الأربعاء، 16 ديسمبر 2020

قِصَّة قَصِيرَة: كِسْرَة فَتَرِيتَة

بقلم/تسنيم طه

  

عندما نهض وأمسك بالطنبور، صفق أصدقائه بحماسٍ، تصفيقًا دفع برؤوس المجموعات المجاورة تلتفت نحوهم.

 مجموعاتٌ متنوعة: رجال ونساء وشباب، جاؤوا إلى "الساحة الخضراء" (التي سيتغير اسمها إلى "ساحة الحرية" لما تنجح الثورة بعد عامٍ ونصف)، ليروحوا أنفسهم في الهواء الطلقِ بعيدًا عن ضيق المنازل والشقق وينسوا همومهم ومعاناتهم بسبب تدهور أحوال البلد، وليتناسوا سوء أوضاع المعيشة وغلاء الأسعار ويتشاغلوا عن قهرهم وربط مصائرهم بارتفاع سعر الدولار، ليكفوا ولو للحظات عن تكرار التذمر والشكوى من انتشار البطالة والفقر وهجرة الشباب هربًا من الوضع الاقتصادي الذي أبى أن يتحسن.

بنظرةٍ خاطفةٍ مسح الوجوه حوله، قبل أن يفتتح الغناء:

"بلادي أنا، بلاد ناسًا في أول شيء، مواريثهم كتاب الله

وخيل مشدود، وسيف مسنون حداه دِرِع

وتقاقيهم تسرج الليل مع الحيران،،، وشيخًا في الخلاوي ورِع"

فامتزج التصفيق والتصفير بحماس جوقة الأصوات المرددة معه " ﺑﻼﺩﻱ أنا، ﻳﺎ ﺑﻼﺩﻱ،،،أﻟﻒ ﺗﺤﻴﺔ ﻟﻴﻜﻲ ﻣﻦ ﺍﻟﻔﺆﺍﺩِ"، ليغمره شعور بالزهو، ذكره بعمه الذي علمه العزف على آلة الطنبور تحت أشجار النخيل على ضفاف النيل، فور أخذه لكافلته وهو طفلٌ في الخامسة، بعد استشهاد والده في مدينة كَبُويْتا، في واحدة من معارك حرب الجنوب الأهلية، أعنف وأطول حروب القرن العشرين، راح ضحيتها قرابة مليوني من المدنيين، ونزوح أكثر من أربعة ملايين.

 تشاغل بحنينه القوي لعمه بالترحم على روحه في سره، مجبرًا نفسه على عدم الانغماس في حنين أقوى لجروف البصل والفاصوليا والبامية ونخلات البلح "البَرَكاوي"، حتى يستطيع التركيز في الغناء والتواجد في اللحظة مع أصدقائه.

 لكن ما أن تغنى بمقطع "والله وكم نخلات تهبهب فوق جروف الساب، وبقرة حلوبة تِتْضَرَّع ولِيها ضَرِع"، حتى عاد يشعر بأنهار الحنين تسيل في روحه جداولًا حتى كاد يغرقه فيضانها عند تذكره لطفولته وذكريات لحظات لهوه مع الثيران أثناء دورانها مع السواقي لرفع المياه من النيل وسقاية جروف القرية، حيث رباه عمه.

وكاد يتوقف عن الغناء، عندما أحس بأنه سيقط صريع الحنين، مع سريان قشعريرة في كامل، ما أن تغنى بمقطع:

وساقيةً تَصَحِّي الليل مع الفّجْراوي،،،يِبْكِي الليل ويِدْلِق في جَداوْلو دَمِع،،، يِخَدِّر في بلادي سلام ".

واحتار هو يحاول فهم سبب تضاعف خفقات قلبه، دون أن يدري أيعزيها لكلمة "سلام" التي أيقظت تلهفه لأن يعم السلام بلاده وتتوقف كل تلك الحروب، أم لقوة حنينه لذكرياته مع عمه، ونخلاته وجروف حقوله ورائحة هبوب الولاية الشمالية.

وفي أثناء بحثه لفهم ما اعتراه من اضطراب، لمحها تنهض بأريحيةٍ وتنتصب كنخلةٍ شامخةٍ في وسط الدائرة، قبل أن تتمايل بثقة وجسم لين كغصن شجرةِ بانٍ، بينما ثغرها الباسم يواصل الترديد مع الأصدقاء:

" خُدُرْةٍ شارْبي مُوية النيل،،،تزرد في البوادي زَرِع"

وتضاعفت ضربات قلبه أثناء تفرسه في وجهها، الذي أعملته مَلاحَتَه بأن صاحبته ليست من طلاب كلية الاقتصاد، ولا بقية كليات جامعة الخرطوم المجاورة لقاعات دراستهم، وإلا لما كانت لتمر من أمامه دون أن يلاحظ سحرها. 

وتناسلت الأسئلة في رأسه عن أصلها وفصلها وقبيلتها. وتمنى أن تكون منحدرة، مثله، من قبال النوبة في الشمال، آملًا أن تفهم وتتقبل مغازلته عندما يعبر لها وقوعه في سحر جمالها بكلمة "آشْرِي"[1]

وأثناء انغماسه في حواره الداخلي لإيجاد مدخلٍ لحوارِ مع فاتنته، انتبه أن العيون تحدق في وجهه باستغراب، وبعض الأصوات تتهامس عن سبب توقفه عن الغناء. فأصدر نحنحة لتساعده على الخروط من ثمالته ليواصل الغناء. لكنه اكتشف أن التمعن في جمال الفتاة المتمايلة بلين قد أنساه أين توقف.

في تلك اللحظة، حلقت قريبًا من سماء الساحة الخضراء، طائرة "طيران الخليج" أثناء استعدادها للهبوط في مطار الخرطوم الدولي، فتلاشت في صخب محركاتها ضجة احتجاجات الأصدقاء على توقف الغناء، فوجدها فرصةً لالتقاط أنفاسه، والميل بتردد نحو فاتنته ليسألها عن اسمها. ولما أجابته بدلال "لمياء"، وسمع الجميع إجابتها بعد ابتعاد الطائرة، ليعيد الحياء اليه ذاكرته المسلوبة، ليستأنف الغناء فتستأنف الليماء رقصها المتمايل.

ومع استئناف أجواء الطرب، وملاحظة انضمام شباب من مجموعةٍ مجاورةٍ، كانوا يناقشون رواية "قواعد العشق الأربعون"، إلى مجموعته، غمره شعور بالفخر لرؤيته لحماسهم ومشاركتهم في الترديد التصفيق بانسجام مع أصدقائه، بينما أعينهم ترمقه بنظرات اعجاب. فواصل الغناء بحماسٍ وزهوٍ متلذذًا في نطق كلمات مقطع: "ﺑﻼﺩﻱ ﺍﻟﺠﻨﺔ ﻟﻠﺸﺎﻓﻮها، أﻭ ﻟﻠﺒﺮﺓ ﺑﻴﻬﺎ ﺳِﻤِﻊ،،،بلاد ناسًا تكرم الضيف".

 لكنه لم يكد يُنهي مقطع: ﻭﺣﺘﻰ ﺍﻟﻄﻴﺮ ﻳﺠﻴﻬﺎ ﺟﻌﺎﻥ،،،وﻣﻦ أﻃﺮﺍﻑ ﺗﻘﻴﻬﺎ شِبِع"، حتى تفاجأ بلكمة قوية أردته ساقطًا أرضًا بجوار طنبوره، ومنعته عن من الرد على صاحب الصوت الجهوري الغاضب:

-        يا زول إنت مجنون؟ كيف تغني لبلادك وتقول إنو الطير يجيها "جعان"، والرغيفة بقت بي جنيه؟ هسة عليك الله إنت لاقي عيش تشبع فيهو عشان تفضل منه للطير؟

ولما أفاق من صدمته وفتح عينيه، وجد اللمياء قد راكعة بجواره على الأرض، تطالع بهلعٍ قطرات الدم السائلة من فمه، لتبقع قميصه الأبيض.

-       أنا من العَصُر قاعد أقنع في الشباب عشان يواصلوا المظاهرات احتجاجًا على حالة الغلاة الضاربة البلد. وتجي إنت بي أغنية غبية زي دي تفسد عليَّ كل حاجة؟

غاب عازف الطنبور في عيني اللمياء البندقيتين وهما تطالعانه بخوف، ليدرك عدم استطاعته تلقين هذا المعتدي درسًا يستحقه في وجود هذه الرقة بجواره.

-       ده منو ده؟ وعندك معاهو شنو؟ تحب ننادي الشرطة؟

وقبل أن يجيب على سؤال الليماء، رأى مجوعة من أصدقائه ينهضون مندفعين نحو بالمعتدي، ليحكموا قبضتهم عليه، قبل أن يسألوه: 

-       تحب نسقيهو من نفس الكأس ونسيح ليك دمه؟ أو ننادي الشرطة؟

بصعوبةٍ، نهض العازف بعد أن التقط طنبوره، ثم أدار بصره برهة بين وجوه الأصدقاء المترقبة لإجابته، ووجه الللمياء الهلع، ووجه الجاني المتوعد، قبل أن يطالبهم بهدوء: 

-        فكوه!

-        كيف يعني نفكو؟ ده سيَّح دمك؟ وعايز تسيبوا يمشي بالبساطة دي؟

تجاهل عازف الطمبور جوقة صرخات أصدقائه المستنكرة، والتفت ناحية فاتنته اللمياء، ليزداد شعوره بالزهو عند ملاحظة تضاعف الهلع في وجهها، زهوًا أنساه آلام فكه، دافعًا به لتوجيه كلامه إلى الجاني بنبرة هادئة:

-       ح نفكك عملاً بنصيحة المسيح: " إذا ضربك أحدهم على خدك الأيمن، فأدر له خدك الأيسر"، وقدورة بسيدنا محمد "ص" وترديده للآية القرآنية: "خذ العفو وأمر بالمعروف وأعرض عن الجاهلين".

فاستشاط الجاني غضبًا، وسعى للفكاك من مطوقيه أثناء زمجرته:  

-       قصدك شنو؟ يعني أنا جاهل؟

لكن الشباب أحكموا قبضتهم عليه أكثر، ليمنعوه من التقدم نحو صديقهم، عازف الطمبور الذي رد على حثهم له القرار في أمر الجاني، بتكرار أمره بأن يفكوه.  فأطاع الأصدقاء مكرهين، تاركين الجاني يفلت قبضاتهم بضجرٍ، ويتقدم بوعيد نحو العازف مصوبًا نحوه نظرات كراهيةٍ قبل أن يهدد: 

-       لو سمعتك تاني تغني الأغنية ح أكسر ليك رأسك. فاهم؟

ولم تكد تمر لحظات، بعد ابتعاد الجاني الغاضب، حتى استعاد عازف الطمبور وقفته الواثقة محتضنًا طنبوره بذراعه اليسرى، قبل أن تستعيد أنامله اللعب على آلته بسلاسةٍ، تمهيدًا لاستعادة أجواء الطرب.

-       ما خايف يجي يكسر ليك رأسك؟، سألته اللمياء بقلق.

-       ما تخافي! أنا عارفه كويس، ده من شُلَّة المتقمصين لدور "تشي جيفارا"، وأغلبهم حاليًا يتلظون بنيران الزنازين في السجون، أجابها بكل هدوء.    

ولما رمقته بنظرةٍ مرتابة، اتسعت ابتسامته قبل أن يطالبها بدلال:

-         يلا نواصل غناءنا، وليك عليَّ أعزمك على العشاء!

فطال صمتها، فتردد ثم انحنى ناحيتها ليهمس شارحًا بأنه بعد تفاقم أزمة دقيق القمح وشحيح الخبز في المخابز، أرجعتهم أمه إلى أيام حياتهم القديمة في الريف، فعادوا يستمتعون بأكل "كِسرة الفَتَريتة".  ولما لاحظ التماع عيني الفاتنة وهي تصغي إليه وهي يسترسل في ذكريات طفولته في الولاية الشمالية، أضاف بفخرٍ ليؤكد لها أن والدته ستكون في قمة السعادة أن تَعُوسْ[2] لهما هذا المساء كسرة لتقدم لهما وجبة مفيدة من لدقيق الذرة الأحمر، إن وافقت على دعوته على العشاء معها في البيت. فوضعت الليماء يدها على فمها خجلًا، واستنكرت في سرها أن يدعوها من أول يوم تعارف إلى بيتهم ليقدمها لوالدته. وعندما طال صمتها، عمد لطمأنتها:

-       صدقيني "كِسرة الفَتَريتة" طعمها حلو.

وقد كان يظن أنها من بنات العاصمة المرتاحات، اللواتي تربين على أكل الخبز الأبيض الآلي المخبوز بالدقيق الأسترالي، ومعجنات البيتزا والحلويات الشرقية والغربية. ولما أخبرته بأنها هي أيضًا عاشت في الولاية الشمالية، وخبرت "كِسرة الفَتَريتة"، كما خبرت مثله، ركوب الحمير، واللعب بالطين والركض بين الجروف، وصيد اليرقات قرب حقول الذرة الشامية والفاصوليا والبصل، لم تسعه الفرحة، هتف بسعادة: 

-       يلا نواصل الغناء، وأوعدك ح تأكلي الليلة لمن تشبعي.

فابتسمت الليماء بسخاء، ثم أجابته بدلالٍ:

-       أكيد ح أشبع طال ما ح اقابل أمك.  وبعدين الفَتَريتة مالها؟ أهو نعمل "ريجيم" ونوفر قروش العيش الغالي المعدوم من الأفران.

تسنيم

باريس/ 16يناير 2018

**-**

اللوحة:  للفنان التشكيلي السوداني طارق نصر عثمان


[1]  كلمة "آشْرِي" تعني جميل باللغة النوبية الحلفاوية.

[2] العُواسة هي عملية (صُنع) الكِسْرَة (أشهر الأكلات الشعبية في السودان)، ويطلق على المرأة التي تصنع الكسرة "عَوَّاسة".

قصة قصيرة: باحة بروكا

 بقلم/ محمد حسن النحات

وضعتُ أمامي أوراقاً بيضاء، مَحبرَة نحاسية، ريشةً اختلستُهَا من بطة جيراني, أشعلتُ شمعةً وأحكمتُ تثبيتها على منتصفِ المنضدةِ ، ألصقتُ أطرافَ أصابع يدي وأسندتُ مرفقي على حافةِ الطاولةِ، كنت عارياً تماماً. تنزلق حُبيباتُ عرقي من أسفل عنقي إلى مُفترق مؤخرتي و عندها يختفي إحساسي بسريانها لتبدأَ حُبيبات أخرى الرحلة من محطة العنق. كتمتُ أنفاسي مترقباً هُبوط الوحي.

عشر دقائق ، نصف ساعة ، ساعة... و لا شيء حدث… تصاعدتْ رائحةٌ مقززة من جسدي وفترتْ مؤخرتي من تقبل عرقي و حَملي. فأطفأتُ ببؤسٍ الشمعة وأدرتُ مروحة السقف وارتميتُ منهكاً على السرير.

أفقتُ من نومتي متكدراً برأسٍ ثقيلٍ، و أطرافٍ مُتيبسةٍ، تلصصتُ على أوراقي علها مُلئت ، بالطبع كانتْ بيضاء فزمان المعجزات قد ولى. قمتُ مترنحاً صوب الحمام ، تبولتُ واقفاً وأنا أراقبُ خَيط البول المُصفر بتمعنٍ لا معنى له. وقفتُ تحت الدش مغمضاً عيني متنصتاً على دوشةِ الماء و عراكه مع درن جسدي. أرخميدس هبط عليه الوحي و هو عارٍ مثلي ، إلا أنه للأسف لم تكن لي رفاهية البانيو.

كانت الساعة تقاربُ العاشرة مساء عندما هاتفتُ جارتي الأرملة، وأنا أداعبُ عضوي الضامر... أجابتني بهمسٍ و تعذرت بضيوفٍ لديها ، شتمتها بأقبحِ الألفاظ؛ فأغلقتْ المكالمة في وجهي. كنتُ في حاجةٍ لإفراغ طاقتي عسى أن تخطر على عقلي أية فكرة. طوّفتُ بأنحاءِ المنزلِ؛ لأخلص إلى تناول عشائي، ازدردتُه مرغماً وأنا أتخيلُ دمائي الجائعة تعدو من كل جهات جسدي لتتكدس عند معدتي، فتتفاجأ بجبنٍ باردٍ و قطعَ خبزٍ جافة. ضحكتُ حتى شَرِقتُ.

عند ظهيرة اليوم التالي كنتُ قابعاً في ركني المفضل من المقهى، كنت دوماً أفضلُ المقاعد الخلفية؛ فمنها استطيعُ الاطلاع على العالم، اتسمرُ لساعاتٍ مراقباً الناس، و تنقلات النادل بينهم، طريقة حمله لطلباتِ الزبائن، تأرجح السوار النحاسي على معصمه، و صوت احتكاك خواتمه العديدة على أسطح الطاولات كلما وضع طلباً، و على الرغم من لحيته الكثة إلا أنني أراهن دون دليلٍ ملموس على أنه شاذ جنسياً. تكرعتُ كوب الماء على معدتي الخاوية و طقطقتُ ظهري متلمساً مواضع الألم عند نهايته، كانت ليلة أمس مكتظةً بالأحداثِ المُرهقة. لم أنمْ أبداً و ظللتُ أعمل طوال الليل دون طائل. كانتْ لدي العديد من عُلب الدهان التي لم تستخدم فرصصتها عند إحدى حوائط بيتي، و بفرشاةٍ قديمة أخذتُ ألطخُ الجدارَ كيفما اتفق، تداخلت الألوانُ في نفورٍ و امتلأَ المكانُ برائحةِ الطلاء المُسكرة، ثم وقفتُ متصلباً أمام اللوحةِ الجدارية، في يدي أوراقٌ و قلمٌ، تركتُ عيني تتمشيان على الألوان علّ فكرة ما تنبجسُ من رأسي، لو كنتُ أنا و لطخات الألوانِ هذه جزءاً من لوحة سيريالية لرُبما نالت استحسان النقادِ، و بيعتْ في مزاداتِ أوربا بأبهظ سعرٍ.

خمنتُ أن الأفكارَ تتمنع عني لأن الألوانَ المتداخلة تشتتُ تفكيري؛ فقررتُ طلاءَ الجدارِ بلونٍ واحدٍ. تزاحمَ أمامي الأبيض و الأحمر والأزرق فاخترتُ الأخضرَ الداكنَ عسى أن تتراءى أمامي كُل غابات أفريقيا بشجارات قردتها وقفزاتِ غُزلانها المتهورة و كَسَل أسودها، و رقصات قبائلها. لكن الأخضر لم يمنحني سوى رؤية باعوضةٍ تعيسة عَلقتْ في الطلاءِ اللزجِ، فمكثتُ أراقبها حتى همدتْ.
ازدادَ عددُ زوارِ المقهى، عجائزٌ فاتهم قطار الإبداع ، شبابٌ عبقري الحرفِ لا يجدُ مساحةً لدس كِتاباته في عُقول نُقاد أصابتهم الكلاسيكيات بالتخمة، آخرون يزجون بالعضو الذكري بين كُل كلمةٍ و أخرى، الباحثون عن مأوى و جماعة، و البوهيميون الذين تزكم روائحهم الأنوف، و أنا الروائي الذي لم تجد رواياته الثلاث سوى صدى قذفَ حجر في نهرٍ. آلام الظهر تزداد، شتمتُ الأمريكي " دان براون " على نصيحته الغبية، بالأمس تشقلبتُ_ كما قرأت في مقالته _رأساً على عقب على عارضة الباب، طنتْ أُذناي و أحتقن وجهي بالدماء. المأفون أكد أن هذه الوضعية تجلب الأفكارَ لكنها أصابتني فقط بالدوار؛ فسقطت على ظهري بمهانة لا تُناسب عمرَ الأربعين.
تحاشيتُ النظرَ إلى زميل المهنة " عبدالرؤوف " لكنه بكُل لُزُوجته المعتادة التصق بطاولتي، احتضنني بتكلف و احتضنته بتكلف، و جلسنا نتجاذب سراويلَ الحديثِ. عليك كمثقف عندما تحادثُ مثقفاً أن تنفخَ صدركَ، تنظرُ بعيداً خلفه إلى اللاشيء، تصمتُ لهنيهاتٍ كحكيم صيني، و أنْ تستخدمَ بضع كلماتٍ كمتلازماتٍ لغوية مثل: اندغام، تماهي، أفريقانية، الأنجلو سكسونية.
و كَمَن رأى أمراً طريفاً على الفيس بوك قلتُ له و أنا أعيد هاتفي إلى جيبي: هل مررتَ بشُح في الكتابةِ؟
نظر إليَّ مطوَّلاً ثم قال: لا طبعاً!... المبدعُ معينه لا ينضبُ، كما تعلم فأنا سنوياً أصدر كتابين، هل تَمُر أنتَ بحبسةِ الكاتب؟

_تراجعتُ بظهري على المقعد كَمَن يتقي شرَ سهمٍ طائشٍ : لا... مستحيل!... إنه شابٌ راسلني يطلبُ علاجاً لهذا المرض

_شبك يديه قائلاً: همنجواي وروث يقولُ : الحيلة للتخلص من حبسة الكاتب هي أن تقوم بالكتابةِ فحسب.

_صحيح!... أجبته كاتماً غيظي عليه و على همنجواي هذا.

و استرسلنا في الحديث حتى شاهد " عبدالرؤوف " شاعرةً شابةً تدلفُ إلى المقهى فقطع جلسته معي وودعني حاملاً معه مشروبي الغازي و هرَع إليها.

أخبرتُ النادل ذا الخواتمِ العديدة بطلبي، أمسكتُ قلمي مبارزاً الأوراقَ البيضاءَ، وأنا أحتسى القهوة، و كُلما نفدَ قدحى جلبَ لي النادلُ واحداً أخراً، قرأتُ أن الكاتبَ العظيم " فولتير " كان يشربُ أربعين قدحاً من القهوة عندما يكتبُ، و اليوم سأحطمُ رقمه هذا، و أنهي عجزي الكتابي. عندما وصلتُ للقدحِ العاشرة قال لي النادل بنظرة متشككة : أستاذي هل أنت متأكد من أنك تريدُ المزيد ؟! .

عند القدح الخامسة عشرة شعرتُ بتنميل في أطرافي, ظل يزدادُ بوتيرةٍ متسارعةٍ ليشمل كل جسدي، الطاولة اللعينة أصبحت تدور بي برعونة، فتقلصتْ معدتي و فقدتُ السيطرة تماماً على بلعومي الذي أفرغ عُصارة بطني الصفراء المُبقعة بسوادِ القهوة على الطاولةِ وعلى قميصي، بعد كل دفعة قيء أخذتْ غازات بطني تنفجر بفضائحية، كنتُ كمن ترفرفُ روحه في السقفِ مراقبةً تراجيديا الجسد، تَحلّقَ الجمعُ من حولي؛ يحاولون مساعدتي، شاهدتُ شاباً عربيداً يخرجُ هاتفه؛ ليدونَ تغريدةً بالحدثِ، أو فكرةً تصلحُ لقصةٍ قصيرةٍ مركزها بشاعة موقفي. أخيراً التقطتُ أنفاسي وبدأت ضرباتُ قلبي تنتظم، خيروني بين الذهاب بي إلى مشفى أو إلي بيتي لكنني فضلت البقاء للملمة نفسي. و شيئاً فشيئاً ابتعدتْ أنظارُ الناسِ عني و عدتُ وحيداً على طاولتي بعقلٍ خاوٍ، و أوراقٍ بيضاء.

ثم أخذتِ الأمورُ منحى خطيراً عندما دلفَ إلى المقهى عملاقٌ ضخمٌ استطاعَ بمشقةٍ العبور من البابِ، و بالكاد بعدت رأسه بوصات قليلةٍ عن السقف، و في صحبته عجوزٌ ذات صوتٍ عالٍ وضحكة خشنة رجولية، تجاهلا أعين الجميع و توقفا فقط عند طاولتي!. أجلستْ المرأةُ الرجلَ الضخمَ في مقعدين تحملا بمشقةٍ وزنه، بينما سحبتْ كرسياً في مواجهتي ويدها اليُسرى تتمشى على فخذ رَجُلِهَا و باليُمنى أشعلتْ سيجاراً

بللتُ لساني بريقي؛ لأقولَ : منْ أنتما ؟

و بصوتٍ رنان : أنا بت مجذوب و هذا "استبيان"

بحلقتُ فيهما ببلاهة! ، كانتْ بت المجذوب متوسطة الطول، لونُها فاحمٌ مثل القطيفةِ السوداءِ ، ما يزال فيها إلى الآن و هي تقارب السبعين بقايا جمال. بينما كان " استبيان" أطولَ رجلٍ يمكن أن تقابله، قوي البنية، ذا وجهٍ طفولي طيب، يرتدي سروالاً صنع من أقمشة الأشرعة، و قميصاً من الكتان الفاخر، يداه ضخمتان ناعمتان متوردتان، ملامحه لاتينية مثل اسمه.
نادتْ بت مجذوب على النادل بصوتٍ مِغنَاج و طلبت حليباً للضخمِ، و شاياً لها ثم غمزته وهي تضربه بفجور على مؤخرتِه, فتلقى الصفعة بحبور لا يليق برجل!.

تجرعَ " استبيان " كوبه في جُرعةٍ واحدةٍ، بينما شفطتْ بت مجذوب الشاي مُحْدثةً جلبةً عاليةً.
_ من أنتما ؟ و ماذا تريدان ؟

ردتْ بت مجذوب : ألستَ كاتباً ؟ ألم تعرفنا ؟! أنا بت مجذوب من عوالم " موسم الهجرة إلى الشمال " للطيب صالح. و هذا استبيان من قصة " أجملُ رجلٍ غريق في العالم " لماركيز.
فغرتُ فاهي دهشةً، قرصتُ فخذي تحتَ الطاولةِ؛ لأتأكد أنني لا أحلمُ!
_ يا رجل أَزَل عنك هذهِ الدهشة الغبية، علي الطلاق ما أقوله كله صدق، كُنتُ حبيسة مثلك بين دفتي كتاب لكنني بحيلة ما استطعت الفِكاكَ من براثن الحبرِ و الورقِ، و طوفتُ كل أنحاءِ العالمِ ، تعرفتُ على العديد من الرجالِ، إلى أن قابلتُ حبيبي "استبيان" فأنساني أزواجي الثمانية، ومغامراتي الطائشة... لديه شيءٌ أمتن من الوتد و أَمضى من .... الخ.
كانتْ امرأةٌ فاجرةٌ كما قرأتُ عنها و كما تخيلتها، ثرثارةٌ بصورةٍ مزعجةٍ. بينما اكتفى "استبيان" بالنظرِ بوداعةٍ إلى يديهِ.

قاطعتها : و ماذا تريدين مني ؟

_ أثناء تجوالي مررتُ بعالمك؛ فأشفقتُ عليكَ يا عزيزي!. أنتَ حبيسُ قصةٍ ركيكةٍ لكاتبٍ مغمورٍ، أنت مثلنا شخصية من بناتِ أفكار كاتبٍ لكن لسوء حظك كاتبك شاب لا صيت له و لن يقرأ قصتك أحدٌ؛ أخرج من سجنك هذا... العالم بالخارج فسيحٌ و ستجدُ ما يسعدكَ كما وجدتُ أنا حبيبي هذا.

جذبتْ رَجُلِها الصموت الذي لم يجعل له ماركيز لساناً. خرجا بعد أن أحدثا فوضى عارمة داخلي.
سرتُ مترنحاً نحو المرآة ليطالعني رأسٌ أصلعٌ لوجهٍ غاضبٍ، بعينين منطفئتين، و عوينات كبيرة قبيحة، لم أحب يوماً وجهي، من قال إنني أحبُ ارتداءَ هذا القميص المزركش، كأنني سائحٌ على شواطئ المحيط الهادئ؟! نزعتُ القلمَ المزروع بتبجحٍ في أعلى ياقتي و قذفته بعيداً، نقمتُ على من كتبني، الفاشل لم يجد لي إلا شاربَ هتلر هذا؟!. الكلب جعلني أضاجع جسدَ الأرملة المترهل المقزز مرات و مرات، جعلني دون أسرة، وبالطبع دون أطفال، وحيداً أعاني من عسرٍ في الكتابة، أدور حول نفسي في عالم مغلق فقير بين بيتي و المقهى الثقافي، ثم " عبدالرؤوف" الذي سرق مشروبي البارد و هرع حالما رأى فتاةً، حطمتُ المرآة بقبضتي دون أن تسيلَ قطرةُ دمٍ منها، خرجتُ من المقهى محدثاً زوبعةً ألجمت الجميع ، البُلَهاء لا يعلمون أنهم شخوص ثانويون في قصة بائسة، لا قيد بعد اليوم، سأرحل عن هذه الصفحات لأبحث عن عوالم أخرى، ربما أصير ملكاً فرعونياً، أو راهباً تبتياً، أو حتى مراهقاً فرنسياً، سأشبعُ كل نزواتي و أغترفُ من متعِ الحياةِ بمِعْولٍ، و عندما أسأَمُ تماماً سأحلّقُ فوقَ السحابِ و أجتبي منحوساً يعاني من حبسةِ الكاتبِ؛ لأومضَ في عقله فكرةً تنجيه من الجنون، وفداحة التشقلب رأساً على عقب.

 **-**

* باحة بروكا : النصّ القصصي الذي حاز على جائزة محمّد سعيد ناود للقصّة القصيرة في دورتها السادسة للعام 2020م التي تنظمها سنوياً - “مكتبة أغردات العامة.


لقراءة القصة من مصدرها  / الانطولوجيا:  http://alantologia.com/blogs/34980/

الاثنين، 14 ديسمبر 2020

قصة قصيرة: خط ميترو الأنفاق الدائري "The Circle Line"

بقلم / ليلى أبو العلا

ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي


لا يسيح الجبن في مكان مثلما يسيح في لندن. ولا يختلط فيها القديم بالجديد مثل ما يفعل في غيرها. لندن مدينة مُسْعَدة. غير أنه يمكن لفتاة أن تنتحب في شوارعها، ولا يقف عندها أحد، ولا يرتفع حاجبا أحد من الناس، أو يسألها أحدهم عن سبب انتحابها. آه، هي مدينة الفرص المتاحة والسلالم الوظيفية والشهرة. كنت قد وعدتني بإمكانية البدء من جديد، وصنع ثروة لنفسي. أن أصعد وأحلق بعيدا. غير أن العمر يتقدم بي بينما الفرص أمامي تتجمع، والمسارات تتلاقي. فأنا أعيش في مرحلة التَضَييّق والتَقْيِيد والإغلاق التام

أفضى ذلك التَضَاؤُل والانكماش للعيش حياة مُتَوَاضِعة، بل فاشلة في الواقع. فتحت بابا سريا على ما خلت أنه أقل مني قدرا. بالوعة من الجريمة المريرة المسعورة. كان خطيبي قد أعتقل الشهر المنصرم بتهمة غسيل الأموال. لا أعلم عن ذلك الأمر… ليست لدي أدنى فكرة عنه. قال لي الناس إنه من حسن حظك أنك لم تعتقلي معه. لم يشغلوا أنفسهم بحال قلبي.
ولما انفصلت عنه، دأبت أمي على أن تبعث لي بخُطَّاب بديلين. من الأسهل لي أن أقابلهم هنا في لندن. في “أبو ظبي” لا بد أن يكون معنا شخص ثالث، أو على الأقل نتظاهر بذلك. هنا يمكنني أن أقابله بمفردي. هنا كل شيء أسرع: من اللقاء المُحْرَج الأول، إلى معرفة حقيقة الشخص رغم قشرة المظهر الكاذب، ورعاية شرارة (الحب)، وإيقاف مشروع قبل أن يعلن رسميا. مسموح لنا هنا ببداية أكثر خصوصية وحيويةً.

صحوت على رَنَّة رسالة قصيرة منها. وتحدثت معها عن طريق (اسكايب) وأنا أتناول خبزي المحمص. كان توقيتها متقدما على الوقت عندي بثلاث ساعات، وكان واضحا أنها في مزاج مرح. قالت لي: “بعد تجربتنا التراجيدية الأخيرة، يجب أن نلزم العائلات التي نعرفها.”
كان لطيفا منها أن تستخدم كلمة (تجربتنا) لتضم نفسها لي في الذل والمهانة التي حاقت بي. غير أن ذلك من الممكن أن يكون مجرد خُدْعَة من جانبها لتليين موقفي. أعرف حيلها جيدا.
واصلت الحديث في ثقة: “أتذكرين هشام، ولد دكتور سعاد؟ لا بد أنك تتذكرينه منذ ذلك الوقت الذي التقيت به في الإسكندرية. كم كان عمرك وقتها؟13 أو 14 سنة؟ أعطيته رقمك. هو في لندن لعدة أيام فقط. لا بد أن تلتقي به.”

عاد بي عقلي لعقدين من الزمان إلى صورة هشام … شاب نحيل يرتدي زي سباحة داكن الزرقة. كان يردد وهو يزيح قطعا من الأعشاب البحرية: “هذا يمكن أن يؤكل! هذا يمكن أن يؤكل!”. ولم يشاركه أحد في إثارته تلك. وكنت أعرف وأنا في الرابعة عشر من العمر شيئا عن الوله والتعلق. وكنت أعرف من يعجبني ومن لا يعجبني. وفي تلك السن قيمت هشام هذا وخلصت إلى أنه ليس من نوعي ولا يناسبني.

قلت لأمي: “أنا مشغولة.”
أنت في الرابعة والثلاثين.”
ثلاثة وثلاثين.” عيد ميلادي سيكون في نوفمبر.
تغير مزاجها. قالت لي: ” بعد قليل من السنوات سوف لن يكون الموقف مزحة.”

كنت قد سمعت تلك القصة مرارا وتكررا. تطير السنوات، وتقل الخصوبة. كم صرت أكثر استقرارا في حياتي، وكم صرت لا أرى أن هنالك رجلا مثاليا.

سألتها: ” وما هي الخدعة مع هذا؟”. كنت أجد عيبا ما في كل الخُطَّاب. فأول خاطب بعثت به كان قصيرا جدا، والثاني لا يتحدث معي إلا ليقول لي إنه يكره لندن. أما الثالث فلا بد أن يكون جيدا – فرقم ثلاثة رقم جيد، على كل حال. ولكنه أعترف لي بأن عائلته هي من ضغطت عليه ليقابلني، رغم أنه في الواقع يحب فتاة أخرى. وكان في الرابع غلو مفرط في التدين.

تنهدت أمي وقالت: “العَرْقَلَة منك. أنت العائق الوحيد.”


****     

اِتَّصَلَ بي هاتفيا وأنا أدلف لهايد بارك. قبل أن أبدأ رياضة الرَكْض التي أمارسها بعد العمل، وأشرع في التنفس بشدة. اليوم مشمس. تَبَطَّحت الفتيات على العشب، وبدأ دِمام شفاههن يسيل من حر الشمس. خطوت عبر أجهزة الراديو والسي دي المحمولة، والكلاب ذات الرائحة الكريهة، والآيس كريم الفاتر الذي يقدم للأطفال. أخبرني هشام إنه يقيم بفندق في بيز ووتر، وإنه قد ترك وظيفته في إحدى منظمات المجتمع المدني العاملة في دارفور بعد أن قضى فيها 18 شهرا. وسيسافر بالقطار لأدنبرا بعد أيام قليلة لزيارة شقيقه الذي يدرس هناك.
قلت له: ” أنا في المساء أعطي دروسا خاصة في اللغة العربية. قد تعجب من كثرة الطلب على تعلم العربية. يدفعون جيدا ليتعلموها!”

رد ضاحكا بأن هذا أمر جيد ومثير للاهتمام. وقفت ساكنة في مكاني وأنا أنظر للمُنْتَزَه. صبي عربي بدين يلهث وهو يلعب في حفرة رملية، تراقبه مربيته الفلبينية وهي تضع يديها النحيلتين على وركيها. كانت وظيفتها هذه قد أخذتها من بلادها الشديدة الخضرة عبر الدوحة أو البحرين. غير أنها ستسير الآن فوق عشب لندن المُرْهَق. وستغدو في صور العطلة ومقاطع وفيديوهاتها زهرةً أجنبية غريبة في خلفية المشهد.

قال لي: “أسفت عندما سمعت بخبر فسخ خطوبتك.”

أجبته بالهمهمة بشيء ما.

بدا صوت هشام يبتعد وكأنه ينظر بعيدا وهو يقول لي: “يمكن أن تضيق الحياة بسبب الحاجة للمال. غير أن بعض الناس ليس لديهم مُثل وأخلاق، أو حتى ضبط للنفس.”

كان آخر ما أود مناقشته هو أمر خطيبي السابق. لذا حاولت أن أجعل صوتي أقل حدةً وأنا أقول له: “لقد صرت فيلسوفا يا هشام.”

نعم. وأعجب من “خط ميترو الأنفاق الدائري”، وكل الأشياء التي تعطى أسماءً غير دقيقة.”

معذرة؟ ماذا تقصد؟

” في ميترو الأنفاق. أخذت الخط الدائري، ولم يرجعني إلى المحطة التي بدأت منها. يبدو أن القطارات لم تعد تكمل الدائرة، بل تسير لنصف دائرة فقط، وهنالك الآن في الواقع خطين.”
تذكرت الآن الغرابة التي لمستها عند هشام. فكان أحيانا يبدو عبقريا غريب الأطوار، وفي أحيان أخرى يكون مفعما بالعاطفة. وكان يقوم أحيانا، في جدية تامة، بذكر معلومات أو ترديد أشياء لا بد أنه قرأها في مكان ما، أو تذكرها من التلفزيون. فيقول مثلا دون مناسبة “الميرلين هو نوع من الصقور” أو “نهر النيل هو أطول الأنهار في العالم” و”الأعشاب البحرية تؤكل.”
والآن يريدني أن أريه معالم لندن.

اتفقنا على اللقاء في اليوم التالي. ربما لن يكون يوما حارا مثل اليوم. في مثل هذا اليوم الحار أشتاق أكثر شيء لابي ظبي. أفتقد تلك المولات الضخمة وهبات النسيم البارد الآتية من المكيفات الضخمة. هنا تبدو شمس الإمبراطورية الآن وكأنها أتت لتزور المدينة وتعبر عن احترامها وتقديرها لها. وتفيض لندن وتتضخم بأعداد مهولة من السائحين تحملهم إليها مئات الطائرات. سُيّاح لهم شهية عالية، ونقود كثيرة، ولعابهم يسيل وأعينهم تتسع من الدهشة.
سمعت أماً تقول مغمغمة: ” يا للأجانب الأوغاد … كل صيف لعين!” بعد أندفع عدد كبير من السواح نحو الحافلة في شارع أكسفورد وأزاحوها هي وبنتها من باب الحافلة.
كانت الحافلة مليئة بالنساء. نساء يدفعن عربات الأطفال ونساء عجائز صغيرات الحجم يرتعشن. وطالبات مدارس حالمات يعاكسهن بعض الشباب المُتَنَمِّرٌين. والحافلات الحمراء البطيئة مبجلة مكرمة كما الملكة.

مدينة تتميز بكرم لا مثيل له في الاستيعاب: استيعاب نساء كبيرات في عباءاتهن السوداء وحجاب أوجههن وهن يقمن بزيارة الأطباء الأخصائيين في شارع هارلي، ومراهقين مُشَاكِسين يبحثون في متحف مدام توسو عن بعض ما يلهيهم ويسليهم. وذهب مصر القديمة يرقد باردا في متحف. والتنس في ويمبلدون، والحَمَامُ في ميدان الطرف الأغر. والانصاف، وإلزام النفس بفعل ما يصلح من الأشياء والأحوال ولو قليلا بطريقة بسيطة ما. وتحت “قوس الرخام / ماربل آرش” أحس بثِّقَل التاريخ.

وترى في الشوارع حلقات الأنف، وضفائر الشعر المجدل، وحليقي الرؤوس، ودبابيس محفورة خلال الحاجب، ورجلا يرتدي ملابس نسائية، وكلبا أُلبس ملابس رجل، ولافتة مرفوعة عاليا مكتوب عليها “المسيح عائد”.

ولكنها أيضا مدينة صَرْعَات الأزياء. يبدو السواد الأعظم من سكان المدينة حسني المظهر. يهتمون بالشعر والملابس الجديدة، فاللندنيين يبذلون مجهودا، ويولون صفحات المجلات الصقيلة الأوراق كامل ثقتهم. إما هذا أو الساري والعمائم: والنيجيريات في ملابس الجنة الخضراء وأغطية الرأس الضخمة التي لا تستطيع سواهن حملها.

وفي الأسفل كان الطّقْسُ في محطة قطار الأنفاق أكثر دفئا. يا ترى ما هو شكل هشام الآن بعد مرور كل تلك الأعوام. تعجبت من كوني لم أبحث عنه في الفيس بوك. خط اليوبيل ثم خط العاصمة (ميتروبولتان). كريستال بلاس وماربل آرش. وماذا أقول له عن الخط الدائري، وكيف أن “سيرك أكسفورد” ليس بسيرك؟

لا يمكنه أن يعرف لندن حقا حتى يعيش فيها في فصل الشتاء، بضبابه، والقفازات، وأضواء عيد الميلاد.  وهنالك أيضا الأسرار المخبوءة تحت تلك المعاطف السوداء والأشجار العارية من الأوراق، وخطوط الدخان المنبعث من الأنفاس وأضواء الشارع. ومن المهم أيضا تذكر أن ليس كل من يتحدث أو يقف في “ركن المتحدثين” هو مخبول. ليس كل فرد هناك.


 

*****
تقابلنا في أحد المقاهي بالقرب من شارع ريجنت. كانت جدران المقهى مزينة بصور من مات من نجوم هوليود، وكانت قائمة المشروبات والمأكولات فيه تميل إلى الذَّائِقَة الأميركية. كانت الساعة تشير إلى العاشرة، وبدأ أن تلك الساعة مبكرة جدا بالنسبة للندن، فقد كانت نظيفة وحركة المرور فيها قليلة، وليس في الجو حرارة الصيف المرتفعة.

غمرتني فجأة مشاعر حنين لزج عندما وقعت عيني عليه لأول مرة. كتفاه الآن أعرض، وشعره أقصر. ولبرهة قليلة تاقت نفسي لجنون سنوات صبانا الباكر، وسَفْعَة الشمس، وأزياء السباحة التي تثير في أجسامنا حكة، وتلاطم أمواج البحر، وآباءنا وأمهاتنا في الخلفية يتسامرون ويضحكون. يا ترى ماذا سيكون حالي إن لم أرزق أبدا بأطفال؟



 **-*

نُشر في موقع الراكوبة، بتاريخ 16 أكتوبر، 2019

لقراءة القصة من مصدرها: 

 https://www.alrakoba.net/31329512/%d8%ae%d8%b7-%d9%85%d9%8a%d8%aa%d8%b1%d9%88-%d8%a7%d9%84%d8%a3%d9%86%d9%81%d8%a7%d9%82-%d8%a7%d9%84%d8%af%d8%a7%d8%a6%d8%b1%d9%8a%d8%8c-%d9%84%d9%8a%d9%84%d9%89-%d8%a3%d8%a8%d9%88-%d8%a7%d9%84%d8%b9/