السبت، 23 مارس 2024

مقال: بَارِيس عَاصِمَةُ العَالَم

بقلم/تسنيم طه


"يا الخرطوم يا العِنْدي جمالِك....جَنَّة رُضوان،

طول عُمري ما شُفتَ مثالِك...في أيّ مكان".

هذا مقطع من أغنية "يا وطني يا بلد أحبابي"، التي تغنى فيها الفنان السوداني "سيد خليفة" بجمال الخرطوم.

وهذه هي الافتتاحية التي خطرت ببالي لحظة ما أمسكتُ بالقلم لكتابة هذا المقال، ولحظة ما طفرت لذاكرتي مقولة الشاعر " وطني لو شغلتُ بالخد عنه، نازعتني إليه في الخلد نفسي".  لكن وبما أن الحديث هنا ليس عن الأوطان وإنما عن هويات المدن، وبما أن هوية الخرطوم (فَرَّج الله محنتها!)، تُطمس هذه الأيام بسبب حرب أهلية تدور فيها منذ قرابة العام، وبأنه ربما ليس مناسبًا مناقشة كيفية استثمار هويتها للترويج السياحي أو الجذب الاستثماري، سيكون موضع هذا المقال عن هوية باريس، وكل العزاء لي في أنها وطني الثاني.

" باريس ستكون دائما باريس"،

هكذا تغنى "موريس شوفالييه"، بجمال مدينة الأنوار وحلم بأن تظل دومًا على عراقتها وأصالتها.

والحقيقة أن باريس استطاعت الحفاظ على هذه العراقة والجمال، ولكنها لم تنجو من التأثر بالتغييرات الطارئة عليها من الخارج، وخاصة تلك المتعلقة بعدم الاستقرار السياسي والأمني في البلدان المجاورة وغير المجاورة، التي ساقت إليها أفواجًا من المهاجرين شرعيين وغير شرعيين عبر المطارات والقطارات والبحار ودروب النمل الوعرة بين جبال وغابات أوروبا. 

لكن قبل الحديث عما طال باريس من تغيير في السنوات العشر الماضية خاصة بعد ثورات الربيع العربي، لابد من تسليط الضوء على الأسباب التي صنعت لها هذه الصورة النمطية الفخمة وتسببت في شهرتها لدرجة أن تصبح حلم كثير من الناس للمجيء والعيش فيها.

فعلى مر العصور، مثلت هذه المدينة حاضنة لأهل الفن والأدب والثقافة، بعضهم تحدث عنها بصورة إيجابية، وبعضهم صور جوانبها الخفية وحياة القاع لسكانها. وأشهر هذه الأعمال رواية "البؤساء" التي كتبها "فكتور هوغو" وتحدث فيها عن بؤس الفترة ما بين 1815-1832. وقبلها كان قد نشر ديوانه الشعري " السَّنَة المُرَوِعة" الذي أشار فيه لسنة 1871 التي شهدت الحرب الفرنسية-الألمانية ضد البروسيين والحرب الأهلية خلال فترة الحصار ثم "كومنة باريس".

 أما الروائي "إيميل زولا"، فقد نشر رواية "بطن باريس" في عام 1873، وجعل مسرح أحداثها سوق "ليه-آل" لبيع المواد الغذائية بالجملة (ومنه جاءت تسمية "بطن" لكونه المكان الذي كانت باريس تأكل منه)، السوق الذي سينتقل في سبعينيات القرن التالي لضاحية "رانجيس" الجنوبية.

أما الروائي "أنوريه دو بلزاك" فقد حاول من خلال سلسلته "الملهاة الإنسانية" صنع تاريخ طبيعي للمجتمع الفرنسي برسم لوحة جدارية من عصره آملًا في أن تكون مرجعًا للأجيال القادمة.

أما الروائي والشاعر "تيوفيل غوتييه"، أحد أنصار حركة "البارناسية" التي تدعو إلى اعتبار الأدب كغاية في حد ذاته ووسيلة لعلاج القضايا الاجتماعية والسياسية، فقد كتب كتاب "باريس والباريسيون" ومقالين تحت عنوان" باريس المستقبلية"، سخر فيهما من طراز المباني الهوسمانية، وقارن فيهما باريس القرن التاسع عشر الفقيرة بفخامة المدن العريقة.

ومن الشعراء، كتب "شارل بودليير" صاحب "أزهار الشر"، ديوانًا شعريًا بعنوان "سأم باريس". بينما كتب "غيوم أبولونير"، قصيدة بعنوان "جسر ميرابو" (أحد جسور جنوب غرب باريس)، افتتحها قائلًا: تحت جسر ميرابو، يتدفق نهرُ "السِّين" وقصص حُبّنا". 

ومن الفنانين الذين تغنوا بباريس "جو داسان" بأغنيته لشارع "الشانزليزيه" و"فلوران بانييه" لحي "شاتليه-ليه-آل" وغيرهم.

كل هذا الزخم الفني والأدبي ساهم في رسم هوية باريس وأكسبها شهرتها داخل وخارج فرنسا؛ لتصبح اليوم أول وجهة سياحية في العالم.

 لكن، وكما أن قاهرة نجيب محفوظ ليست قاهرة اليوم، وسودان الطيب صالح ليس سودان اليوم، كذلك باريس فكتور هوغو وإيميل زولا، ليست باريس اليوم.

فالمدن مثل الإنسان تتأثر بالآخر وتمر بمراحل تشكل هويتها وتجبرها على التغيير، إما للأسوأ أو نحو الافضل. ويكفي أن نتأمل الناس في المطارات والمراكز التجارية لندرك كيف أصبحوا متشابهين، لا يمكن التعرف على هوياتهم من خلال مظهرهم، وهم يرتدون نفس الملابس من نفس الماركات العالمية.

كذلك المدن، منها الكثير من وقع في فخ التأثر بالقرية الكونية والتقليد الأعمى بالركض وراء للحداثة والتجديد.

لكن باريس صمدت صمود الأبطال من أجل الحفاظ على هويتها. وحشدت لمجابهة عوامل الزمن والتلوث والحرائق العرضية أو عمليات التخريب المتعمد وغيرها مما يهدد التراث وحضارات المدن التاريخية، جهودًا جبارة. فليس من السهل الحفاظ على تراث بهذه الضخامة والتنوع. والفضل يعود لسياسة بلديتها الصارمة، التي جمعت مهارات تقنية واسعة وتعاونت مع شركات متخصصة لضمان نقل التماثيل والجسور والنوافير والكنائس والأعمال الفنية والآثار الباريسية، حتى تجدها الأجيال القادمة في أفضل الظروف.

كما وواظبت بلدية باريس على القيام بعمليات صيانة دورية لأسقف المباني وتأهيل البناؤون والنحاتون والكهربائيون؛ بتوفير السقالات والرافعات الحديدة المتخصصة في الطلاء والتذهيب وتركيب الزجاج الملون وغيرها، من أجل الحفاظ على الطابع العمراني "الهوسماني"، الذي هجاه "تيوفيل غوتييه" في مقاله "باريس المستقبل".

وعودة لـ "تيوفيل غوتييه" ولباريس المستقبلية التي حلم بها، لابد من الرجوع إلى الخرطوم، وذكر أن هناك شباب سودانيون حلموا بـ"خرطوم مستقبلية"، بعضهم تحدث عنها وبعضهم كتب عنها مقالات أو قصصًا قصيرة، رسموا لها ملامح مشرقة إبان فترة أحلامهم العريضة أثناء اعتصامهم بين أبريل ويونيو عام 2019 أمام مقر القيادة العامة. خرطومٌ جديدة سموها "بالمدينة الفاضلة" تخيلوها تكون نقطة وصل بين بلدان أفريقيا ومصدر ثورات ورخاء. خرطومٌ أجمل وأعرق وأكرم وأسهل؛ يعود فيها خط "الترام" يعمل كما كان أيام الاستعمار الإنجليزي، ليربط بين أطرافها الممتدة من الجيلي شمالًا وحتى جبل أولياء جنوبًا. خرطومٌ تقوم بتطوير شبكة خطوط السكة حديد وتربط مواني السودان البحرية بوسط افريقيا في خط يصل بورتسودان وسواكن بالعاصمة التشادية "انجمينا"؛ ليعزز الاستثمارات التجارية والسياحية الروحية بتوفير طريق يمر به التجار والحجاج إلى بيت الله، يشابه "درب الأربعين" في الماضي. خرطومٌ تنجح في تحويل السودان لبلد مضيف بموصفات راقية يجتذب السياح من جميع أنحاء العالم ويوفر لهم إمكانية زيارة منتجعاته ومحمياته الطبيعية واهراماته وبقية مواقعه الأثرية حيث مدافن الفراعنة السود، ملوك وكنداكات حضارة "كوش" إحدى أقدم الحضارات في إفريقيا لها كبير الأثر والترابط بين الحضارة المجاورة: الفراعنة في مصر، و"عدوليس" في شرق افريقيًا، وسبأ في اليمن.

ولو تحسنت الظروف، سوف تُحقق الخرطوم حلمها، كما فعلت باريس للاستفادة من هويتها للجذب السياحي من داخل وخارج فرنسا من خلال الترويج عبر الدعاية والإعلان للترويج وترتيب الرحلات الطلابية والوفود السياحية لزيارة الأماكن التاريخية والمتاحف والكنائس والمكتبات وغيرها من الأماكن العريقة.

أما من ناحية الجذب الاستثماري، فقد قدمت باريس الإغراءات والتسهيلات لدعم الشركات والمستثمرين على مختلف الأصعدة، وذلك بتسهيل القروض البنكية لشراء المكاتب أو استئجارها، وبتوفير شبكة مواصلات تربط وسط المدينة ببقية مدن الضواحي لإقليم باريس الكبرى "إيل دو فرانس"، لتيسير حياة الموظفين الجدد الذين لن يتحملوا تكاليف السكن الباهظة في وسط باريس.

وفوق ذلك كله، حافظ مدينة الأنور بالحفاظ على هويتها، من خلال القوانين. فبيمنا تُعطى التصريحات لإنشاء أبراج سكنية في الضواحي؛ لتلبيه حاجات الكثافة السكانية، ظلت باريس تتمسك بقوانين الصارمة لمنع طلاء مبنى من الخارج يخالف طراز المباني الهوسمانية، ومنع تشيد أي مبنى جديد في علو يشوه طابع المدينة العريقة.

 من أجل كل هذه الجهود استحقت شهرتها ومكانتها كعاصمة للعالم.

باريس عاصمة العالم، نعم. هذه ليست مبالغة. فالسائر في شوارعها والراكب لمواصلاتها العامة والمرتاد لأماكنها السياحية، سيسمع جميع لغات العالم (لو كان بالإمكان حصرها)، وسيرى الكثير الكثير من سحنات وألوان لبشر جاؤوها من بقاع الأرض الأربعة؛ ليزروا برج إيفيل وشارع الشانزليزيه وقلعة فيرساي وكاتدرائية نوتردام والحي اللاتيني ونافورة سان ميشيل، وكاتدرائية القلب المقدس وحي مونمارتر العريق، ومتحف اللوفر ومنزه ديزني لاند، والمقر الدائم لليونسكو. 

 ----

17 فبراير 2024.

الثلاثاء، 19 مارس 2024

مقال: أَدَبُ الشَّبَابِ في السُّودَان

بقلم/ تسنيم طه 

ظهر على الساحة السودانية في الآونة الأخيرة، زخم من المنتوج الأدبي في مختلف الأجناس.

مجموعات قصصية ودواوين شعرية وروايات بل وحتى مسرحيات اجتاحت بعناوينها مواقع التواصل الاجتماعي؛ لتكشف عن فوز أغلب مؤلفيها بجوائز أدبية.

"فريج المرر"، "شوق الدرويش"، "ربيع وشتاء"، "صنعاء-القاهرة-الخرطوم"، "آماليا"، "نورس يجهره السرب"، "باحة باروكة"، "صومعة الأحلام"، "خلف الجسر"، "مخاض عسير"، "ما يكون لبقعة قهوة فعله"، "تاسوع الخليل الأخير"، "سِفْرُ الغراب"، "سهام أرتميس"، وغيرها من العناوين التي تُوجت بجوائز عربية وأخرى إقليمية.

جوائز مثل "توفيق بكار" و"المختار للغماني" في تونس، "منف" و"إيبيدي" و"كيميت" و"نجيب محفوظ" في مصر، "إلياس فركوح" في الأردن، "الشارقة" و"البوكر" في الإمارات"، "فريد رمضان" في البحرين" و "محمد سعيد ناود" في إريتريا، و"سحر القوافي" و"أمير الشعراء".  وغيرها.  

لكن لم يكن الفوز وحده ما تسبب في هذا الزخم وساهم في ارتفاع هذا البنيان الأدبي. فقد لعبت وسائل التواصل الاجتماعي دورًا مهما في الترويج لعناوين أخرى لقيت قبولًا بين القراء متابعي صناعة المحتوى الرقمي، رغم أنها لم تحصل على جوائز.

ففي عالم تحكمه الخوارزميات وعدد التفاعلات بالإعجاب والمشاركة، يمكن لأي شخص أن ينجح وأن يحصل على متابعة آلاف الأشخاص وهو جالس في مكانه، دون تكبد عناء الركض اللهاث، وراء سراب دور النشر، وجد الشباب عزاءً لهم، وقبلوا تحديات كسر حاجز الرعب من الكلمة والترويج لها بأقل التكاليف.

 فأحد أسباب احباط الشباب وتثبيطهم عن الكتابة هو موضع النشر؛ إذ ليس بمقدور أغلبهم دفع تكاليف دور النشر التي تطلب أحيانًا أرقامًا خرافية قبل أن توقع مع الكاتب عقدًا لنشر كتاب في طبعة من 500 نسخة، يكون مصيرها في أغلب الأحيان صناديق الكتب في مستودعات التخزين، وليس الانتشار الساحق والوصول بسرعة البرق لأيادي القراء في مختلف أرجاء المعمورة، كما توهم الكاتب.

ومن المميزات الأخرى لمواقع التواصل الاجتماعي نجاحها في الترويج للمسابقات الأدبية، ما ساهم في فتح شهية الكتاب للكتابة؛ بتعزيز روح المنافسة والرغبة لخوض تحدي الوصل للصدارة وتارة، وتارة أخرى بإعطائهم آمالًا في نشر مجاني وانتشار يتجاوز حدود الوطن.

وبالتوازي، كان للجوائز المحلية دور في تشجيع الشباب على الكتابة.

ومن أهم المؤسسات التي اهتمت بالمواهب الأدبية مركز "عبد الكريم ميرغني"، الذي ظل يقدم طوال عقدين من الزمان، مسابقات للكتابة مرتين في العام تحت عنوان "مسابقة الطيب صالح"، وهي جائزة للكتاب السودانيين فقط: واحدة في أبريل لفئة القصة القصيرة، وهي موجهة فقط للشباب دون سن الثلاثين، والثانية في أكتوبر لفئة الرواية.

وكأمثلة نذكر بعض العناوين: "الغابة السرية"، " خيانتئذٍ "، " عاصف يا بحر "، " النهر يعرف أكثر "، " دائرة الأبالسة "، " بلاد السين الأم الرؤوم"، " الناجي الغريق"، "مال قلبي" و"أيام حي البوستة".

ورغم أن جائزة فئة الرواية مفتوحة لجميع الأعمار، إلا أن الإحصائيات تشير إلى أن أغلب الفائزين كانوا شبابًا دون سن الخامسة والأربعين.

وفي السنوات الأخيرة، ظهرت مؤسسة "نيرفانا"، وقدمت خلال خمس مواسم اهتمامًا بالمواهب الشبابية وتنظيم مسابقات أدبية نجحت في إضافة عناوين جديدة للساحة الأدبية السودانية، خاصة في مجال القصة القصيرة.

أما في مجال القصيدة والنثر، فقط ظل بيت الشعر" في الخرطوم، صرحًا ثقافيًا يرتاده ليس فقط الشعراء والمهووسين بالقوافي والأوزان، ولكي أيضًا جميع المغرمين بصناعة المحتوى عن طريق الكلمة. وقد كان له دور كبير في تشجيع الشعراء على الكتابة والإلقاء المنبري، والمشاركة في مسابقات عربية أهمها مسابقة أمير الشعراء، التي تأهل لها في السنوات الأخيرة شباب دون سن الخامسة والأربعين.

طوال عقود، تشابهت مواضيع الكتابة لدى الكُتاب السودانيين، لتشابه حال الواقع السوداني جيلًا بعد جيل، مجبرًا شبابه لأن يكتبوا معبرين عن آلام وطنهم وأحزانه وهمومه وتاريخ احباطاته المتكررة وتتالي مراراته وغزارة دموع أهله شعبه، وخيبة آمال شبابه، وحاله الذي أبى أن ينصلح.

والقارئ للأدب السودان الحديث سيلاحظ جليًا رجوع هؤلاء الشباب لانتفاضة أبريل عام 1985، رغم أنهم لم يكونوا شاهد عصر عليها كما هو الحال مع الثورتين الأخيرتين. فأغلبهم كانوا أطفالًا أو لم يولدوا بعد، ولكن حكايات الآباء والأمهات والأجداد وهم يلقنون ابناءهم اشعار وكتابات ومقولات نادت بالديمقراطية والحرية والمساواة في ذلك الوقت، نجحت في نقل هذا الألم بالتواتر، ووشم وجدان هؤلاء الشباب بتاريخ بلدهم المؤلم.

ورغم تلون ملامح هذا الأدب بجميع ألون الطيف، والتقاء أغلبها في التعبير عن السودان وعن ملاحقته للاستقرار، كملاحقة "سيزيف" لصخرته، إلا هناك نصوصًا خرجت عن المألون وتمسكت الأمل بل وشطحت في الأحلام والتوقعات المستقبلية، رغم الحدث العظيم الذي تسبب في تدهور حالة البلاد في عام 2011، المتزامن مع ثورات الربيع العربية: انفصال جنوب السودان.

كل هذا وما زالوا يكتبوا وهم يتأرجحون بين الأمل والخوف؛ ليصوروا احداث كانوا شاهد عصر عليها: انفصال الجنوب، ثورة سبتمبر 2013، وثورة ديسمبر 2018، وتنحي الرئيس في أبريل 2019، ثم فض اعتصام القيادة في يونيو 2019، إلى أن أتتهم الضربة القاضية التي لم ينتظروها، مع انقلاب أكتوبر 2021؛ ليعقوا في هوة اكتئاب جديدة، وخيبة أمل ومرارة سدت شهيتهم عن الكتابة، وأجبرتهم لانتهاج نهج الجميع بالاستلام لذرف تلك الدموع الغزيرة، وكأنه كُتَب عليهم أن يشقوا نهرًا موازيًا لنهر "النيل"، تغذيه مياه أعينهم، التي توشك أن تجف من كثرة البكاء المتنامي منذ ثمانية أشهر بعد اندلاع حرب شوهت معالم مدينة المركز في دواخلهم، وقد كانوا يتغنون بها ويفتتحون قصصهم بالتغزل فيها : "يا الخرطوم، يا العندي جمالك جنة رضوان".

في بعض المقالات على المواقع الإلكترونية طُرح موضوع تأثر الشباب بتجربة الطيب صالح في روايته "موسم العودة للشمال"، وعدم قدرتهم على تجاوز الكتابة عن القرية السودانية.

لكن هذه الادعاءات ليست صحيحة مائة بالمائة. إذ ليس بالضرورة وجود

نموذج قدوة دوما، عند وجود استخدام الكتابة كعلاج. فهناك تجارب عديدة، أغلبها نسائية، لكاتبات كادن دفاعها الأساسي حاجة حيوية للتخلص من ضغوطات داخلية وأزمات نفسية، كُتبت بصدق وعمق وحملت بصمات كاتبتها بتفرد بدون تقليد.

وبالرغم من وجود هذه القرية السودانية، التي كان عرابها الطيب صالح، ووجود كل هذا الحزن وذاك الألم، هناك ملامح أخرى لهذه الأدب السوداني الشبابي، شاع بعضها عند فئة أكثر من الأخرى.

فالسياسة والجنس وقمع الحريات والتعذيب في السجون والهجرة والحلم بها وعواقبها الوخيمة بعد عبور البحار والفقر والبطالة والحلم بحكم ديمقراطي، تكررت كثيرًا في الأدب المكتوب بواسطة الرجال. بينما شاع بين أسطر الكتابات النسائية مواضيع مثل القيود الاجتماعية والقمع الأسري، الحب والزواج والأمومة وتبعاتها والخيانة الزوجية، وتوتر علاقة المرأة بالرجل وكل ما يثب نظرية "الرجال من المريخ والنساء من الزهرة".

وهناك فئة من الكتاب الشباب، من كلا الجنسين، خرجت من تلك القوالب بتناولها مواضيع عبرت حدود الوطن وعبرت عن هموم الإنسان بشكل عام في مختلف أخرى من بقاع الأرض، وبتسليطها الضوء على جوانب مختلفة في جوانب الحياة في السودان كعادات الزواج والحداد أو التسامح الديني بين المسلمين والمسيحيين. وهناك ندرة من الكتاب اتجهوا لمنحى آخر من الكتابة، باستخدامهم الفانتازيا وأنسنة الأشياء والأمكنة. أما الخيال العلمي فلا وجود له في الأدب السوداني حتى الآن.

وعلى العموم يظل المنتوج الأدبي السوداني شحيحًا مقارنة ببقية البلدان العربية؛ بسبب أوضاع سياسية واقتصادية تعاقبت على البلاد، لعبت دورًا سلبيا وشغلت الشباب عن موضوع الأبداع بهموم ما زالت تلاحقهم كظلالهم.

لكن عسى أن تغلب الكثافة الكثرة. فالعبرة ليست في الكم، وإنما في النوع.

لهذ يحتاج الكُتَاب الشباب من كِلا الجنسين لفهم تقنيات الكتابة الإبداعية واتقان صنعتها والتعامل معها على أنها فن مثل بقية الفنون تحتاج لأدوات، مثلما يحتاج الرسام للريشة وللألوان ومراعاة الضوء والظلال، ويحتاج المغني لإتقان فن اختيار نبرات الصوت وكتم التنفس.

عندها فقط، ستتمهد أمامهم الطرق بمجرد أن يدركوا أن أهم ما يحتاجه الكاتب هو تعلم فن صناعة الحبكة وبناء الفضاء القصصي ورسم الشخصيات. لأن قضاء الوقت في العكوف على رص بنيان الكلمات واحدة تلو الأخرى سيصنع نصا بلا روح ولن ينتج أدبًا عالي الجودة. 

 فموهبة إتقان اللغة وتطويعها وحدها لا تكفي، حتى وإن كانت بنفس أهمية بقية العناصر. فاللغة هي الوعاء الذي يصب فيه الكاتب أفكاره، والمطية التي يستخدمها للوصول إلى هدفه للتواصل مع القارئ.

فالحل يكمن إذًا في البحث الدؤوب لإيجاد ذلك المفتاح السحري والبسيط في آن معًا؛ لفتح باب يُمهد لتقديم أدب رفيع المستوى، يحكي عن الإنسان ويصور بيئته وحقبته بشفافية؛ فيستحق تجاوز حدود الوطن ليصل إلى العالم أجمع.