بقلم/تسنيم طه
من مشيتهِ المتعثرةِ، علمتُ بأنه قادمٌ جديدٌ لم يتجاوز
الشهر منذ وصوله. ومن تلفته المتخبط في المكان، أحسستُ بأن شعورًا كبيرًا
بالضياع يتملكه، كذلك الذي كنتُ أحسُ به لحظة وصولي إلى "هنا" قبل ثلاث
سنوات، صبيحة ذلك الخميس المشؤوم من شهر مايو عام 2016.
لم أتخيل يومًا أن أنعت هذا اليوم بالمشؤوم؛ لتمثيله
لجميع معاني الفرح ليس فقط بالنسبة لي، بل ولكل أفراد عائلتنا الصغيرة؛ وذلك
لتوافقه مع عيد ميلاد أمي. وقد كنت أنتظره كل عام بفارغ الصبر؛ لأعيد عيش لحظات
المرح والسعادة مع أمي، أثناء تلذذي بممارسة هوايتي السنوية معها باختبارات لعبة
الذاكرة، التي دائمًا ما تبدأ بقراءتي عليها أخبار موقع "حدث في مثل هذا
اليوم"، لرصد أخبار النجوم والتواريخ التي تتوافق مع يوم مجيئها إلى الدنيا.
وكان مطبخنا الفسيح مسرحًا لتلك اللعبة المرحة، استنشق
داخله رائحة الفانيليا وماء الزهر، بينما أمي تتحرك أمامي بنشاط نحلة أثناء
مراقبتها لحرارة الفرن، ثم جلوسها أمامي برهة لخلط محتويات الدقيق والخميرة
والكاكاو؛ لتحضير كعكة جوز الهند والشكولاتة، ثم نهوضها مجددًا لمراقبة الفرن أو
استخراج أدوات تزيين الكعكة من الخزانة وخاصة الشموع الملونة، التي سنطفئها أنا
وأبي وأخي بعد ترديد أغنية "Happy birthday to you".
ظل مطبخنا الوسيع شاهدًا، إضافة للعبة الذاكرة السنوية
في عيد ميلاد أمي، على حوارات أخرى وحكايات كنتُ أقصها عليها عن يومي في المدرسة،
أو أخرى تقصها عليّ عن زميلاتها الغيورات اللاتي ينافسنها على تدريس اللغة
العربية لأطفال الجالية المغاربية في المدارس "السبتية"، أو
جاراتها المقربات اللاتي ترافقهن كل أسبوع لسوق "باغْبيس-Barbès" لشراء
الفواكه والخضروات الطازجة. وكنتُ استمتع بالإصغاء لحكايتها خاصة تلك التي تصف
حماس وسعادة السياح الذين يرتادون حي "مُونْمَارْتر" لأخذ صور تذكارية
على خلفية تمثال "داليدا"، على بعد خطوات من بيتنا.
أما سعادتي الكبرى فكانت عندما كنتُ أسمعها تحكي بشغف عن
قصص الروايات التي تقرأها في أوقات فراغها؛ فأستشف من نبرة صوتها إن كانت قرأت
مشهدًا حزينًا أم مفرحًا. فقد كانت تتفاعل مع قصص الشخصيات وكأنها قصص حقيقية
تؤرقها مشاكلهن، وآخرهن شخصية تيتة، بطلة رواية "كالماء للشكولاتة"
للكاتبة المكسيكية "لاورا إسكيبيل".
أنا أيضًا تأثرتُ بتفاصيل هذه الرواية التي
رافقتني طوال حياتي، وستظل ترافقني حتى بعد مماتي، لكثرة حديث أمي عنها، ليس فقط بحديثها
وتطبيقها لوصفات طعام البطلة "تيتة" المميزة، ولكن أيضًا بتألمها مع
معاناتها اليومية بسبب ظلم العادات والتقاليد، التي رأت ألا تتزوج الفتاة الصغرى
إلا بعد وفاة أمها، والتي حرمتها من الزواج من حبيبها "بيدرو"، الذي
تزوج بأختها الكبرى ليبقى قريبًا منها.
وبعد وقوعي في حب رواية "كالماء للشكولاتة "
أشتعل فضولي لاكتشاف بقية الكتب التي تعكف أمي على قراءتها ليل نهار؛ فأصبحتُ أكثر
التحديق في أسماء روائيات لم ألاحظ وجودهن على المكتبة من قبل: "إيزابيل
الليندي"... "هيرت ستو"... "جين أوستين"..."لويزا
الكوت"..."سفيلاتيا أليكسييفيتش"... "مارغريت ميتشل"...
"ليلى أبو العِلا"... "مَيْ زيادة"... "إيميلي نصر
الله"... "بثينة العيسى"... "سمر يزبك"... "رضوى
عاشور"... "نازك الملائكة"... و"آسيا الجبار".
وبفضل ذلك التحديق توسعت ثقافتي الأدبية رغم أنني لم
أقرأ من تلك الكتب، التي تستريح على مكتبة أمي المحتلة لكامل الجدار الجنوبي
للصالة، سوى عناوينها: "بيت الأرواح"... "كوخ العم توم"...
"كبرياء وتحامل"..."نساء صغيرات"... "ليس للحربِ وجهٌ
انثوي"..."ذهب مع الريح"..."المُترجِمة"..."ظلماتٌ
وأشعة"..."طيور أيلول"..."خرائط التِّيه"..."رائحة
القرفة"..."ثلاثية غرناطة"..."شظايا ورماد"..."
أطفال العالم الجديد".
ورغم أن أمي كانت واسعة الثقافة في الأدب وأخبار الكتابة
النسائية، إلا أن ثقافتها في التاريخ ظلت ضئيلة رغم ما أقرأه عليها كل عام.
والنقاط الثلاث التي كانت تحصل عليها في نهاية لعبتنا السنوية، لم تكن بفضل
ذاكرتها القوية، ولا لارتباط جزءٍ من حياة أولئك الرجال بتاريخ يوم ميلاها (التاسع
عشر من شهر مايو)، وإنما بسبب تدوينها لتلك الأحداث في دفتر وصفاتها المطبخية؛
لتخلّد إعجابها الأبدي بالظاهر بيبرس ونابليون بونابرت وكمال أتاتورك؛ لقناعتها
أنها كانت ستكون قائدة عظيمة مثل أحدهم، لولا قدرها أنها ولدت أنثى.
وهكذا، كانت أمي تسرد عليّ بدون جهد تلك الأحداث
الثلاثة:
الأول عام 1268، يوم نجح الظاهر
"بيبرس"، سلطان مصر والشام ورابع سلاطين الدولة المملوكة في استرداد
مدينة "أنطاكية" على الضفة اليسرى لنهر "العاصي" من يد
الصليبيين بعد أن ظلت بأيديهم لمدة 170 سنة. والثاني عام 1798،
يوم تحركت الحملة العسكرية الفرنسية بقيادة نابليون بونابرت على ولايات الدولة
العثمانية مصر والشام بحجة الدفاع عن المصالح الفرنسية ومنع إنجلترا من الوصل
للهند؛ ليكون من نتائجها الإيجابية تعرف المصريون على أنظمة سجلات المواليد
والوفيات المستخدمة في النظم الإدارية الفرنسية.
والثالث عام1881، يوم ميلاد مصطفى كمال أتاتورك، قائد الحركة
التركية الوطنية القائمة على اعقاب الحرب العالمية الأولى، وهازم جيش اليونانيين
في الحرب التركية عام 1922، مؤسس وأول رئيس لجمهورية تركية العلمانية
الديموقراطية، المنحدرة منها "أليف شافاق"، مؤلفة كتابي المفضل "قواعد
العشق الأربعون"، الرواية المتسببة في أن يطول بقائي في هذا المكان نتيجة
كثرة ترديدي للقاعدة السابعة والثلاثين من قواعد شمس التبريزي: "إن الله
ميقاتي دقيق. دقيق لدرجة أن ترتيبه وتنظيمه يجعلان كل شيء على وجه الأرض يتم في
حينه، لا قبل دقيقة ولا بعد دقيقة. والساعة تمشي بدقة شديدة بالنسبة للجميع بلا
استثناء. فلكل شخص وقت للحب ووقت للموت".
***
عقدتُ يديّي أمام صدري وخلفتُ ساقًا فوق الأخرى، وواصلتُ
مراقبة تقدم القادم الجديد نحوي في مشيته المتعثرة بتخبطٍ، ساحبًا وراءه جيوشًا من
الحزن.
تأملتُ تلفته في جميع الاتجاهات، وتحرقتُ لمعرفة إلى أيّ
جماعة سينضم: فريق النساء والرجال الذين لم أرهم -منذ وصولي إلى
"هنا"-يرفعون رؤوسهم؟ أم فريق العجائز الذين يخمشون وجوهم بأظافرهم
الطويلة لتختلط دماء خدودهم بدموعهم الغزيرة؟ أم مجموعة الأطفال الذين يملؤون
الأجواء بهجة بضحكاتهم الرنانة، اثناء ركضهم وملاحقتهم لمعزةٍ بيضاءٍ كثيفة الشعر
تلاحق أرنبًا يفوقها بياضًا يسابقها لعبور الجسر؟
ولما توقف قرب المجموعة الأولى، كدتُ أجزم بأنه سينتهج
نهجي وسيتصرف كما تصرفتُ أنا قبل ثلاثة سنوات، يوم ساقني خوفي وشعوري بالغربة إلى
هؤلاء الغرباء غريبي الأطوار، وسول لي أن بإمكاني جعلهم يرفعون رؤوسهم نحوي، رغم
عدم تفاعلهم مع تكرار تحيتي، لكي يجيبوا على سؤالي إن كانوا رأوا أهلي: أمي وأبي
وأخي.
في تلك الفترة
العصيبة، ولما انتابني اليأس من مرارة تكرار المحاولات الفاشلة في انتزاع نظرة
اعتبار منهم، استسلمتُ وتركتهم وشأنهم، بل وأصبحتُ أتجنب المرور من أمامه بعدما
علمتُ بأنه محكوم عليهم بالبقاء في الوضعية المنكسة المؤلمة، عقابًا لهم على جرائم
غيبة ونميمة وبهتان ارتكبوها ظلمًا في حق أناس أبرياء خلفوهم وراءهم
"هناك" قبل وصولهم إلى هذه الأرض البيضاء.
بفضول، تابعتُ القادم الجديد يتجاوز الجميع ويتقدم نحوي
بمشيته المتعثرة. ولما أصبح على بعد خطواتٍ مني، اجتاحتني قشعريرة وغمرتني لهفة
للرد على تحيته. لكنه خيب ظني ولم يلقِ عليَّ أي تحية، بل تهاوى بإنهاكٍ على الطرف
الآخر لمقعدي. ولما استرقتُ نظرة تجاهه وأحسستُ بأنه تعمد أن يوليني ظهره، علمتُ بأنه
من الشباب الذي يخجلون من التحدث مع الفتيات فلم أنفر منه.
مرت لحظات ثقيلة، استرقتُ فيها النظر لملامحه عدة مرات،
اجتاحني فيها ارتباك وتوتر حلو، تضاعفا لما التفت نحوي، ليمسحني بنظرة سريعة، قبل
أن يدير رأسه ناحية أطفال يركضون بمرح خلف الحيوانات. ثم انتابتني شكوك، ولم
أدرِ إن كان يبحث عن مدخل للحديث معي، أم أنه مشتتٌ بسبب ضحكات الأطفال العالية.
ومرت لحظات أثقل، واصلتُ فيها لوك حيرتي وصمتي، تارة
أتأمل صفحة وجهه، وتارة أرمي ببصري بعيدًا ناحية الجسر؛ لأتابع الأطفال يعبرونه
ويعودون منه كما يريدون بمرح وخفة؛ فيعاودني شعور الحسرة عند استحضار مقولة
المسيح: "لن تدخلوا ملكوت الله مالم تعودوا كالأطفال".
تنهدتُ بعصبية؛ فالتفتَ نحوي. اجتاحتني كهرباء سرت في
كامل جسدي، دون أن أدري أهي بسبب نظرته الثاقبة، أم لملاحظتي لشامة بحجم
بذرة ليمون وسط خده الأيسر، جلبت لذاكرتي شامة أخي الوحيد وتفاصيل حواري الأخير
معه أثناء جلوسنا في صالة المغادرة أمام البوابة رقم 53 في مطار
"شارل ديغول" بباريس في انتظار الصعود على متن الطائرة المتجهة إلى
القاهرة.
أنستني ذكرى أخي الشاب بجواري، بل وكل ما حولي، وسحبتني
نحو دهاليز الألم بجلبها لعقلي في ثوانٍ تفاصيل تلك اللحظات الأخيرة
في صالة المطار ذلك النهار المشؤوم: النوافذ الزجاجية الضخمة التي كنا نراقب من
ورائها هبوط وإقلاع طائرات قادمة من جميع انجاء العالم..... منطقة "الأسواق
الحرة" حيث ازدحام المسافرين حول فترينات عرض العطور الفرنسية من ماركات
"شانيل" و"إيف سان لوران" و"ديور"، لشرائها رغم
ثمنها الباهظ أملًأ في أن يهدوا بها فرحًا لقلوب أهاليهم وأحبابهم في بلدانهم
الأم.....البيانو العتيق القابع في آخر الصالة عند حدودها مع صالة الانتظار للصعود
على متن الخطوط الكويتية، حيث يؤدي عليه بعض الهاويين عزف أغنياتٍ فريد الأطرش
وعبد الحليم حافظ وأم كلثوم وداليدا وغيرهم.
خرجتُ من دهاليز حزني على صوت الشاب يسألني عن اسمي؛
فتنهدتُ بفرح مستحٍ لما خامرني شكٌ في أنه يسعى لكسر الحاجز الأول للتقرب مني. التفتُ
نحوه بكامل جسدي ثم أجبته: "شيرين".
وكم شعرتُ
بالغرابة من نطق اسمي بعد مرور ثلاثة سنوات لم أسمع فيها أحدًا يناديني به.
تفرس الشاب في وجهي طويلًا وكأنه يتذكر معلومة ضائعة، ثم
سأل:
- شيرين حبيبة خسرو؟
ابتسمت بدلال وهززت رأسي بالنفي، قبل أن أسأله إن كان قد
قرأ في الأدب الفارسي. أجاب بتردد: لا؛ فعلقتُ بسرعة: لذلك خلطتَ عمن تكون شيرين.
التمعت عيناه بفضول ملأني بالزهو ودفعني لإخباره بأن المرأة الحسناء، إحدى بطلات
ملحمة "الشاهنامة" للشاعر أبو القاسم الفردوسي، لم تكن حبيبة زوجها
"خسرو" وإنما حبيبة "فرهاد" الرجل الذي رأته في حلمٍ طفولي
ورآها هو أيضًا في حلمٍ أثناء طفولته فجمعهما عشق أبدي جعلهما يتعرفان على بعضهما
عند لقاءهما وهما ناضجين.
ابتسم بحياءٍ ثم عرفني بنفسه: "الفرزدق". فعقبتُ
بخجل: تشرفنا. هل تعرفين من هو الفرزدق؟ سأل بحماس. فأجبتُ بفخر: شاعرٌ أمويٌ
معروف. فاسترسل: وهل تعرفين لماذا سُمي بهذا الاسم؟
هززتُ رأسي بالنفي، ثم ازدردتُ ريقي لما لاحت لي ومضةُ
نصرٍ في عينه أعلمتني ببحثه عن طريقةٍ لبقةٍ يبرهن بها جهلي ليسترد دينه من جهله
بحقيقة شيرين الفارسية.
أصغيتُ له باهتمامٍ وهو يقص عليَّ أن أمه هي من أصرت على
تسميته على الشاعر الأموي، وذلك لعشقها لقصيدته التي كتبها في مدح "زين
العابدين" بن "علي بن ابي طالب"، والتي مطلعها: "هذا الذي
تَعرفُ البَطْحاءُ وطأتهُ...والبيتُ يعرفُهُ والحلُّ والحَرَمُ".
ولما علل أن جده لأمه كان يدعى "زين
العابدين"، واكتفيتُ بالابتسام، استرسل في كلام عن الحنين والأشواق لأمه
ولأخوته الذين تركهم خلفه في حي "المَسالمْةَ" بأم درمان غرب العاصمة
الخرطوم، قبل أن يخبرني أن السبب الذي جعل الخليفة عبد الله التعايشي يطلق على هذا
الحي ذاك الاسم هو مسالمة سكانه القدامى الذين كانوا يعيشوا في وئام وتسامح على
اختلاف دياناتهم: مسلمين ومسيحين ويهود.
ويبدو أنه لمح بعض الضياع في عيني الصغيرتين؛ وإلا لما
كان ليدرك خروجه عن الموضع الذي كنا نتحاور فيه. وبعد اطلاقه تنهيدة طويلة، مسح معها جبينه
الأملس بكفه المعروقة، أخذ يشرح لي أن كلمة "الفرزدق" تعني
"الرغيف"، وقد كنُني بها الشاعر الأموي -الذي ساهم بشعره في حفظ ثلثي
اللغة العربية من الضياع-للدلالة على ضخامة وعبوس وجه.
اكتفيتُ بالابتسام ولذتُ بصمت طويل تلفيتُ
فيه حولي وتأملتُ فرح الأطفال وركضهم وراء الحيوانات. ولما طال شرودي، أخرجني منه
بوابل أسئلةٍ أجبت على الأربعة الأولى منها بدون تفكير:
- لماذا وجوه الناس في هذه المكان
مكفهرة بهذه الصورة؟ لأن أصحابها لم يتقبلوا بعد فكرة مجيئهم إلى هنا.
- لماذا لا يتكلمون مع بعضهم البعض؟
لأن كل منهم منشغلٌ إما بحسرةٍ على أخطاءٍ ماضيةٍ وإما بأملٍ في انتظار معجزة
تعيده إلى حياته السابقة.
- ماذا يوجد خلف الجسر؟ لا أحد يعرف
فمن يعبر لا يعود ليخبر بما رأى.
- لماذا هم الأطفال وحدهم من يحق
لهم عبور الجسر والعودة منه كما يشاؤون؟ لأنهم أنقياء أطهار لا يحملون في قلوبهم
لا أحقاد ولا مخاوف ولا حسرات مثلنا نحن الكبار، ربما لذلك أوصانا المسيح أن نصبح
مثلهم لكي نستطيع الدخول إلى ملكوت الله.
لكن عندما طرح على السؤال الخامس (لماذا لم أعبر الجسر
حتى الآن رغم وصولي إلى هنا قبل ثلاثة سنوات؟)، لم أعرف بماذا اجيبه.
واجتاحتني غصة قوية أماتت الكلمات في حلقي، وضاعفت من
ارتباكي بسبب تركيز نظرته الناعسة على وجهي. ولما تنحنح، أثناء إدخال يده اليمنى
في شعره الأسود الملمعِ بالزيت بحركة متوترة، أدركتُ تلهفه لسماع إجابتي. بترددٍ،
عقدت يديّ أمام صدري ثم أجبته متلعثمة:
- ربما لم أعبر حتى الآن بسبب تمسكي
بأملِ العودة إلى حياتي السابقة، أو ربما هو خوفٌ من عدم التقاء أهلي عند الضفة
الأخرى، أو ربما هو مجرد توجس من "الكراكن" لأن وصولي إلى هنا كان عن
طريق البحر.
رفع حاجبيه الكثيفين دهشةً ثم سألني عن ماهية الكراكن،
فأجبتُ: وحشٌ بحريٌ ضخمٌ يمتلك أذرعًا طويلة ومخالب عملاقة. ازداد ارتفاع حاجبيه،
فواصلت أشرح بأن هذا المخلوق المتجاوز طوله الكيلومتر، ورغم كثرة ذكره في الأساطير
الاسكندنافية، إلا أنه في الحقيقة هو اختراع الملك "هاديس". سأل عمن
يكون "هاديس"، فأجبتُ:
- إله العالم السفلي ومملكة الأموات
في الميثولوجيا الاغريقية، وقد أخترع ذلك المخلوق الوحشي لإخافة الناس على الأرض
بعد أن حقد على أخيه "زيوس" الذي خدعه وأنزله إلى العالم السفلي.
عقد الفرزدق يديه أمام صدره وظل يحدق فيَّ بنظرة
شاردة. فسألته إن كان قد قرأ عن حرب الآلهة التي دارت بين العمالقة والآلهة
فوق جبل "أوليمبوس" بقيادة "زيوس" أب الآلهة والبشر عند
الإغريق، فهز رأسه بالنفي، ثم شرح أن ثقافته في الحضارة الإغريقية تقتصر على قصة
"حصان طروادة" التي درسها في المدرسة الابتدائية، وعلى سيرة الفيلسوف
أرسطو الذي قرأ عنه في ترجمات الفيلسوف الأندلسي ابن رشد أيام دراسته في الجامعة.
ولما شردتُ عنه، أعادني للواقع بسؤال متحمس إن كنت أحب الفلسفة. فتنهدتُ عميقًا ثم
أجبته بحسرة:
- نعم أعشق الفلسفة، لكن للأسف لم
يسعفني الوقت لكي أتبحر فيها. فخلال سنوات وعي الأولى كنتُ مشغولة بالتفوق في
الدراسة وبإشباع نهمي للقراءة في كتب التاريخ والميثولوجيا. وأثناء دراستي
في الجامعة كرستُ وقتًا طويلًا للتعرف على الميثولوجيا العالمية بعد اكتشاف
الملحمتين الإغريقيين "الأوديسا والالياذة"، فقرأت حتى اصابتني التخمة
في أشهر الملاحم الشعرية العالمية: الفلندية " كاليفالا"، والإيطالية
"الكوميديا الإلهية"، والهندية "الرامايانا"، والتبتية
"الملك جيسار"، والجورجية "الفارس ذو جلد النمر"، واليابانية
"قصة الهائيكي". وبعد تخرجي من الجامعة، وضعت خطة للبدء في دراسة
الفلسفة، وقمت بشراء رواية "عالم صوفي" للكاتب النرويجي جوستاف غاردر،
أهم كتاب لدخول عالم الفلسفة ووضعته ضمن قائمة كتبي لتحدي القراءة على حسابي في
موقع Goodreads، وقررتُ البدء فيه وإنهائه قبل نهاية
عام 2016 فور استقراري في "شُبْرَا". لكن هيهات هيهات.
واصل الفرزدق الإصغاء إليّ باهتمام وتركني أكمل دون
مقاطعة لأعبر عن حسرتي على أحلامي وعمري الضائع، بعد انقطاعي التام عن القراءة
لعدم وجود مكتبات ولا هواتف نقالة ولا خدمة إنترنت في هذا الأرض البيضاء، وعن
تأسفي على قتل الوقت في التنقل بين السهول القاحلة والتفرس في وجوه غريبي الأطوار،
أملًا في العثور على أهلي.
خنقتني العبرة، فتوقفتُ عن الكلام؛ فوضع يده على ركبتي
اليسرى بحنانٍ، ورجاني ألا أتحسر بعد اليوم لأنه سيقوم بلعب دور المكتبة الناطقة
التي ستشبع فضولي بالتعرف على الفلسفة. رمقته بنظرة فضول فاحصة، فواصل مؤكدًا
استعداده إعطائي دروسًا عن كتاب (المختصر في المنطق) لـ "ابن رشد"
المتناول لمجموعة كتب "أرسطو" في المنطق "الأورغانون"، أو عن
كتب "الفارابي"، الفيلسوف الذي اشتهر بإتقان العلوم الحكمية وصناعة
الطب. حدجته بنظرة امتنان وأبديتُ لهفتي: هيا فلنبدأ الآن إذن! تفرس في وجهي برهة
ثم وضع شرطًا بأن أثقفه بالمقابل في الميثولوجيا والحضارات القديمة التي لا يعرف
عنها سوى القليل من حضارة الفراعنة في مصر وحضارة الفراعنة السود في مملكة
"كوش" بشمال السودان. فعبرتُ بحماس: موافقة.
ولما شكرني بنبرة مهتزة من فرط الحماس وابتسامة فرح تصل
لأذنيه، أدركتُ بأن هذه خطوة أخرى للتقرب مني، فشعرتُ بالارتباك وانكفأت في صمتٍ
طال برهة قبل أن أنجح في بذلك مجهود أخرجني من حالة الهيام التي أصابتني بها نظرته
الحالمة لأكرر استعجاله: هيا فلنبدأ الآن!
- وعن ماذا ستحكي لي في هذا الصباح
الجميل؟ سألَ بحماس.
فأجبتُ بتردد:
- ملحمة "كَلْكَامِش" من
الميثولوجيا السومرية لنناقش بعدها موضوع البحث عن الخلود علنا ننسى الماضي ونقرر
عبور الجسر.
ولما لاذ بصمتٍ طالت معه نظرته الشاردة في الفراغ،
انتابني توجسٌ وفضولٌ لمعرفة فيما يفكر. لكنني قمعتُ لهفتي، حتى لا أقطع عليه حبل
أفكاره. وانتظرتُ بتحرق عودته بمفرده إلى الواقع؛ حتى أحكي له عن تفاصيل الملحمة
السومرية، أقدم عمل عرفه البشر في تاريخ البشرية كُتِب بخط مسماري على أحد عشر لوح
طيني، ليحكي عن قصص خلق الكون، وصراع الخير والشر، وبحث الإنسان عن الخلود.
لكن عندما رجع إلى الواقع بعد دقائق بدت لي كأنها أبدية،
وباغتني بسؤال عن أصلي، فهمتُ تعمده تغيير الموضوع، وأدركتُ بأنه هو أيضًا متخوفٌ
من عبور الجسر، وربما تساوره شكوكٌ، مثلي، عن فكرة الخلود برمتها.
انتابني شعور بالارتباك نتيجة جهلي بماذا أجيبه.
صحيح أنني ولدتُ ونشأتُ في باريس لكن ارتباطي بالقاهرة
كان أقوى من أي مكان؛ ففيها اكتشفتُ الحياة وعشقت النيل والصحراء والأجواء
العائلية، وتشربت حكايات جدتي قبل النوم أثناء إجازاتنا الصيفية.
تلفتُ حولي بحيرةٍ قبل أن أخُبره بأنني مصرية من
حي "شُبْرا" عاشت معظم حياتها في الدائرة الثامنة عشر شمال بباريس.
- زي المطربة داليدا؟ استفهم بنبرة
ممازحة.
وهنا اجتاحتني قشعريرة هائلة، بمجرد سماع اسم
"داليدا"، وسرت في أوصالي نفس البرودة القديمة وعقدت معدتي بالألم
وبالغثيان؛ لتَسْوَدَ الدنيا في عيني مع استعادتي بالكامل لنبرة صوتها وهي تغني
أغنية "حلوة يا بلدي"، التي تصدح داخل الطائرة بمجرد هبوط عجلاتها على
مطار القاهرة الدولي، حتى ارتبطت في ذهني منذ طفولتي ليس فقط بالحنين لمصر وإنما
بقضاء إجازة سعيدة مع جدتي
أغمضت عينيَّ لأوقف سيل الدموع التي بدأت تنفجر من
داخلي، فإذا بحروف الكلمات تتجسد أمام مقلتاي ليصم صداها أذناي من الداخل:
غنوة حلوة
وغنوتين ... حلوة يا بلدي
أملي دايمًا كان يا بلدي.... إني أرجعلك
يا بلدي ...... وأفضل جنبك على طول
ولما انهارت مقاومتي، تركت العنان لدموعي وحررت شهقاتي
المكتومة وانخرطتُ في بكاء محموم. اقترب الفرزدق مني، وأخذ يربت على ركبتي بحنانٍ
وارتباك ساهما في مضاعفة انتحابي.
ولا أدري كم مر من الوقت وأنا أبكي على أحلامي التي ضاعت
منى كرمادٍ تناثر فوق الأشواك واستحال جمعه من جديد. وبعد نضوب نهر دموعي، التفتُ
لأنظر في ملامحه، التي بدت لي متعاطفة ثم داعمة ثم حنونة حنانًا غصت فيه لدرجة
استعجبتُ فيها من نفسي لشعوري بالانسجام والانتماء والراحة بجواره، رغم أنني لم
أتعرف عليه سوى قبل دقائق معدودة.
تنفستُ الصعداء، لما مر بخاطري الحديث الشريف:
"الأرواح جنودٌ مجندةٌ، ما تعارف منها ائتلف، وما تنافر منها اختلف". ثم
أغمضتُ عيني لأستكين مع الفكرة. ولما فتحتهما لاحظت عودة تحليق جيوش الحزن والكآبة
حول هالة جليسي، انتابني إحساس بتأنيب الضمير على استرسالي في تعاستي وتسببي في
إعادة أحزانه التي ربما كان قد نسيها بعد جلوسه بقربي.
بترددٍ، ربتُ على ركبته وأبديتُ أسفي؛ فرسم ابتسامة
مصطنعة وعلق بـ "لا بأس"، ثم عاد لعبوسه واسترسل في إبداء حزنه وأسفه
على مجيئه إلى هنا مبكرًا قبل أن يهنأ ببلوغه سن العشرين. وهنا علمت أنه
يصغرني بثلاث سنوات رغم أن بنيته الجسمانية مفتولة العضلات تعطيه أكبر من عمره
الحقيقي.
مسحت آثار دموعي الباردة، ونصبت ظهري استعدادًا
لسماع قصته. لكنه لاذ بصمتٍ طويلٍ حتى انتابني شوق لنبرة صوته، فتشجعتٌ
وسألته عن الطريقة التي وصل بها إلى "هنا"؛ فنكس رأسه برهة ثم رفعه
بينما الشرر يتطاير من عينيه؛ ليطلق اللعنات جذافًا على رجال ملثمين نعتهم بالقساة
ثم بالكفرة، لعدم احترامهم لحرمة شهر رمضان بإطلاقهم الرصاص الحي على المعتصمين
بعشوائية، لتخترق صدره المليء بالأحلام الوردية طلقة طائشة أردته قتيلًا من فوره
ليجد نفسه بعد ثوان في هذه الأرض عديمة الأشجار وعديمة الظلال شديدة البرودة
والكآبة.
بصمتٍ وحزن، تابعته يفرغ دموعه، وباهتمام أصغيتُ لتعبيره
عن حسراته على آماله الضائعة وأحلامه العريضة، التي حلم بتحقيقها تحت ظل
الديمقراطية: وظيفةٌ وزواجٌ ثم وضعٌ اجتماعيٌ فأبناء يقص عليهم بفخرٍ مشاركته في
الثورة التي أزالت طغيان ثلاثين عامًا، عندما آمن بمقولة تشي جيفارا: " لا
نستطيع أن نصبح ما نريد ببقائنا بما نحن عليه".
سحبني حديثه عن تشي جيفارا وعن الثورات إلى رواية
"كالماء للشوكولاتة"، فتذكرتُ ما كانت تحكيه لي أمي بالتوازي مع قصة حب
"تيتة" و"وبيدرو" المستحيلة، عن تفاصيل الثورة المكسيكية، ثم
انزلقتُ في ذكريات أخرى عن الثورات وتنقلتُ بين ثورات الربيع العربي
عام 2011 في ليبيا واليمن ومصر، ثم توقف طويلًا عند
ثورة 25 يناير المصرية، التي تمنيتُ المشاركة فيها مع ابن خالتي، الذي
ظل ثابتًا على اعتصامه في ميدان التحرير رغم اعتراض أمه وجدتي، إلى أن أعلن نائب
الرئيس المصري عمر سليمان تنحي الرئيس حسني مبارك وتسليم شئون البلاد للمجلس
الأعلى للقوات المسلحة.
ولم أخرج من سهومي، إلا عندما وضع الفرزدق يده على ركبتي
وسألني أين ذهبت بأفكاري، فتنفست الصعداء ولم أبُح له، خشية إدخاله في حزن أعمق،
أذا ما حدثته عن حنيني وشوقي لجدتي ولخالتي وأبنائها الذين لن أسطيع زيارتهم في
"شُبْرا" أبدًا.
ولما طال صمتي، التفت إليّ بكامل جسده ونظر في وجهي
مطولًا ثم سألني بترددٍ:
- كيف توفيتِ؟
وقبل أن أحكي له عن تفاصيل تحطم طائرتنا، التي أقلعت من
باريس في الرحلة رقم 804 في البحر المتوسط قبل وصولها الى القاهرة، جذب
انتباهنا تدافع جموع نحونا بكثافة، اجتاز أغلبهم النفق المظلم وعبر الجسر بسرعة
البرق، بينما وقفت مجموعة صغيرة منهم تتحاور بغضب وتستنكر أن تربط في أقدامها
الحجارة لتمنعها من السباحة والنجاة من الغرق، بعد أن قُذف بهم في مياه النيل.
انتصب الفرزدق واقفًا وهتف بحماس متألم بأنه يعرف هؤلاء
الشباب. ولما رأى الدهشة في عيني الصغيرتين، أغلظ القسم الله، ليؤكد بأنه أدى معهم
صلاة الجمعة عدة مرات تحت أشعة الشمس الحارقة طوال شهر أبريل، وصام معهم أسبوعًا
كاملًا من شهر رمضان وتناول معهم الإفطار وصلى معهم صلاة التراويح، قبل أن يضطر
لتركهم مواصلين الاعتصام في القيادة مطالبين بدولٍة مدنيةٍ بعد أن تلقى الرصاص
الحي في صدره من الملثمين الرصاص الحي.
انتابني شعور بالغيرة والحسرة على نفسي. فمنذ وصولي إلى
هنا، قبل ثلاثة أعوام، لم ألتقِ بوجه أعرفه من حياتي السابقة. حتى والداي وأخي لا
أدري إن كانا قد عبرا جسر الأبدية مباشرة فور وصولهم إلى هنا، أم أنهم لم يصلوا من
الأساس مع احتمال أن يكون قد تم انتشالهم أحياء من مياه البحر المتوسط، الذي لم
أتمكن من الوصول إلى قاعه سليمة الجثة بعد أن تقاسمت جسدي المادي أسماكه المفترسة.
لفني الفرزدق بنظرة هائمة مملوء بالأمل، ثم همس:
- ربما تكون فرصتنا في العبور معهم
إلى جنة عدن.
طالعته بتردد ، فاسترسل: فلننسَ الماضي ونفتح صفحة
جديدة!
بصمتٍ طويلٍ لذتُ، فأضاف:
- إن هذه الأرض مهما طال
بقاءنا عليها تظل مجرد محطة "ترانزيت"، محطة برزخ مؤقتة لابد أن نعبر
منها إلى ملكوت الله في يومٍ من الأيام.
بصمتٍ، واصلت النظر إليه، فاقترب مني خطوة وباغتني:
- هل تتزوجيني يا شيرين؟
بنظرةٍ فارغة حائرة خائفة، طالعته، فواصل ليقنعني:
- بإمكاننا بدء حياة جديدة
بقلوب كقلوب الأطفال نحقق فيها أحلامًا أخرى ونكوّن فيها أسرة سعيدة.
بعمقٍ، تنهدتُ وانتابني شعور فرحٍ عارمٍ أمام بريق الأمل
الضافر من عينيه العسليتين المترقبتانِ لإجابتي بلهفةٍ وصلاة. لكن شعورًا بالعجز
كبلني وجعل ترددي يطول. وتمزقتُ بين الأمل المشرق وبين الخوف من ترك حلم العودة
إلى حياتي السابقة إن قبلت وعبرت معه إلى ما لا عودة منه. فما زلت متمسكة بأمل
حدوث معجزة تعيديني إلى "شُبْرَا" ولقاء جدتي وربما أهلي إن كانوا قد
نجوا من الغرق، رغم علمي أن هذا مستحيل.
غريب أمر الإنسان: يعض بالنواجذ على أملٍ عريضٍ كاذبٍ
يسوِّل له تغييرًا يحقق به أحلامه، فيرفض بشدةٍ كل ما هو كائن، ويتطلع بلهفة لما
يفترض إن يكون، ويقضي وقته في ترقب لعيش المستقبل، فيضيع فرصة الاستمتاع باللحظة
الحالية: هنا والآن. فلولا رفضي فرصة العمل في باريس، وإيثاري العودة إلى القاهرة
لربما كنت سأكون على قيد الحياة الآن. فبعد مشاركتي في مركز شباب حي
"مُونماغْتْخْ-Montmartre" لتوعية الشباب من خطر المخدرات، تم
ترشيحي لأن أصبح عضوًا دائمًا بعدما أبرزت جدارتي في العمل الطوعي. لكنني قلت
لنفسي بأنه سيكون أفضل استثمار خبرتي لنفع أهلي وأبناء بلدي وخاصة شباب حي
"شُبْرا"، حتى أساعد أبناء خالتي وشباب حي جدتي على التسلح بالوعي وعدم
الوقوع في براثن تجار المخدرات، ومرافقة من أصبح فريسة حتى ينجح في التخلص من تلك
السموم في دمه كما نجح أخي بفضل وقوفي معه في تلك المحنة.
ففي صيف 2014 أثناء إقامتنا في
"شُبْرا" وقع أخي فريسة المخدرات مع أصدقائه المراهقين من أبناء حي
"الخمرواية" وغيرهم من أبناء الأحياء المجاورة مثل الشرابية والترعة
البولاقية والساحل. ولم نكتشف إدمانه وأنه كان يذهب إلى حدود ضاحية "سان
دوني" شمال باريس ليشتري جرعاته من محطة "بوغت دولا شابِيل" إلّا
عند تناوله لجرعة كادت تودي بحياته.
تضاعف شعوري بالتمزق مع اتساع رقعة الأمل في نظرة
الفرزدق. فمنذ مجيئي إلى هنا قبل ثلاثة سنوات لم يتقرب مني أحد ليتبادل معي أطراف
الحديث بأريحية، ويدفعني لفتح قلبي لأحكي له قصتي. ولم أعرف كيف أتصرف حتى لا أخمد
شعلة هذا الأمل المشع من عينه، وهو الوحيد الذي استطاع إهداء قلبي ذلك الشعور
الجميل وجعله يخفق بشدة، بعد أن ظننت أنه قد توقف عن الخفقان منذ سقوطي في البحر
المتوسط.
مسح الفرزدق على ظاهر يدي وكأنه أراد إخراجي من
سلطة أفكاري المتناقضة؛ فرفعت رأسي لتضاعف نظرته الحالمة من شدة خفقان قلبي،
فالتفت على يميني هربًا من استجداء عينه لإجابتي.
في هذه اللحظة، أفلتْ يدي ونهض ببطء وكأنه يعطيني فرصة
للنهوض معه. ولما لاحظت تلاشي ابتسامته المتفائلة، شعرت بوخزة في قلبي، لكنني ظللت
متسمرة في مكاني، أتساءل كيف سأترك تمسكي بالأمل والرجوع إلى أهلي؛ لأعبر إلى
الضفة الأخرى التي لا رجعة منها.
بعجزٍ، أغمضت عيني لدرء شعور الحسرة، فبرزت أمامي كلمات
قاعدة شمس التبريزي: "إن الله ميقاتي ودقيق"، فانتابني بعض الاطمئنان
عند استشعار أن روحي بدأت تتقبل فكرة أن لكل شيء وقته، وأنه لابد وأن يكون مكتوبٌ
عليَّ انتظار هذه المدة لكي التقي هذا الشاب الحالم حتى أعبر معه إلى الحياة
الأبدية. بفرحٍ، فتحت عينيّ لأبشره بقبولي على طلبه الزواج بي، لكنه كان قد ابتعد
كثيرًا. تملكني شعور بالخوف من أن أخسره؛ فأعود أجد نفسي وحيدة أقضي أوقاتي
الرتيبة في محطة البرزخ وقتًا أطول.
بلهفةٍ وارتباك، انتصبتُ واقفة، وبقلبٍ واجسٍ خائفٍ،
جريت نحوه. ولا أدري كيف خرج صوتي من بين غصتي لكي أناديه صارخة:
"الفرزدق!". التفت نحوي بسرعة ثم توقف؛ فجريت نحوه؛ فلتقاني بذراعين
مفتوحتين. ارتميت في حضنه؛ فغمرني بأمان وحب ودفء. وهنا اجتاحتني
قشعريرة قوية وإحساس بأنني لم أفقد شيئًا ولا أحدًا من قبل. بسعادةٍ، تشبثتُ
بعنقه؛ فهبتني رائحة نسيم عود صندلٍ. أغمضت عيني بهيام وتسليم عندما تذكرت كلمات
أغنية "Never born, never died".
بقوةٍ، عانقني طويلًا حتى شعرت بجسدي النحيل يكاد يذوب
تحت كتلة عضلاته، ثم همس في أذني: "إن الله ميقاتيّ ودقيق". تجاوزت جسدي
قشعريرة دهشةً من إلمامه بتلك القاعدة، واستغرابًا من أن يذكرني بها في الوقت الذي
كنت أشجع بها نفسي لطي صفحة الماضي وبداية صفحة جديدة مليئة بالرضا وتقبل قدر
الله.
رجعتُ إلى الوراء لأطيل النظر في عينيه العسلتين؛ فتضاعف
سعادتي عند رؤية ابتسامته العريضة الواثقة التي دعم بها مقولته بأن لكل شيء وقته.
ابتسمتُ له بسعادة وامتنان؛ فشدني إليه وطبع قبلةً
طويلةً على جبيني ثم حثني: "يلا بينا". هززت رأسي بالإيجاب أثناء
مقاومتي لدموع الفرح. لكن عندما أفقنا من سكرة هذا العناق الطويل الآمن، كان
أغلب الشهداء قد عبروا الجسر ولم يتبق منهم إلا ثلة قليلة تسير بسرعة نحو النفق
للحاق بالبقية. بقوةٍ شدني من يدي وصاح:
- هيا بنا نلحق بهم علنا نحشر معهم
في جنات عدن.
أطعته بلهفةٍ، ورفعت تنورتي الطويلة حتى لا تعوقني عن
الجري. وبنفسٍ متقطعٍ وقلبٍ خافقٍ، ركضت معه، بعد أن ألقيت نظرة وداع أخيرة على
الأرض البيضاء (محطة البرزخ) وعلى الأطفال الذين كانوا ما يزالون يلعبون مع المعزة
والأرنب ليزينوا الأجواء بضحكاتهم الرنانة. وهنا فقط فهمتُ معنى مقولة شكسبير:
"الزمن بطيءٌ جدًا لمن ينتظر، سريعٌ جدًا لمن يخشى،
طويلٌ جدًا لمن يتألم، قصيرٌ جدًا لمن يحتفل. لكنه الأبدية لمن يحب".