الخميس، 18 مارس 2021

ربما يعطون الشيطان مستحقاته: نص غير منشور للطيب صالح

ترجمة حسين مصدّق 



 في العام 2003 ظهرت رواية الطيب صالح "موسم الهجرة الى الشمال" للمرة الثانية في لندن عن دار بنقوين للنشر(Penguin)، فكتب لها صالح تقديماً موجزاً تحدث فيه عن علاقته الجدلية بهذه الرواية وكيف انفصلت عنه مع مرور الزمن والتحولات السياسية. وفيما كنت بصدد الإشتغال على الدورالذي لعبه الطيب صالح في القسم العربي للبي بي سي (1) قرأت هذا التقديم، الذي بدا لي فيه من الطرافة الكثير، وربما أشياء أخرى لم نكن نعرفها عن الكاتب وروايته، بعضها قد يحدث بعض الإرتباك لدى الكثيرين.

المترجم

                                                                                      ***

عندما ظهرت روايتي "موسم الهجرة إلى الشمال" لأول مرة في سبتمبر 1966، شعرت بشيء من عدم الارتياح. كنت في الخرطوم في ذلك الوقت معارًا من طرف البي بي سي  للعمل لمدة ستة أشهر مع وزارة الإعلام السودانية. كان المناخ العام في الخرطوم في تلك الأيام مبهجًا، لأن الشعب السوداني قد أطاح للتو بالحكومة العسكرية للجنرال إبراهيم عبود في انتفاضة شعبية ملحوظةلم يكن هناك إراقة دماء، وقبل الجنرال عبود، الذي يحسب له قيامه على الفور بتسليم سلمي للحكومة إلى الأحزاب السياسية.

نتج عن التغيير طفرة كبيرة في الطاقات الفكرية ، سياسية وثقافية.  وسرعان ما برزت مجموعتان إلى الواجهة: الشيوعيون، الذين كانوا بالفعل قوة سياسية هائلة ، ليس لأن لديهم قاعدة شعبية واسعة ، ولكن لأنهم كانوا متضامنين بشكل وثيق، ومنظمين جيدًا وواضحين للغاية. المجموعة الثانية كانت تتمثل في الإسلاميين الذين بدأوا في الظهور كقوة سياسية صاعدة.  لم تجد أي من هاتين المجموعتين الرواية مطابقة لرغباتهم. كلاهما أدانها صراحة، ولكن لأسباب مختلفةأدانها الشيوعيون لأنها نشرت في مجلة أدبية صادرة من بيروت "حوار"، التي كان يتم تمويلها من قبل هيئة تسمى "مؤتمر الحرية الثقافية" والتي مولت أيضا المجلة الأدبية  (لقاء (Encounter في لندن.

اكتشف فيما بعد أن تلك المنظمة تم تمويلها سرا من قبل وكالة المخابرات المركزية الأمريكية. كان لدي بالفعل قصتان قصيرتان منشورتان في (Encounter) يضاف إلى ذلك أنني أشتغل في القسم العربي للبي بي سي، الناطقة بلسان الاستعمار البريطاني من وجهة نظر اليسار العربي. كل هذا من شأنه أن يجعلهم لا يكنّون لي شيئا من الود. كنت على علم بهذه المضاعفات، ومع ذلك فقد نشرت الرواية في مجلة حوار،وهي مجلة مشبوهة، بسبب إحساس بالتضامن مع صديق. رئيس تحرير جريدة حوار المرحوم توفيق الصايغ كان صديقاً عزيزاً لي وشاعراً فلسطينياً مرموقاً. أصبحنا أصدقاء عندما كنت أعمل في هيئة الإذاعة البريطانية في لندن وكان هو يدرّس اللغة العربية في كامبريدج. كنت قد وعدت بالفعل أن أعطيه الرواية لنشرها في مجلته. وبحلول الوقت الذي اكتملت فيه روايتي، أصبح توفيق الصايغ  شبه منبوذ بين المثقفين في العالم العربي حيث كانت الحماسة القومية في أوجها في المنطقة.

ظهرت الرواية في العدد قبل الأخير من "حوار" لأنه بعد استقالة ستيفن سبند، رئيس تحرير مجلة (Encounter) والاعتداءات المستمرة على المجلة وضده شخصياً ، شعر توفيق صايغ أنه لا يستطيع الاستمرار. طوى المجلة وذهب للتدريس في بيركلي ، حيث توفي بعد ذلك ببضع سنوات.

ربما يكون من الجدير بالذكر أن أحد طلاب السيد صايغ في بيركلي كان الجنرال بيليد ، الذي ذهب بعد تقاعده من الجيش الإسرائيلي إلى بيركلي ليحضر درجة الدكتوراه في الأدب العربي. وقد أصبح أخيرًا أستاذًا للغة العربية في الجامعة العبرية بالقدس وناشطًا بارزًا في حركة السلام في إسرائيل.

لم أقابله أبدًا ولكن في إحدى زياراته إلى لندن ، أحضر لي السيد صايغ خطابًا لطيفا للغاية من الجنرال بيليد يعبر فيه عن إعجابه الكبير بعملي، خاصةً  "موسم الهجرة إلى الشمال". بعد بضع سنوات عندما كنت أعمل في اليونسكو في باريس ، تلقيت دعوة من البروفيسور محمد أركون، الباحث الفرنسي الجزائري المعروف، لتناول الغداء مع الجنرال في جامعة السوربون. يؤسفني جدا حتى يومنا هذا أنني لم أرد على رسالته ولم أتمكن من مقابلته مع الأستاذ أركون.

على الرغم من احتدام الأجواء الثقافية والسياسية في السودان عام 1966، عندما ظهرت الرواية لأول مرة ، لم يتم حظرها. لقد استغرق الأمر أكثر من خمسة وعشرين عامًا حتى يتم حظرها من قبل النظام الحالي (نظام عمر البشير). لكن في عام 1967 حدثت الهزيمة العسكرية الساحقة التي ألحقتها إسرائيل بالعرب فهزّت أشياء كثيرة، من بينها الإيمان والأيديولوجيات السياسية الحالية إذ بدأ المزيد  من الناس في التساؤل والتعبير عن شكوكهم علانية.

لسبب ما، تم دمج عملي في عملية الاستجواب الفكري هذه. بدأ الناس يرون في الرواية أشياء معيّنة لم يروها من قبل أو لم يهتموا برؤيتها. يبدو أن الإحساس الكامن باليأس والكآبة في الرواية قد تزامن مع المزاج العام لليأس في الإنتلجنسيا العربية في كل مكان، وخاصة في مصر.                  

هناك  ناقد مصري بارز وشجاع، هورجاء النقاش، كان قد تجاهل الاتهام القائل بأن الرواية ظهرت في مطبوعة ممولة من وكالة المخابرات المركزية، وكتب مقالاً بالغ الثناء في مجلة أسبوعية واسعة الانتشار. بعد ذلك بوقت قصير ، ظهر العمل في شكل كتاب، مما أثار ذعرًا كبيرًا لدى المؤسسة الدينية التي هاجمته في المساجد على أنه كتاب "فاسد" ويعتبر "إهانة للدين" و "إباحيّ" بالفعل. كانت الضجة في مثل هذا الحد لدرجة أن وزارة الإعلام المصرية، التي كانت الناشر، قامت بسحب الكتاب من المكتبات. لكن العديد من النسخ كان قد تم بيعها.

ظلت الرواية ممنوعة في مصر قرابة ثلاثين عامًا، حتى ما قبل ثلاث سنوات ، عندما أعادت مؤسسة الكتاب المحترمة، وهي أحد فروع وزارة الثقافة، نشرها. قاموا بإنتاجها في إصدار منخفض السعر من مائة ألف نسخة وبيعت في غضون أيام.

كانت دار نشر رائدة في بيروت (دار العودة) تنشر روايتي منذ عام 1970. ووزع الناشر مئات الآلاف من النسخ في جميع أنحاء العالم العربي. (وتلك هي حالة النشر في العالم العربي لدرجة أن ذلك الناشر لم يرى أنه من الضروري أن يدفع للكاتب أي حقوق للتأليف). صحيح أنني أصبحت معروفاً في كل مكان ولكن بالطبع لا عزاء لكاتب في شهرة دون مقابل.

وهكذا استمر الكتاب في طريقه ، كما تفعل الكتب ، منفصلا عني تقريبًا. يتم حظره من وقت لآخر في هذا البلد أو ذاك وبعد ذلك يتم إلغاء حظره وهو محظور بشكل دائم في جميع دول الخليج. إنه محبوب ومكروه ومهاجم وممدوح. يتم تدريسه في الجامعات وتكتب عنه أطروحات الماجستير والدكتوراه . من البديهي أن يجعلني ذلك النجاح الذي تحققه روايتي سعيدًا وهذا ما يفعله بطريقة ما.

 الترجمة هي قصة أخرى مثيرة للاهتمام - تمت ترجمتها على نطاق واسع إلى عشرين لغة حتى الآن. كانت الترجمة الأولى إلى الإنجليزية من العربية ، بقلم عميد المترجمين ، دينيس جونسون ديفيز. ظهرت في كتب هاينمان التعليمية بعد وقت قصير من نشرها باللغة العربية. لذلك يجب أن أشكر جهود Denys) Johnson-Davies للترويج للرواية التي تجاوزت واجبه كمترجم ، وكيث سامبروك وجيمس كوري اللذان كانا مسؤولين عن سلسلة الكتّاب الأفارقة التيكانت تنشرها دار (Heinemann) في ذلك الوقت.

قوبلت الرواية ببرود عندما ظهرت لأول مرة في لندن وكان هناك بعض التقديمات القصيرة. أتذكر منها تقديما سيئًا ومحتقرًا بشكل خاص في الملحق الأدبي لصحيفة التايمز، والذي نقد صاحبه الرواية بغطرسة ووصفها بأنها "عرضيّة'' (episodic) وتلك حسب رأيه نقطة ضعف شائعة في كل الكتابات العربية. كان أداؤها أفضل بكثير في الترجمة الفرنسية التي صدرت بعد فترة وجيزة من الترجمة الإنجليزية. كان لها مقدمة سخية من قبل المستعرب المرموق ، الراحل جاك بيرك، من مؤسّسة (Collège de France) المرموقة. وكان هناك مراجعات مميزة للغاية في معظم الصحف الكبرى.

 السيد فرانسوا مورياك كتب "لم نقرأ شيئًا كهذا من قبل، نحن الذين قرأنا كل شيء". وهو ما جعلني أتساءل كيف أن رواية توصف في لندن بأنها تافهة للغاية ويقع الترحيب بها بمثل هذه العبارات المتوهجة في باريس! (2)

أما المترجم الروسي فقد إتصل بي شخصيًا ليخبرني أنهم طبعوا مليون نسخة من الكتاب، مما جعلني سعيدًا للغاية بطبيعة الحال إلى أن تابع ذلك بالقول إنه للأسف لن يتم تقديم أي عائدات لأنهم لم يكونوا (في ذلك الوقت) من الممضين على اتفاقية برن بشأن حقوق النشروالتأليف.

وفي خصوص الترجمة العبرية، كما أخبرني الناشر في رسالة ، كانت الرواية من أكثر الكتب مبيعًا. لقد قاموا بنشرها بدون إذن، وعلى الرغم من أنهم عرضوا التدارك بعد ذلك، إلا أنني لم أتابع الأمر لأن الشروط المعروضة صدمتني ولم تكن مرضية تمامًا. لكنني كنت سعيدًا جدًا لظهورها بالعبرية. فكرت، ربّما، حتى ولو بحيزّ صغير جدًا، أنني قد قد ساهمت في قضية السلام بين العرب والإسرائيليين. لاقت الترجمة الألمانية استحسانًا كبيرًا. ليس لدي أي فكرة عن المصير الذي لاقته في الصين أو اليابان، و في حقيقة الأمر، ولا في أي دولة من دول أوروبا الشرقية. لسبب ما، سارعوا جميعًا لنشر الرواية. الآن بعد أن أصبحوا رأسماليين، ربما يعطون الشيطان مستحقاته!

 لكنني لست بصدد التشكي.. صحيح أنني جنيت القليل جدًا من المال من هذه الرواية أو أي من أعمالي الأخرى، سواء باللغة العربية أو أي ترجمة باستثناء القليل من هاينمان ومن لينوس، ناشري الألماني، أو من ناشري الفرنسي ''سندباد''. لكنني شعرت بسعادة كبيرة من نواحٍ عديدة أخرى، لأن كتبي جلبت لي العديد من الأصدقاء من جميع أنحاء العالم. أخبرتني سيدة فرنسية لطيفة ذات مرة أنها التقطت الكتاب بالصدفة من مكتبة باريسيّة. بدأت تقرأه في المترو وأصبحت منشغلة للغاية لدرجة محطتها قد فاتتها، وتلك مجاملة رائعة حقًا لأي كاتب. الآن ها أن (Penguin) تنشرالرواية وها أني ولأول مرة يكون لي في شخص المسّز كارولين داوني وكيلًا أدبيًا مهتمًا وفعالًا من PFD ، ربما سأبدأ في جني بعض الفوائد المادية من هذا السعي - الشاق وغير الموفّق فى كل الحالات-  ألا وهو الكتابة الروائية.

----------------------

(1)- Houcine Msaddek - BBC Arabic (1938-1995): Soft Power or Reithian Practice Abroad? 2021

https://doi.org/10.4000/rfcb.7056

 (2)- " تعقيب من المترجمعلى الأرجح أن الطيب صالح لم يطلع بصفة مباشرة على مقال مورياك فكان في ما نقل إليه خلط مورياك الأب و مورياك الإبن. والروائي الكبير فرانسوا مورياك توفي سنة 1970 أي عاما كاملا قبل صدور الترجمة الفرنسية لموسم الهجرة الى الشمال. والثابت أيضا أن كلود الولد الأكبر لمورياك، وهو كاتب معروف أيضا، كان قد نشر في صحيفة لوموند المسائية مقالا حول الرواية عند صدورها مترجمة عن دار ''سندباد للنشر'' وقد أشارت صحيفة لوموند ديبلوماتيك بتاريخ ديسمبر 1996 إلى ذلك المقال بهذا الإستشهاد القصير:

"Un monde réel et magique à la fois, dont Claude Mauriac disait : "Notre âme est rafraîchie, nos yeux sont lavés, nous n’avons jamais lu cela, nous qui avons tant lu."

 

 **-**

نُشر في موقع  " صواب الراي" بتاريخ 3 مارس 2021

لقراءة المقال من مصدره:

https://sawaab-arraii.com/ar/rbma-ytwn-alshytan-msthqath-ns-ghyr-mnshwr-balrbyt-lltyb-salh

السبت، 13 مارس 2021

قِصَّة قَصِيرة: كَنَهْرِ النِّيلِ ،،،أَوْ أَطْوَل

بقلم/ تسنيم طه

في البداية، عندما رأيتها تندفع نحوي بعينين محمرتين، خُيل إليّ أن دموعها ناتجة عن تقشير البصل اثناء تجهيزها لـ "مُلاح التَّقَلِيَّة"، الذي تعودت تحضيره لنا كل أسبوع لنتناوله سويا مع ابنتيها قبل خروجي لصلاة الجمعة. لكن لما اقتربت أكثر قبل أن ترمي بورقةِ "الفولسكاب" على حِجْري، أدركتُ أنني أخطأت التقدير.

سرت في جسدي قشعريرة، أثناء بلعي لريقي، قبل ان أسألها بتوجسٍ عن الخطب، رغم معرفتي بأسباب نيرانها الداخلية التي أبت أن تخمد.
طالعتني بجمرتين متورمتين، أثناء تناثر اللعاب من شفتيها الجافتين وهي تغلظ القسم بأنها لن تترك حق ابنها يضيع، وبأنها لا محالة واجدة قاتله لتلوك كبده.
تنهدتُ بعصبية ثم قلتُ بيأسٍ:
-
وإن تعفوا خيرٌ لكم. و.....
فقاطعتني بصوتٍ تخنقه العبرات:
- "
ولكم في القصاصِ حياةٌ يا أولي الألباب".

ألجمني ردها السريع؛ فلم أدرِ أي حجة يمكنها أن تجنبني رؤيتها في نوبة انهيار عصبي جديد.
بقلبٍ كفطور، تفرستُ في وجهها الشاحب طويلًا، ثم أبديتُ استنكاري من ألا يكون حجها لبيت الله الحرام وطوافها بالكعبة المشرفة وزيارة قبر النبي، قد نجحا في طمأنة قلبها؛ حتى يتقبل قضاء الله وقدره. فارتفع نشجيها، أثناء تهاويها جالسة على الأرض عند قدمي.
فقدتُ رباطة جأشي مع استشعار تدافع جيوش الحزن نحو وديان روحي، كتدافع الماء نحو السهل من أعلى جبل.

مرت لحظات كأنها دهرٌ وأنا في وجومي وحزني واحساسي بالعجز أمام دموعها المتساقطة بغزارة؛ مبللة في انسيابها خديها وصدرها والتراب الذي تحتها،.
ولم أخرج من توغلي نحو غابات الإكتئاب إلا مع توقف هدير محرك الركشة، وارتفاع صوت معاوية متسائلا:

-
في شْنُو يا خالة سُكَيْنَة مالك بتبكي كدة؟ ومالك قاعدة في الواطة؟ سأل معاوية مستنكرًا فور قفزه من مركبته الصغيرة.

لكن ابنتي لم تتفاعل مع سؤال صديق ابنها الا بمزيد من الدموع. اقترب منها ببطء ثم انحنى ليهزها من كتفها، ظانًا أنه سيخرجها من حالة الوجع التي عجزت أن أفعل حيالها شيء.

لكنها ظلت تنوح منكسةً رأسها، إلى أن هزها مرة ثانية، متوسلًا إياها أن تكف عن البكاء لتخبره عن الخطب.
فهبتْ واقفة، وخطفت ورقة "الفولسكاب" من يدي قبل أن أكون قد ألقيت عليها نظرة، ومدتها له بيدٍ راجفةٍ، وصدرٍ يعلو ويهبط من النشيج.

أمسك معاوية بالورقة ومسحها ببصره سريعًا، ثم عاد يتفرس في وجه والدة صديقه بارتباك تضاعف، عندما أخرجتْ سُكَيْنَة صوتًا مخنوقًا بالعبرات، لترجوه أن يوصلها بـ"رَكْشَتِه" إلى القصر الجمهوري الآن، لتسلم مذكرتها لرئيس الوزراء وتطالبه بأن يأتي لها بحق ابنها.

رمقني معاوية بنظرة حيرة سريعة، ثم التفت ليوضح لها متلعثمًا بأن اليوم الجمعة، فعقبت بنهرة متوسلة:

-
إذًا بكرة من الدّغش!

فنكس رأسه ولاذ بالصمت. فظننتُ أنني سأنقذه من ارتباكه بمد الجريدة، التي كنت أقرأ فيها لابنتي، حتى أريها الخبر المتناول لوصول رئيس الوزراء إلى "جوبا" عاصمة جنوب السودان اليوم في رحلة ستستمر ثلاثة أيام.

ولما رمقتني بنظرة عتابٍ سبق انفجارها في نشيجٍ جديد، تيقنتُ من عجزي أمام عنادها.

في تلك اللحظة، وفي أثناء ملاحقته لكرة القدم المتدحرجة وهي توشك على الدخول تحت كرسي الذي أجلس عليه تحت شجرة النيم الوارفة، تفرس الطفل اللاهث مغبر الوجه والقدمين، في وجه ابنتي المغبون باستغراب.
وما أن التقط الكُرة حتى انتصب واقفا أمامها لينشد متوسلا:

يا والدة ما تبكي.....خلي الوطن يبكي

أنا حسي بيهو حزين

هو مجرد طفل صغير في السابعة، وكل ما فعله ترديد أحد مقاطع هتافات الثورة التي تداولتْ بين الناس بعد المجزرة.
لكن تأثيره كان كزيتٍ سُكِبَ على نارٍ كنا نحاول اخمادها.

حدجتُ الطفل بنظرة عتابٍ ووعيد جعلته يركض هاربًا وراء الكرة التي قذفها وتبعها بسرعة، وكأنه يبرر بها انسحابه من ذلك الجو الجنائزي.

-
يا خالة عليك الله ما تبكي، ولدك شهيد وهسة في الجنة. يا ريتنا كلنا لو مشينا معاهو كان أحسن لينا من الوقوف في صفوف البنزين.

كرر معاوية توسلاته، فرفعتْ سُكَيْنَة عينيها نحوه لتطالعه بدهشة سمرت الدموع في مقلتيها.
ولما أحس باستحواذه على اهتمامها، استرسل في الشكوى والتذمر من معاناته اليومية بسبب ضياع وقته في الوقوف في صفوف البنزين بدل قضائه في العمل. ولما تنهدت سُكَيْنَة بعصبية، التفتْ إليَّ نحوي وطالبني بالإدلاء بشهادتي لأحكي لها عن ازدحام صفوف السيارات الذي صادفناه في طريقنا، حتى تفهم أن الذهاب إلى الخرطوم في هذه الأيام سيكون ضربًا من الجنون.

تفرستُ في وجه ابنتي بيأسٍ، واسترجعت تفاصيل مشواري الصباحي: ابتداءً من خروجي من مسجد "القُبة" بعد صلاة الفجر مع انتشار شعاع الشمس في الأفق، وتوجهي لبيت معاوية وإيقاظه ليرافقني برَكْشَتِه إلى سوق "بَحْري" حتى أنهي مشاويري قبل احتراق الجو بأشعة الشمس إذا ما ولى الضحى. ثم اعتذاري منه وابداء فخري منه لتبيته ندائي ومرافقتي دون تضجر، ليس فقط لأنه يحبني مثل جده، ولكن أيضًا لتعوده أن يطرقَّ الجيران بابهم، كلما رأوا مركبته ذات الثلاثة اطاراتٍ واقفة أمام البيت، لكي يوصلهم أينما طلبوا التوجه، ما دام أنهم لا يجبرونه على ارتكاب مخالفات بعبور الجسور لأم درمان والخرطوم، حتى أشتهر بـ"تاكسي القُبَّة"، رغم كتابته على ظهر "رَكْشَته" بخط عريض لكلمة "كّدّراوِية"، إحدى أغنيات نور الجيلاني، والقاصد هو بها خطيبته الساكنة في حي "الكَدَرُو" بشمال الخرطوم-بَحْري.

لم أحكِ لها هذه التفاصيل، وتجاوزتها إلى لحظة وصولنا إلى المَلَجة عند تجمع الجزارين الملطخة ملابسهم البيضاء أيديهم بالدماء، حيث استأذن مني معاوية ليذهب ويتناول كوب شاي حليب بالزلابية (لم يتمكن من تناوله في البيت حتى لا يؤخرني) من بائعة شاي يلتف حولها نفر من الناس. ثم وصفتُ لها لحظات انتظاري العصيبة مع جزار أصلع صلفٍ يتدافع الناس لشراء بضاعته رغم سوء معاملته، إلى أن وصل معاوية وأنقذني من اشمئزازي واستعجل البائع لأن يحاسبني قبل البقية لكبر سني وعدم تحملي للوقوف في الصفوف.

وبلعتُ ريقي ثم وصفتُ معالم طريقنا، متجاوزين لجموع نساءٍ برفقة أطفالهن، للوقوف أمامي بائعي الخضروات الطازجة لكي أنتقي له ما ستجهز به الأطباق (محشي وكُفتة وبامية باللحم الضأني وسلطة باذنجان) لإكرام صديقة ستزورها لتناول غداءً أخيرًا قبل أن تلحق بزوجها في الخليج.

ولما لاحظتُ أن ملامح ابنتي، لا تزال واجمة رافضة التفاعل مع قصص، أسرعت في الانتقال إلى اللحظة التي ستدفعها للتعاطف مع معاناة معاوية، الذي ما أن تركنا سوف "بَحْري" وراءنا، حتى أخذ يسترسل في شكوى من أوضاع البلد، تضاعفت عندما مرورنا أمام "بلدية بحري"، ورؤية ازدياد صفوف البنزين في طلمبة "حِلَّة حَمَد"، التي كانت تصل حتى مستشفى بحري شمالًا، لتلامس صفوفًا أخرى أكثر طولًا، متفرعة من طلمبة الصَّبابي جنوب جامع المتولي.

وبلعتُ ريقي وأنا أستشعر تضاعف حزني على الشاب الواقف أمامي، عند تذكر تشنج ملامحه وغضبه وهو يسب البلد ويلعنه لتعمده إهانته، ليس فقط بإهماله توفير فرص العلم للشباب بعد التخرج، ولكن أيضًا بتعمده تكسير مجاديفه، ومنعه من مواصلة شق طريقه بمفرده، وهو يرى طاقته تُهدر وزمنه الثمين يضيع في الوقوف في صفوف البنزين بدل قضائه في العمل وكسب رزقٍ يمكنه من تغطية نفقات مراجع الطب لأخته اليتيمة، وأدوية الضغط والسكري لأمه المريضة، وتوفير القليل الذي يسمح له بالزواج مع حبيبته التي تنتظره مند أربع سنوات، وتحارب من أجله ليل نهار حتى لا تخضع لضغوطات أهلها لكي تتزوج من رجلٍ غني يكبرها بعشرين عامًا.

وعنما رأيتُ أن وجوم سُكَيْنَة لا يتزحزح مع حكاياتي، تفاقم شعور بالعجز من إيجاد وسيلة تعيدها سيرتها الأولى: صبوحة مملوءة بالتفاؤل والمرح، تجمع جاراتها بحماسٍ في فناء الحوش الوسيع أو في الصالون، لاحتساء الشاي والقهوة لتبادل الأفكار وإيجاد طرقٍ تساعدهم على تدبير معيشتهن وتنظيم وضبط "الصندوق" أو "الجمعية"، أي المبلغ المتفق اخراجه شهريًا، ليجمع وتتناوب على أخذه كل واحدة حسب احتياجها ليساعدها في منصرفات كبيرة كزواجٍ أو ختانٍ أو مصاريف مدرسية وغيرها.

وتضاعف ألمي لرؤيتها تتعمد إطالة البقاء في حداد أفقدها في ثلاثة اشهرٍ نضارة وجهها وأورثها هالاتٍ سوداء وشعرٍ أبيضٍ اشتعل فجأة فوق صدغيها، جعلاها تبدو عجوزًا في الثمانين رغم أنها لم تتجاوز الخمسين بعد.

وأصابني الغم تحسرًا على صبرها وشجاعتها اللذان أعاناها، قبل أربعة عشر عامًا، على التركيز في تربية بنتيها وابنها، بعد موت زوجها في أحداث الشغب التي سادت مدينة الخرطوم عند انتشار خبر موت الزعيم الجنوبي جون قرنق.

في ذلك الوقت، وفور خروجها من عِدتها، تحزمت سكينة لتؤدي دور الأم والأب برضى. فكانت تغسل وتكنس وتطبخ وتكوي الملابس وتراجع الدروس، وتذهب لحضور اجتماعات أولياء الأمور في المدرسة، وتداوم في علمها في "مَحَلِّية بَحْري"، وتواظب على زيارة المقابر وقراءة سورتي "ياسين" و "المُلْك" على قبر زوجها، بعد تجهير وجبة الطعام الأسبوعية وتقديمها للطلاب المقيمين في مسيد جامع "السيد علي الميرغني"، كصدقةٍ جاريةٍ على روحه.

كل ذلك الثبات ضاع صبيحة التاسع والعشرين من شهر رمضان، بعد انتشار خبر فض الاعتصام أمام القيادة.

ذلك الثلاثاء من شهر يونيو، دخلت سُكَيْنَة في حالة هستيرية، لعدم معرفتها إن كان ابنها حيًا أو ميتًا. ولم تترك مشرحةً ولا مستشفىً في الخرطوم إلا وذهبت إليها. ولما يئست من لقائه ميتًا، راودها أملٌ في أن يكون ما يزال حيًا في إحدى زنازين العساكر أو المعتقلات السياسية. لكنها لم تكن تدري إلى أين تذهب بعد حالة الفزع والفوضى التي سادت العاصمة المُثَّلَثة، بعد المجزرة التي تلاها انقطاع في الانترنت، لتنقطع معه كثير من سبل الاتصال.

وانطفأت شعلة الأمل سريعًا عن قلبها، مع ظهور جثة ابنها في منطقة "الفكي هاشم" بشمال الخرطوم-بَحْرِي، رابع أيام العيد الذي لم يكن عيدًا، بل مأتمًا أطلق عليه اسم "عيد شهيد".

وكفنت سُكَيْنَة جثمان ابنها بصمتٍ وصبرٍ أدهشا الجميع، وكنت الوحيد الذي أعلم أن وراء ذلك الصمت براكين لا بد وأن تنفجر يومًا.

أخرجني معاوية من سهومي بافتعال سعال، فالتفتُ نحوه وسرحتُ في ملامحه المتقلصة، أنقب في جعبتي عن كلمات يمكنها إخراج ابنتي من كهف ظلمات حزنها العميق. وبعد برهة، تنحنحتُ والتفت نحو سُكَيْنَة وباغتها بسؤالٍ إن كانت تظن نفسها أفضل من رسول الله. فردت بسرعةٍ: "صلى الله عليه وسلم"، واستفهمت، سبب افتراضي وسؤالي. فأجبت بترددٍ:

-
لأن رسول الله الذي زُرتِ قبره، وتنتظرين شفاعته يوم القيامة، فقد فلذة كبده أيضًا، وحزن وبكى، واكتفى بقول: "إنَّ العَيْنَ تَدْمَعُ، والقَلْبَ يَحْزَنُ، ولَا نَقُولُ إلَّا ما يَرْضَى رَبُّنَا، وإنَّا بفِرَاقِكَ يا إبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ".

فحدجتني بنظرةٍ لائمةٍ، ثم انفجرت في نحيبٍ أقوى، قاومتُ ألا يُضعفني حتى أواصل:

-
يا سُكَيْنة، الله لن يرضيه أن تهدري وقتك في البكاء اعتراضًا على استرداده لأمانة أهداك إياها، فتضيعي وظيفتك في الحياة، وتحقيق خلافته في الأرض.

ففركت عينيها بقسوة وطالعتني بجمرتين، أحرقتاني وأنا أتابع:

-
صدقيني بأن هنالك كثير من النساء الثُكالى يعانين مثلك لكنهن سلمن أمرهن لله، وآمنَّ بأن الأقدار شاءت أن تُروى هذه الأرض بدماء أبنائهن، شهداء ثورة ديسمبر لتمهد طريق الحرية والديمقراطية لأجيال قادمة، واطمأننن بأن العدالة ستأخذ مجراها، وأن القانون سيعاقب مرتكبي جريمة فض الاعتصام عاجلًا أم آجلاً.

ولذتُ بصمتٍ وجيز عند تفاقم غصتي، ثم التفتُ نحو معاوية لأجده واقفًا كصنم مطأطأ الرأس زام الشفتين دامع العينين.

ولما التفتُ نحو سُكَيْنة، وأحسستُ بوشك انفجارها في نوبة نحيبٍ جديدة، تعمدتُ مباغتتها بالاستفهام إن كانت ما تزال مصرة على مضغ كبد قاتل ابنها. فطال صمتها واتسعت حدقاتها لتطالعني بذهولٍ بينهما يدها تعبث بثوبها تارةً، وتارة تصعد لتمسح دموع عينها. فتنهدتُ بعصبية، ورجوتها أن تستغفر الله، فقالت: "أستغفر الله"، فاستغفر معاوية وراءها واستغفرتُ بدوري. ثم سألتها إن كانت تذكر ردة فعل جلال الدين الرومي بعد اكتشافه أن صديقه ومعلمه شمس التبريزي قد قٌتل وألقي في البئر. فهزت رأسها بالإيجاب وفاض نهر دموعها من جديد، فواصلتُ:

-
أما زلتِ مغرمةً بجلال الدين الرومي واشعاره التي كم استشهدت بها في جلساتك مع صديقاتك لتكلميهم عن مؤلفاته: "المَثْنَوي"، و"الرباعيات"، و"كتاب فيه ما فيه"؟

وكنت أعرف الإجابة، وإلا لما كنت لأتعمد تذكيرها بقصائد ("أنين الناي"، و"قلبك من سيقودك"، و"أولئك الذين احترقوا بنار الخريف"، و" لا رفيق سوى العشق")، التي انشدناها كثيرًا أثناء تناول القهوة تحت ظل الضحى، وشرب الشاي بالحليب بعد صلاة المغرب في الحوش قرب شجرة الريحان.

ولما لانت ملامحها، مددت يدي ومسحتُ على رأسها بحنانٍ، وقلتٌ بتردد:

-
الخيار يعود لكِ يا ابنتي. إما أن تواصلي السير في طريق هند بنت عتبة وتبحثي عن قاتل ابنك لتلوكي كبده لتشفي غليلك، الذي لن يشفى ابدًا. وإما أن ترضي بقضاء الله وقدره، وتصاحبي ألمك وحزنك لتخرجي من داخلك أنوارًا تبدد ظلمات جرحك، فتصبحين بلسمًا لمن حولك، كجلال الدين الرومي الذي أدخلت قصائده إلى الإسلام كثيرًا من الغربيين عندما أوضحت لهم أن إله الإسلام ليس ارهابيًا ولا دمويًا، بل إله محبة وسلام ورحمة، يحرق نوره قلب العاشق، فتتفتح بتلات النورانية في داخله.

فعاد نشجيها يرتفع، فواصلتُ بآخر رمقٍ:

-
ولتعلمي أن قاتل ابنك ليس شخصًا واحدًا من السهل الظفر به وإخراج كبده لكي تلوكيها، وإنما عصابة لن تفلت طويلًا من يد القانون الذي سيأخذ لك حقك وحقوق جميع المظلومين.

فهمهمتْ بألم:

-
لكن أصبر لمتين يا أبوي؟ خلاص غلبني ما قادرة استحمل النار الجواي دي.

فضغطتُ على يدها وأكملتُ بوهنٍ:

-
تصبري إلى آخر رمق يا ابنتي. لان طريق الصبر يحتاج نفسًا طويلًا كنهر النيلِ، أو أطول. ويتطلب روحًا متيقنة بأنه لن يصيبها إلا ما كُتِب عليها، لأن كل المصائب والأحزان ما هي إلا أسباب لتحقيق مشيئة الله وقدره.

فكانت تلك الجملة هي ما أعاد إلى سُكَيْنَة سكينتها وإيمانها وصبرها، وجعلتها تكفكف دموعها بتسليم ورضى، وتقبل يد معاوية الممدودة نحوها، لترافقه للداخل، بعد أن أقسم عليها أن يساعدها في أعداد الطعام لكي تلحق وتكرم صديقتها، ولكي يفوز هو بالغداء معنا بدل الذهاب وإضاعة الوقت في صفوف البنزين.

 

     **-**

تسنيم 

باريس 3 يوليو 2020

12:48


الثلاثاء، 2 مارس 2021

قِصَّة قَصِيرة: أنْـشُـودة الألم

بقلم/ تسنيم طه



التقيا، بينما السماءُ ترسلُ آخر زخات المطر، والسحب الزرقاء تنصهرُ في أطياف شمس الاصيل البرتقالية، وميدان "الجمهورية" يغلي بهتافات الناس الغاضبة تعبيرًا عن قرفٍ فاقمته حالة التأزم، المستمرة منذ أكثر من أسبوعين بسبب اعتصامات سائقي القطارات والحافلات والباصات العامة، بعد أن دعتهم النقابة العمالية للإضراب رفضًا لمشروع قانون نظام التقاعد الجديد.

بتحنانٍ ولهفةٍ، وكأنها المرة الأولى التي يلتقيان فيها، تفرس كل منهما في وجه الآخر. وبفرحٍ وهيامٍ تعانقت نظراتهما لتنشر في دواخلهما أمانًا مؤقتًا، سامحةً لأرواحهما أن تنهل من نبع ذلك العناق الحميم لمقلٍ حددتها الهالات من فرط الأرق ونيران الأشواق. وبعفويةٍ، تشابكت أيديهما ليسيرا جنبًا إلى جنبٍ، ليصغيا لذلك الصمت المجلجل في دواخلهما، الواقف حاجزًا بينمها، القاطع لسبل التواصل، إلا عبر العيون المشتاقة ودفء الانامل المرتعشة.

وكمدخلٍ للحديث، أبدى كلٌ منهما رأفته بحال هذه الجموع ولحاله أيضًا، بعد طفح الكيل من تكرر النهوض باكرًا كل صباحٍ أكثر من ساعتين من المواعيد المعتادة، من أجل المكابدة مع المكابدين، والمزاحمة مع المزاحمين في الصعود على متن القطارات المحدودة، التي لم تعد تسع تكدسات البشر فيها كتكدس السمك داخل علبة الساردين.

في العام الماضي، عندما التقيا في هذه الساحة التي أصبحت رمزًا للتعبير عن الاحتجاجات في باريس، وفي زمان يشبه مساء هذا السبت البارد من مساءات شهر ديسمبر، صادفا تظاهرات "ذوي السترات الصفراء" الذين كانوا يواصلون احتجاجاتهم الأسبوعية اعتراضًا على ارتفاع ضريبة الوقود، وعلى سياسات أخرى للرئيس الفرنسي الشاب.

واليوم، ها هما، يصادفان المتظاهرين.

وليهربًا من ضوضاء ساحة "الجمهورية"، اتجها شرقًا ثم شمالًا بمحاذاة قنال "سان مارتان"، بحثًا عن استرخاء على ضفاف المياه، يعيد لهما تفاصيل نزهات رومانسية سابقة وذكريات تنزهات في شوارع باريس دامت أكثر من عامين، علقا فيها بتلقائية على هيئات الناس وأنواع الكلاب، وماركات السيارات وجمال طراز المباني "الهوسمانية - Haussmanniens "، وتبادلا فيها الآراء حول مفاهيم العدالة والديمقراطية والحرية، وتوافق الأبراج وانسجام الأرواح، والحب والسعادة الزوجية.

 

من خطواته المضطربة، أحست باستعجاله، فأصابها غمٌ كسف ابتسامتها مع استشعارها بأنه سيخذلها اليوم أيضًا. ولما أحس هو بتغيير طاقتها، وهم بالتبرير ليطمئنها بأنه سيظل يشاق إليها ويتألم بسبب بعده ومسؤولياته الأخرى التي تشغله عنها، أخرسته نظرتها الكسيرة، الناضحة عتابًا وأشواقًا عقدت لسانه، ورمته في معاناة وتمزقٍ بين قلبٍ يتضرع وعقل تنهشه الأفكار المخوفة من الغد.

 وأخذ يتلفت حوله، ليتشاغل عن شعوره بالعجز، ويحدق في وجوه البارسيين السائرين كآلاتٍ يحملون في طياتهم أشباح حياة وهم يهرولون، كلٌ يغني على ليلاه: هذا يحمل خبزًا تحت ابطه ويشتم زوجته في هاتفه النقال، وذاك ينزه كلبه "الكانيش" الأبيض، وأولئك يتسكعون برفقة أطفالهم، وتلك تركض بملابس رياضية صفراء مثيرة.

ولم يخرجه من شروده، إلا اشتداد ضغطة يدها على يده لتسحبه نحو الرصيف، وتمنع تقدمه نحو الشارع الذي أراد عبوره رغم إشارة مرور المشاة الحمراء، وازعاج احتكاك إطارات السيارة "البيجو" بعد أن ضغط سائقها على الفرامل بقوة ليتفادى صدمه. 

 

 فتراجع وتسمر مكانه، ثم التفت نحوها ليجدها تحدق فيه بحزنٍ وقلق. فبادلها النظرات والتنهدات وهم بالاعتذار عن شروده.

لكن في اللحظة التي فتح فمه، حركت هي شفتيها، فتوقف ليترك لها مبادرة كسر الصمت.  وظلا برهة كلٌ منهما يطالع الآخر بصمتٍ مهيب.

كانت ستتوسل:

-       قبل أن تتركني أتجرع ألم الفراق، ككل مرة بعد رحيلك، دعني أنظر اليك اليوم دقيقة إضافية من دون أن تكون مستعجلاً!

وكان سيعتذر بعد قراءة العتاب في مقلتيها:

-       سامحيني وصدقيني بأنه ليس معي أحد إلا أنتِ! ولكنك يا عزيزتي أتيتِ في زمان سُلبت فيه إرادتي، وصرت مكبلاً بقيود اجتماعية، وأنا الذي قبل عشر سنوات، كنت أقسم بتغيير العالم.

 فكرت هي، وأثنت نفسها:

-       لا جدوى من تأجيل جرعة الألم دقيقة إضافية، ما دام أن قلبي، في كل الأحوال، على موعدٍ مع الرقص على رائحة النزيف.

 وفهم هو انسحابها، وأدرك بأنه لن ينجح في مداواة نتوءات الحرمان في عيني أصدق من عرف من النساء، وأعز من عشق قلبه. فأشاح بوجهه عنها لتقع عينه على عاشقين يتبادلان القبلات الحارة، لتراوده فكرة أن يفعل مثلهما ويأخذها في حضنه علها تسامحه على تلك المساحة الشاسعة بينهما.

وفجأة جاءته فكرة أخرى، تغريه أن يتناسى مهمة الذهاب لمحل "دَاغْتي-Darty" لشراء خلاطة "المونوكليس"، ليرافقها إلى شقتها الصغيرة في حي "بيل-ڤـيل -Belleville"، التي لم يدخلها منذ أكثر من شهرين. وأخذ يحلم بقضاء بقية الأمسية معها بهدوء بعيدًا عن صغب الشوارع والاحتجاجات، ليستمتع بدندنتها لأحد اغنيات مطربيها المفضلين (عبد الحليم حافظ وفرانك سيناترا وجورج وسوف ومحمد قنديل وإلهام المدفعي، أو شارل أزنافور) اثناء تحضيرها للعشاء الذي يحبه (شرائح سمك السلمون والبروكلي بالفرن)، قبل أن يهنآ بليلة رومانسية ينسيهما أمانها مخاوف السنوات الماضية والقادمة، فيستيقظا متأخرين في صباح غدٍ الأحد ويخرجا لتناول الإفطار في أحد القهاوي المطلة على مطاعم اليهود التونسيين المنتشرة على الشارع الرئيسي، ليستمتعا برؤية حركة الحياة تدب في حي "بِيلْـڤِـيل-Bellevile" الشعبي، حيث تسكن أكبر جالية صينية في باريس،  ليعلقا من جديد على غرابة تلك الجالية المنغلقة على نفسها، التي تعمل بنشاط نحلٍ، لا يشبه إلا نشاط الجالية الهندية المتمركزة في الدائرة العاشرة بجوار محطة الشمال "Gare du nord".

كانا كثيرًا ما يتناقشان حول اندماج الجاليات الأجنبية في المجتمع الفرنسي، ويخرجان بنفس النتيجة: أكثر جاليتين ترهقان خزينة الدولة هما الجالية العربية والجالية الأفريقية دون أن يفهما سبب تكاسلهما واعتمادهما على الإعانات الاجتماعية طوال الوقت، والإصرار على تضييع الوقت أمام التلفاز، أو في أشياء أخرى، ثم تجديد الشكوى من العنصرية. 

تمنى أن يرافقها ليستعيد معها كل تلك اللحظات وتلك الحوارات، لينسى قساوة الروتين في حياته.

لكن هيهات هيهات.

فأمنياته لن تتحقق وهو يتوقع في أي لحظة أن تتصل به زوجته الأولى لتسأله إن كان قد وجد الخلاطة في محل "داغْتي-Darty " بساحة "الجمهورية". فبلع ريقه لانزال الغصة، وقتل أمنياته في مهدها، مخرسًا ضميره لكيلا يتذكر خذلانه المستمر لفتاة تزوجها على سنة الله ورسوله، وعجز عن إعلان زواجه بها، ليس فقط خوفًا من شراسة زوجته الأولى ووالدها الواصل، ولكن أيضًا من عقاب القانون الذي يمنع التعدد، والذي قد يرمي به خارج الحدود ليعيده إلى وطنه أرض الحروب والنزاعات القبلية، إذا ما ثبت انتهاكه لقوانين علمانية فرنسا.

 وتشاغل عن ألمه بمراقبة بشرٍ يسيرون مسرعين على جانب الطريق في اتجاه شارع "جْيُول فيغي-Jules Ferry". ثم أغمض عينه برهة ليرى من ورائهما ذكرى لقائهما الأول في ساحة "بلاس دي فوج-Place des Vosges".

 ذلك اليوم حكت له عن ذكريات طفولتها في قرية "ميت بدر حلاة"، في ضواحي مدينة المنصورة شمال القاهرة. وحكى لها عن طفولته في قرية "الحمائر" بالقرب من مدينة "تّعِز" جنوب العاصمة صنعاء. ثم اكتشفا تشابه مصائرهما: طفولةٌ مميزةٌ في قريةٍ هادئةٍ بجوار جدة حنونة تثري بحكايتها وسط حيوانات أليفة من دجاجٍ وأرانبٍ وماعز ونعاج، ثم نبوغٌ في الدراسة مهد للحصول على منحة السفارة الفرنسية، ثم دراسةٌ ثم تدريسٌ في مدرسة "الإزيت-Isit" للترجمة بجامعة السربون، ثم أحلامٌ تتحدى المسافات والقارات وتطير وراء شلالات "نيجارا" جنوب كندا ومضيق "ماجلان" جنوب شيلي.

في ذلك اليوم، اكتشفا أيضًا تشابه هوايتهما: عشقهما لعبد الحليم حافظ وفرانك سيناترا وجورج وسوف ومحمد قنديل وإلهام المدفعي وشارل أزنافور. وحبهما لأكلات شعبية من مختلف أنحاء الوطن العربي، يتقنان طبخها ولا يملان من أكلها يوميًا (الكشري المصري، والسَّلْتة اليمينة، والدولمة العراقية، والكبسة السعودية، والتبولة اللبنانية، والكِبة السورية، والأموش الكويتية، والويكة السودانية، وكسكسي شمال افريقيا).

في ذلك اليوم انبهرا من تطابق آراءهما حول الفن التشكيلي والسياسة، ومن عشقهما لشخصية جمال عبد الناصر والاتفاق في تشبيه دوره في القومية العربية بدور سيمون بوليفار، القائد الفنزويلي، الذي ساهم في تحرير الكثير من دول أمريكا اللاتينية من الاستعمار الاسباني.

في ذلك المساء الصيفي، وعلى ممرات ساحة "بلاس دي فوج" تناقشا حول اللوحات المنتشرة على الغاليري وعن جمال الرسم بالألوان الزيتية وبألوان الإكريليك وعن فنون الفن التشكيلي، وتبادلا الاعجاب بتقليدٍ بديعٍ بأقلام الرصاص يحاكي لوحات عالمية كلوحة "الرجل الفيتروفي" للإيطالي ليوناردو دافنشي، ولوحة "الزرافة المحترقة" للإسباني سلفادور دالي، ولوحة "عند بوابة الخلود" للهولندي فان خوخ. 

 وعندما ستتكرر لقاءاتها في هذه الساحة الناضحة بالفن، وتشتعل شرارة الحب بينهما، سيجدان أفكارًا خلاقة لتتويج حبها بحفل زواج بسيط سيتشاركان فرحته بحضور شاهدين فقط، وجارة واحدة من أصولٍ جزائرية، قبل أن تتطور أحلامها ويبدأ في التفكير بجدية في كيفية ايجاد عشٌ زوجي أوسع يجمعهما معًا ويعرفه الجميع، فيغنيها سرقة الأوقات تكاسلاً في أرائك المقاهي، أو تنزهًا على كورنيش نهر السين تحت "برج إيفيل"، أو تسكعًا في شارع الشانزليزيه لتذكر أغنية "جو داسان- Joe Dassin" التي تحمل اسم أشهر شارع في باريس "شانزليزيه" أثناء تفرسهما في واجهات مقاهيه المزدحمة بعرب الخليج،  أو في الحدائق العامة وسط صرخات ولعب الأطفال الفرحين بتحريرهم من يومٍ دراسي طويل.

ألمٌ فظيعٌ داهم صدره، وهو يستشعر ضعفه وجبنه، بسبب الثقة التي أعطته إياه وعجز في أن يكون محلها، لينصفها ويعطيها حقوقها كزوجةٍ شرعية تُلي القرآن على رباطهما ليعمق قدسية حبها له وعاطفتها الجياشة تجاهه وليضاعف فرحتها بتلك المراسم البسيطة. 

بألمٍ، غاص في نظرتها المُشككة المُحبَطة الحزينة. وفهم ألا جدوى من الاعتذار لأن عذره سيكون أقبح من ذنبه، ولن يلقى قبولًا في نفس زوجته الحبيبة التي كم أشبعها إحباطات خلال العامين الماضيين، منذ اقترانهما ببعض.

فلاذ بالصمت، ولاذت هي.

وخفض بصره إلى الأرض، وقلدته هي.

وفي نفس اللحظة، بلع كلٌ منهما ريقه ليخفف من مرارة الغصة.

 وتناغمت زفراتهما الحارة المتألمة.

وبينما قرص الشمس يتسلل من بين السحب الكثيفة، راكضًا نحو الأفق، قفلا راجعين نحو ساحة الجمهورية، لينفذ هو المهمة التي كفلته بها زوجته الأولى، ولكي تبحث هي في داخلها عن إيجاد عذر له يغفر له خذلانها من جديد، لحين أن تعود للبيت لتملأ وحشة الليل بقراءة رسائلهما القديمة. 

واصلا السير بصمتٍ مستحٍ وآمالٍ مكلومةٍ، ثم افترقا ليواجه كل منهما أنشودة ألمه المعهودة.  

      

 ***

تسنيم

باريس/ 2 فبراير 2019

15:44

***-** 

اللوحة للفنانة البولندية/ تمارا دي لامبيكا