قراءة في مجموعة "مخاض عسير"/للقاصة
تسنيم طه
بقلم/ عز الدين ميرغني
يقول
ماركيز عن القصة القصيرة {أعتقد بأن القصة القصيرة هي تمثيل محسوب للواقع، إنها
نوع من لغز العالم، فالواقع الذي يطرح في قصة ما، يختلف عن واقع الحياة ’ بالرغم
من أنه يعتمد عليها، وذلك على نحو ما يحدث في الأحلام. } . ومجموعة ‘‘مخاض عسير
’’ للقاصة والروائية تسنيم طه، تؤكد ذلك. والذي يمثل عنوانها وعتبتها الأولى
عنواناً جاذباً برمزية عالية ومفتوحة الدلالات. فهو العنوان الذي يصطحبك معه في
أغلب النصوص , لتكتشف المخاض العسير الذي تدخل فيه شخصيات النصوص وهي تتحول وتتبدل
وتحاول أن تنعتق من واقعها ومكانها الأصل لتحصل على ذاتها وهويتها في المكان الآخر
ولكن هيهات ! .
لقد ابتعدت القاصة تسنيم في هذه المجموعة من
المقولة النقدية والتي تقول ‘‘بأن في معظم النصوص النسائية فالعلاقة بين الكاتبة
وبطلاتها علاقة حميمية أشبه بصلة الرحم التي لا تنقطع، الأمر الذي يعكس الرغبة في
الهرب من مساكن الذكور ونصوص الذكور ’’. فأغلب أبطال نصوصها من الذكور، تعرف كيف
تكتبهم وتلتقط بزاويتها ورؤيتها الأنثوية ما لا يراه الكاتب الرجل في زميله. وخاصة
عندما ينكسر ذلك الرجل أمام القدر وطغيانه كما في قصة ‘‘آخر خيوط الأحلام ’’ والتي
تسرد فيها قصة الشاب الذي غامر بحياته ليصل إلي أوربا، تلك الجنة الموعودة ليكتشف
في النهاية زيفها ونارها الموقودة.
ولعل كتابتها لهذه النصوص التي تحكي عن آلام
الغربة وجحيمها هي كتابة قرب ومعايشة ومن هنا يأتي الصدق الواقعي الذي كتبت به هذه
النصوص بحيث ابتعدت عن التهويم خارجه والذي يفقد الواقع صدقه ومنطقه. من ما يدخل
هذه النصوص بكتابة المعرفة بما يُكتبْ. وهي في هذه النصوص ليست لها العقدة كما في
بعض الكتابات النسائية كي تقتل سلطة الرجل وتقهره , ولكنها هنا تحاول أن تظهر ضعفه
وتجرده من قوته عندما يكون في الغربة وبعيداً عن مكانه الأصل وتعرضه منكسراً
ومستجدياً حتى لمن يعطيه الخبز والمأوى . في تلك النصوص كتبت القاصة تسنيم , بلغة
الوعي بما تكتب لذا جاءت لغتها واضحة وواثقة من نفسها وهذا الوعي جاء لأنها حرة من
كل قيود السلطة والكتابة والكبت الذي تمارسه على روح الكاتبة عقلها وجسدها .
لقد استدعت القاصة ‘‘تسنيم ’’ في هذه المجموعة
ذات المواضيع المتعددة والمتنوعة، ذاكرتها والتي بلا شك بأن حياتها في باريس
بعيداً عن الوطن قد شحذ وقوىّ هذه الذاكرة بحيث استدعت هذه الذاكرة قاموسها من
الكلمات العامية السودانية ومن الحياة الواقعية اليومية في الريف والمدن السودانية.
ومن الأساطير القديمة مثل قصة ‘‘ كنداكة أصيلة ’’ والتي تسرد فيها قصة
السلطان ‘‘ كسفورك ’’ سلطان الداجو والذي أمر شعبه بنقل احد جبال نيالا من مكانه
ومات في سبيل ذلك الكثيرون , وأنقذتهم منه زوجته بقصة التيتل. وهذا الاستدعاء
للذاكرة جعل البعض من نصوصها تحمل صبغة الذات الثانية للكاتبة (Second
author self) وهي تحكي عن الانتقال إلي موطنها في الشمال
البعيد كما في قصة ‘‘النوم تحت شجرة الليمون ’’ . واستدعاء الذاكرة هذه لا يعني
الأحداث والوقائع وإنما يعني توظيف اللغة المشبعة بالتناص القرآني والأحاديث
النبوية والأغاني والأشعار السودانية. وهذا يعني بأن النص القصصي عندها ليس
مستلباً بثقافة المكان الذي تعيش فيه. وقد كتبت نصوصها وهي متسامحة مع المكان الذي
تعيش فيه. وتوظيفها للراوي العليم في سرد أغلب نصوصها يؤكد بمسكها الجيد لخيوط
السرد وثقتها بالذاكرة التي تكتب بها.
هذه الذاكرة التي تعود بها إلي وطنها الأم ,لم
تحتكر ثيمات ومواضيع قصصها بل وظفت مهارتها ولغتها السردية في الاستفادة من المكان
الآخر الذي تعيش فيه ( مدينة باريس ) , لكي تلتقط من هذا المكان الغني بثقافته
وتحولات الغرباء الذين يعيشون فيه والذين جاؤوا من بلادهم البعيدة ليتخذوه وطناً
جديدا يحلمون به جنة أرضية يشد اليها الرحال وحتى ولو كان عن طريق محفوف بالخطر
والموت . وفي النهاية لم يحصدوا غير الضياع والندم والعاقل منهم من تركه قبل فوات
الأوان كما في قصة ‘‘آخر خيوط الأحلام’’ .. [وحزمت أمتعتي التافهة وعدت أدراجي إلي
السودان , بدل إضاعة عمري في بلاد الغربة . كآخرين ذبلت زهرة شبابهم في انتظار
الحصول على الأوراق , والجري وراء أحلام كاذبة . ] ومن تقنيات الكتابة الجيدة في
النصوص التي تتحدث عن مآسي الغربة وأهوالها , فإنها ترك الشخصية تحكي أحوالها وما
مرّ بها بنفسها أى بضمير المتكلم . حتى يكون حرا وصادقاً في التعبير عن ماضيه الذي
دفعه للمغامرة وحاضره الذي واجه فيه الذل والمهانة والعيش في المعسكرات. [الباريسيين
يتحاشون تلك المناطق حيث مخيمات اللاجئين لنتانة رائحتها.]. ومثل هذه المعاناة
التي جابهت أبطالها في الغربة , جعلها نصوصا انسانية لا تنطبق على بلد معين وإنما
على كل مهاجر ترك وطنه وذهب يبحث عن غيره
.
ومن
توظيفها الجيد في هذه المجموعة , لملكاتها السردية واللغوية , أنها قد استفادت من
موهبة فن التقاط اللحظة , وخاصة اللحظات الإنسانية الدقيقة والتي تمتاز بها
الكتابات والأدب النسائي , بحيث تلتقط تلك المواقف وهي تعيش حياتها اليومية
والعملية في طريقها إلي عملها وخاصة بأن عالم ( المترو ) في باري يعج بمثل هذه
المواقف الإنسانية وهو يضم بداخله العديد من النماذج الإنسانية حيث الملامح
والسحنات المختلفة , وحيث التصرفات التي تكف التباين الحضاري والطبقي بين أهل
البلد وبين الغرباء الذين يضطر بعضهم للتسول , وطلب المساعدة بكل الطرق المهينة والمذلة والتي
لا يقبلها المواطن الفرنسي في بلده فتؤدي إلي تنامي النعرات العنصرية والتي أجبرت
البعض لاستخدام العنف والإرهاب ضد هؤلاء الغرباء . والنموذج لذلك قصة [ڤَالْ-دُو-
فُونْتُونِيهْ] وهي اسم محطة مشهورة للمترو في باريس Val
de Fontenay . حيث طفل غريب ذو سحنة افريقية يلح في اعطائه
الصدق أو الحسنة من ركاب المترو من الفرنسيين. [أنظري إليه كيف يسعل! يا إلهي، كم
هذا مقزز! تضجرت ذات الشعر الأحمر، وغطت أنفها الطويل بوشاحها الأبيض فردت عليها
جارتها الشقراء وهي تغطي أنفها الصغير بطرف وشاحها الأزرق، -وانظري إلي أنفه كيف يسيل؟
وعينيه كيف تدمعان! يا إلهي كم هذا فظيع!]. كل هذه الأوصاف واللعنات انصبت على طفل
لم يبلغ السابعة وهو يمتهن التسول. وبداية النص هي التي تؤكد مقدرة الكاتبة على فن
التقاط اللحظة الإنساني بحيث كان الراوي العليم الذي كان يوجه الكاميرا لهذا
المشهد , كان مخرجا محترفاً وهو يصف الشعر الأولى الأحمر , ولون الثانية الأشقر ,
بحيث نعرف بأنهما فرنسيتان لا تخلوان من العنجهية والعنصرية . ولو لم تذكر كلمتا (الشعر
الأحمر ولون الآخر الأشقر)، لأصبح النص منبتاً وتائهاً. والوصف الدقيق الجيد لهذه
اللقطة تؤكد فعلا بأن القصة القصيرة تحتاجه أكثر من الاسهاب الوصفي الزائد والذي
لا يخدم ولا يفيد النص.
وهذا الالتقاط
اللحظي الجميل , وظفته الكاتبة في نصوصها بلغة وصفية جاذبة تشد حواس المتلقي لكي
يتابعه بدقة كي يستمتع به وهو ينتقل به إلي المكان الآخر , [ مدينة باريس ] . بحيث
تترك الوصف هنا للشخصية المنفعلة به رغم أنها مشردة وجائعة وبدون مأوى. كما في قصة
[آخر خيوط الأحلام]. ولكنها هنا تلتقط الجمال والذي يفرض نفسه عليه. والوصف
بالطبع هو بلسان الكاتبة والتي تكتب عن معايشة ومعرفة يومية به. [ في تلك الفترة
فقط , اكتشفت الوجه الجميل لمدينة باريس . كان الفندق يطل على قنال ’’ سان مارتان ‘‘القناة
التي بناها نابليون بونابرت لتعبر باريس من حوض لا فيليت -La Villette . وتسمح للقوارب , بفضل هويسات خمس أن تعدل
مستوى الماء , للوصول إلي نهر السين . فكنت أخرج يومياً لأتمشى على كورنيش القناة
, وأتوه ي صفحة المياه . الهادئة متفكراً في حالي , متسائلاً عن مستقبلي في هذا
البلد الذي لا أجيد لغته , مسترجعاً تنزهاتي مع خطيبتي في شارع النيل بالخرطوم ,
وجلساتنا المعبقة برائحة القهوة قهوة ." خالتو حواء "، لاستمد منها قوة
تعينني على تحمل برودة الغربة.].
لقد تركت القاصة " تسنيم " بطلها يتداعي وهو
أمام أجمل المناظر التي لا تخطئها العين في باريس، ولكن كل هذه المناظر الرائعة لم
تنسيه وطنه وغربته ومنظر النيل ورائحة القهوة ووجوده مع خطيبة وحبيبة من بنات وطنه.
وهذا المنولوج الداخلي الذي يخاطب فيه بطل القصة نفسه، أيضاً ينطبق وصفياً على
الكثير من الحالات الإنسانية المتشابهة حيث صقيع وبرودة الغربة لا يحد ولا يخفف
منهما إلا الذكريات الجميلة التي حملناها من الوطن.
لغة المجموعة لغة سردية مميزة وسهلة ولكنها ممتنعة،
تناسب الأحداث وتناسب المكان والشخصيات التي تعيش فيه. وهذه الأمكنة المختلفة التي
تنقلنا فيها، من شندي وحتى الفاشر ومن الخرطوم وحتى باريس والبندقية ودمشق. جعلت
البطولة مشاركة بين المكان الموصوف والشخصية الواصفة، والمنفعلة به. بحيث يكون لكل
مكان خطابه ولغته الخاصة به والتي تجعل الراوي العليم مرشداً ودليلاً سياحياً جيداً،
ومخرجاً يعرف كيف يوجه كاميراته إلى اللقطات الجميلة والنادرة. وبحيث يترك للشخصية
أن تتحاور مع غيرها في حرية لكي ا تجعل المكان صامتاً وموحشاً.
المجموعة إضافة جيدة للقصة القصيرة السودانية.
--------------------------------------------------------
نشر في صحيفة الجريدة بتاريخ 17 ديسمبر 2022
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق