بقلم/معاوية محمد نور
يدخلها الإنسان عن
طريق القنطرة الجديدة، المقامة على النيل الأبيض، بعد أن ينهب الترام سهول الخرطوم
الخضراء الواسعة، فيلقي نظرة على ملتقى النيلين في شبه حلم، ويعجب لهذا الالتقاء
الهادي الطبيعي، وذلك التصافح العجيب من غير إثارة ضجة ولا صوت، فكأنما النيلان
افترقا في البدء على علم منهما، وهنا يلتقيان كما يتلاقى الحبيبان ويندمجان نيلاً
واحداً،،
فما ندري أنهما كانا نيلين من قبل ولا ترى في موضع الالتقاء ما يشير
إلى شئ من المزاحمة أو عدم الاستقرار مما يلاحظ عادة في إلتقاء ما بين جهتنين
مختلفتين، وإنما هناك عناق هادئ لين، وإنبساط ساكن حزين، فإذا فرغ المشاهد من هذا
المنظر الذي لابد أنه آخذ بنظره، مرغمه على التأمل، انتقل إلى الضفة الأخرى من
النيل الأبيض فرأى البيوت الصغيرة مثبته على الصحراء، ورأى السراب يلمع ويتماوج
بعيداً، ورأى بعض العربان وراء جمالهم المحملة حطباً تمشئ في ائتاد وفتور، ومن
ورائها سراب ومن أمامها سراب، فكأنما هي تخوض في ماء شفاف، ورأى شماله بعض ثكنات
الجنود السودانيين، مثبتة هي الأخرى في أماكن متقاربة، ثم سمع صوت (البوري)، يرن
حزيناً، شجياً، وسط ذلك السكون الصامت وفي أجواز ذلك الفضاء اللامع وتلك الشمس
المحرقة، فيحس بشئ من الحنين البعيد والحزن الفاتر المنبسط ويعجب لذلك المكان ما
شأنه وشأن الترام الكهربائي والقنطرة والاتومبيل الذي يخطف كالبرق بين كل آونة
وأخرى في ذلك الفضاء السحيق، وإذا سار به الترام قليلا في إتجاه النيل، رأى
المدينة المعروف (بالموردة)، ورأى السفن البخارية الآتية من أعالى النيل واقفة على
الشاطئ محملة ببضائع تلك الأماكن الجنوبية كما رأي بائعي الذرة أمام حبوبهم
المرصوصة في شكل أهرامات صغيرة وهم يبيعون للمشترين وينطقون العدد في نغمة إيقاعية
موسيقية فيها شئ من الملال والترديد الحزين، وفي مثل ذلك المكان كانت تباع الجوارى
ويباع العبيد في أسواق علنية مفتوحة في عهود مضت، وكان البائعون يتفننون في عرض
تلك الجواري بما يبلسونهن من الحلى والزينات
فإذا سار الترام قليلاً وجد المشاهد نفسه أمام "قبة
المهدي" ورأى تلك القبة مهدمة مهدودة كما رأى الجاع الواسع الكبير الذي بناه
الخليفة عبد الله لكي يصلى فيه المصلون أيام الجمع والأعياد فوقف هنيهة يذكر عهداً
مضى بخيره وشره، وخالجة شئ من إحساس (الزمان) الذي لا يبقي على شئ إلا مسخه، وتركه
باهتاً شائخاً بعد أن كان كله رونق وشباب.
وهنا يذكر الإنسان قصة ويذكر تاريخاً ويذكر حروباً أقامت عهد المهدية
وتخللته وقضت عليه أخيراً....
وربما يرى في الشارع القائم بين ذلك الجامع وبين طريق الترام صبياً واضعاً رجل على
رجل في حماره القصير وهو يمشي في طريق معاكس للترام ساهم النظر، مفتوح الفم، ينظر إلى
بعيد من الآفاق ويغمغم بنغمة حزينة ملؤها الشجو والفتور ناسياً نفسه ناظراً في
حوله نظرة الحالم الناسي.
ذلك مشهد لن تخطئة قط في شوارع أم درمان، حركة خفيفة ساهية، وغناء
كئيب حزين، كأنما يستعيد قصة مضت، ويحكي رواية مجد وبطولة عفى عليها الزمان، ودالت
عليها الحوادث كما تدول على كل عزيز على النفس حبيب إلى الفؤاد ولم تبق على شئ سوى
الغناء والسهوم الكئيب.
وفي ذلك المنظر يتجسم تاريخ أمة، ونفسية شعب، رمت به الطبيعة وسط ذلك
الجو المحرق، وتركت له صفات الصدق والبساطة في عالم لا بساطة فيه ولا صدق، هو شعب
من بقية أمم مجيدة طيبة الأرومة، إضطره الكسب والمعاش أن يهاجر إلى تلك البلاد ذات
السهول الواسعة والصحراء المحرقة، فكان تاريخه مأساة تتبع مأساة، وماضية كله الجرم
والإثم، وهؤلاء المهاجرون من أذاقوا السكان الأصليين الألم وساموهم الخسف والعذاب،
كرت عليهم النوبة من أمم أخرى فكان نصيبهم التعب والخوف، وإذا كل السكان سواسية
أمام عوامل الجو ودواعي الملل والسأم، ومغريات الشعر والذكر وويلات الفقر، وإذا
بكل تلك العوامل المختلفة تترك طابعاً خاصة في نفوسهم وسمات خلقهم، وسحنات وجوههم
لا يخطئها الناظر العارف، ولا تقل الدلالة والشاعرية والحزن الكظيم على تلك
الخصائص التي يراها الإنسان على وجه الرجل الروسى الحزين.
وأبلغ ما يدل على تلك النفسية وذلك الخلق الأغاني الشعبية التي
يرددها الكل، من أكبر كبير إلى الأطفال في الطرقات والشوارع، بل أنني لا أعرف
شعباً فتن بأغانيه وأعجب بها فتنة السوداني وإعجابه بها، فأنت تجد الموظف في مكتبه
، والتاجر في حانوته، والطالب في مدرسته والشحاذ والحمار والعامل والمزارع والطفل
الذي لم يتجاوز الثالثة ومن إليهم كلهم يغنونها، ويرددونها في كل ساعة وكل مكان،
ويأخذون من نغمها وإيقاعها معينا لهم يعينهم على العمل ويلهب إحساسهم بدواعي
النشاط والتيقظ الشاعر، بل بلغ إفتتانهم بها أن الرجل ربما يشتري
"الاسطوانة"، الغنائية بعشرين قرشا وهو لا يملك قوت يومه، وقل أن يمر
الإنسان بأي شارع من شوارع ام درمان ألا ويعثر على إنسان أو جماعة تدمدم بتلك
الأغاني في شبه غيبوبة حالمة، وصوت باك حزين..
والأغاني لا يمكن أن تذيع في أمة مثل هذا الذيوع وتحظى بمثل هذا
الإنتشار إذا هي لم تعبر عن نفسية الأمة أتم تعبير...
وأغرب من ذلك وأدعى للدهشة أنهم يرقصون على تلك الأغاني
الحزينة الكئيبة ولا يرون فيها حزنا، ولا كآبة، لاعتيادهم سماعها وإرتباطها الوثيق
بحياتهم، فإذا غنى المغني قائلا (يا حبيبي خائف تجفاني)، وكان هذا المقطع الأخير
الذي يرددونه مثل الكورس، المسرحي وغناها المغني بصوت عالي وترديد شجي ناعم، طرب
الكل، واشتد الرقص، واشتعل النظارة حماساً، ونسى كل نفسه، في موجه طرب راقص، فيعرف
المشاهد أن هذا الشعب قد وطد نفسه على قبول الحياة، كما هي في غير مأثورة وكان له
في آلامه الدفينة البعيد القرار نعم السلوى، عن الحاضر، ونعم العزاء، عن الآلام
والمتاعب، وتلك هي نعمة الاستسلام والحنين، ومظهر الاستهتار بألم طال، وتأصل
فأنقلب فرحا ونعيماً!!.
ونفوس السودانيين، واضحة، واسعة، وضوح الصحراء، وسعتها، وخلقهم لين
صاف، لين ماء النيل، وصفاءه، وفيهم رجولة تكاد تقرب من درجة الوحشية، وهم في ساعات
الذكرى والعاطفة يجيش الشعور على نبرات كلماتهم، وسيماء وجوههم، حتى تحسبهم النساء
والأطفال، وتلك ميزات لا مكان لها في حساب العصر الحاضر، وإن كان لها أكبر الحساب
في نفوس الأفراد الشاعرين وفي تقدير الفن والشعر والحضارة.
المصادر:
* "أم درمان: مدينة السراب والحنين"، المنشورة في جريدة
مصر العدد 1030 - 17 أكتوبر 1931م.
** اللوحة للفنان التشكيلي السوداني صالح
عبده.
***للتعرف
أكثر على الكاتب:
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق