الأربعاء، 8 سبتمبر 2021

قِصَّة قَصِيرة: سَانْ لَازَاغْ

 بقلم/تسنيم طه

 
-         أوقفي عندك!

اخترقتها حدة الصوت، رغم الصخب الذي يسود المحطة. فتتوقف في الحال، ليصدمها مَنْ كان يسير خلفها إثر حركتها المفاجأة، ويعتذر بكلمة " Pardon" تلقائية دون أن يُعيرها نظره، قبل أن يواصل هرولته. 

طالعته بذهولٍ، وتنحت جانبًا خشيةً أن يصدمها شخصٌ آخرٌ من بين المشاة المهرولين نحو قطارتهم بإيقاع منتظمٍ مدوزنٍ بين ممرات هذه المحطة، التي تذكرها بتدافع الحُجَّاج في يوم عرفة.

هي أيضًا تسير على وتيرتهم اللاهثة كل يوم في هذا الطريق بين أروقة أربعة خطوط مترو (3، 9، 13، 14)  تتقاطع مع خط القطار الإقليمي" RER E"، لكيلا يفوتها قطار الساعة الرابعة وواحد وعشرون دقيقة المتجه لـ"ڤِيلْيِيه سِيوغ ماغْن"، لكي تصل إلى بيتها في مدينة "غُوني سُوبوا" قبل موعد حصة اللغة العربية التي تقدمها عبر تطبيق "Skype"، لصديقة ألمانية، تعرفت بها في موقع "Italki" لتبادل تعلم اللغات الأجنبية.

التصقت الفتاة بالجدار لتتفادى رجلًا إفريقيًا بدينًا، أعاق حركة المهرولين من وراءه، بتسكعه وانشغاله بالصياح في الهاتف:

-          إلى متي ستواصلين معاملتي بهذه الطريقة؟ يا لكِ من أنانية!

وبحركةٍ تلقائيةٍ، رفعت يدها لتهش الهواء الذي عبقته رائحة عرقه النتنة، ورمته بنظرة غيظٍ لم يكترث لها وهو يواصل ارغائه وازباده وكيل شتائمه لمحدثته التي لا يمكن أن تكون أحدًا غير زوجته.

ثم عادت تتلفت، بحثًا عن صاحبة الصوت التي صمت أذنها بصرختها:

-         أوقفي عندك!

فلاحظتها تتقدم نحوها، والشرر يتطاير من عينيها المرهقتين، لتنهشها التساؤلات بحثًا عن سبب غضب المرأة الأربعينية التي شكرتها قبل قليل بعد تلقيها، ما سيغنيها عن امتهان التسول.

ولما أصبحت قبالتها، ولاحظت يدها تضغط بعصبية على الظرف، فهمت الفتاة أن نواياها الطيبة لم تؤتي ثمرها، فخفضت رأسها لتصغي بانكسار إلى توبيخ المرأة:

-   انتي شُو مْفَكِرة حالِك؟ مين خبرِكْ إني محتاجة مواعظ ودروس في الأخلاق؟ أنا محتاجة آكل وبس. فاهمة؟

وتراجعت القهقري لما اخترقتها رائحة المرأة التي تفوق نتانة الأفريقي البدين، الذي كان قد ابتعد، وما يزال صدى شتائمه يتردد في المكان.

واصابها غثيان مفاجئ جعل هيئات المهرولين في المحطة حولها تتراءى لها كهيئات أشباح قميئة تسابق سيارات داخل أحد أفلام الرعب أو ألعاب فيديو.

فأغمضت عينيها وكتمت أنفاسها، وتمنت لو يبتلعها الجدار خلفها. ولما ضغطت على بطنها لتقاوم الغثيان، أثارت حركتها تلك مشاعر محدثتها الأربعينية عندما أدركت تأثير رائحتها التي تجعلها تكره حتى نفسها. فتمزقت بين مشاعر الشفقة على الفتاة التي أمامها، وبين الرثاء لحالها الذي تبدل بين ليلة وضحاها، بعد قرارهم ترك بيتهم الكبير بكل ما فيه من عزٍ وراحة، هربًا من الحرب وويلاتها، لتصل إلى فرنسا بعد رحلة شاقة، تحولت بعدها إلى أرملة وأم ثكلى، تتسول قوتها داخل محطات باريس.

وأوشكت أن تعذر وتبرر للفتاة بأن سبب نتانة رائحتها ليس اهمالًا، بل بؤسًا لحق بها منذ اندلاع تلك الحرب اللعينة. وتمنت لو تحكي لها عن قساوة طريقها، منذ مغادرتها لسوريا ومرورها تهريبا عبر تركيا إلى اليونان فدول البلقان ثم إيطاليا قبل وصولها إلى باريس، وعن قساوة المبيت في الشوارع على الأرصفة، وفي ارضيات الحدائق العامة، وعن قساوة تحمل رائحة جسدها لعدم إيجاد مكان يمكنها أن تستحم فيه وتغسل ملابسها.

كانت تتمنى أن تبوح بكل ذلك، لكن كبريائها وقف عائقًا أمام حاجتها للتعبير بلغتها الأم لشخص سيفهم كل كلماتها.

وبينما المرأة الاربعينية تدير حوارها الداخلي وتحدق بغضب في وجه الفتاة، كانت هذه الأخيرة تدير حوارًا في داخلها، تنتقي فيه كلمات من شأنها تفسير نواياها للمرأة الغاضبة أمامها، لتشرح لها كيف أنها قضت ليالٍ تجمع وتنتقي مقولات داعية للتفاؤل والتمسك بالأمل المثابرة من أجل النجاح تارةً، وتارة أخرى تختار وترتب لعناوين مهمة (أماكن تناول الوجبات الدافئة التي تقدمها منظمة resto du cœur الخيرية وغيرها من المنظمات، والحمامات العامة في باريس ومراكز تعلم اللغة الفرنسية المجانية لمساعدة المهاجرين)، لكي تساعد أولئك النساء ليحصلن على مقومات الحياة الضرورية، حتى يفكرن في المستقبل البعيد بصورة لا تكتفي فقط بالحصول على اللقمة اليومية.

ولكن في اللحظة التي فتحت فمها، زمجرت محدثتها الغاضبة، لتعبر عن خيبتها من ألا يكون، من بين كل تلك الأوراق، عملة نقدية واحدة تمكنها من شراء زجاجة حليب أو خبز حاف لابنتها، قبل أن ترمي بالظرف قائلة:

-         اتفضلي خذى أوراقك وعطيها لحدا تاني!

أحست الفتاة بصرخة المرأة وكأنها صفعة على خدها، فتلفتت حولها بحرجٍ خشية أن يكون هناك من لاحظ من بين المهرولين تلك الإهانة. ولما اطمأنت ألا أحد يعيرها اهتمامه، مررت الفتاة يدها اليسرى على شعرها البني وأمعنت النظر في وجه عازف آلة "ألبان فلوت"، الشاب اللاتيني الهندي الأحمر شبيه العازف لإكوادوري Leo Rojas، وهو يعزف بانسجامٍ كلكل يومٍ، لنفس نغم موسيقى "الراعي الوحيد" الحزينة، كما عزفها جورج زامفير، ليملأها من جديد بنفس الرغبة اليومية في البكاء، جالبًا لذاكرتها جميع لحظات حياتها الحزينة، ككل مرة تسمعها فيها وهي تهرول نحو قطارها.

ولما التفتت، ناحية محدثتها، وجدتها قد أدارت عقبيها مولية إياها ظهرها لتهرول في اتجاه في عربة طفلتها، والنساء الاتي يرددن نفس الجوقة، للفت أنظار المهرولين داخل هذه المحطة المجنونة.

فخفضت الفتاة بصرها بحثًا عن السبب الذي سمر قدميها مانعًا إياها من اللحاق بالمرأة، لتعذر منها وتشرح لها بأنها لم تكن تقصد سوى الإصلاح. ولما اصدم بصرها بالظرف الراقد قرب حذائها الرياضي، شعرت بمرارة في حلقها مع تفاقم مشاعر العار وتأنيب الضمير.

وتمنت لو تنشق الأرض وتبتلعها، وأن يتوقف صخب المحطة من تنبيهات بعدم ترك مقتنياتهم الشخصية بدون مراقبة، وإعلانات عن مواعيد القطارات، ومزيج أصوات الناس وهم يتحدثون في هواتفهم ويهرولون.

تمنت أن يتوقف كل هذا الهرج والمرج علها تجد كلمات مناسبة تجبر بها خاطر ابنة بلدها الذي كسرته بحكمها عليها وتصنيفها لها بهؤلئك النسوة الغجريات، المنتحلات للهوية السورية ليمارسن التسول باحتراف على أبواب مدينة باريس (پُوغْت دو بانيوليه، پُوغْت دو مونت خُويْ، پُوغْت دو سانتطوان، وپُوغت دو لاشابيل..وغيرها)، وداخل أروقة محطاتها الكبرى الست، مرتديات للحجاب وحاملات للافتات مكتوبة بالعربية والفرنسية " عائلة سورية –Famille Syrienne".

ولم تفق من اضطرابها ذلك إلا عندما توقف العازف اللاتيني عن العزف لتجرع شربة ماء. فأسرعت بإخراج عملة معدنية فئة "2 يورو"، وتقدمت نحوه ووضعتها على الكوب الورقي الموضوع أمام قدميه قبل أن تشكره بالإسبانية " gracias".

ولما ابتسم لها تساءلت لماذا لم تفعل ذلك مع المرأة قبل قليل، وغيرها من هؤلاء النسوة في المحطة، لتعترف في داخلها بأن منظرهن وهن يتسولن يشعرها بالعار، كغيرها من كثير من أبناء الجالية العربية الذين لما رأوا انتشار هذه الظاهرة، بدوءا يشكون بأن في الأمر سرٌ.

ومع هذا الاعتراف في داخلها، وقرارها اصلاح خطأها، استدارت لتلحق بالمرأة وتعتذر منها، وفي داخلها نية أن تعطيها مبلغًا يمسح عنها الإحساس بتأنيب الضمير، مستسلمةً بأنها لن تستطيع اصلاح العالم من حولها بأقوال طاغور وخليل جبران، ولا بنظريات التنمية البشرية وتطوير الذات.

لكن في تلك اللحظة، تقدم شابٌ عربي، ينضح وجه شرًا، نحو احدى النساء، وأخذ يحادثها بالعربية متعمدًا انتقاء كلماتٍ باللهجة السورية، وهي لا تطالعه بحيرة وعدم فهم. ولما لم تجب على كلماته المستفزة سوى بالبحلقة، انتزع منها اللوحة الورقية، ونعتها بالغجرية النصابة المنتحلة قبل أن يأمرها (بالفرنسية) بالابتعاد من المكان. ثم التفت ناحية المرأة الأربعينية التي كانت تهدي من ابنتها التي روعها الصراخ، (باللهجة السورية)، وأخرج من جيبه عملة معدنية فئة (2 يورو) وقدمها لها، قبل أن يطلب منها الابتعاد هي الأخرى من المكان، والتوجه لأماكن المساعدات الاجتماعية، حتى لا تشوه صورة العرب والمسلمين بتسولها وهي ترتدي هذا الحجاب.

وهنا رطنت المرأة الغجرية، اعتراضًا عن سلوك الشاب، وأرغدت وأزبدت بكلماتٍ لم يفهم منها سوى كلمة (عنصري) باللغة الفرنسية، ليطالعها بعينين كالجمرتين قبل أن يندفع نحوها ويسدد لها لكمة اسقطتها أرضًا.

وساد المحطة هرجٌ ومرجٌ، والتفت رؤوس بعض المتطفلين بين معترض ومؤيدٍ لسلوك الشاب، لتدرك الفتاة أنها ليست الوحيدة الناقمة على هؤلاء الغجريات المنتحلات للهوية السورية، المرتديات للحجاب من أجل اثارة تعاطف ألاف البشر من الأقليات العربية وهم يعبرون هذه المحطة كل يوم.

وهنا، قررت الفتاة التكفير عن ذنبها قبل فوات الأوان، فأسرعت وتقدمت نحو المرأة الأربعينية التي كانت تحاول تهدئة طفلتها، التي روعها نشوب الشجار. لكن ما أن تلاقت نظراتهما حتى أشاحت المرأة بوجهها عنها، ليتضاعف شعور التأنيب الضمير في داخلها، لتتشجع وتتقدم لتقف برهة تطالع صفحة خد المرأة، قبل أن تكتم أنفاسها وتتقدم أكثر لتمسك برأس السيدة وتقبله دون أن تكترث لشدة نتانة رائحة شعرها الفائحة من تحت خمارها المتسخ. ولما انفكت منها، نظرت في عينيها لتطلب منها أن تسامحها، لتطالعها المرأة بفمٍ فاغرٍ من الدهشةٍ، وعينين فاضتا بدموع الحزن والانكسار. 

وأسرعت بالفتاة بإخراج محفظة نقودها، لتنتقي من بين العملات الورقية ورقة فئة 50 يورو واسرعت بمدها للسيدة، بينما لسانها يكرر الاعتذار والدموع تتسابق إلى مقلتيها. وما أن رأت المرأة العملة الورقية حتى توقف نحيبها وسيلان الدمع على خديها عند جحوظ عينيها وهي لا تكاد تصدق أن الفتاة التي أمامها جادة في اعطائها هذا المبلغ الذي لن تتمكن من جمعه ولو واصلت التسول اسبوعًا كاملًا بين أروقة هذه المحطة. تجاهلت الفتاة شعور الفخر الذي تولد في داخلها جراء ملاحظتها لملامح الدهشة ترتسم على  وجه السيدة، وتقدمت لتضع الورقة النقدية في يد محدثتها، قبل أن تنصحها بالذهاب واستئجار غرفة في بنسيون صغير تسمح لها بالاغتسال وغسل ملابسها، والنوم في سرير يريح جسدها المتعب ويرممه من تعب النوم في أرض الشوارع، عله ذلك يسمح لعقلها باستقبال أفكار إبداعية ترسم لها صورة أجمل لمستقبلها.

فإذا بالسيدة تنفجر في بكاء محموم قبل أن تتقدم نحو الفتاة وتعانقها بقوة لتشكرها وتطلب منها أن تسامحها بدورها على قسوة الكلمات التي تفوهت بها قبل قليل.

 واشتبكت المرأتان في عناقٍ منعهما من سماع بكاء الطفلة وهي تنادي أمها، كما منعهما من رؤية الحشود المتسابقين إلى قطارتهم وهم يتوقفون ليتابعوا المشهد بفضول متسائلين عن الخطب، دون أن يخطر  ببال أحدهم بأن المرأة الأربعينية تذرف دموع شكرٍ وامتنانٍ لله لاستجابته لدعواتها، وبأن الفتاة الشابة تذرف دموع توبةٍ وندمٍ متخذةً قرار عدم إطلاق الاحكام جذافًا على النّاس بعد اليوم.

وبينما المحطة تغلي، والناس يهرولون إلى قطاراتهم، والشاب العربي يركض بعيدًا بأقصى سرعة ليهرب من أفراد الشرطة الأربعة تحت نظرات هلعة لبائعة ملابس من أصول شرق أوروبية، وأخرى غير مكترثة لبائع عطور رخيصة يلتف حوله رجال ونساء، بينما عازف "البان فلوت" يواصل عزف نغمه الحزين، والمتسولات يواصلن نداءاتهن: "عائلة سورية من بلاد الشام،،،صدقة لله يا محسنين!".

ووسط هذا الهرج والمرج، ودعت المرأتان بعضهما، بعد أن تمنت كل منهما للأخرى حظًا موفقًا.

لكن ما أن استأنفت الفتاة هرولتها في الممر المحاذي لميترو 13 الذي يتقيأ أعدادًا مأهولة من الركاب القادمين من ضاحيتي "ساندوني" وآنْييغ" شمال باريس، حتى تردد في الأجواء صوت رجالي، ينوه عبر ميكرفون المحطة عن توقف قطارات خط "RER E" بسبب حقيبة مشبوه في محطة " مَاجَنْتَا -Magenta".  

فخفضت من سرعتها، عند ادراكها بأنها لن تلحق لأداء حصة اليوم.

والتفتت للوراء لتعطي نظرة أخيرة الى المرأة التي تسبب في تأخرها، لتجدها واقفة تراقبها من بعيد.

فكانت لنظرات الامتنان الصادقة في عينها، ولحركة يدها التي لوحت بها لتوديعها مرة أخرى، الفضل في ان تستعيد الفتاة هدوء نفسها، وتتقبل إضاعة حصتها لهذا المساء، متمنية أن تتقبل صديقتها الألمانية عذرها عندما تخبرها عن مشاكل الإرهاب التي تروع الباريسيين وتربك حركات القطارات لمجرد وجود حقيبة أو أي مقتنى بلا مراقبة.

ولوحت للمرأة بدورها، وتقدمت تجر قدميها ببطء وتتخيل القصة التي سترويها لصديقتها (باللغة الألمانية) عن ظاهرة تزايد أعداد اللاجئين السوريين في باريس بصورة مخيفة، لكي تحثها لأن تحكي لها (باللغة العربية) عن أحد محطات برلين لتقارنها بهذه المحطة، إحدى أكبر محطات باريس الست: محطة "سَانْ لَازَاغْ Saint-Lazare".  


  ***

 باريس 18 فبراير 2018

*اللوحة من الفن التشكيلي السوري

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق