ترجمة/ تسنيم طه
ها هو أخيرًا الكتاب المُنتظَر منذ
عدّة سنوات، الذي يُقدّم فيه بيير بورديو فحصًا منهجيًا لمسألة الأدب.
فمنذ مقاله الشهير "الحقل الفكري
والمشروع الإبداعي" المنشور عام 1966 في مجلة "الأزمنة الحديثة"،
يواصل عالم الاجتماع بيير بورديو تأمّله
في الطبيعة الاجتماعية للجماليات، ولا سيما للممارسات الأدبية. وقد سبق له أن طوّر حججه النظرية بشكل مكثف في
مقال "سوق السلع الرمزية" (السنة السوسيولوجية، 1971). تلا ذلك عدة مقالات، من
بينها اثنان خُصصا بشكل مباشر لـ"الحقل الأدبي"، لكن الجميع كان ينتظر منه ذلك العمل الكبير، الذي كان قيد
الإنجاز منذ وقت طويل، والذي يُعدّ خلاصة دراساته حول الموضوع.
تُظهر الإعلانات الترويجية عبارة ـ"فلوبير
بورديو" كصديً وكإجابة لـ"فلوبير سارتر"، لكن، كما هو حال كثير من الإعلانات، فقد يكون في ذلك بعض التضليل.
صحيح أن الكتاب يتطرق إلى فلوبير، ولكن بشكل ثانوي؛ لأن كل ما يوجه مسار العمل
بأكمله، لا يتعلق إلا بصورة ثانوية بذلك الكاتب أو ذاك العمل، مهما كان نموذجيًا، إذ
أن الموضوع يتمحور في جوهره حول "الحقل" نفسه، أي ما أصبح من المألوف تسميته
في الدراسات الأدبية بـ"المؤسسة"، منذ أعمال "جاك دوبوا"، أي مجمل
القيود والإمكانات التي تُمكن الأدب من أن يتحقق ظرفيًا ضمنها.
مقتطف من صفحة 311 من كتاب "قواعد
الفن" :
"إن
التعريف الأكثر صرامة وتقييدًا للكاتب (وما إلى ذلك)، والذي نقبله اليوم وكأنه
بديهي، هو
في الحقيقة نتاج سلسلة طويلة من الإقصاءات أو الطرد الرمزي، التي
تهدف إلى إنكار صفة "الكاتب الحقيقي" على كل أشكال المنتجين الذين كانوا
يعتبرون أنفسهم كُتابًا بناءً
على تعريف أكثر اتساعًا وليونة للمهنة.
"واحدة من الرهانات المركزية
في التنافسات الأدبية (وما إلى ذلك) هي احتكار الشرعية الأدبية؛ أي، من بين أمور
أخري، احتكار سلطة القول بشكل رسمي بمن هو مخوَّل لأن يُطلق على نفسه صفة
"كاتب"، بل ومن له الحق في أن يُحدد من هو الكاتب، ومن
له سلطة القول بذلك، أو، إن شئت، احتكار سلطة
منح الشرعية للمنتجين أو للمنتجات. وتحديدًا،
فإن الصراع بين شاغلي القطبين المتضادين في حقل الإنتاج الثقافي يدور حول احتكار فرض التعريف الشرعي للكاتب، ومن المفهوم أن يتم تنظيمه حول ثنائية
الاستقلالية مقابل التبعية (الغيرية). ويترتب
على ذلك، إن كان صحيحًا عالميًا، أن الحقل الأدبي (وما إلى ذلك) هو ساحة صراع من أجل تعريف الكاتب، فإن
الحقيقة تبقى أنه لا يوجد تعريف عالمي
للكاتب، وأن
التحليل لا يقابل أبدًا إلا تعريفات مرتبطة بحالة معيّنة من الصراع لفرض التعريف
الشرعي للكاتب".
يفتتح الكتاب بتحليل لرواية "التربية
العاطفية" لفلوبير، كوسيلة لإثبات أن علم الاجتماع قادر على تقديم
"تحليل للنصوص"، وهو تمرين تقليدي يُظهر الكفاءة في الدراسات الأدبية. مقدمة تنم عن براعة بلا
شك، لكنهه تضع في الواجهة عرضًا تكتيكيًا، كما لو أن الموضوع سيكون حاسمًا لما
سيأتي بعده، وهو ما ليس عليه الحال في الواقع.
ما سيأتي بعد ذلك هو الأهم.
في الجزء الأول،
المعنون "ثلاث حالات للحقل"، يُقدّم
بورديو وصفًا لثلاث مقاطع متزامنة مأخوذة من تاريخ الأدب الفرنسي، خلال النصف
الثاني من القرن التاسع عشر. وأوسع هذه المقاطع، هو ذلك
الذي يتناول فيه فترة "فلوبير" و"بودلير"، وفيه يُقدّم مثالًا
مقنعًا عمّا يمكن أن تُضيفه التحليلات السوسيولوجية –للأدب، حتى في المجالات
المألوفة جدًا.
أما الجزء الثاني،
"أسس علم للأعمال"، ففيه يُقدّم بورديو النظرية التي يقوم عليها
ما سبقه من تحليل. وبالنسبة لبعض القرّاء، مثلي،
سيجدون أن بورديو هنا يبدو كثر وضوحًا من المعتاد. مع مقاله "سوق السلع
الرمزية" لعام 1971، تشكل هذه المئة والخمسون صفحة واحدة من أهم النظريات
في علم اجتماع الأدب المعاصر، وربما الأكثر قوة منذ انهيار الماركسيات العلمية.
في الجزء الثالث،
"فهم الفهم"، يقترح أولًا في محاولة لبسط الهيمنة على المجال
الأدبي الضيق، تحليلًا ماورائيًا (ميتا-تحليل)
ينتقد الطابع العارض للتاريخ في الجماليات الخالصة، وهي صفحات تذكّرنا كثيرًا بـالملحق
الختامي لكتاب "التمييز"، الذي
يُعدّ عناصر من نقد مبتذل للنقد الخالص.
ثم يتبع ذلك بعض الملاحظات والتفصيلات الثانوية،
وفي الختام، نجد دعوة إلى "نقابية كونية" يُناشد من خلالها بورديو حركة للدفاع عن المثقفين.
إنه كتاب لا غنى عنه إذا كنت ترغب في التعرف على أحد أبرز الباحثين المعاصرين، وخاصة إذا كنت لا تزال تؤمن بأن الأدب هو النصوص فحسب. "قواعد الفن" يهدم هذا الوهم الساذج تدريجيًا، وبشكل لا رجعة فيه .
نُشر بواسطة "دوني سان جاك"، في مجلة " ليلة بيضاء" الأدبية، العدد 51، مارس – أبريل – مايو 1993، حول كتاب "قواعد الفن: نشأة وبنية الحقل الأدبي"، لعالم الاجتماع الفرنسي "بيير بورديو "، الصادر عن دار النشر "سُويْ" 1992.