الخميس، 12 يونيو 2025

قَوَاعِدُ الفَنِ: نَشْأَة وبِنْيَة الحَقْلِ الأَدَبِي

ترجمة/ تسنيم طه 

ها هو أخيرًا الكتاب المُنتظَر منذ عدّة سنوات، الذي يُقدّم فيه بيير بورديو  فحصًا منهجيًا لمسألة الأدب.

 فمنذ مقاله الشهير "الحقل الفكري والمشروع الإبداعي" المنشور عام 1966 في مجلة "الأزمنة الحديثة"، يواصل عالم الاجتماع بيير بورديو  تأمّله في الطبيعة الاجتماعية للجماليات، ولا سيما للممارسات الأدبية.  وقد سبق له أن طوّر حججه النظرية بشكل مكثف في مقال "سوق السلع الرمزية" (السنة السوسيولوجية، 1971). تلا ذلك عدة مقالات، من بينها اثنان خُصصا بشكل مباشر لـ"الحقل الأدبي"، لكن الجميع كان ينتظر منه ذلك العمل الكبير، الذي كان قيد الإنجاز منذ وقت طويل، والذي يُعدّ خلاصة دراساته حول الموضوع.

تُظهر الإعلانات الترويجية عبارة ـ"فلوبير بورديو" كصديً وكإجابة لـ"فلوبير سارتر"، لكن، كما هو حال كثير من الإعلانات، فقد يكون في ذلك بعض التضليل. صحيح أن الكتاب يتطرق إلى فلوبير، ولكن بشكل ثانوي؛ لأن كل ما يوجه مسار العمل بأكمله، لا يتعلق إلا بصورة ثانوية بذلك الكاتب أو ذاك العمل، مهما كان نموذجيًا، إذ أن الموضوع يتمحور في جوهره حول "الحقل" نفسه، أي ما أصبح من المألوف تسميته في الدراسات الأدبية بـ"المؤسسة"، منذ أعمال "جاك دوبوا"، أي مجمل القيود والإمكانات التي تُمكن الأدب من أن يتحقق ظرفيًا ضمنها.

مقتطف من صفحة 311 من كتاب "قواعد الفن" :

"إن التعريف الأكثر صرامة وتقييدًا للكاتب (وما إلى ذلك)، والذي نقبله اليوم وكأنه بديهي،  هو في الحقيقة نتاج سلسلة طويلة من الإقصاءات أو الطرد الرمزي، التي تهدف إلى إنكار صفة "الكاتب الحقيقي" على كل أشكال المنتجين الذين كانوا يعتبرون أنفسهم كُتابًا  بناءً على تعريف أكثر اتساعًا وليونة للمهنة.  

"واحدة من الرهانات المركزية في التنافسات الأدبية (وما إلى ذلك) هي احتكار الشرعية الأدبية؛ أي، من بين أمور أخري، احتكار سلطة القول بشكل رسمي بمن هو مخوَّل لأن يُطلق على نفسه صفة "كاتب"، بل ومن له الحق في أن يُحدد من هو الكاتب، ومن له سلطة القول بذلك، أو، إن شئت، احتكار سلطة منح الشرعية للمنتجين أو للمنتجات.  وتحديدًا، فإن الصراع بين شاغلي القطبين المتضادين في حقل الإنتاج الثقافي يدور حول احتكار فرض التعريف الشرعي للكاتب، ومن المفهوم أن يتم تنظيمه حول ثنائية الاستقلالية مقابل التبعية (الغيرية).  ويترتب على ذلك، إن كان صحيحًا عالميًا، أن الحقل الأدبي (وما إلى ذلك)   هو ساحة صراع من أجل تعريف الكاتب،  فإن الحقيقة تبقى أنه  لا يوجد تعريف عالمي للكاتب،  وأن التحليل لا يقابل أبدًا إلا تعريفات مرتبطة بحالة معيّنة من الصراع لفرض التعريف الشرعي للكاتب".

يفتتح الكتاب بتحليل لرواية "التربية العاطفية" لفلوبير، كوسيلة لإثبات أن علم الاجتماع قادر على تقديم "تحليل للنصوص"، وهو تمرين تقليدي يُظهر الكفاءة في الدراسات الأدبية. مقدمة تنم عن براعة بلا شك، لكنهه تضع في الواجهة عرضًا تكتيكيًا، كما لو أن الموضوع سيكون حاسمًا لما سيأتي بعده، وهو ما ليس عليه الحال في الواقع.

ما سيأتي بعد ذلك هو الأهم.

في الجزء الأول، المعنون "ثلاث حالات للحقل"، يُقدّم بورديو وصفًا لثلاث مقاطع متزامنة مأخوذة من تاريخ الأدب الفرنسي، خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر. وأوسع هذه المقاطع، هو ذلك الذي يتناول فيه فترة "فلوبير" و"بودلير"، وفيه يُقدّم مثالًا مقنعًا عمّا يمكن أن تُضيفه التحليلات السوسيولوجية –للأدب، حتى في المجالات المألوفة جدًا.  

أما الجزء الثاني، "أسس علم للأعمال"، ففيه يُقدّم بورديو النظرية التي يقوم عليها ما سبقه من تحليل. وبالنسبة لبعض القرّاء، مثلي، سيجدون أن بورديو هنا يبدو كثر وضوحًا من المعتاد. مع مقاله "سوق السلع الرمزية" لعام 1971، تشكل هذه المئة والخمسون صفحة واحدة من أهم النظريات في علم اجتماع الأدب المعاصر، وربما الأكثر قوة منذ انهيار الماركسيات العلمية.

في الجزء الثالث، "فهم الفهم"، يقترح أولًا في محاولة لبسط الهيمنة على المجال الأدبي الضيق، تحليلًا ماورائيًا  (ميتا-تحليل) ينتقد الطابع العارض للتاريخ في الجماليات الخالصة، وهي صفحات تذكّرنا كثيرًا بـالملحق الختامي لكتاب "التمييز"، الذي يُعدّ عناصر من نقد مبتذل للنقد الخالص.

 ثم يتبع ذلك بعض الملاحظات والتفصيلات الثانوية، وفي الختام، نجد دعوة إلى "نقابية كونية" يُناشد من خلالها بورديو حركة للدفاع عن المثقفين.

إنه كتاب لا غنى عنه إذا كنت ترغب في التعرف على أحد أبرز الباحثين المعاصرين، وخاصة إذا كنت لا تزال تؤمن بأن الأدب هو النصوص فحسب. "قواعد الفن" يهدم هذا الوهم الساذج تدريجيًا، وبشكل لا رجعة فيه .

 ---------------------

نُشر بواسطة "دوني سان جاك"، في مجلة " ليلة بيضاء" الأدبية، العدد 51، مارس – أبريل – مايو 1993، حول كتاب "قواعد الفن: نشأة وبنية الحقل الأدبي"،  لعالم الاجتماع الفرنسي "بيير بورديو "، الصادر عن  دار النشر "سُويْ"  1992.

لقراءة المقال من مصدر بلغته الأصلية: https://id.erudit.org/iderudit/21572ac

الأحد، 8 يونيو 2025

فَصْلٌ مِنْ كِتَاب: الفَضَاءُ الأَدَبِيّ/ مُوريس بلانْشُو (1)

ترجمة/ تسنيم طه

1

العزلة الجوهرية

يبدو أننا نتعلّم شيئًا عن الفن حين نختبر ما يحاول أن يدل عليه لفظ العزلة. لقد أُسيء استخدام هذا اللفظ كثيرًا. ومع ذلك، ما معنى "أن تكون وحيدًا"؟ متى يكون الإنسان وحيدًا؟ لا ينبغي أن يعيدنا طرح هذا السؤال إلى آراء عاطفية أو خطابيةالعزلة على مستوى العالم هي جرح لا مجال هنا للخوض فيه مطولاً.

ولا نقصد هنا أيضًا عزلة الفنان، تلك التي يُقال إنها ضرورية له من أجل ممارسة فنه. فعندما يكتب ريلكيه إلى الكونتيسة سولمس-لاوباخ (في 3 أغسطس 1907): منذ أسابيع، باستثناء مقاطعتين قصيرتين، لم أنطق بكلمة واحدة؛ عزلتي تنغلق أخيرًا وأنا منغمس في العمل كما تنغمس النواة في الثمرة"، فالعزلة التي يتحدث عنها ليست عزلة بالمعنى الجوهري، بل هي تأمل وتفرغ داخلي.

 عزلة العمل

عزلة العمل — العمل الفني، أو العمل الأدبي — تكشف لنا عزلة أكثر جوهرية. هذه العزلة لا تتعلق بانعزال فرداني متفاخر، ولا تعرف البحث عن التمايز؛ وحتى دعم علاقة قوية في مهمة تمتد على وضوح النهار لا يبددها.   الذي يكتب العمل يُوضَع جانبًا، والذي كتبه يُستبعَد. والذي يُستبعَد، فوق ذلك، لا يعلم بذلك. وهذه الجهالة تحفظه، وتلهيه، لأنها تمنحه الإذن بالاستمرار. فالكاتب لا يعرف أبدًا ما إذا كان العمل قد اكتمل. ما يُنهيه في كتاب، يُعيده أو يهدمه في كتاب آخر.

أثناء احتفائه في العمل الأدبي بهذا الامتياز المتعلق باللانهاية، لا يرى "فاليري" فيه  إلا الجانب الأكثر سهولة: أن يكون العمل لا نهائيًا، هذا يعني (بالنسبة له) أن الفنان، مع كونه عاجزًا عن إنهائه، فهو قادر مع ذلك على أن يجعل منه موضعًا مغلقًا لعمل لا ينتهي، حيث إن عدم الاكتمال يصبح تعبيرًا عن سيادة الذهن، ويُطوّر هذه السيادة على شكل قوة. في لحظة معينة، تتدخل الظروف — أي التاريخ، في شكل الناشر، أو الضرورات المالية، أو المهام الاجتماعية — لتُنهي هذا العمل نهاية قسرية، ويُطلق سراح الفنان من هذا الانغلاق الإجباري، ليواصل اللانهائي في مكان آخر.

اللانهاية في العمل، في هذا التصور، ليست سوى لانهاية للذهن. يسعى الذهن إلى التحقق في عمل واحد، بدلاً من أن تتحقق في لا نهائية الأعمال وفي حركة التاريخ. لكن فاليري لم يكن بطلاً. لقد وجد من المناسب أن يتحدث عن كل شيء، ويكتب عن كل شيء؛ وهكذا فإن العالم المتشظي والمبعثر كان يُسلّيه عن كلية العمل الفريدة التي تخلى عنها بلطف. ذلك الـ"إلخ ."كان يختبئ خلف تنوع الأفكار والمواضيع.

ومع ذلك، فالعمل — العمل الفني، العمل الأدبي — ليس منتهيًا ولا غير منتهي: إنه موجود. وهذا كل شيء: إنه موجود، لا أكثر. وخارج ذلك، هو لا شيء.  من يحاول أن يجعله يعبّر عن أكثر من ذلك، لا يجد شيئًا، ويجد أنه لا يعبّر عن شيء. من يعيش في تبعية العمل، سواء لكتابته أو لقراءته، ينتمي إلى عزلة ما لا يعبّر إلا عن كلمة "يكون": كلمة تأويها اللغة من خلال إخفائها، أو تُظهرها حين تجعلها تتلاشى في الفراغ الصامت للعمل.  

عزلة العمل لها إطارها الأول في غياب المطالبة، الذي لا يسمح أبدًا بأن يُقرأ العمل مكتملًا أو غير مكتمل. هو بلا دليل، مثلما هو بلا فائدة. لا يمكن التحقق منه، قد تدركه الحقيقة، قد تُضيئه الشهرة: لكن هذا الوجود لا يعنيه، وهذه البداهة لا تجعله لا مؤكدًا ولا حقيقيًا، ولا تجعله ظاهرًا.

 العمل منعزل: هذا لا يعني أنه غير قابل للتواصل، أو أنه يفتقد القارئ. لكن من يقرأه، يدخل في تأكيد عزلة العمل، كما أن من يكتبه ينتمي إلى خطر تلك العزلة.

يتبع .............

باريس/ 8 يونيو 2025

السبت، 7 يونيو 2025

صُقُورُ الجِدْيَانِ واللَّقَب (فَصْلٌ مِنْ رِواية)

بقلم/تسنيم طه 

مسودة التهجير...أو الشتات

الخرطوم-فبراير 1970

 كنتُ أعلم أن رغباتي الانتقامية ليست منطقية؛ ليس لأن اغتيالي لرئيسٍ سابقٍ سيجعلني -إن نجوتُ من الشنق في ميدان عام-أقضي بقية حياتي متعفنًا داخل زنزانة في سجن "كُوبَر"، ولكن لأن قتله لن يداوي جراح أرواحنا وقلوبنا العليلة. ولكن غضبي من "عَبُّود" كان عظيما، رغم أن عهده قد ولى، وجاء رئيس جديد فرحنا به رغم وصوله للسلطة بانقلاب عسكري على حكومة مدنية منتخبة.

فرحنا بنِميري لأنه نوبي، وتعشمنا فيه أن يعوضنا حقوقنا الضائعة. لكن عشمنا الكبير، لم يُنسنا حزننا على ترك "وادي حَلْفَا"، ومعاناة صعوبة الاندماج مع سكان أرض "البُطَانة"، بسب اختلاف ثقافتهم وعاداتهم وتقاليدهم عنَّا: ينهبون ويسرقون، فأجبرونا على اغلاق أبواب بيوتنا التي كنا نتركها مفتوحة حتى الصباح في "وادي حَلْفَا"، ومناخهم الممطر أغلب أوقات السنة عديم الصلة بمناخنا الجاف في الشمال نادر الأمطار، أرعبنا بكثرة رعوده وبروقه وصواعقه.

 فقد كان والدي، عندما ترسل السماء صواعقها في موسم الامطار الطويل، يهرب من فزعه بالاحتباء تحت السرير. والأدهى وأمر، ذلك التأثير السلبي الذي سيدفع البعض صحته بل حياته ثمنًا له، بسبب مواد بناء مسرطنة دخلت في صنع أسقف المنازل التي هُجرنا إليها، ومنهم والدي، كما افترض الطبيب في الخرطوم. ربما أخطأ الطبيب التقدير، وأن سبب مرض والدي وتدهور صحته هو مجرد انسدادات في مجاري الطاقة الداخلية أنتجت ذلك الورم، عند تفاقم أحزانه على أمي التي فارقتنا قبل التهجير، وكأنها قررت أن تدفن بجوار والديها في أرض ستطمرها المياه، ليظل أبي يبكيها ليل نهار وهو يعانق شاهد قبرها وحفنة التراب التي ظل يشمها إلى آخر يومٍ في حياته. وربما هي تلك الحفنة ما ستؤخر عودتي إلى "وادي حَلْفَا" لأكثر من خمسين عامًا.

ورغم وهنه الجسدي من تكرار جلسات العلاج الكيماوي، وقلقي عليه بعد تقرير الطبيب بأن المرض الخبيث المنتشر في رئتيه قد لا يمهله طويلًا، انهزمتُ أمام رغبتي ثنيه خشية أن تنتكس صحته، واستسلمتُ لعلامات الفرح على ملامح وجهه، اثناء مراهنته على فوز فريق السودان.  

ذلك الفرح على وجهه المتعب، ذكرني بحماسه قبل عامين لما قدمتُ معه إلى الخرطوم لحضور حفلة أم كلثوم في الخرطوم أثناء زيارتها للسودان قبل عامين ضوء جمعها لأموال دعم المجهود الحربي في أعقاب نكسة "5 يونيو 1967"، لما جاءت لتغني بمسرح "أُمْ دُرْمان القومي"، بعد تلقيها دعوة من وزير الإعلام السوداني، فأحيت حفلة ارتدت فيه الزي السوداني، وانتقت بعدها أشعارًا سودانية، لتصبح كلمات قصيدة "أغداً ألقاك" للهادي آدم، أشهر أغنياتها. وكنتُ ألتفت نحوه اثناء جلوسي بجواره على مقاعد نادي الرياضة كل فينة وأخرى، واستشعر أملًا في شفائه التام عن رؤية الشباب الناضح من وجهه ومن جسده وهو يقف ثم يجلس هاتفًا مشجعًا فريق المنتخب القومي "صقور الجديان" الذي أصر على حضور مباراته النهائية، ونيل شرف رؤيته يتسلم كأس الأمم الافريقية هذا العام.

 وقد حصل.

واثناء انغماسي بمراقبة والدي وهو يشارك الجموع ويهتف بفرح هستيري أثناء تسلم الفريق للكأس، وصل إلى أسماعي صوتٌ من ورائنا مناديًا: عم الصاوي!  بفضولٍ استدرتُ، بحثًا عن ذلك الذي يعرف والدي في العاصمة التي ليس لنا فيها أهل ولا أقارب، لتصدم عيناي بنظرة مألوفة لعينين زرقاوين، تعرفتُ على صاحبها على الفور، بالرغم من مرور قرابة ثلاثين عامًا.

 بلهفةٍ تقدمتُ نحو "عبد الجليل"، الذي لم يعد ذلك الطفل أسرني ذلك اليوم بشعره الطويل كشعر الفتيات.  وعانقته بحرارة، وذكرته بلقائنا الأول ذلك النهار عند مرافقتنا لوالدينا لأداء التعازي لأهل "معاوية محمد نور"، وعن تقاسمنا الحلم في أن نصبح صحفيين عندما نكبر.

في ذلك المساء، وبعد تبادل الأخبار والإجابة على سؤاله بـ"أين تسكون؟"، بأننا ننزل في "لوكندة" في السوق العربي بالقرب من ميدان "أبو جِنْزير" تعودنا التردد عليها عند مجيئنا من "حَلْفَا الجديدة" لمراجعة طبيب والدي في العاصمة، أقسم علينا عبد الجليل لأن نرافقه إلى بيتهم ليقوم بواجب ضيافتنا. 

وهناك في حي "المَسَالْمَة"، تعرفنا على زوجته المليحة الخجولة المنحدرة من شرق السودان، ووالدته الأرمنية التي أورثته العيون الزرقاء والشعر الناعم المائل للشقرة، دون أن تورثه لون بشرتها، ليظل متميزًا بخلطة سمار لونه وغرابة لون عينيه وشعره التي ستحتل ذاكرتي طوال عقود، لتجعلني أتعرف على حفيدته بعد أكثر من أربعين عامًا، فقط من لون عينيها اللتان ورثتهما عنه. وتبادلنا الحديث مع والده، وأصغينا باهتمام لحياتهم الهانئة في حي "المَسَالْمَة " لقربه من جميع الخدمات لوقوعه في وسط أُمْ دُرْمان، وعن اندماج الأقليات فيه: مسلمون ومسيحيون ويهود.

وساد صمتٌ قصيرٌ لما عادت والدته من المطبخ ووضعت أمامنا صينية كبيرة وقدمت لنا شاي بالحليب والقرنفل، وفطائر أرمنية بالجبن والقرفة ومكسرات الفستق والفول السوداني. وبعد أن عدلتُ خمارها الأزرق على شعرها الأشقر الناعم، جلست بجوار زوجها الذي يبدو أنه يكن لها احترامًا كبيرًا، إذ تطلع في وجهها بحبٍ أثناء سؤالها لنا عن "حَلْفَا الجديدة".

 بمرارةٍ، حكينا لها عن ألم الشتات وصعوبة الاندماج في المجتمع الجديد. فحدثتنا بنبرة ألم عن شتات الأرمن في بداية القرن العشرين هربًا من مذابح الأتراك ضدهم، الذي جاء بعائلتها للاستقرار في السودان. ثم أضافت لتطمئننا بأن الاندماج سيأتي لاحقًا، أما عن شتات الأحبة فلا مفر منه إن أصروا على عبور البحار، والبحث عن مستقبل آخر في قارات بعيدة، كما فعل نصف أهلها بانتقالهم إلى أمريكا وأستراليا وكندا. 

ولما رأى عبد الجليل الأسى على وجهينا، نصحنا بترك أرض البطانة ما دمنا غير مرتاحين فيها، واقترح علينا الانتقال للعيش في العاصمة، ووعد بأن يوفر لنا بيتًا بجوارهم في حي المسالمة لأحد أصدقائهم الأقباط الذي هاجر مؤخرًا إلى استراليا، ثم لما رأى التردد في عيني، أعطاني وعدًا آخر، بأن يجد لي وظيفة في الصحيفة التي يعمل بها، وأن يساعدني حتى أحقق حلمي الطفولي القديم بأن أصبح صحفيًا مشهورًا مثل العقاد.

وفي المستقبل، سيفي بوعده وسيعاونني في كتابة مقالات تؤهلني للدخول إلى عالم الصحافة من أبواب واسعة. وسأسمع لنصائحه عندما يقترح عليّ الكتابة عن دور نِميري في انقاذ ياسر عرفات بعد أحداث "أيلول الأسود"، وعن حركة تموز والانقلاب الذي أطاح بالمملكة العراقية الهاشمية عام 1958، وعن الحرب الباردة وصراعات أمريكا والاتحاد السوفييتي بين عامي 1947-1953، وعن علي عبد اللطيف قائد ثورة اللواء الأبيض السوداني ضد الانجليز عام 1924، وعن ثورات عربية وقادة عرب ساعدوا في تحرير بلادهم من الاستعمار. لكنني وقفتُ عاجزًا عن الرضوخ له، لما طالبني بالكتابة عن جمال عبد الناصر وعن ثورة يوليو 1952. ليس فقط لأنني لست مغرمًا به مثله ولا معجبٌ بتشبيه دوره في القومية العربية شببهًا بدور "سيمون بوليفار"، القائد الفنزويلي الذي ساهم في تحرير الكثير من دول أمريكا اللاتينية من الاستعمار الاسباني، ولكن أيضًا لأنني ما كنتُ لأكتب لأُمَجدّ شخصًا تسبب في تشريدنا من ديارنا، وإغراق حضارتنا ومدينتنا العريق "وادي حَلْفَا"، بعد توقيعه مع "عَبُّود" اتفاقية بناء السد العالي. 

في ذلك المساء، ولما كرر علينا عبد الجليل ضرورة الانتقال إلى العاصمة، شكرناه بامتنان متردد، وطلبنا منه مهلة للتفكير. مهلة، لن تستمر طويلًا. فبعد أقل من شهر، وفي نفس اليوم الذي اندلعت فيه أحداث "الجزيرة أبا" في مارس 1970، توفي والدي بعد صراع طويل مع المرض؛ فقررتُ ترك "حَلْفَا الجديدة" ومنطقة "خَشْم القِرْبة" إلى الأبد.

 ------------------------------------------------------

من رواية "سهام أرتميس"، الصادرة عن دار "مسعى 2023