الخميس، 18 مارس 2021

ربما يعطون الشيطان مستحقاته: نص غير منشور للطيب صالح

ترجمة حسين مصدّق 



 في العام 2003 ظهرت رواية الطيب صالح "موسم الهجرة الى الشمال" للمرة الثانية في لندن عن دار بنقوين للنشر(Penguin)، فكتب لها صالح تقديماً موجزاً تحدث فيه عن علاقته الجدلية بهذه الرواية وكيف انفصلت عنه مع مرور الزمن والتحولات السياسية. وفيما كنت بصدد الإشتغال على الدورالذي لعبه الطيب صالح في القسم العربي للبي بي سي (1) قرأت هذا التقديم، الذي بدا لي فيه من الطرافة الكثير، وربما أشياء أخرى لم نكن نعرفها عن الكاتب وروايته، بعضها قد يحدث بعض الإرتباك لدى الكثيرين.

المترجم

                                                                                      ***

عندما ظهرت روايتي "موسم الهجرة إلى الشمال" لأول مرة في سبتمبر 1966، شعرت بشيء من عدم الارتياح. كنت في الخرطوم في ذلك الوقت معارًا من طرف البي بي سي  للعمل لمدة ستة أشهر مع وزارة الإعلام السودانية. كان المناخ العام في الخرطوم في تلك الأيام مبهجًا، لأن الشعب السوداني قد أطاح للتو بالحكومة العسكرية للجنرال إبراهيم عبود في انتفاضة شعبية ملحوظةلم يكن هناك إراقة دماء، وقبل الجنرال عبود، الذي يحسب له قيامه على الفور بتسليم سلمي للحكومة إلى الأحزاب السياسية.

نتج عن التغيير طفرة كبيرة في الطاقات الفكرية ، سياسية وثقافية.  وسرعان ما برزت مجموعتان إلى الواجهة: الشيوعيون، الذين كانوا بالفعل قوة سياسية هائلة ، ليس لأن لديهم قاعدة شعبية واسعة ، ولكن لأنهم كانوا متضامنين بشكل وثيق، ومنظمين جيدًا وواضحين للغاية. المجموعة الثانية كانت تتمثل في الإسلاميين الذين بدأوا في الظهور كقوة سياسية صاعدة.  لم تجد أي من هاتين المجموعتين الرواية مطابقة لرغباتهم. كلاهما أدانها صراحة، ولكن لأسباب مختلفةأدانها الشيوعيون لأنها نشرت في مجلة أدبية صادرة من بيروت "حوار"، التي كان يتم تمويلها من قبل هيئة تسمى "مؤتمر الحرية الثقافية" والتي مولت أيضا المجلة الأدبية  (لقاء (Encounter في لندن.

اكتشف فيما بعد أن تلك المنظمة تم تمويلها سرا من قبل وكالة المخابرات المركزية الأمريكية. كان لدي بالفعل قصتان قصيرتان منشورتان في (Encounter) يضاف إلى ذلك أنني أشتغل في القسم العربي للبي بي سي، الناطقة بلسان الاستعمار البريطاني من وجهة نظر اليسار العربي. كل هذا من شأنه أن يجعلهم لا يكنّون لي شيئا من الود. كنت على علم بهذه المضاعفات، ومع ذلك فقد نشرت الرواية في مجلة حوار،وهي مجلة مشبوهة، بسبب إحساس بالتضامن مع صديق. رئيس تحرير جريدة حوار المرحوم توفيق الصايغ كان صديقاً عزيزاً لي وشاعراً فلسطينياً مرموقاً. أصبحنا أصدقاء عندما كنت أعمل في هيئة الإذاعة البريطانية في لندن وكان هو يدرّس اللغة العربية في كامبريدج. كنت قد وعدت بالفعل أن أعطيه الرواية لنشرها في مجلته. وبحلول الوقت الذي اكتملت فيه روايتي، أصبح توفيق الصايغ  شبه منبوذ بين المثقفين في العالم العربي حيث كانت الحماسة القومية في أوجها في المنطقة.

ظهرت الرواية في العدد قبل الأخير من "حوار" لأنه بعد استقالة ستيفن سبند، رئيس تحرير مجلة (Encounter) والاعتداءات المستمرة على المجلة وضده شخصياً ، شعر توفيق صايغ أنه لا يستطيع الاستمرار. طوى المجلة وذهب للتدريس في بيركلي ، حيث توفي بعد ذلك ببضع سنوات.

ربما يكون من الجدير بالذكر أن أحد طلاب السيد صايغ في بيركلي كان الجنرال بيليد ، الذي ذهب بعد تقاعده من الجيش الإسرائيلي إلى بيركلي ليحضر درجة الدكتوراه في الأدب العربي. وقد أصبح أخيرًا أستاذًا للغة العربية في الجامعة العبرية بالقدس وناشطًا بارزًا في حركة السلام في إسرائيل.

لم أقابله أبدًا ولكن في إحدى زياراته إلى لندن ، أحضر لي السيد صايغ خطابًا لطيفا للغاية من الجنرال بيليد يعبر فيه عن إعجابه الكبير بعملي، خاصةً  "موسم الهجرة إلى الشمال". بعد بضع سنوات عندما كنت أعمل في اليونسكو في باريس ، تلقيت دعوة من البروفيسور محمد أركون، الباحث الفرنسي الجزائري المعروف، لتناول الغداء مع الجنرال في جامعة السوربون. يؤسفني جدا حتى يومنا هذا أنني لم أرد على رسالته ولم أتمكن من مقابلته مع الأستاذ أركون.

على الرغم من احتدام الأجواء الثقافية والسياسية في السودان عام 1966، عندما ظهرت الرواية لأول مرة ، لم يتم حظرها. لقد استغرق الأمر أكثر من خمسة وعشرين عامًا حتى يتم حظرها من قبل النظام الحالي (نظام عمر البشير). لكن في عام 1967 حدثت الهزيمة العسكرية الساحقة التي ألحقتها إسرائيل بالعرب فهزّت أشياء كثيرة، من بينها الإيمان والأيديولوجيات السياسية الحالية إذ بدأ المزيد  من الناس في التساؤل والتعبير عن شكوكهم علانية.

لسبب ما، تم دمج عملي في عملية الاستجواب الفكري هذه. بدأ الناس يرون في الرواية أشياء معيّنة لم يروها من قبل أو لم يهتموا برؤيتها. يبدو أن الإحساس الكامن باليأس والكآبة في الرواية قد تزامن مع المزاج العام لليأس في الإنتلجنسيا العربية في كل مكان، وخاصة في مصر.                  

هناك  ناقد مصري بارز وشجاع، هورجاء النقاش، كان قد تجاهل الاتهام القائل بأن الرواية ظهرت في مطبوعة ممولة من وكالة المخابرات المركزية، وكتب مقالاً بالغ الثناء في مجلة أسبوعية واسعة الانتشار. بعد ذلك بوقت قصير ، ظهر العمل في شكل كتاب، مما أثار ذعرًا كبيرًا لدى المؤسسة الدينية التي هاجمته في المساجد على أنه كتاب "فاسد" ويعتبر "إهانة للدين" و "إباحيّ" بالفعل. كانت الضجة في مثل هذا الحد لدرجة أن وزارة الإعلام المصرية، التي كانت الناشر، قامت بسحب الكتاب من المكتبات. لكن العديد من النسخ كان قد تم بيعها.

ظلت الرواية ممنوعة في مصر قرابة ثلاثين عامًا، حتى ما قبل ثلاث سنوات ، عندما أعادت مؤسسة الكتاب المحترمة، وهي أحد فروع وزارة الثقافة، نشرها. قاموا بإنتاجها في إصدار منخفض السعر من مائة ألف نسخة وبيعت في غضون أيام.

كانت دار نشر رائدة في بيروت (دار العودة) تنشر روايتي منذ عام 1970. ووزع الناشر مئات الآلاف من النسخ في جميع أنحاء العالم العربي. (وتلك هي حالة النشر في العالم العربي لدرجة أن ذلك الناشر لم يرى أنه من الضروري أن يدفع للكاتب أي حقوق للتأليف). صحيح أنني أصبحت معروفاً في كل مكان ولكن بالطبع لا عزاء لكاتب في شهرة دون مقابل.

وهكذا استمر الكتاب في طريقه ، كما تفعل الكتب ، منفصلا عني تقريبًا. يتم حظره من وقت لآخر في هذا البلد أو ذاك وبعد ذلك يتم إلغاء حظره وهو محظور بشكل دائم في جميع دول الخليج. إنه محبوب ومكروه ومهاجم وممدوح. يتم تدريسه في الجامعات وتكتب عنه أطروحات الماجستير والدكتوراه . من البديهي أن يجعلني ذلك النجاح الذي تحققه روايتي سعيدًا وهذا ما يفعله بطريقة ما.

 الترجمة هي قصة أخرى مثيرة للاهتمام - تمت ترجمتها على نطاق واسع إلى عشرين لغة حتى الآن. كانت الترجمة الأولى إلى الإنجليزية من العربية ، بقلم عميد المترجمين ، دينيس جونسون ديفيز. ظهرت في كتب هاينمان التعليمية بعد وقت قصير من نشرها باللغة العربية. لذلك يجب أن أشكر جهود Denys) Johnson-Davies للترويج للرواية التي تجاوزت واجبه كمترجم ، وكيث سامبروك وجيمس كوري اللذان كانا مسؤولين عن سلسلة الكتّاب الأفارقة التيكانت تنشرها دار (Heinemann) في ذلك الوقت.

قوبلت الرواية ببرود عندما ظهرت لأول مرة في لندن وكان هناك بعض التقديمات القصيرة. أتذكر منها تقديما سيئًا ومحتقرًا بشكل خاص في الملحق الأدبي لصحيفة التايمز، والذي نقد صاحبه الرواية بغطرسة ووصفها بأنها "عرضيّة'' (episodic) وتلك حسب رأيه نقطة ضعف شائعة في كل الكتابات العربية. كان أداؤها أفضل بكثير في الترجمة الفرنسية التي صدرت بعد فترة وجيزة من الترجمة الإنجليزية. كان لها مقدمة سخية من قبل المستعرب المرموق ، الراحل جاك بيرك، من مؤسّسة (Collège de France) المرموقة. وكان هناك مراجعات مميزة للغاية في معظم الصحف الكبرى.

 السيد فرانسوا مورياك كتب "لم نقرأ شيئًا كهذا من قبل، نحن الذين قرأنا كل شيء". وهو ما جعلني أتساءل كيف أن رواية توصف في لندن بأنها تافهة للغاية ويقع الترحيب بها بمثل هذه العبارات المتوهجة في باريس! (2)

أما المترجم الروسي فقد إتصل بي شخصيًا ليخبرني أنهم طبعوا مليون نسخة من الكتاب، مما جعلني سعيدًا للغاية بطبيعة الحال إلى أن تابع ذلك بالقول إنه للأسف لن يتم تقديم أي عائدات لأنهم لم يكونوا (في ذلك الوقت) من الممضين على اتفاقية برن بشأن حقوق النشروالتأليف.

وفي خصوص الترجمة العبرية، كما أخبرني الناشر في رسالة ، كانت الرواية من أكثر الكتب مبيعًا. لقد قاموا بنشرها بدون إذن، وعلى الرغم من أنهم عرضوا التدارك بعد ذلك، إلا أنني لم أتابع الأمر لأن الشروط المعروضة صدمتني ولم تكن مرضية تمامًا. لكنني كنت سعيدًا جدًا لظهورها بالعبرية. فكرت، ربّما، حتى ولو بحيزّ صغير جدًا، أنني قد قد ساهمت في قضية السلام بين العرب والإسرائيليين. لاقت الترجمة الألمانية استحسانًا كبيرًا. ليس لدي أي فكرة عن المصير الذي لاقته في الصين أو اليابان، و في حقيقة الأمر، ولا في أي دولة من دول أوروبا الشرقية. لسبب ما، سارعوا جميعًا لنشر الرواية. الآن بعد أن أصبحوا رأسماليين، ربما يعطون الشيطان مستحقاته!

 لكنني لست بصدد التشكي.. صحيح أنني جنيت القليل جدًا من المال من هذه الرواية أو أي من أعمالي الأخرى، سواء باللغة العربية أو أي ترجمة باستثناء القليل من هاينمان ومن لينوس، ناشري الألماني، أو من ناشري الفرنسي ''سندباد''. لكنني شعرت بسعادة كبيرة من نواحٍ عديدة أخرى، لأن كتبي جلبت لي العديد من الأصدقاء من جميع أنحاء العالم. أخبرتني سيدة فرنسية لطيفة ذات مرة أنها التقطت الكتاب بالصدفة من مكتبة باريسيّة. بدأت تقرأه في المترو وأصبحت منشغلة للغاية لدرجة محطتها قد فاتتها، وتلك مجاملة رائعة حقًا لأي كاتب. الآن ها أن (Penguin) تنشرالرواية وها أني ولأول مرة يكون لي في شخص المسّز كارولين داوني وكيلًا أدبيًا مهتمًا وفعالًا من PFD ، ربما سأبدأ في جني بعض الفوائد المادية من هذا السعي - الشاق وغير الموفّق فى كل الحالات-  ألا وهو الكتابة الروائية.

----------------------

(1)- Houcine Msaddek - BBC Arabic (1938-1995): Soft Power or Reithian Practice Abroad? 2021

https://doi.org/10.4000/rfcb.7056

 (2)- " تعقيب من المترجمعلى الأرجح أن الطيب صالح لم يطلع بصفة مباشرة على مقال مورياك فكان في ما نقل إليه خلط مورياك الأب و مورياك الإبن. والروائي الكبير فرانسوا مورياك توفي سنة 1970 أي عاما كاملا قبل صدور الترجمة الفرنسية لموسم الهجرة الى الشمال. والثابت أيضا أن كلود الولد الأكبر لمورياك، وهو كاتب معروف أيضا، كان قد نشر في صحيفة لوموند المسائية مقالا حول الرواية عند صدورها مترجمة عن دار ''سندباد للنشر'' وقد أشارت صحيفة لوموند ديبلوماتيك بتاريخ ديسمبر 1996 إلى ذلك المقال بهذا الإستشهاد القصير:

"Un monde réel et magique à la fois, dont Claude Mauriac disait : "Notre âme est rafraîchie, nos yeux sont lavés, nous n’avons jamais lu cela, nous qui avons tant lu."

 

 **-**

نُشر في موقع  " صواب الراي" بتاريخ 3 مارس 2021

لقراءة المقال من مصدره:

https://sawaab-arraii.com/ar/rbma-ytwn-alshytan-msthqath-ns-ghyr-mnshwr-balrbyt-lltyb-salh

السبت، 13 مارس 2021

قِصَّة قَصِيرة: كَنَهْرِ النِّيلِ ،،،أَوْ أَطْوَل

بقلم/ تسنيم طه

في البداية، عندما اندفعت نحوي بعينين محمرتين، ظننتُ أن دموعها بسبب تقشير البصل أثناء إعدادها لـ "مُلاح التَّقَلِيَّة"، الذي اعتادت تحضيره لنا كل أسبوع؛ لكي نفطر به سويًا مع ابنتيها قبل خروجي للصلاة الجمعة. لكن ظني خاب، لما اقتربتْ أكثر قبل أن ترمي بورقةِ "الفولسكاب" على حِجْري.

تجاوزتني قشعريرة، فسألتها بوجلٍ عن الأمر، رغم معرفتي بما يعتمل في داخلها. نظرت إليّ بعينين متورمتين وأقسمت بغضب أنها لن تترك حق ابنها يضيع، وأنها ستجد قاتله لتلوك كبده.  تنهدتُ وقلتُ بيأس: "وإن تعفوا خيرٌ لكم..." فقاطعتني بصوتٍ مختنق: "ولكم في القصاص حياةٌ يا أولي الألباب."

ألجمني ردها السريع؛ فلم أدرِ أي حجة يمكنها تجنيبي رؤيتها في نوبة انهيار عصبي جديد. وبعد تفرسي برهة في وجهها الشاحب، سألتها بيأسٍ كيف لم يخفف حجها لبيت الله الحرام وزيارتها لقبر النبي من ألمها؛ فتسلم أمرها لله. فانهارت جاثيةً عند قدميّ، غارقة في نشيجٍ مرير.

لم أعرف كيف أتصرف أمام تدافع جيوش الحزن نحو وديان روحي، كتدافع الماء نحو السهل من أعلى الجبل، إلى أن أخرجني من حالة عجزي وقلة حيلتي صوت محرك الرَّكْشَة الذي توقف أمامنا.

-         في شْنُو يا خالة سُكَيْنَة مالك بتبكي كدة؟ ومالك قاعدة في الواطة؟

سأل معاوية مستنكرًا فور قفزه من مركبته الصغيرة. لكن ابنتي لم ترد على سؤال صديق ابنها إلا بمزيد من الدموع. اقترب منها وهزّها بلطف، لكنها واصلت نحيبها. وعندما هزّها ثانية، وقفتْ فجأة وخطفت الورقة مني وقدمتها له بيد مرتعشة.

قرأ معاوية الورقة بارتباك، ثم صُدم عندما طلبت منه أن يوصلها بـ"رَكْشَتِه" إلى القصر الجمهوري الآن؛ لتسلم مذكرتها لرئيس الوزراء، وتطالبه بأن يأتي لها بحق ابنها

حاول تهدئتها موضحًا أن اليوم الجمعة، فزمجرت:

-          إذًا بكرة من الدّغش!

نكس رأسه ولاذ بالصمت، فحاولتُ تهدئتها بإخبارها أن رئيس الوزراء في "جوبا" ولن يعود قبل ثلاثة أيام، لكنها انفجرت في نشيجٍ جديدٍ خيب أملي وضاعف إحساسي بالعجز.

في تلك اللحظة، وبينما كان طفلٌ يلاحق كرته المتدحرجة تحت الكرسي الذي أجلس عليه تحت شجرة النيم الوارفة، توقف فجأة وتفرس في وجه سُكَيْنَة الباكي. وبعد التقاطه الكرة، توقف أمامها ثم أنشد:

"يا والدة ما تبكي.....خلي الوطن يبكي!

أنا حسي بيهو حزين".

هو مجرد طفل في السابعة، وكل ما فعله ترديد أحد هتافات الثورة التي تداولتْ بين الناس بعد حادثة فض اعتصام القيادة. لكن كلماته صبّت الزيت على نارٍ كنا نحاول أنا ومعاوية إخمادها. رمقته بنظرة حادةٍ جعلته يركض هاربًا. فعاد معاوية يكرر توسلاته:

-         يا خالة عليك الله ما تبكي... ولدك شهيد وهسه في الجنة. يا ريتنا كلنا لو مشينا معاهو، كان أحسن لينا من معاناة الوقوف في صفوف البنزين.

رفعتْ سُكَيْنَة عينيها نحوه بدهشة وسط دموعها. ولما شعر باهتمامها، استرسل في الشكوى من ضياع وقته في صفوف البنزين بدل العمل.

تنهدتْ سُكَيْنَة بعصبية. فالتفتْ إليَّ معاوية مطالبًا بشهادتي على طوابير السيارات الطويلة التي رأيناها في طريقنا، ليؤكد لها أن الذهاب إلى الخرطوم الآن سيكون ضربًا من الجنون.

تفرستُ في وجها بيأسٍ، واستعدتُ مشواري الصباحي، منذ خروجي من مسجد "القُبة" بعد صلاة الفجر مع انتشار شعاع الشمس في الأفق. واستشعرتُ امتنانًا، لتبيته ندائي ومرافقتي دون تضجر، وهو الذي اعتاد أن ينقل الجيران في "رَكْشَته" حيثما شاءوا ومتى ما أرادوا، شريطة ألا يجبرونه على عبور الجسور نحو أم درمان أو الخرطوم.

لذلك اشتهر بلقب "تاكسي القُبة" رغم كتابته بخط عريض على ظهر مركبته كلمة "كّدّراوِية"، إشارة لأغنية نور الجيلاني، والتي يقصد بها خطيبته الساكنة في حي "الكَدَرُو".

 

عند وصولنا إلى "المَلَجة"، حيث الجزارون بملابسهم البيضاء الملطخة بالدماء، استأذنني معاوية ليذهب ويتناول كوب شاي حليب بالزلابية (لم يتمكن من تناوله في البيت حتى لا يؤخرني) من بائعة شاي يلتف حولها نفر من الناس.

وعند عودته، بينما أنا أراقب التفاف الناس حول بضاعة جزار أصلع صلفٍ بضاعته رغم سوء معاملته، استعجل البائع ليحاسبني قبل الآخرين تقديرًا لكِبَر سني.

بعدها تجاوزنا جموع النساء برفقة أطفالهن حتى وصلنا إلى بائعي الخضروات، حيث انتقيتُ لها ما تحتاجه لإعداد أطباق الطعام: محشي، وكفتة، وبامية باللحم الضأني، وسلطة باذنجان؛ لإكرام صديقتها التي ستزورها لتناول غداء أخير معها قبل أن تسافر للالتحاق بزوجها في الخليج.

حكيتُ لسُكَيْنَة هذه التفاصيل حتى أشعرها أنني أهتم لأمرها ولموضوع غداءها مع صديقتها بعد قليل.

لكن رغم حكاياتي، ظلّت ملامحها جامدة. فحاولتُ استدرار تعاطفها بسرد معاناة معاوية، الذي استرسل في شكواه من أوضاع البلد لحظة مرورنا أمام "بلدية بَحْري"، إذ رأينا صفوف البنزين تمتد حتى مستشفى بحري، متفرعة من طلمبة "حِلّة حمد" وصولًا إلى طلمبة "الصّبابي"، جنوب جامع "المُتْوَلِّي".

كان غضب معاوية مشحونًا بالأسى؛ يرى طاقته تُهدر وزمنه يضيع في طوابير البنزين بدل قضائه في العمل لتأمين احتياجات أسرته: مراجع الطب لأخته، أدوية الضغط والسكري لوالدته، ونفقات زواجه من حبيبته التي تنتظره منذ أربع سنوات، رافضة ضغوط أهلها للارتباط برجلٍ غني يكبرها بعشرين عامًا.

حين لم ألحظ تغيرًا في وجوم سُكَيْنَة رغم قصصي، تفاقم عجزي عن إعادتها إلى سابق عهدها؛ امرأة مفعمة بالتفاؤل والمرح، تجمع جاراتها في فناء الحوش أو الصالون، لاحتساء الشاي وتبادل الأفكار حول تدبير المعيشة وضبط صندوق "الجمعية" الذي يساعدهن على مواجهة نفقات كبيرة كزواج أو تعليم أو ختان.

تضاعف ألمي حين رأيتُ سُكَيْنَة تصرُّ على إطالة حدادها على ابنها، حدادًا أفقدها في ثلاثة أشهر نضارة وجهها، وأورثها هالاتٍ سوداء وشعرًا أبيض فوق صدغيها، جعلها تبدو في الثمانين رغم أنها لم تتجاوز الخمسين.

تحسرتُ على صبرها وشجاعتها، فقد صمدت قبل أربعة عشر عامًا في تربية أبنائها بعد مقتل زوجها خلال أحداث الشغب التي سادت مدينة الخرطوم، فور انتشار خبر موت الزعيم الجنوبي "جُون قَرَنْق".

في ذلك الوقت، خرجت من عِدتها متحزّمةً للقيام بدور الأم والأب. فكانت تغسل وتكنس وتطبخ وتكوي الملابس تغسل وتطبخ وتراجع دروس أبنائها، وتحضر اجتماعات أولياء الأمور، وتداوم في "مَحَلِّية بَحْري".

ورغم هذه الواجبات، واظبت على زيارة المقابر أسبوعيًا؛ لقراءة سورتي "ياسين" و "المُلْك" على قبر زوجها، حاملةً معها طعامًا للطلاب المقيمين بمسيد جامع "السيد علي الميرغني" صدقةً عن روحه.


لكن كل ذلك الثبات تبعثر صباح التاسع والعشرين من رمضان، حين انتشر خبر فضّ الاعتصام أمام القيادة.

في ذلك الثلاثاء المشؤوم من يونيو عام 2019، دخلت سُكَيْنَة في حالة هستيرية، لا تدري إن كان ابنها حيًا أم ميتًا. جابت مشارح ومستشفيات الخرطوم بحثًا عنه، وحين يئست من العثور عليه بين الموتى، تعلقت بأمل وجوده في أحد المعتقلات. لكن الفوضى التي عمّت العاصمة بعد المجزرة، وانقطاع الإنترنت، أغلقت أمامها سبل التواصل.

وفي رابع أيام العيد، الذي صار مأتمًا سُمِّي "عيد الشهيد"، ظهرت جثته في منطقة "الفكي هاشم"، فانطفأت آخر شرارات الأمل في قلبها. رغم ذلك، كفّنت ابنها بصمتٍ وصبرٍ أذهل الجميع. وحدي كنت أعلم أن خلف ذلك الصمت بركانًا ينتظر الانفجار، وقد كان.

أخرجني معاوية من شرودي بسعالٍ مفتعل، فالتفتُ نحوه ثم واجهتُ ابنتي محاولًا إخراجها من حزنها العميق، بمباغتتها بسؤالٍ: هل تظنين نفسكِ أفضل من رسول الله؟

"صلى الله عليه وسلم"، ردت بسرعةٍ، ثم تساءلت باستغراب عن سبب سؤال، فأجبتها بترددٍ:

-         لأن رسول الله الذي زُرتِ قبره، وتنتظرين شفاعته يوم القيامة، فقد فلذة كبده أيضًا، وقال: "إنَّ العَيْنَ تَدْمَعُ، والقَلْبَ يَحْزَنُ، ولَا نَقُولُ إلَّا ما يَرْضَى رَبُّنَا، وإنَّا بفِرَاقِكَ يا إبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ".

نظرت إليّ نظرةً لائمة، ثم انفجرت في نحيبٍ حاولتُ مقاومته كي أواصل حديثي.

-         يا سُكَيْنة، الله لن يرضيه أن تهدري وقتك في البكاء اعتراضًا على استرداده أمانته، فتضيعي رسالتك في الحياة، وتحقيق خلافته في الأرض.

ظلت تطلعني بألم، فواصلتُ:

-         كثير من الأمهات الثُكالى صبرن، وآمنَّ أن دماء أبنائهن في ثورة ديسمبر ستُمهّد طريق الحرية للأجيال القادمة، وأن العدالة ستأخذ مجراها عاجلًا أو آجلًا.

خانني صوتي، فالتفتُّ نحو معاوية، فوجدته واقفًا كالصنم، دامع العينين. نظرتُ مجددًا إلى سُكَيْنَة، وأحسستُ أنها على وشك الانفجار في نوبة نحيبٍ جديدة، فسألتها فجأة:

-         هل ما زلتِ مصرة على مضغ كبد قاتل ابنك؟

طال صمتها وهي تطالعني بذهولٍ، ويدها تعبث بثوبها. رجوتها أن تستغفر الله، فقالت: "أستغفر الله"، وتبعها معاوية ثم استغفرتُ بدوري. وبعد برهة صمتٍ، سألتها:

-         أتذكرين كيف واجه جلال الدين الرومي مقتل معلمه شمس التبريزي؟

هزّت رأسها إيجابًا، قبل أن تفيض دموعها مجددًا. فواصلتُ:

-         ألم تحبّي أشعاره التي كثيرًا ما استشهدتِ بها؟ قصائده التي كنا ننشدها معًا تحت شجرة الريحان أثناء تناول القهوة الضحى؟

لانت ملامحها قليلًا، فمسحتُ على رأسها بحنان وقلتُ:

-         الخيار لكِ... إما أن تواصلي السير في طريق هند بنت عتبة، فتبحثي عن قاتل ابنك لتلوكي كبده بلا طائل، أو أن ترضي بقضاء الله، وتحوّلي ألمك إلى نورٍ يبدد ظلمات جرحك؛ كجلال الدين الرومي الذي جعل من حزنه مصدرًا لقصائد أدخلت إلى الإسلام كثيرًا من الغربيين، عندما أوضحت لهم أن إله الإسلام ليس إرهابيًا ولا دمويًا، بل هو إله محبة وسلام ورحمة، يحرق نوره قلب العاشق، فتتفتح بتلات النورانية في داخله.

فعاد نشيجها يرتفع، فواصلتُ بآخر رمقٍ محاولةً إقناعها بأن قاتل ابنها ليس شخصًا واحدًا يسهل الظفر به وإخراج كبده لتلوكها، وإنما عصابة لن تفلت طويلًا من يد القانون الإلهي، الذي سيأخذ لها حقها وحقوق جميع المظلومين.

فبكت بصوتٍ مخنوق:

-          لكن أصبر لمتين يا أبوي؟ خلاص غلبني ما قادرة استحمل النار الجواي دي.

ربتُ على كتفها بحنان:

-         تصبّري إلى آخر رمق يا ابنتي؛ فطريق الصبر كنهر النيلِ، أو أطول. ويتطلب يقينًا بأن كل مصيبة ما هي إلا جزء من مشيئة الله.

فكانت تلك الجملة هي ما أعاد إلى سُكَيْنَة سكينتها وإيمانها وصبرها، وجعلتها تكفكف دموعها، وتقبل يد معاوية لتنهض وترافقه إلى الداخل، بعد أن أقسم عليها أن يساعدها في أعداد الطعام؛ لتلحق بإكرام صديقتها، وحتى يفوز هو بالغداء معنا، بدل الذهاب وإضاعة وقته في صفوف البنزين.

     **-**

تسنيم 

باريس 3 يوليو 2020


الثلاثاء، 2 مارس 2021

قِصَّة قَصِيرة: أُنْشُودَةُ الأَلَم

بقلم/ تسنيم طه


التقيا، بينما السماءُ ترسلُ آخر زخات المطر، والسحب الزرقاء تنصهرُ في أطياف شمس الاصيل البرتقالية، وميدان "الجمهورية" يغلي بهتافات الجموع الغاضبة؛ وهم يعبروا عن استيائهم وقرفهم من تدهور الأوضاع. الكل يهتف منددًا بحالة التأزم المتواصلة منذ أكثر من أسبوعين؛ بسبب اعتصامات سائقي القطارات والحافلات والباصات العامة، بعد أن دعتهم النقابة العمالية للإضراب رفضًا لمشروع قانون نظام التقاعد الجديد.

وسط هذا الهرج والمرج، التقيا. وتفرس كل منهما في وجه الآخر بتحنان ولهفة، وكأنها المرة الأولى التي يلتقيان فيها.

بفرح تعانقت نظراتهما؛ لتنشر في دواخلهما أمانًا مؤقتًا وتسمح لأرواحهما أن تنهل من نبع ذلك العناق الحميم لمقلٍ حددتها الهالات من فرط الأرق ونيران الأشواق. ثم، وبعفوية، تشابكت أيديهما ليسيرا جنبًا إلى جنب، ليصغيا لذلك الصمت المجلجل في دواخلهما، الواقف حاجزًا بينمها، القاطع لسبل التواصل، إلا عبر العيون المشتاقة ودفء الانامل المرتعشة.

وكمدخل لبدء الحديث، عبر كلٌ منهما عن رأفته بحال هذه الجموع المغتاظة ولحاله أيضًا، بعد أن طفح كيل الجميع من تكرار النهوض باكرًا كل صباحٍ أكثر من ساعتين من المواعيد المعتادة، من أجل المكابدة مع المكابدين، والمزاحمة مع المزاحمين في الصعود على متن القطارات المحدودة، التي لم تعد تسع تكدسات البشر فيها كتكدس السمك داخل علب الساردين.

في العام الماضي، عندما التقيا في هذه الساحة التي أصبحت رمزًا للتعبير عن الاحتجاجات في باريس، وفي زمان يشبه مساء هذا السبت البارد من مساءات شهر ديسمبر، صادفا تظاهرات "ذوي السترات الصفراء" الذين كانوا يواصلون احتجاجاتهم الأسبوعية اعتراضًا على ارتفاع ضريبة الوقود وعلى سياسات أخرى للرئيس الفرنسي الشاب "إيمانويل ماكرون".

واليوم، ها هما، يصادفان المتظاهرين مرة أخرى.

ولكي يهربًا من ضوضاء ساحة "الجمهورية"، اتجها شرقًا ثم شمالًا بمحاذاة قنال "سان مارتان"؛ نشدًا لاسترخاء على ضفاف المياه يعيد لهما ذكرى نزهات رومانسية استمرت لأكثر من عامين، كانا فيها يسيران بتسكع في شوارع باريس، يعلقان فيها بتلقائية على هيئات الناس وأنواع الكلاب وماركات السيارات وجمال طراز المباني "الهوسمانية"، أو يتبادلان فيها الآراء حول مفاهيم العدالة والديمقراطية والحرية وتوافق الأبراج وانسجام الأرواح والحب والسعادة الزوجية.

من خطواته المضطربة، أحست باستعجاله، فأصابها غمٌ انكسفت له ابتسامتها عند استشعارها بأنه سيخذلها اليوم أيضًا.

ولما لاحظ هو غياب ابتسامة الرجاء عن شفتيها وأحس بتبدل طاقتها، هم بالتبرير بقول أي شيء يطمئنها بأنه سيظل يشاق إليها ويتألم بسبب بعده ومسؤولياته الأخرى التي تشغله عنها.  لكن نظرتها الكسيرة الناضحة عتابًا وأشواقًا عقدت لسانه وزجت به في معاناة وتمزق بين قلب يتضرع وعقل تنهشه الأفكار المخوفة من الغد.

ولكي يتشاغل عن شعوره بالعجز، وأخذ يتلفت حوله ويحدق في وجوه البارسيين السائرين كآلاتٍ يحملون في طياتهم أشباح حياة وهم يهرولون وكلٌ يغني على ليلاه: هذا البدين يحمل خبزًا تحت ابطه ويشتم زوجته في هاتفه النقال، وذاك الشاب ينزه كلبه "الكانيش" الأبيض، وتلك العائلات يتسكعون برفقة أطفالهم، وتلك الشقراء الخمصانة تركض بملابس رياضية صفراء مثيرة.

ولم يخرجه من شروده، إلا اشتداد ضغطة يدها على يده لتسحبه نحو الرصيف؛ لكي تمنع تقدمه نحو الشارع الذي أراد عبوره رغم إشارة مرور المشاة الحمراء، وازعاج احتكاك إطارات السيارة "البيجو" بعد أن ضغط سائقها على الفرامل بقوة ليتفادى صدمه. 

 

 تراجع وتسمر مكانه، ثم التفت نحوها ليجدها تحدق فيه بحزنٍ وقلق. فبادلها النظرات والتنهدات وهم بالاعتذار عن شروده. لكن في اللحظة التي فتح فمه، حركت هي شفتيها، فتوقف ليترك لها مبادرة كسر الصمت.  وظلا برهة كلٌ منهما يطالع الآخر بصمتٍ مهيب.

كانت ستتوسل:

-      قبل أن تتركني أتجرع ألم الفراق، ككل مرة بعد رحيلك، دعني أنظر اليك اليوم دقيقة إضافية من دون أن تكون مستعجلاً!

وكان سيعتذر بعد قراءته العتاب في مقلتيها:

-      سامحيني وصدقيني بأنه ليس معي أحد إلا أنتِ! ولكنك يا عزيزتي أتيتِ في زمان سُلبت فيه إرادتي، وصرت مكبلاً بقيود اجتماعية، وأنا الذي قبل عشر سنوات، كنت أقسم بتغيير العالم.

 فكرت هي، وقمعت نفسها:

-      لا جدوى من تأجيل جرعة الألم دقيقة إضافية، ما دام أن قلبي، في كل الأحوال، على موعدٍ مع الرقص على رائحة النزيف.

 وفهم هو انسحابها، وأدرك بأنه لن ينجح في مداواة نتوءات الحرمان في عيني أصدق من عرف من النساء، وأعز من عشق قلبه. فأشاح بوجهه عنها لتقع عينه على عاشقين يتبادلان القبلات الحارة، لتراوده فكرة أن يفعل مثلهما ويأخذها في حضنه علها تسامحه على تلك المساحة الشاسعة بينهما.

وفجأة جاءته فكرة أخرى، تغريه أن يتناسى مهمة الذهاب لمحل "دَارْتي-Darty" لشراء خلاطة "المونوكليس"، فيرافقها لشقتها الصغيرة بالجوار في حي ""بِيلْـڤِـيل-Bellevile" "، التي لم يدخلها منذ أكثر من شهرين.

وأخذ يحلم بقضاء بقية الأمسية معها بهدوء بعيدًا عن صغب الشوارع واحتجاجات الغاضبين؛ ليستمتع بدندنتها لأغنيات مطربيها المفضلين بثلاث لغات (عبد الحليم حافظ وفرانك سيناترا وجورج وسوف وإلهام المدفعي وشارل أزنافور) اثناء تحضيرها للعشاء الذي يحبه (شرائح سمك السلمون بالبروكلي والكريمة). وواصل أحلام اليقظة وتخيل بقية تفاصيل الليلة الرومانسية التي سينسيهما أمانها مخاوف السنوات الماضية والقادمة، فيستيقظا متأخرين في صباح غد الأحد ويخرجا لتناول الإفطار في أحد المقاهي المطلة على شارع الرئيسي بجوار مطاعم اليهود التونسيين المنتشرة في المكان؛ فيستمتعا برؤية حركة الحياة تدب في أحد أجمل أحياء باريس الشعبية، حيث تسكن أكبر جالية صينية في باريس، ويعيدا تعليقاتهما على غرابة تلك الجالية المنغلقة على نفسها، التي تعمل بنشاط كنشاط النحل، لا يضاهيها في الجالية الأخرى في باريس،  إلا نشاط الجالية الهندية المتمركزة في حي "لاشابيل-La Chapelle"، بالدائرة العاشرة بالقرب من محطة الشمال "Gare du nord".

كانا كثيرًا ما يتناقشان حول اندماج الجاليات الأجنبية في المجتمع الفرنسي، ويخرجان بنفس النتيجة: أكثر جاليتين ترهقان خزينة الدولة هما الجالية العربية والجالية الأفريقية دون أن يفهما سبب تكاسلهما واعتمادهما على الإعانات الاجتماعية طوال الوقت، والإصرار على تضييع الوقت أمام التلفاز، أو في أشياء أخرى، ثم تجديد الشكوى من العنصرية. 

تمنى أن يرافقها لشقتها لينعم بذلك الأمان وتلك الرومانسية ويستعيد كل تلك اللحظات الجميلة وتلك الحوارات الثرية؛ فينسى قساوة الروتين في حياته.

لكن هيهات هيهات.

فأمنياته لن تتحقق وهو يتوقع في أي لحظة أن تتصل به زوجته الأولى لتسأله إن كان قد وجد الخلاطة في محل "دارْتي-Darty " بساحة "الجمهورية".

بلع ريقه لانزال الغصة، وقتل أمنياته في مهدها، مخرسًا ضميره لكيلا يتذكر خذلانه المستمر لفتاة تزوجها على سنة الله ورسوله، وعجز عن إعلان زواجه بها، ليس فقط خوفًا من شراسة زوجته الأولى ووالدها الواصل، ولكن أيضًا من عقاب القانون الذي يمنع التعدد، والذي قد يرمي به خارج الحدود ليعيده إلى وطنه الأم، حيث الحروب والنزاعات القبلية، إذا ما ثبت انتهاكه لقوانين علمانية فرنسا.

 ولكي يتلهى عن ألمه، واصل التحديق في البشر المسرعين على جانب الطريق في اتجاه شارع "جْيُول فيري". ولما شعر بالتعب أغمض عينيه برهة؛ لتلوح له من وراء ظلامها ذكرى لقائهما الأول في ساحة "بلاس دي فوج-Place des Vosges".

 ذلك اليوم حكت له عن ذكريات طفولتها في قرية "ميت بدر حلاة"، في ضواحي مدينة المنصورة شمال القاهرة. وحكى لها عن طفولته في قرية "الحمائر" بالقرب من مدينة "تّعِز" جنوب العاصمة صنعاء. ثم اكتشفا تشابه مصائرهما: طفولةٌ مميزةٌ في قريةٍ هادئةٍ بجوار جدة حنونة وشمت ذاكرتهما الطفلية بحكايتها وسط حيوانات أليفة (دجاج وأرانب وماعز ونعاج)، ثم نبوغٌ في الدراسة مهد للحصول على منحة من السفارة الفرنسية، ثم دراسة فتدريس في مدرسة "الإزيت-Isit" للترجمة التابعة لجامعة السربون، ثم أحلامٌ تتحدى المسافات والقارات، تتوق للوصول لما وراء شلالات "نيجارا" جنوب كندا أو مضيق "ماجلان" جنوب شيلي.

في ذلك اليوم، اكتشفا أيضًا تشابه هوايتهما: عشقهما لعبد الحليم حافظ وفرانك سيناترا وجورج وسوف وإلهام المدفعي وشارل أزنافور. وحبهما لأكلات شعبية من مختلف أنحاء الوطن العربي، يتقنان طبخها ولا يملان من أكلها يوميًا (الكشري المصري، والسَّلْتة اليمينة، والدولمة العراقية، والكبسة السعودية، والتبولة اللبنانية، والكِبة السورية، والأموش الكويتية، والويكة السودانية، وكسكسي شمال افريقيا).

في ذلك اليوم انبهرا من تطابق آراءهما حول الفن التشكيلي والسياسة، ومن عشقهما لشخصية جمال عبد الناصر والاتفاق على شبه دوره في القومية العربية بدور سيمون بوليفار، القائد الفنزويلي الذي ساهم في تحرير الكثير من دول أمريكا اللاتينية من الاستعمار الاسباني.

في ذلك المساء الصيفي، وعلى ممرات ساحة "بلاس دي فوج" تناقشا حول اللوحات المنتشرة على الغاليري وعن جمال الرسم بالألوان الزيتية وبألوان الإكريليك وعن فنون الفن التشكيلي، وتبادلا الاعجاب بتقليدٍ بديعٍ بأقلام الرصاص يحاكي لوحات عالمية كلوحة "الرجل الفيتروفي" للإيطالي ليوناردو دافنشي، ولوحة "الزرافة المحترقة" للإسباني سلفادور دالي، ولوحة "عند بوابة الخلود" للهولندي فان خوخ. 

 وعندما ستتكرر لقاءاتها في هذه الساحة الناضحة بالفن، وتشتعل شرارة الحب بينهما، سيجدان أفكارًا خلاقة لتتويج حبها بحفل زواج بسيط سيتشاركان فرحته بحضور شاهدين فقط، وجارة واحدة من أصولٍ جزائرية. بعدها ستتطور أحلامها ويبدأ في التفكير بجدية في كيفية ايجاد عشٌ زوجي أوسع يجمعهما معًا ويعرفه الجميع، فيغنيهما عن سرقة الأوقات تكاسلاً في أرائك المقاهي، أو تنزهًا على كورنيش نهر السين تحت "برج إيفيل"، أو تسكعًا في شارع الشانزليزيه لدندنة أغنية "جو داسان- Joe Dassin" التي تحمل اسم أشهر شارع في باريس "شانزليزيه" أثناء تفرسهما في واجهات مقاهيه المزدحمة بعرب الخليج،  أو في الحدائق العامة وسط صرخات ولعب الأطفال الفرحين بتحريرهم من يومٍ دراسي طويل.

ألمٌ فظيعٌ داهم صدره عند استعادته لتلك التفاصيل واستشعار ضعفه وخذلانه للثقة التي أعطته إياها وعجز في أن يكون محلها؛ فينصفها ويعطيها حقوقها كزوجةٍ شرعية تُلي القرآن على رباطهما ليعمق قدسية حبها له وعاطفتها الجياشة تجاهه وليضاعف فرحتها بتلك المراسم البسيطة. 

بألمٍ غاص في نظرتها المُشككة المُحبَطة الحزينة، وفهم ألا جدوى من الاعتذار لأن عذره سيكون أقبح من ذنبه، ولن يلقى قبولًا في نفس زوجته الحبيبة التي كم أشبعها إحباطات خلال العامين الماضيين، منذ اقترانهما ببعض.

فلاذ بالصمت، ولاذت هي. وخفض بصره إلى الأرض، وقلدته هي. وفي نفس اللحظة، بلع كلٌ منهما ريقه ليخفف من مرارة الغصة.  وتناغمت زفراتهما الحارة المتألمة.

وبينما قرص الشمس يتسلل من بين السحب الكثيفة، راكضًا نحو الأفق، قفلا راجعين نحو ساحة الجمهورية؛ لكي ينفذ هو المهمة التي كفلته بها زوجته الأولى ويشتري خلاطة "المونوكليس" من محل "دَارْتي-Darty"، ولكي تبحث هي في داخلها عن أعذار أخرى تساعدها على الغفران وتسنيها خذلانها الجديد، لحين عودتها للبيت؛ لكي تملأ وحشة الليل بقراءة رسائلهما القديمة. 

بصمتٍ مستح وآمال مكلومة، واصلا السير طويلًا قبل أن يفترقا؛ ليواجه كل منهما أنشودة ألمه المعهودة.  


 

باريس/ 2 فبراير 2019

***-** 

اللوحة للفنانة البولندية/ تمارا دي لامبيكا