بقلم/ معاوية محمد نور
بعد أن قطع القطار صحراء العتمور العاتية وما فيها من جبال ملتفة ورمال بيضاء منبسطة وأحجار سوداء متناثرة، في لج ذلك الخضم الذي لا تقف منه العين على شيء من صور الحياة النابضة. وسار ينساب في أرض لا تحوجه الى مثل ذلك الكفاح والنضال القوي، بل راح راكضاً في اتساق وسرعة على ضفاف وادي النيل ، وكنت وكلما أمعنت النظر وجاشت بي الخواطر والذكر، خيل الى ان لي تاريخاً مع هذه الصحراء وأنه محال أن تكون هذه المرة الثانية أو الثالثة التي أشاهد فيها هذه الصحراء لما أشعر به من القرابة والعطف والإيناس لهذه الحجارة التي تترامى بالقرب من سير القطار وربما جنح بي الفكر فخيل إلي أنني قد رأيت كل هذا وعرفته قبل حياتي الراهنة، وإلا فكيف أفسر هذا العطف وهذه الألفة وهذه القرابة الروحية التي هي أشد من كل عطف وقرابة وإيناس ! والقطار سائر الى أن إقترب من مدينة شدني بعد أن مر بمدة مدن أخرى، والمسافر لا يرى غير السهول الواسعة حينا، والأشجار المناثرة الكثيفة حيناً آخر. وقد يرى بعض الأحيان أرضاً خضراء، ولا يرى في غيرها سوى الرمال والحصى. غير أن النظر الى شجرة من هذا الشجر الذي تجده بين حين وأخر واقفاً متدلي الأغصان في أسى واكتئاب وصبر وحشه لا تخالطها بشاشة أو يمازحها فرح، لحري بأن يحمل الإنسان الى الاعتقاد بنضوب هذه البقاع من الحياة كما عرفها وذاقها بين المدن الصاخبة، وأنفاس الإنسان النابضة ووثبة الحياة الدافقة. كل هذا وبعض أصحابنا المسافرين المترفين في شغل عن الصحراء والسهول والأشجار وحديثها: هذا يدخن سيجارة، وغيره يقرأ كتاباً، وثالث نائم، وغيره وادع حالم! . وما أن يقف القطار عند قرية صغيرة يحسبها الإنسان خلاء وقفراً قبل ان يطلع عليه بعض أهليها من شبان وشيب ومعهم أشياء من الطعام يرغبون في بيعها الى المسافرين أو أنواع من الخزف والآنية.
ووقف بنا القطار في هدوء طارئ في محطة من المحطات بعد أن اجتاز مدينة شندي وكنت تسمع المسافرين ينادون بعضهم بعضاً "أقفل الشباك " وأقفل الباب وبين قصف الرياح وأصوات المسافرين - ذلك لأن الرياح قد ابتدأت تقصف بشدة وتذر التراب في العيون والعاصفة تولول كالشارد المجنون، والشمس تختفي بين حين وآخر لان بالسماء الداكنة غمام يتجمع ويقلع حينا، ثم يتلاشى حينا آخر، وكانت هنالك امرأة تجلس على بعد ثلاثة أمتار من القطار ناظرة الى الصبية الذين ينادون بملء أفواههم بما عندهم من طعام وشراب لجماعة المسافرين، وكانت تشير على أحد الصبية بين حين وأخر ان يجري هنا وهناك من واجهات القطار منادياً "بيض مستوي" بيض مستوي" وهم يمدون كسرة الباء مداً طويلاً تكاد تخرج معه حناجرهم من شدة الصياح.. كل ذلك الصراح كان من غير جدوى إذا استثنينا مسافراً واحدا اشترى من أحدهم بيضاً بقرش صاغ، ولشد ما كنت ترمقه عيون آخرين حاسدة حاقدة ! أما ذلك الطفل الصغير فقد ظل في ندائه باجتهاد وصبر من غير أن يلاقي نجاحاً! وكانت صرخاته تشتد كلما مر الزمن ولم يبع شيئاً من شايه الذي يحمله في آنية تعافها النفس، وأكواب يصعب على الاسنان الشرب منها ولقد كان يلبس هذا الفتى الصغير جلباباً أبيض قد استحال لونه فأصبح أسوداً من كثرة الإتساخ ، وتراكم عليه التراب قاتماً أسود يمشي حافي القدمين ، عاري الرأس ، لم يتجاوز عمره إحدى عشر عاماً ، براق العينين ، دقيق الشفاه في أسى واكتئاب تطل عليك من نظرته لوعة وشجو دفين. وقد ارتسمت على جبهته وحول شفتيه غضون جاءت قبل أوانها مبكرة لشدة وقوفه على الشمس، وحياة المتاعب والشظف التي يحياها، كل هذا وقد ترى في وثبته وحركته شيئاً من السهوم الواجم، والخفة المستحبة لا تلبث كثيراً إلا وتنقلب الى انقباض ولوعة، ولعل خفة الحركة والقفز تتملكه عندما ينسى نفسه وما حواليه، ونظرة الأسى والاكتئاب تعتريه عندما يذكر إخفاقه وبؤسه! وانني لن أنسى ذلك الصوت الذي ظل يردد لفظة "شاي" والناس عنه في شغل، ولعله هو الآخر في شغل عما يحمل من آنية وشاي، بل كان السهوم في أوجه المسافرين وكأنما تنطلق شفاهه في حركة ميكانيكية بين حين وآخر بلفظة "شا... آ.. ي " وهو يمد فتحة "الشين" مداً تكاد تحسب أن روح هذا المسكين تكاد تزهق مع ندائه الحار ولكنه لم يسمع رداً لصداه ولا مجيباً لندائه ازداد عدوه من أول القطار الى آخره، ومن آخره الى أوله، كأنما هو الحيوان الخائف الهارب! .. وابتدأ المطر ينزل رذاذاً في هذا الوقت والقطار واقف، وصوت الرياح وهدير الأمواج يبعث في الإنسان شيئاً من الخوف والجلال والرهبة .. وبين جيشان الطبيعة وثورتها كنت تسمع صوت هذا المسكين بين حين وآخر منادياً "شـــآآآآآآي" .
وأحس الفتى برذاذ المطر يهطل على آنية الشاي وهو لم يبع
منها شيئاً ، فازداد حزنه ولقد كان المسافرين في حاجة الى الشاي ، غير أن ما صدهم
عنه رداءة آنيته وإتساخ أكوابه، وهيئته حامله وقد كانت تناديه تلك المرأة بين حين
وآخر مشيرة عليه بأن يسرع خطاه وان يذهب الى الناحية الأخرى من القطار لعله بائع
شيئاً للمسافرين وأخيراً بلغ به التعب مبلغه وبح صوته، غير أنه واظب على ندائه
وكأنما القطار بانتظاره الطويل قد زاد من ألم هؤلاء الناس وضاعف أحزانهم وقد برد
الشاي وأستمر ينادي ولما تعب ذهب الى تلك المرأة وأراد الجلوس الى جانبها فما كان
منها إلا ان دفعته الى ناحية القطار ، ولكنه وقد خارت قواه لم يستطع الصراخ فصار
ينادي في شيء من الهمود والإعياء وفقدان الصوت "شاي.. شاي حتى كأنه قد
ابتلعته الرياح وصفر القطار معلناً سفرته فذهب هؤلاء الباعة مبتعدين عن القطار
وسمعت هذه المحادثة والقطار يتحرك بين تلك المرأة وذلك الفتى .
قالت المرأة ها قد خسر الشاي! من ذا الذي قال لك ضع
القرشين في مثل هذا الشاي ومن سيشربه لك الآن؟ لتنام الليلة من غير عشاء وظلت توبخ
وهو ساكت وقد بلغ بها الحنق غايته فدفعته بشده إرتج لها جسم الفتى، وأخذت منه آنية
الشاي، وبعدها أخذ الطفل يبكي واقتربت منه في عطف واسى وأخذت رأسه بين يديها
وخانتها قواها، فانحدرت دمعة كبيرة من مآقيها ولما رأها الفتى على هذه الحالة
إسترد شيئاً من شجاعته وقال:
-
ولكنك أنتي يا أماه قد قلتي لي أعمل هذا الشاي
علنا نربح منه قرشاً، وقد عملته كما أمرتني!
فأجابته بعد ان نظرت الى عينيه الدامعتين قائله في صوت هادئ
تخالطه مرارة دفينة:
-
" نعم أنا ... أنا السبب أسكت يا ولدي الله
في".
وبعد هذا المقطع لم أسمع شيئاً بل رأيت الأم والابن يتجهان نحو قريتهما في خطى متثاقلة وسكون كئيب، على حين كان المطر يزداد، والأمواج تصخب والريح تولول وجسماهما يختفيان كنقطتين سوداوين وسط ذلك الظلام ، وإبتعد القطار وصورة ذلك المشهد لا تفارق نظري ، ونغم ذلك الجرس الصارخ المملوء لوعة وأسى "شا...آ أي" مازال يرن في إذني . وإذا بصراخ بعض أفندية القطار يقطع على تفكيري فهو ينادي الجرسون "واحد بيرة بس خلي الثلج يكون كثير ورأيت هناك نفراً من الموظفين الإنجليز وهم جالسون في غرفة الطعام يتكلمون بسرعة ويتبادلون النكات المضحكة ويدخنون بينما القطار في عدوه.
**-**
المصدر :
جمعية الصحفيين السودانيين- السعودية/ معاويــــة نـور، بتاريخ الأربعاء 26 أبريل 2006
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق