الأربعاء، 17 ديسمبر 2025

الطَّرِيقُ إِلَىَ كَرَن (فَصْلٌ مِن رِوايَة)



بقلم/ تسنيم طه

 

توقّفتُ عند عتبة الباب بتردّدٍ لحظة ما تناهى إلى سمعي صوت المذياع، آتيًا من بيت الجيران بالافتتاحية الشهيرة للمذيع العراقي "يونس بحري" تهيئةً لنشرة الأخبار: " هنا برلين، حيّ العرب". وفي غمرة قلقي، نسيتُ مخاوفي تجاه حُسْنَى، وانشغلتُ بتساؤلاتي عمّن ذا الذي يجرؤ على الاستماع إلى إذاعة ألمانيا رغم منع الحكومة البريطانية الاستماع إليها بعد أن أذاع منها "يونس بحري" للشعوب العربية جملة خطاب هتلر الشهير: "لن نستسلم ولن نرتاح، سننتصر. حان الوقت لانتصارنا. ألمانيا فوق كلّ شيءٍ".

تنامي خوفي عند افتراض أن يكون أحد جيراني القدامى لا يدرك مغبّة فعله، دون أن أدري أهي سذاجة وسهو منه، أم أنه أحد المعاندين للحكومة البريطانية المناهضين للاستعمار المنادين باستقلال السودان عن بريطانيا؟

سألني حبيبي عما بي، فأخبرته بمخاوفي. فلم يكترث لهمومي، بل سحبني من يدي، وتقدّم بي إلى الداخل. نفضتُ يده وتسمّرتُ مكاني، ثم أخذتُ أتلفّت كطائر دوريّ، لأوهمه وأخادع نفسي بأنني أتأمّل الثمار الناضجة المتدلّية من شجرة البرتقال، بينما في الحقيقة، كنتُ أحاول تهدئة روعي، لمّا عادت تعتريني المخاوف تجاه ردّة فعل حُسْنَى، بعد أن يعلن لها زوجها الخبر الذي ظلّ يؤجّله لسنواتٍ.

سبقني حبيبي وتقدم إلى الداخل، تاركًا إياي أجابه دقّات قلبي المتسارعة التي كنتُ أسمعها وكأنّها ضربات طبول الحرب. ولتهدئة روعي، أغمضتُ عينيَّ، وطفقتُ أصلّي للعذراء أن تحمي علاقتي بصديقتي التي أنقذتني من الموت، وساندتني أيام الغربة الأولى عند وصولي إلى الخرطوم، وعرّفتني خبايا العادات والتقاليد والحياة الاجتماعية في السودان. لكن بمجرّد أن فتحتُ عينيّ بعد سماعي لخطواتها ورؤيتُها تتقدّم نحوي، حتّى نسيتُ جميع مخاوفي، واستجبتُ لذراعيها المفتوحتين لي بمودّة كما عوّدتني في كلّ مرة كنتُ آتي فيها لزيارتهم في مدينة التُّراب. عانقتني بفرحٍ وامتنانٍ، فاستكنتُ في حضنها الحنون، حيث أبقتني وقتًا أطول من المعتاد، حتى شعرتُ بدقّات قلبها المتسارعة.

-        كيف حالك يا آن موريس؟ لماذا لم تعودي تزوريننا كما في السابق؟ هل وجدتِ الخرطوم أفضل من اُمْ دُرْمان؟

سألتني وربّتت على كتفي بمحبّة، ثمّ انفكّت عنّي لتستجيب لذراعَيْ زوجها الذي طوّقها بحنانٍ، وطبع قبلة احترامٍ على جبيها، قبل أن يدخل في الموضوع بلا مقدّمات، معلنًا أن هناك أمرًا مهمًّا يريد أن يخبرها به.

انعقد حاجباها، أثناء تقليبها لبصرها بين وجهينا بفضولٍ، فخفضتُ بصري خشية أن تستشفّ من ملامحي ما يخفيه عنها زوجها. كسر حبيبي الصمت الثقيل بسؤاله عن ابنهما، فأجابته، دون أن يزول انعقاد حاجبيها، بأنه في الخارج يلعب مع أقرانه. ولما طلب منها أن تناديه، أطاعت دون أن تتحرّك من مكانها:

-        زيكو، تعال يا زيكو. والدك يطلب منكَ أن تأتي فورًا!

جاء الطفل ذو السنوات الثماني يركض، دون أن يبدو عليه الرضى لتركه لعب كرة القدم مع أبناء الجيران في الشارع. وما إن لاحظني، حتى تهلّلت أساريره واندفع نحوي بفرحٍ. تلقّيته بترحيبٍ كما عودته، فدسّ رأسه في حضني كما تعوّد أن يفعل، ثمّ سألني إن كنتُ أحضرتُ له حلوى السمسميّة المحشوّة بالقشطة والفستق كتلك التي أشتريها له كلّ أسبوع من الأرمنية أنوش، جارتي في زقاق الحاخام.

عادت دقّات قلبي تتسارع عندما اجتاحتني مخاوف جديدة من أن تكتشف حُسْنَى أن ابنها يلتقيني مع والده كلّ أسبوع، وأنهما يرافقانني لحضور قدّاس يوم الأحد في كاتدرائية "سان ماثيو" قبالة النيل الأزرق. لكن حُسْنَى لم تنتبه وأسرعتُ في الخروج إلى الحوش لتنادي على عبدتها الشابّة، التي يهواها عبدي بخيت، تنفيذًا لأمر زوجها بأن تُحضر لنا عصير عرديب يخفّف عنّا حرارة الجو.

أطلقتُ تنهيدة ارتياحٍ، وشكرتُ العذراء على استجابة صلواتي. ثم مرّت لحظات ثقيلة من الصمت بيني وبين حبيبي، حاولتُ فيها تخمين كلماته التي سينطق بها دون أن يجرح مشاعر صديقتي، وتشاغلتُ عن توتّري بالتلفّت في المكان وتأمّل الملاءات الملوّنة، وفتح منخري لأستنشق بعمقٍ رائحة بخور الصندل الممزوج برائحة الريحان وشجرة البرتقال في الخارج الداخلة من النافذة التي كان يصل منها صوت إذاعة برلين من بيت الجيران.

ولمّا عادَتْ حُسْنَى من الحوش، دخل حبيبي في الموضوع مباشرةً:

-       أريدكما أن تتّحدا، وتساندا بعضكما في غيابي، أنا ذاهب إلى إريتريا في مهمّة عسكرية قد تطول.

هممتُ بتصحيحه:

-       بل إلى "فشودة"، في أرض الشلك بأعالي النيل يا نصر الدين.

لكنّ نبرته الهادئة في نطق الكلمات أصابتني بالشلل، وضاعفت دهشتي من سرعة تغيير كلامه الأخير معي.

 بلعتُ لساني، وأدرتُ وجهي بتوجّسٍ ناحية صديقتي لقراءة ردّة فعلها. ولما لاحظتُ استرخاء ملامحها، انتابني شعورٌ بالغباء، عندما خامرني شكٌ في أنها على علمٍ بعلاقتي بزوجها، شعورٌ تحوّل إلى مشاعر غضبٍ تجاه حبيبي الذي جعلني طوال الوقت أتلظّى بمشاعر تأنيب الضمير، دون أن يخبرني بأنه وصل معها إلى وفاقٍ بخصوص علاقته بي. لكن بسرعةٍ عدتُّ لرشدي، واستبعدتُ هذا الاحتمال، بتخيّل أن تكون لصديقتي قدرات خارقة تمكّنها من قراءة الأفكار، وتمتلك قلبًا ملائكيًّا متسامحًا لا تشوبه مشاعر الغيرة المنغّصة لحياة البشر.

-       زيكو! تعال، وضع رأسك في بطن ماما وبطن آن، لتسمع دقّات قلوب اخوانك!

بطن ماما؟ واخوانك؟ إذًا، حُسْنَى حامل أيضًا!

انتابتني غيرةٌ أشعلت في داخلي نارًا فظيعة، تحوّلت بسرعةٍ إلى شعورٍ بالعار عند ملاحظة هدوء ملامح صديقتي، فبلعتُ بصعوبةٍ ريقي لإنزال غصّتي، وأخذتُ أدير حوارًا داخليًّا وألتهم وليمة تأنيبي بمفردي مستغربةً تبدّل المواقف:

-       ألا تخجلين من نفسك يا آن؟! حُسْنَى هي المفترض أن تغار، وتشعل ثورة أن يكون لزوجها عشيقة تحمل منه طفلًا في أحشائها، وتأتي بيتَها لتسمعه يوصيها بزوجته في غيابه.

أغمضتُ عينيَّ بقوّة لاعتصار الألم الذي انتشر في جسدي كانتشار النار في الهشيم، مهدّدًا بحرق جميع بساتين المشاعر الجميلة التي أكنّها لصديقتي. ومع تفاقم آلامي وتشوّشي وسط فوضى خليط مشاعر الضعف والعَبرة والخيانة، نكّستُ رأسي وتمنّيتُ لو تنشقّ الأرض وتبلعني، حتى لا أفتح عينيّ، فأرى وجه حُسْنَى: ضرّتي وصديقتي في آنٍ معًا.

لحظات عصيبة مرّت عليَّ كأنها الأبديّة، تمنّيتُ فيها لو سمعتُ كلام أختي قبل ثماني سنواتٍ، وقفلتُ راجعة إلى أوروبا لأكون بجوارها في محنتها ووحدتها، ولم أنجرف وراء تيّار الحبّ الذي قلب كياني، وجعلني أغيّر مفاهيمي وقناعاتي عن معاني الحياة والتضحية وجبر الخواطر. 

كرّر حبيبي مناداة ابنه هذه المرّة باسم "دايموند"، اللقب الذي أطلقته عليه أنا منذ لحظة أن تلقّيته بين يديَّ، ورأيتُ حوله هالة من لمعان تشبه لمعان الألماس، يوم شاركتُ نساء الحيّ في توليد أمّه التي كادت تموت، وهي تضعه للحياة. لم أصرّح بدهشتي، بسبب مصارعتي لجحيم مشاعري الذي لم يخرجني منه إلّا وصول العبدة، وهي تحمل الصينية المرصوص عليها كؤوس عصير العرديب البنّيّ. تلهّفتُ لتجرّعه وإطفاء نيراني الداخلية، ولكنّ ذلك لن يحدث، لأنه قبل أن تطوف علينا العبدة، تناهى لأسماعنا طرقٌ عنيفٌ على باب الشارع، فإذا بها تهرع لوضع الصينية على طاولة منزوية في ركن الغرفة، لتطيع أوامر سيّدها بالإسراع إلى فتح الباب.

مرّت لحظاتٌ، قتلنا فيها الفضول لمعرفة هويّة الضيف العنيد اللحوح الذي يطرق الباب بهذا الجنون، قبل أن تطلّ علينا امرأة ترتدي زيًّا تقليديًّا يشبه أزياء قبائل شرقيّ السودان، ملثّمة ببرقعٍ ملوّنٍ كشف عن عينين كحيلتين تغلّفهما لمعة مكرٍ.

أصابتني قشعريرة وحيرة، فأخدتُ أتساءل: أ هي من قبيلة الرَّشَايْدة؟ أم الهَدَنْدَوَة؟ أم البَنِي عامِر؟ ولمّا لاحظتُ نظرتها الصقرية تمسح المكان بنظرة متفحّصة، تضاعف توجّسي، خاصة عندما تقدّمت نحو حبيبي، وكأنها قرأت تساؤلاتي، لتبدأ فورًا بتقديم نفسها بأنها إريترية قادمة من "كَرَن"، جاءت لتعطيه بعض النصائح.

 وبعد أن قلبت عينيها الكحيلتين في وجوهنا المترقّبة، تستقرئ أثر كلماتها فينا، عادت تحدّق في وجه حبيبي، لتخبره أن الطليان يحشدون جيوشهم لقتال الإنجليز؛ انتقامًا منهم بعد أن طردوهم من كَسَلا، وأعاقوا استمرار توغّلهم داخل السودان. ولمّا لاحظَتْ الذهول يرتسم على ملامحه، أضافت أنها ستعطيه تميمةً تحميه وتعينه في تحقيق أمجاده، حتى يموت وهو راضٍ عن نفسه. 

انتفض قلبي هلعًا عند سماع كلمة الموت، وتنامى هلعي عند ملاحظة ملامح القلق التي شابت وجه حبيبي، فوضعت يدي على فمي، وتابعته يتفرّس بعينين جاحظتين، وفم فاغر من الدهشة، في وجه المرأة المخفيّ نصفه وراء البرقع الملوّن. تنبّهت حواسي، وأنا أتابع حركة يدها أثناء فتحها لجرابها، قبل أن تخرج منه مسبحة طويلة مصنوعة من نوى اللالوب، قدّمتها إليه ثم نصحته بأن يضعها حول عنقه من فوره؛ لكي تحصّنه وتحميه من بنادق الطليان وسيوف جنود موسوليني.

-                 هل سأحصل على الترقية بعدها، وأفوز بنياشين إضافية قبل أن أذهب للقتال مع دول التحالف في البحر المتوسط؟

سأل حبيبي بنبرةٍ راجفةٍ، لكن المرأة الملثّمة لم تتجاوب مع سؤاله، وانشغلت بتقليب بصرها في المكان، وفي وجوهنا بعينيها الصقريتين.

-       معركتك الوحيدة هي "كَرَن"، ولن تتمكّن بعهدها من الذهاب إلى "العَلَمين" على الحدود المصرية الليبية. لذلك، عليكَ وضع كلّ أمجادك في هذه المعركة، حتى تخلّد ذكرى تبقى بعد مماتك.

أجابتْ بنبرة بدت لي مألوفة، أثناء تحدّيقها في وجهي بدلًا من وجهه، بطريقة جعلت فرائصي ترتعد. وقبل أن أستعيد رباطة جأشي، إذا بها تتراجع للوراء في حركة سريعة، وتمدّ يدها داخل ملابسها الفضفاضة لإخراج سيفٍ لمع نصله مع انعكاس الضوء الداخل من النافذة.

رفعتُ يدي إلى فمي؛ لكتم صرخة هلعي، وتابعتُ حبيبي الذي تلافاها رغم أنها لم تتوجّه إليه، وقفز بحركةٍ تلقائيّةٍ نحو الوراء. وقبل أن نفهم ما يحدث، اندفعَتْ المرأة نحوي وهي تُصدر قهقهة قميئة، لابد أفزعت الحمائم في شجرة البرتقال في الخارج، قبل أن تزمجر: 

-       أنتِ المعنيّة بهذا السيف يا آن موريس، يجب أن أقتلك أيّتها المتمرّدة اللئيمة.

بأعجوبةٍ نجحت في التراجع للوراء، والإفلات من طعنتها في آخر لحظة. ولحسن الحظّ أن هلعي لم يسمّرني مكاني، بل قذف بي نحو الخارج حافية القدمين، بعد أن أفلتت حذائي في ركضي المتخبّط الأرعن. أحرقت قدميَّ رمضاء الحوش الذي اختفت حشائشه وشجراته، والعبدة التي كانت قد عادت لمكانها لتطحن حبوب الذرة أمام باب الشارع، بعد وضعها للعصير في آخر الغرفة وفتح الباب للطارقة الأريتيرية غريبة الأطوار، التي تريد قتلي.

ورغم ألمي، واصلت الركض الأرعن بلا هدًى، كثورٍ هائجٍ في حلبة مصارعةٍ، وظللتُ أدور في حلقة مفرغة، دون أن أعرف من أيّ اتّجاه يمكنني الهرب والنجاة من هذا المأزق. وفي اللحظة التي كادت فيها قواي تخور من فرط التعب واليأس، أدركتني حُسْنَى، وصنعت من نفسها جدارًا بيني وبين تلك المرأة التي كانت قد أصبحت قاب قوسين منّي.

-       ابتعدي يا حُسْنَى، ولا تتدخّلي بيني وبين هذه المتمرّدة! لماذا تريدين إنقاذها وهي لم تنقذك ذلك اليوم من أيادي قنّاصة العبيد في فشودة؟!

تبادلنا نظرات الدهشة أنا وحُسْنَى، قبل أن نصرخ في كورال:

-       الآنسة "سين"؟!

-       نعم، الآنسة "سين"، لن تفلتي منّي هذه المرّة يا آن موريس!

يا إلهي!  كيف لم أتعرّف عليها من نظرتها فور دخولها؟! كيف تجاهلت نظرتها الماكرة، ولم أتعرّف على نبرة صوتها المألوفة؟!

لحق بنا حبيبي، ثمّ تسمّر مكانه يطالع ذهولنا بحيرة وهلع. ولمّا رفعت الآنسة "سين" سيفها الملتمع نصله الحادّ تحت أشعة الشمس الحارقة، تحرّر من شلله واندفع نحونا ليقف حاجزًا بيننا.

-       انتبه أيّها الجندي! مكانك في ساحة المعركة هناك في "كَرَن"، وليس بيني وبين هذه المتمرّدة! ابتعد، وإلّا فستخسر حياتك!

ولكنّه لم يُطِعها، بل فتح ذراعيه على مصراعيهما، صانعًا بهما جدارًا ليحمينا أنا وحُسْنَى من ورائه، معرّضًا صدره للخطر. ونفّذت الآنسة "سين" تهديدها وسدّدت ضربتها الغاضبة نحوي، ضربة كان لابد أن تخطئني، لتنغرس في جانب بطنه.

سقط حبيبي أرضًا مضرّجًا بدمائه، فارتمينا أنا وحُسْنَى من فوقه مولولتين، وتابعناه يلتقط أنفاسه بصعوبةٍ. ثمّ نسيتُ أن أتنفّس عندما وضع يده اليسرى محلّ الطعنة وغمسها في دمائه الحارّة، قبل أن يمسح بها على جبيني وهو يهمهم متوسّلًا:

-       آن موريس، خلّي بالك من زيكو ومن حُسْنَى في غيابي!

كاد يُغمى عليَّ من الألم، وأنا أراه يبذل مجهودًا جبارًا؛ ليرفع رأسه ويقبّل جبيني، قبل أن يستدير ليقبّل جبين حُسْنَى ويوصيها بالاهتمام بي. وكاد قلبي يتوقّف عن الخفقان لحظة إرخائه لعنقه، ومناداته على ابنه بصوتٍ واهن؛ ليأتي ويضع رأسه على موضع الطعنة. وقبل أن يطيع الطفل الواقف يراقب المشهد بذهول، شملنا حبيبي بابتسامة حنونٍة انكُسِفت شيئًا فشيئًا وراء ملامحه المتشنّجة من الألم، قبل أن يغمض جفنيه ببطءٍ.

وهنا فقط، فارقتني الغصّة ونجحت في النطق، لأناديه بصوتٍ راجفٍ، أثناء ربتي برفقٍ على خدّه:

-       نصر الدين! نصر الدين!

قلدتني حُسْنَى بإطلاق صرخة هستيرية، ثمّ لطمته بجنون على خدّيه. ولمّا لم يستجب، شقّت قميصها وانخرطت في لطم خدّيها والولولة بجنون. في هذه اللحظة فقط، شعرتُ بالمعنى الحقيقي للفقد، وبفوران آلامي من داخلي قبل أن تفيض عبر صوتي في صرخة هستيرية، لابد أفزعت الحمائم في شجرة البرتقال:

-       نصر الدين! نصر الدين! حبيبي، نصر الدييييييين!

 

-       سيّدتي! سيّدتي! أرجوكِ، استيقظي!

خرجت من الكابوس على يد العبد بخيت تهزّني بعنفٍ، فنهضتُ وجلستُ وسط السرير وأخذتُ أتفرّس في وجهه المملوء بالهلع، دون أن أراه حقًّا.

 ولما أخبرني بأنه يحمل لي خبرًا، تنبّهت حواسي، وارتعدت فرائصي من نبرة صوته المتردّدة المغلّفة بالتوجّس، وأدركتُ على الفور أن وراء وقفته منكّس الرأس، كارثة يُخفيها.

------------------------------

من رواية " حَفِيدَةُ غُرْدُون بَاشَا"/ الصادرة عن دار رشم/ أكتوبر 2025

نُشر في العدد الـ19 من مجلة غرفة 19/ ديسمبر 2025

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مَوْسِمُ العَوْدِة إلى الشَّمال

قِصَّة قَصِيرة: مَوْسِمُ العَوْدِة إلى الشَّمال