي

ترجمة/ تسنيم طه 

ها هو أخيرًا الكتاب المُنتظَر منذ عدّة سنوات، الذي يُقدّم فيه بيير بورديو  فحصًا منهجيًا لمسألة الأدب.

 فمنذ مقاله الشهير "الحقل الفكري والمشروع الإبداعي" المنشور عام 1966 في مجلة "الأزمنة الحديثة"، يواصل عالم الاجتماع بيير بورديو  تأمّله في الطبيعة الاجتماعية للجماليات، ولا سيما للممارسات الأدبية.  وقد سبق له أن طوّر حججه النظرية بشكل مكثف في مقال "سوق السلع الرمزية" (السنة السوسيولوجية، 1971). تلا ذلك عدة مقالات، من بينها اثنان خُصصا بشكل مباشر لـ"الحقل الأدبي"، لكن الجميع كان ينتظر منه ذلك العمل الكبير، الذي كان قيد الإنجاز منذ وقت طويل، والذي يُعدّ خلاصة دراساته حول الموضوع.

تُظهر الإعلانات الترويجية عبارة ـ"فلوبير بورديو" كصديً وكإجابة لـ"فلوبير سارتر"، لكن، كما هو حال كثير من الإعلانات، فقد يكون في ذلك بعض التضليل. صحيح أن الكتاب يتطرق إلى فلوبير، ولكن بشكل ثانوي؛ لأن كل ما يوجه مسار العمل بأكمله، لا يتعلق إلا بصورة ثانوية بذلك الكاتب أو ذاك العمل، مهما كان نموذجيًا، إذ أن الموضوع يتمحور في جوهره حول "الحقل" نفسه، أي ما أصبح من المألوف تسميته في الدراسات الأدبية بـ"المؤسسة"، منذ أعمال "جاك دوبوا"، أي مجمل القيود والإمكانات التي تُمكن الأدب من أن يتحقق ظرفيًا ضمنها.

مقتطف من صفحة 311 من كتاب "قواعد الفن" :

"إن التعريف الأكثر صرامة وتقييدًا للكاتب (وما إلى ذلك)، والذي نقبله اليوم وكأنه بديهي،  هو في الحقيقة نتاج سلسلة طويلة من الإقصاءات أو الطرد الرمزي، التي تهدف إلى إنكار صفة "الكاتب الحقيقي" على كل أشكال المنتجين الذين كانوا يعتبرون أنفسهم كُتابًا  بناءً على تعريف أكثر اتساعًا وليونة للمهنة.  

"واحدة من الرهانات المركزية في التنافسات الأدبية (وما إلى ذلك) هي احتكار الشرعية الأدبية؛ أي، من بين أمور أخري، احتكار سلطة القول بشكل رسمي بمن هو مخوَّل لأن يُطلق على نفسه صفة "كاتب"، بل ومن له الحق في أن يُحدد من هو الكاتب، ومن له سلطة القول بذلك، أو، إن شئت، احتكار سلطة منح الشرعية للمنتجين أو للمنتجات.  وتحديدًا، فإن الصراع بين شاغلي القطبين المتضادين في حقل الإنتاج الثقافي يدور حول احتكار فرض التعريف الشرعي للكاتب، ومن المفهوم أن يتم تنظيمه حول ثنائية الاستقلالية مقابل التبعية (الغيرية).  ويترتب على ذلك، إن كان صحيحًا عالميًا، أن الحقل الأدبي (وما إلى ذلك)   هو ساحة صراع من أجل تعريف الكاتب،  فإن الحقيقة تبقى أنه  لا يوجد تعريف عالمي للكاتب،  وأن التحليل لا يقابل أبدًا إلا تعريفات مرتبطة بحالة معيّنة من الصراع لفرض التعريف الشرعي للكاتب".

يفتتح الكتاب بتحليل لرواية "التربية العاطفية" لفلوبير، كوسيلة لإثبات أن علم الاجتماع قادر على تقديم "تحليل للنصوص"، وهو تمرين تقليدي يُظهر الكفاءة في الدراسات الأدبية. مقدمة تنم عن براعة بلا شك، لكنهه تضع في الواجهة عرضًا تكتيكيًا، كما لو أن الموضوع سيكون حاسمًا لما سيأتي بعده، وهو ما ليس عليه الحال في الواقع.

ما سيأتي بعد ذلك هو الأهم.

في الجزء الأول، المعنون "ثلاث حالات للحقل"، يُقدّم بورديو وصفًا لثلاث مقاطع متزامنة مأخوذة من تاريخ الأدب الفرنسي، خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر. وأوسع هذه المقاطع، هو ذلك الذي يتناول فيه فترة "فلوبير" و"بودلير"، وفيه يُقدّم مثالًا مقنعًا عمّا يمكن أن تُضيفه التحليلات السوسيولوجية –للأدب، حتى في المجالات المألوفة جدًا.  

أما الجزء الثاني، "أسس علم للأعمال"، ففيه يُقدّم بورديو النظرية التي يقوم عليها ما سبقه من تحليل. وبالنسبة لبعض القرّاء، مثلي، سيجدون أن بورديو هنا يبدو كثر وضوحًا من المعتاد. مع مقاله "سوق السلع الرمزية" لعام 1971، تشكل هذه المئة والخمسون صفحة واحدة من أهم النظريات في علم اجتماع الأدب المعاصر، وربما الأكثر قوة منذ انهيار الماركسيات العلمية.

في الجزء الثالث، "فهم الفهم"، يقترح أولًا في محاولة لبسط الهيمنة على المجال الأدبي الضيق، تحليلًا ماورائيًا  (ميتا-تحليل) ينتقد الطابع العارض للتاريخ في الجماليات الخالصة، وهي صفحات تذكّرنا كثيرًا بـالملحق الختامي لكتاب "التمييز"، الذي يُعدّ عناصر من نقد مبتذل للنقد الخالص.

 ثم يتبع ذلك بعض الملاحظات والتفصيلات الثانوية، وفي الختام، نجد دعوة إلى "نقابية كونية" يُناشد من خلالها بورديو حركة للدفاع عن المثقفين.

إنه كتاب لا غنى عنه إذا كنت ترغب في التعرف على أحد أبرز الباحثين المعاصرين، وخاصة إذا كنت لا تزال تؤمن بأن الأدب هو النصوص فحسب. "قواعد الفن" يهدم هذا الوهم الساذج تدريجيًا، وبشكل لا رجعة فيه .

 ---------------------

نُشر بواسطة "دوني سان جاك"، في مجلة " ليلة بيضاء" الأدبية، العدد 51، مارس – أبريل – مايو 1993، حول كتاب "قواعد الفن: نشأة وبنية الحقل الأدبي"،  لعالم الاجتماع الفرنسي "بيير بورديو "، الصادر عن  دار النشر "سُويْ"  1992.

لقراءة المقال من مصدر بلغته الأصلية: https://id.erudit.org/iderudit/21572ac

الأحد، 8 يونيو 2025

فَصْلٌ مِنْ كِتَاب: الفَضَاءُ الأَدَبِيّ/ مُوريس بلانْشُو (1)

ترجمة/ تسنيم طه

1

العزلة الجوهرية

يبدو أننا نتعلّم شيئًا عن الفن حين نختبر ما يحاول أن يدل عليه لفظ العزلة. لقد أُسيء استخدام هذا اللفظ كثيرًا. ومع ذلك، ما معنى "أن تكون وحيدًا"؟ متى يكون الإنسان وحيدًا؟ لا ينبغي أن يعيدنا طرح هذا السؤال إلى آراء عاطفية أو خطابيةالعزلة على مستوى العالم هي جرح لا مجال هنا للخوض فيه مطولاً.

ولا نقصد هنا أيضًا عزلة الفنان، تلك التي يُقال إنها ضرورية له من أجل ممارسة فنه. فعندما يكتب ريلكيه إلى الكونتيسة سولمس-لاوباخ (في 3 أغسطس 1907): منذ أسابيع، باستثناء مقاطعتين قصيرتين، لم أنطق بكلمة واحدة؛ عزلتي تنغلق أخيرًا وأنا منغمس في العمل كما تنغمس النواة في الثمرة"، فالعزلة التي يتحدث عنها ليست عزلة بالمعنى الجوهري، بل هي تأمل وتفرغ داخلي.

 عزلة العمل

عزلة العمل — العمل الفني، أو العمل الأدبي — تكشف لنا عزلة أكثر جوهرية. هذه العزلة لا تتعلق بانعزال فرداني متفاخر، ولا تعرف البحث عن التمايز؛ وحتى دعم علاقة قوية في مهمة تمتد على وضوح النهار لا يبددها.   الذي يكتب العمل يُوضَع جانبًا، والذي كتبه يُستبعَد. والذي يُستبعَد، فوق ذلك، لا يعلم بذلك. وهذه الجهالة تحفظه، وتلهيه، لأنها تمنحه الإذن بالاستمرار. فالكاتب لا يعرف أبدًا ما إذا كان العمل قد اكتمل. ما يُنهيه في كتاب، يُعيده أو يهدمه في كتاب آخر.

أثناء احتفائه في العمل الأدبي بهذا الامتياز المتعلق باللانهاية، لا يرى "فاليري" فيه  إلا الجانب الأكثر سهولة: أن يكون العمل لا نهائيًا، هذا يعني (بالنسبة له) أن الفنان، مع كونه عاجزًا عن إنهائه، فهو قادر مع ذلك على أن يجعل منه موضعًا مغلقًا لعمل لا ينتهي، حيث إن عدم الاكتمال يصبح تعبيرًا عن سيادة الذهن، ويُطوّر هذه السيادة على شكل قوة. في لحظة معينة، تتدخل الظروف — أي التاريخ، في شكل الناشر، أو الضرورات المالية، أو المهام الاجتماعية — لتُنهي هذا العمل نهاية قسرية، ويُطلق سراح الفنان من هذا الانغلاق الإجباري، ليواصل اللانهائي في مكان آخر.

اللانهاية في العمل، في هذا التصور، ليست سوى لانهاية للذهن. يسعى الذهن إلى التحقق في عمل واحد، بدلاً من أن تتحقق في لا نهائية الأعمال وفي حركة التاريخ. لكن فاليري لم يكن بطلاً. لقد وجد من المناسب أن يتحدث عن كل شيء، ويكتب عن كل شيء؛ وهكذا فإن العالم المتشظي والمبعثر كان يُسلّيه عن كلية العمل الفريدة التي تخلى عنها بلطف. ذلك الـ"إلخ ."كان يختبئ خلف تنوع الأفكار والمواضيع.

ومع ذلك، فالعمل — العمل الفني، العمل الأدبي — ليس منتهيًا ولا غير منتهي: إنه موجود. وهذا كل شيء: إنه موجود، لا أكثر. وخارج ذلك، هو لا شيء.  من يحاول أن يجعله يعبّر عن أكثر من ذلك، لا يجد شيئًا، ويجد أنه لا يعبّر عن شيء. من يعيش في تبعية العمل، سواء لكتابته أو لقراءته، ينتمي إلى عزلة ما لا يعبّر إلا عن كلمة "يكون": كلمة تأويها اللغة من خلال إخفائها، أو تُظهرها حين تجعلها تتلاشى في الفراغ الصامت للعمل.  

عزلة العمل لها إطارها الأول في غياب المطالبة، الذي لا يسمح أبدًا بأن يُقرأ العمل مكتملًا أو غير مكتمل. هو بلا دليل، مثلما هو بلا فائدة. لا يمكن التحقق منه، قد تدركه الحقيقة، قد تُضيئه الشهرة: لكن هذا الوجود لا يعنيه، وهذه البداهة لا تجعله لا مؤكدًا ولا حقيقيًا، ولا تجعله ظاهرًا.

 العمل منعزل: هذا لا يعني أنه غير قابل للتواصل، أو أنه يفتقد القارئ. لكن من يقرأه، يدخل في تأكيد عزلة العمل، كما أن من يكتبه ينتمي إلى خطر تلك العزلة.

يتبع .............

باريس/ 8 يونيو 2025

السبت، 7 يونيو 2025

صُقُورُ الجِدْيَانِ واللَّقَب (فَصْلٌ مِنْ رِواية)

بقلم/تسنيم طه 

مسودة التهجير...أو الشتات

الخرطوم-فبراير 1970

 كنتُ أعلم أن رغباتي الانتقامية ليست منطقية؛ ليس لأن اغتيالي لرئيسٍ سابقٍ سيجعلني -إن نجوتُ من الشنق في ميدان عام-أقضي بقية حياتي متعفنًا داخل زنزانة في سجن "كُوبَر"، ولكن لأن قتله لن يداوي جراح أرواحنا وقلوبنا العليلة. ولكن غضبي من "عَبُّود" كان عظيما، رغم أن عهده قد ولى، وجاء رئيس جديد فرحنا به رغم وصوله للسلطة بانقلاب عسكري على حكومة مدنية منتخبة.

فرحنا بنِميري لأنه نوبي، وتعشمنا فيه أن يعوضنا حقوقنا الضائعة. لكن عشمنا الكبير، لم يُنسنا حزننا على ترك "وادي حَلْفَا"، ومعاناة صعوبة الاندماج مع سكان أرض "البُطَانة"، بسب اختلاف ثقافتهم وعاداتهم وتقاليدهم عنَّا: ينهبون ويسرقون، فأجبرونا على اغلاق أبواب بيوتنا التي كنا نتركها مفتوحة حتى الصباح في "وادي حَلْفَا"، ومناخهم الممطر أغلب أوقات السنة عديم الصلة بمناخنا الجاف في الشمال نادر الأمطار، أرعبنا بكثرة رعوده وبروقه وصواعقه.

 فقد كان والدي، عندما ترسل السماء صواعقها في موسم الامطار الطويل، يهرب من فزعه بالاحتباء تحت السرير. والأدهى وأمر، ذلك التأثير السلبي الذي سيدفع البعض صحته بل حياته ثمنًا له، بسبب مواد بناء مسرطنة دخلت في صنع أسقف المنازل التي هُجرنا إليها، ومنهم والدي، كما افترض الطبيب في الخرطوم. ربما أخطأ الطبيب التقدير، وأن سبب مرض والدي وتدهور صحته هو مجرد انسدادات في مجاري الطاقة الداخلية أنتجت ذلك الورم، عند تفاقم أحزانه على أمي التي فارقتنا قبل التهجير، وكأنها قررت أن تدفن بجوار والديها في أرض ستطمرها المياه، ليظل أبي يبكيها ليل نهار وهو يعانق شاهد قبرها وحفنة التراب التي ظل يشمها إلى آخر يومٍ في حياته. وربما هي تلك الحفنة ما ستؤخر عودتي إلى "وادي حَلْفَا" لأكثر من خمسين عامًا.

ورغم وهنه الجسدي من تكرار جلسات العلاج الكيماوي، وقلقي عليه بعد تقرير الطبيب بأن المرض الخبيث المنتشر في رئتيه قد لا يمهله طويلًا، انهزمتُ أمام رغبتي ثنيه خشية أن تنتكس صحته، واستسلمتُ لعلامات الفرح على ملامح وجهه، اثناء مراهنته على فوز فريق السودان.  

ذلك الفرح على وجهه المتعب، ذكرني بحماسه قبل عامين لما قدمتُ معه إلى الخرطوم لحضور حفلة أم كلثوم في الخرطوم أثناء زيارتها للسودان قبل عامين ضوء جمعها لأموال دعم المجهود الحربي في أعقاب نكسة "5 يونيو 1967"، لما جاءت لتغني بمسرح "أُمْ دُرْمان القومي"، بعد تلقيها دعوة من وزير الإعلام السوداني، فأحيت حفلة ارتدت فيه الزي السوداني، وانتقت بعدها أشعارًا سودانية، لتصبح كلمات قصيدة "أغداً ألقاك" للهادي آدم، أشهر أغنياتها. وكنتُ ألتفت نحوه اثناء جلوسي بجواره على مقاعد نادي الرياضة كل فينة وأخرى، واستشعر أملًا في شفائه التام عن رؤية الشباب الناضح من وجهه ومن جسده وهو يقف ثم يجلس هاتفًا مشجعًا فريق المنتخب القومي "صقور الجديان" الذي أصر على حضور مباراته النهائية، ونيل شرف رؤيته يتسلم كأس الأمم الافريقية هذا العام.

 وقد حصل.

واثناء انغماسي بمراقبة والدي وهو يشارك الجموع ويهتف بفرح هستيري أثناء تسلم الفريق للكأس، وصل إلى أسماعي صوتٌ من ورائنا مناديًا: عم الصاوي!  بفضولٍ استدرتُ، بحثًا عن ذلك الذي يعرف والدي في العاصمة التي ليس لنا فيها أهل ولا أقارب، لتصدم عيناي بنظرة مألوفة لعينين زرقاوين، تعرفتُ على صاحبها على الفور، بالرغم من مرور قرابة ثلاثين عامًا.

 بلهفةٍ تقدمتُ نحو "عبد الجليل"، الذي لم يعد ذلك الطفل أسرني ذلك اليوم بشعره الطويل كشعر الفتيات.  وعانقته بحرارة، وذكرته بلقائنا الأول ذلك النهار عند مرافقتنا لوالدينا لأداء التعازي لأهل "معاوية محمد نور"، وعن تقاسمنا الحلم في أن نصبح صحفيين عندما نكبر.

في ذلك المساء، وبعد تبادل الأخبار والإجابة على سؤاله بـ"أين تسكون؟"، بأننا ننزل في "لوكندة" في السوق العربي بالقرب من ميدان "أبو جِنْزير" تعودنا التردد عليها عند مجيئنا من "حَلْفَا الجديدة" لمراجعة طبيب والدي في العاصمة، أقسم علينا عبد الجليل لأن نرافقه إلى بيتهم ليقوم بواجب ضيافتنا. 

وهناك في حي "المَسَالْمَة"، تعرفنا على زوجته المليحة الخجولة المنحدرة من شرق السودان، ووالدته الأرمنية التي أورثته العيون الزرقاء والشعر الناعم المائل للشقرة، دون أن تورثه لون بشرتها، ليظل متميزًا بخلطة سمار لونه وغرابة لون عينيه وشعره التي ستحتل ذاكرتي طوال عقود، لتجعلني أتعرف على حفيدته بعد أكثر من أربعين عامًا، فقط من لون عينيها اللتان ورثتهما عنه. وتبادلنا الحديث مع والده، وأصغينا باهتمام لحياتهم الهانئة في حي "المَسَالْمَة " لقربه من جميع الخدمات لوقوعه في وسط أُمْ دُرْمان، وعن اندماج الأقليات فيه: مسلمون ومسيحيون ويهود.

وساد صمتٌ قصيرٌ لما عادت والدته من المطبخ ووضعت أمامنا صينية كبيرة وقدمت لنا شاي بالحليب والقرنفل، وفطائر أرمنية بالجبن والقرفة ومكسرات الفستق والفول السوداني. وبعد أن عدلتُ خمارها الأزرق على شعرها الأشقر الناعم، جلست بجوار زوجها الذي يبدو أنه يكن لها احترامًا كبيرًا، إذ تطلع في وجهها بحبٍ أثناء سؤالها لنا عن "حَلْفَا الجديدة".

 بمرارةٍ، حكينا لها عن ألم الشتات وصعوبة الاندماج في المجتمع الجديد. فحدثتنا بنبرة ألم عن شتات الأرمن في بداية القرن العشرين هربًا من مذابح الأتراك ضدهم، الذي جاء بعائلتها للاستقرار في السودان. ثم أضافت لتطمئننا بأن الاندماج سيأتي لاحقًا، أما عن شتات الأحبة فلا مفر منه إن أصروا على عبور البحار، والبحث عن مستقبل آخر في قارات بعيدة، كما فعل نصف أهلها بانتقالهم إلى أمريكا وأستراليا وكندا. 

ولما رأى عبد الجليل الأسى على وجهينا، نصحنا بترك أرض البطانة ما دمنا غير مرتاحين فيها، واقترح علينا الانتقال للعيش في العاصمة، ووعد بأن يوفر لنا بيتًا بجوارهم في حي المسالمة لأحد أصدقائهم الأقباط الذي هاجر مؤخرًا إلى استراليا، ثم لما رأى التردد في عيني، أعطاني وعدًا آخر، بأن يجد لي وظيفة في الصحيفة التي يعمل بها، وأن يساعدني حتى أحقق حلمي الطفولي القديم بأن أصبح صحفيًا مشهورًا مثل العقاد.

وفي المستقبل، سيفي بوعده وسيعاونني في كتابة مقالات تؤهلني للدخول إلى عالم الصحافة من أبواب واسعة. وسأسمع لنصائحه عندما يقترح عليّ الكتابة عن دور نِميري في انقاذ ياسر عرفات بعد أحداث "أيلول الأسود"، وعن حركة تموز والانقلاب الذي أطاح بالمملكة العراقية الهاشمية عام 1958، وعن الحرب الباردة وصراعات أمريكا والاتحاد السوفييتي بين عامي 1947-1953، وعن علي عبد اللطيف قائد ثورة اللواء الأبيض السوداني ضد الانجليز عام 1924، وعن ثورات عربية وقادة عرب ساعدوا في تحرير بلادهم من الاستعمار. لكنني وقفتُ عاجزًا عن الرضوخ له، لما طالبني بالكتابة عن جمال عبد الناصر وعن ثورة يوليو 1952. ليس فقط لأنني لست مغرمًا به مثله ولا معجبٌ بتشبيه دوره في القومية العربية شببهًا بدور "سيمون بوليفار"، القائد الفنزويلي الذي ساهم في تحرير الكثير من دول أمريكا اللاتينية من الاستعمار الاسباني، ولكن أيضًا لأنني ما كنتُ لأكتب لأُمَجدّ شخصًا تسبب في تشريدنا من ديارنا، وإغراق حضارتنا ومدينتنا العريق "وادي حَلْفَا"، بعد توقيعه مع "عَبُّود" اتفاقية بناء السد العالي. 

في ذلك المساء، ولما كرر علينا عبد الجليل ضرورة الانتقال إلى العاصمة، شكرناه بامتنان متردد، وطلبنا منه مهلة للتفكير. مهلة، لن تستمر طويلًا. فبعد أقل من شهر، وفي نفس اليوم الذي اندلعت فيه أحداث "الجزيرة أبا" في مارس 1970، توفي والدي بعد صراع طويل مع المرض؛ فقررتُ ترك "حَلْفَا الجديدة" ومنطقة "خَشْم القِرْبة" إلى الأبد.

 ------------------------------------------------------

من رواية "سهام أرتميس"، الصادرة عن دار "مسعى 2023



الاثنين، 12 مايو 2025

مراجعة كتاب: مهندسو الفوضى

 بقلم / تسنيم طه 


"مهندسو الفوضى"، للمؤلف "جوليانو دا إمبولي"، من الكتب التي أحدثت ضجة في الوسط الفرنسي، عبر منصات الاعلام، وبين القراء في منصات مراجعة الكتب وخاصة منصتي "Goodreads " و"Babilio".

صدر الكتاب في نسخته الفرنسية عام 2019، عن دار" JC Lattès "،  في 250 صفحة، مركزًا على مواضيع الشعبوية والاتصال السياسي، والبيانات الضخمة ووسائل التواصل الاجتماعي، والديمقراطية والتلاعب بالشعوب.

في هذا الكتاب التحليلي الحاد، يفك جوليانو دا إمبولي"  شفرة صعود الشعبوية من خلال شخصيات غير معروفة ولكنها مؤثرة، ساهمت في صعود زعماء مثل دونالد ترامب، ماتيو سالفيني، جايير بولسونارو، وكذلك مهندسي البريكسيت. ويطلق المؤلف على هؤلاء الاستراتيجيين اسم "مهندسو الفوضى"، والذين يقصد بهم خبراء التلاعب الإعلامي ومشايخ الخوارزميات وخبراء علم البيانات، الذين يتلاعبون بالعواطف الشعبية، وخاصة المخاوف من خلال استغلال الأدوات الرقمية. 

كما يستعرض الكاتب هيكل وأساليب حركة الخمس نجوم الإيطالية، التي أسسها جيانروبرتو كازاليجو وبيبّي غريلو، والتي يعتبرها بمثابة مختبر للشعبوية الرقمية.

في أطروحته، يوضح المؤلف أن الشعبوية المعاصرة ليست عفوية ولا غير عقلانية، بل يتم تنظيمها بشكل منهجي من قبل تقنيي المعلومات الذين يتقنون آليات التأثير النفسي والسردي والتكنولوجي في المجتمعات الرقمية.

يبدأ الكتاب بمقدمة تحمل عنوان "الكرنفال"، حيث يعقد فيها المؤلف مقارنة بين الكرنفال التخريبي القديم والمناخ السياسي الحالي حيث تنقلب الأدوار، وتتحول الاحتفالية إلى أسلوب حكم.

ثم تتالى الفصول، لتقدم بورتريهات تعريفية لأشهر مهندسو الفوضى، وهم:  ستيف بانون (الولايات المتحدة): منظّر ترامب، ومؤسس "أممية شعبوية".... دومينيك كامينغز (المملكة المتحدة): العقل المدبر لحملة البريكسيت، ومستخدم استراتيجي للبيانات....جيانروبرتو كازاليجو (إيطاليا): مهندس حركة الخمس نجوم، ورائد مفهوم "الحزب-الخوارزم".... ميلو يانوبولوس وآرثر فينكلشتاين: شخصيات استفزازية ومهندسو سرديات متمردة.

وتقدم هذه الفصول تحليلًا نقديًا يوضح الدور المركزي للعواطف في الاتصال السياسي، تلاشي الانقسام بين اليمين واليسار لصالح ثنائية "الشعب مقابل النخب"، وازدواجية الديمقراطية الرقمية، وأخيرًا وعود المشاركة مقابل التلاعب الخوارزمي.

وقد تعرض المؤلف لتطوير مفاهيم رئيسية مثل الشعبوية التكنولوجية (تحالف بين التكنولوجيا الرقمية والخطاب الشعبوي)، وسياسة "الإعجاب" (هيمنة معايير التفاعل العاطفي على الأفكار والمحتوى السياسي)، والسرد مقابل الحقيقة (أولوية تماسك السرد على حساب صحة الوقائع (مثال: الأخبار الكاذبة تُعتبر دليلاً على الأصالة)، وأخيرًا تفكيك الوساطة التقليدي (وسائل التواصل الاجتماعي تلغي دور الوسطاء التقليديين مثل الصحفيين، الأحزاب، والخبراء).

امتلك الكتاب نقاط قوة عديدة، منها أسلوب التقديم وسلاسة اللغة ووضح الأفكار، وقدرته الفائقة على تلخيص حركات سياسية وتكنولوجية واسعة ومعقدة، مما أعطاه طابعًا توثيقيًا دقيقًا وأصيلًا. لكن رغم  هذه المميزات، أرى أن الكاتب انتهج نهجًا تشاؤميًا في الطرح بطريقة قدرية لم يعرض فيها سبل المقاومة. كما أنه لم يُعالج بشكل كافٍ دور المواطنين أنفسهم بطرحه للسؤال المهم: هل هم فعلًا مجرد ضحايا للتلاعب؟

الكتاب جذاب ومرعب في آن معًا؛ لأنه يكشف عن كواليس ثورة سياسية تغذيها التكنولوجيا الرقمية. تحليل دا إمبولي ذو صلة ويثير الضوء على العديد من القضايا، خصوصًا في زمن أصبحت فيه الأخبار الكاذبة والمعلومات المضللة تشكل بشكل متزايد النقاش العام.

يُعتبر هذا الكتاب مهمًا لكل من يسعى لفهم العصر الجديد للسياسة الرقمية، من خلال تفكيك المؤلف للسرديات التبسيطية حول الشعبويين، موضحًا أنهم ليسوا نتاج «عصر اللاعقلانية»، بل نتيجة لهندسة محكمة خفية، قوية وفعالة.

فمن خلاله تمكن جوليانو دا إمبولي من إظهار كيف أن العصر الرقمي قد أتاح شكلًا جديدًا من الشعبوية، يعتمد على التلاعب العاطفي وتجزئة الآراء، موضحًا أن هؤلاء الاستراتيجيين لم تنبأوا فقط بالتغيرات الاجتماعية والتكنولوجية، بل تمكنوا أيضًا من الاستفادة منها لإعادة تشكيل اللعبة السياسية. مقارنته للكرنفال، حيث يتم عكس النظام الاجتماعي، ساهمت في فهم الديناميكية التخريبية للشعبوية الحديثة بشكل أفضل.

 

 نبذة عن المؤلف:





  

  نبذة عن المؤلف:

ولد جوليانو دا إمبولي- Giuliano da Empoli ، في عام 1973 في ضاحية نويي-سيوغ سين، الباريسية. وهو كاتب ومثقف ومستشار سياسي إيطالي-سويسري، ورئيس مؤسسة "فولتا"، وهي مجموعة تفكير مقرها ميلانو، ويُدرّس في معهد العلوم السياسية في باريس. عُرف بأعماله حول السياسة الرقمية، والشعبوية والتحولات المعاصرة في المجتمع في عصر التكنولوجيا، يكتب بالفرنسية والإيطالية.  

ومن أشهر مؤلفاته باللغة الفرنسية:

  مهندسو الفوضى (2019)

يستعرض هذا الكتاب صعود الشعبوية في العصر الرقمي، من خلال تحليل الشخصيات الرئيسية التي تقوم بالتلاعب بالجماهير عبر التقنيات الحديثة، ووسائل التواصل الاجتماعي، والبيانات الضخمة.

 غزو السلطة غير المرئية (2023)

في هذا الكتاب، يواصل المؤلف استكشاف تأثير التقنيات الحديثة على السياسة، خاصة كيفية استخدامها لتشكيل الحركات الشعبوية والتلاعب بالرأي العام.

  ساحر الكرملين (2022)

في هذا الرواية، يروي قصة خيالية لخبير استراتيجي روسي رفيع المستوى، الذي من خلال اتقانه للتقنيات الحديثة وتلاعبه بالرأي العام، يلعب دورًا رئيسيًا في الحفاظ على سلطة فلاديمير بوتين. يستعرض الكتاب كواليس السياسة الروسية المعاصرة ويسلط الضوء على كيفية تأثير التلاعب الرقمي وإدارة المعلومات في الساحة السياسية الدولية. هذا العمل، الذي يمزج بين الخيال والتحليل السياسي، لقي استقبالًا نقديًا إيجابيًا بسبب عمقه وإضاءته على السياسة الحديثة.

  تُرجمت روايته " ساحر الكرملينإلى اللغة العربية بواسطة الكاتب والمترجم المغربي "عبد المجيد سباطة، ونشرت عن المركز الثقافي العربي.






الخميس، 1 مايو 2025

حَوْلَ شَنْدِي في 19 يَوْم

 بقلم/ تسنيم طه



نهلة: الحاج يوسف-الخرطوم بحري -نوفمبر 2014

كنا على سطح فندق "كورال" نزاحم سياحًا وعرسانًا صعدوا مثلنا لالتقاط صورا تذكارية على خلفية قرص الشمس البرتغالي النازل على أفق البحر الأحمر من وراء السفن الضخمة الأتية من أوروبا وآسيا وأمريكا الجنوبية محملة بحاويات بضائع وبترول.  وبينما نسيم وقت الغروب العليل يتلاعب بشعري، كنتُ أمازح الفاضل وأشير بأصبعي خلف سفينة تحمل العلم اليوناني، بأننا سنسافر قريبًا بالباخرة مادام أنه يخشى الطائرة، لزيارة أحد مدن ساحل البحر الأحمر القريبة، قبل أن أخيره للاختيار بين عَدَنْ في اليمن، ومُصَوَّع في إريتريا، وجَدَّة في السعودية، وشرم الشيخ في مصر، والعقبة في الأردن.

ولما لمحتُ ترددًا في ملامحه، علمتُ بأنه ما زال عالقًا في خوفه من تجربة البارحة الأليمة مع البحر. وهممتُ بإعطاء الحجج حتى أقنعه بفكرتي، لولا أن جاءه الاتصال الذي سيغير جميع الخطط: بوفاة جدته لوالده بنت مَسَاعَد، المرأة التي سقتها حبها ولقنته حكايات وتاريخ القبيلة.

ولما برك الفاضل على الأرض مجهشا في البكاء كطفل، نسيتُ فكرة السفر والترحال، وانشغلتُ بمحاولاتي لتهدئته لكي يكف عن العويل، خشية جلب المزيد من الناس والالتفاف حولنا، بعضهم يسأل بفضول عن الخطب، وأغلبهم فهم من تلقاء نفسه، وتقدم معزيًا رافعًا يديه بالفاتحة على روح الفقيدة

كنتُ ممزقة بين الرهبة والهلع والذهول، لعدم تصوري أن أرى زوجي يبكي يومًا، بعد أوهمني، أثناء فترة خطوبتنا الطويلة وطوافنا على مطاعم ومقاهي العاصمة، بأنه الجَعَلي القوي الشجاع، الذي يقف ببسالة في مناسبات الأعراس داخل دائرة "الركزة"، لكي يجلده العريس على ظهره العاري بـ"سوط العنج"، دون أن يرمش له طرف، اثناء طقس "البطان".

وفي غمرة تمزقي ذلك، وضوضاء المعزين المتلفين حولنا، تجاوزتني قشعريرة عندما لمحتُ وميض ذعر في عيني الفاضل، قوي معها حدسي بأنه لابد أنه استعاد لحظات رعب البارحة، ونجاته من الموت بأعجوبة غرقًا في وسط البحر. واستشعرتُ ارتجاف اطرافي عند تذكر صدمة الأمس، وعد تصديق أنني نجحتُ بصراخي في جلب البحارة والصيادين، لينقذوه قبل أن يختفي داخل المياه.

ومنذ الأمس، وأنا أصارع التردد في الاتصال بأحد أفراد عائلتي لأفضفض معه هول ما رأيتُه يحدث لزوجي داخل البحر، لا خشية أن أُنعت بالجنون لاعتقادي في قصص الجنيات وحسب، بل خوفًا من أن يقنعونني بأن ما رأيته مجرد تهيؤات، وألا وجود لحوريات يتربصن بالرجال ليخطفنهم إلى جزر البحر النائية كما حدث مع "أوديسيوس". ذلك لقناعتي التامة بوجود قوة خارجية خارقة، جذبت الفاضل زوجي لأن يتوغل داخل البحر بكامل ملابسه كالمنوم مغنطيسيا، وصمت أذنيه عن سماع صراخي الهستيري وتحذيراتي له من التقدم أكثر، وعن أوامري له بالعودة فورًا.

مرت لحظا قبل أن ينهض الفاضل من الأرض، وهم يكفكف دمعه. وبعد أن شكر الجموع مواساتهم، سحبني من يحثني للإسراع في أثره. وما أن دلفنا إلى غرفتنا، حتى طفق يضب الأغراض آمرًا إياي بالإسراع في لملمة أغراضي وأخلاء الغرفة قبل السفر فورًا للحاق بمراسم الدفن. تابعتُ بذهول وهو يتحرك في المكان الضيق ليجمع أغراضه، بسرعة أصابتني بدوار فظيع. 

ولما أفقتُ من ذهولي إثر سقوط كوب ماء بسبب حركة خرقاء منه، خرجتُ أخيرًا من بكمي وأخبرته بعدم جدوى الاستعجال لأننها لن نتمكن من الوصول إلى شَنْدِي  قبل أربع عشرين ساعة، ليس بسبب طول المسافة الخرطوم وبورتسودان وحسب، بل لعدم وجود مواصلات عامة تقلنا إلى العاصمة قبل صباح الغد. لكنه فأجابني، دون أن يزيح بصره من حقيبة السفر التي شرع في ملئها بالملابس المعلقة على الخزانة، بأننا سنسافر بالطائرة.

ظللتُ أطالعه فاغرة الفاه من الدهشة، بينما خليط من المرارة والغصة يربط حلقي، عند تذكر رفضه القاطع العام الماضي السفر لقضاء شهر العسل خارج السودان بحجة خوفه من الطائرة، دون أن تغريه اقتراحاتي لأن أعرف على مدينة موسكو حيث درستُ، قبل أن نتوجه لمدينة موسكو لكي تريه مكان دراستها، قبل أن التوجه لمدينة "سُوتْشَي-Sotchi (Сочи)" المطلة على البحر الأسود، لرؤية التجهيزات لاستضافة دورة الألعاب الأولمبية الشتوية لعام 2014،  قبل العروج لمدينة "سان بطرسبوغ" لكي تريه المكان الذي  نجت فيه بأعجوبة من تفجيرات ذلك اليوم الذي صادف تنزهها بالجوار بحثًا عن آثار شخصية "راسكولينكوف" بطل رواية الجريمة والعقاب لدوستويفيسكي.  وليس ذلك وحسب، بل رفض اقتراحاتي التالية التي كنتُ أظنها حلًا وسطًا لقربها الجغرافي: جولة في القاهرة ثم في "أسوان" و"الأقصر" لمشاهدة معبد الكرنك، والبحث عن آثار ملوك كوش داخله، ورؤية جدارية الفرعون "تهارقا" فرعون الأرضين (مصر وكوش)، وهو يقدم النبيذ للمعبود "أوزوريس".

وفي الطائرة، أصبتُ بدهشة جديدة عند اكتشاف جانب آخر من شخصية زوجي، المتباهي بشجاعة الجعليين، وهو يرتجف كعصفور ويصرخ كالأطفال بمجرد إقلاع الطائرة، ويهرب من خوفه بإخفاء رأسه في حضني طوال الرحلة.

وطوال السبعة أشهر القادمة، سأجتهد لكي أُنسي زوجي فوبيا الطائرة، وأجدد محاولاتي لأقناعه أن نسافر ولو مرة واحدة خارج السودان، لأستسلم بمرارة أمام فشلي في إقناعه، وهو يدعم حجته ويكرر عليً بإصرار بأنه يتمنى الطواف على العالم مثلي، ويعشق السفر كعشقه الأكل وكرة القدم، ولكن بوسيلة نقل أخر غير الطائرة.

 لما وصلنا شَنْدِي ، كان المساء قد حل؛ فلم أتبين بوضوح ملامح النساء اللاتي كن يعزينني في المرحومة جدة زوجي، لا بسبب الظلام وحسب، بل لتشتتي بين مشاعر الرعب والخيبة التي عشتها مع زوجي اليومين الماضيين. كانت النساء تتناوبن على معانقتي والبكاء في حضني، ثم إفلاتي ثم احتضاني من جديد ليهمسن في أذني بنفس السؤال: أها يا نهلة، ما بقيتوا تلاتة؟

كنت أطالعهن بذهول وغيظ، من اهتمامهن جميعهن، وهن اللاتي يقابلنني لأول مرة ربما، أن يعرفني عني، رغم أجواء الحزن والحداد، أمرًا بتلك الحميمية. لذلك لم أفهم أي شيء في رحلتي الأولى لديار أهل زوجي.

وفي المرة الثانية أيضًا، عندما سأعود لحضور مراسم الأربعين على وفاة الجدة، لن أتعرف على الكثير عن مدينة "شَنْدِي ". ذلك أن مديري الغضوب رفض تمديد اجازتي لأسبوع. 

لكن الزيارة الثالثة كانت مكللة بالنجاح، بعد بقائي تسعة عشر يومًا في شَنْدِي تلت عيد الأضحى، طفنا فيها على أهله المنتشرين في ضواحي شَنْدِي ("الشَّقالو" و"قَنْدَتو" و"حوش بانَقَا" و"قريش") والمَتَمَّة ("الشُّكابة" و"السيال" و"حجر الطير").

فكان لتلك الأيام فضل في أن أنسى حسرتي على عدم السفر بالطائرة، وبالتعرف أكثر من أولئك النسوة البسيطات والوقوع في حبهن بعد أن كنتُ أراهن مجرد متطفلات، بعد أن أغرقنني بالمحبة والحنان وطيبة القلب أثناء إلحاحهن عليَّ عند تقديم للطعام مقسمات عليّ أن آكل من جميع أصناف الطعام الذي يحضرنه لي بحب وكرم. ورغم تكرار تكرارهن للسؤال الفضولي الذي كان يُحرجني، لمعرفة سبب تأخر حملي، كنتُ أنظر إليهن بتسامح واستشعر انتمائي لهن بحق. ولكيلا أجرحهن، كنتُ أكتفي بالابتسام دون أن أحاول تبرير بأنه لم يمضِ على زواجي سوى ستة أشهر، ودون أن أقوى على الاعتراف لهن بحقيقة أنني أتعاطى حبوب منع الحمل، وأخطط أولًا للاستقرار ماديًا والانفصال بعيدًا عن بيت عائلة زوجي قبل التفكير في إنجاب طفل. فقد كنتُ أعرف أنهن لن يفهمن مثل تلك التفسيرات، وهن المقتنعات بأن الغرض الأول من الزواج هو الانجاب، وأن كل طفل يأتي برزقه.

وقبل يومين من عودتنا إلى الخرطوم، وبعد اكمال جولة الطواف على أهله في قرى شَنْدِي والمَتَمَّة، أخذني الفاضل، في جولة داخل أحياء " شَنْدِي، عاصمة "دار جَعَل" كما كان يتباهى، ليريني الأماكن التي تردد عليها منذ نعومة أظافره: بيت عمته الصغرى في حي "الثورة مربع 14" بجوار جامع "خالد"، وبيت خاله الأوسط في حي "شَنْدي فوق مربع 8" خلف مستشفى المك نمر، ثم فندق الكوثر وسوق شندي ومحلات "حِزْقِيَال" حيث كان والده يشتري أقمشة جلابيب "الدَّمُور" وعمم "الكِرِب" وأقمشة النقادة، ثم مدرسة الرَّي للأساس ومدرسة الشيخ مصطفى الأمين المتوسطة حيث درس، ودكان يوسِف الفَوَّال، بل حتى بيت الداية التي أخرجته من بطن أمه "بنت مَدَني" أراها إياه وتغزل في طينه المبنى به، وفي حظيرة الحيوانات الملتحقة به من الخلف، وخاصة الدجاجات البلدية التي كان يلاحقها حتى ينقطع نفسه.

وفي صباح اليوم الثاني، استأجر الفاضل "رَكْشة" وأخذني ليريني مصنع نسيج "شَنْدِي"، أحد معالم المدينة، الذي تأسف على حال جدرانه الموشكة على الاختفاء وسط الرمال بسبب الزحف الصحراوي. وبعد لحظات ألتقنا فيها صورًا تذكارية على خلفية الكثبان الرمال الذهبية، قبل أن ننطلق شمالًا في الاتجاه المعاكس للمدينة ناحية منطقة "سِلِك على حدود منطقة الشَّقالو. وهناك، صرف زوجي سائق الركشة بعد أن أعطاه أجرته، ثم أمسك بيدي وقادني ناحية بقعة مهجورة مليئة بشجر "المِسْكِيتْ"، ليريني قبر عنزة جدته، قبل أن ينفجر في نشيج محموم. اجتاحتني قشعريرة عند رؤية دموعه مجددًا، وملأني حزن صم أذنيّ عن سماع كلماته الراجفة من بين عبراته وهو يقص على قصة "العَنَاق"، عنزة جدته التي ماتت وهي فتية، فبكتها جدته بحرقة، ونظمت فيها قصيدة رثاء حفظها الجميع من كثرة ما كانت ترددها بألم كل يوم:  

"سِلْك الدِّيش ناداكِ،  لا شُفْتَ جناكِ، لا ضُقْتَ لباكِ".

كانت تلك أصعب لحظات عشتها في شندي، أعادت إليَّ دهشتي من رؤية دموعه لأول مرة على سطح فندق "كورال" في بورتسودان قبل أشهر، وذكرتني بحسرتي على عدم تحقيق حلمي بالسفر بالطائرة أو حتى بالباخرة نحو أحد مدن حوض البحر الأحمر.  وبعد تفريغه لدموع حزنه على جدته، التي ربته منذ نعومة أظافره، واصلنا طريقنا إلى "الشقالو"، ليحدثني، ولمعة أسى في عينيه، عن أحلامه القديمة لأن يصبح لاعبًا ضمن فريق "سادرية"، أقوى فريق كرة قدم ساهم في شهرة عمه في السبعينات والثمانينات، وكيف أنه كاد تحقيق الحلم لولا انتقالهم إلى العاصمة الخرطوم قبل تجازوه سن الثالثة عشر عام 1995.

ومنذ تلك اللحظة، علمتُ بأن زوجي لا محالة عائدٌ إلى تلك البقعة ليستقر فيها، وكأنه شجرة، لا يمكنها العيش إن اجتثت من جذورها. لكن يقيني بأنني سأشاركه تلك العودة لمسقط رأسه، أخذ يتزحزح الآن، مع تعمده إرهاق أعصابي وصم أذنيه عن مبرراتي بأن هذا الزي الذي يرفض خروجي به للاحتفال بعيد ميلادي، هو نفس الزي الذي قابلني به أول مرة في مكتب شركة "سوداني" بعمارة "طلب"، قبل أن يطلب مني أرافقه به لأطوف معه محل "أبو الفاضل بلازا" بالجوار في حي الأملاك" بالخرطوم بحري؛ لأساعده في انتقاء خلاطة "مونوليكس" لوالدته، وبأنه كان سعيدًا برفقتي دون أن يخبرني بأنه يستعار من طريقة لباسي. ولما رد عليّ ببرودٍ: يومها لم يكن لي عليك سلطة، انفجرتُ صارخة: واليوم؟ هل لكَ عليَّ سلطة؟

ظل الفاضل يطالعني مذهولًا، دون أن يقوى على النطق. واصلتُ صراخي واستجوابه لكنه ظل منكس الرأس وكأنه أدرك فداحة الخطأ الذي وقع فيه. في هذه اللحظة، جاءت أمه تسأله بهلع عن الخطب؛ فأخبرتها بالقصة. نظرتْ إليه بتوجس وتوسلته أن يلعن الشيطان وينهض لمرافقتي للاحتفال معي بعيد ميلادي في "البيت السوري" كما كنا قد خططنا. لكن الفاضل رفض، وأكد بأنه لن يرافقني وأنا أرتدي مثل هذا الزي الخليع المحدد لمعالم جسدي بدقة. أذن سأذهب بمفردي، ما دام أن زوجي لا يهمه إدخال السرور إلى نفسي، أجبتُ بغضب؛ فرمقني بنظرة متحدية قبل أن يهدد: لو خرجتي هكذا، فأنتِ طالِق!

ولما وضعت والدته يدها على فمها، أحسستُ بأن الفاضل يتعمد إثبات رجولته أمام أمه. وكان بإمكاني رمي كوب الماء الذي أمامه، لأراه يتصدع على البلاط ويتبعثر شظايا، علَّ سماع تكسير الزجاج يخرج ما بي من غبن. في هذه اللحظة، ومع وقوعي فريسة تحت سطوة هرمونات الغضب، استحضرتُ مواقف مهينة كم كرهتُ فيها نفسي أمام غضب مديري، وطأطأتُ الرأس فيها بانكسار حفاظًا على راتبي.

وبينما حماتي تطالع تدير نظراتها الهلعة بين ابنها المنفوش بوهم سلطة الرجل على زوجته، وبين نظرات التحدي الذي كنتُ أسددها له، كنتُ أستعيد بتحسرٍ جمال تلك الأيام التسعة عشر التي قضيناها في شَنْدِي قبل أشهر، وأصغي بانتباه لوسوسة كبريائي المُلحة بأن زوجي ليس المدير الذي أسدى له خدمة مقابل عائد شهري، وبأن حياة زوجية بلا تفاهم ومودة وانسجام وتقبل الآخر، فلا داعي لها.

لحظات صمت عصيب سادت بيننا، أدرتُ فيها نظراتي بين وجه زوجي المتأهب، وبين حقيبة يدي الرمادية بجواره التي كانت تدعوني لاتخاذ قرار سريع يحفظ كرامتي. وبعد أن ألقيتُ نظرة عطف على حماتي، رجعتُ أثبت عيني في نظراته المتحدية، ثم التقطتُ حقيبتي وخرجت.

--------------------------------------------------

من رواية "سهام أرتميس"، الصادرة عن دار "مسعى 2023