الأحد، 2 مارس 2025

بَابُور كُسُونَا (فَصْلٌ مِنْ رِواية)

 بقلم/ تسنيم طه

      مسودة التهجير...أو الشتات

      القطار 1964

أول مرة ركبتُ فيها القطار، كنتُ طفلًا في الثامنة، رافقتُ جدي ووالدي إلى الخرطوم.

 ثم مرت سنوات، أصحبتُ فيها رجلًا، وتزوجتُ فيها من أرحيلة ابنة خالتي؛ قبل أن أركب القطار مرة ثانية في اتجاه العاصمة لقضاء شهر العسل.  كانت زوجتي تريد الصعود شمالًا إلى القاهرة والإسكندرية، لكنها احترمت رغبتي رؤية الخرطوم الجديدة بعد نيل السودان استقلاله عن الاحتلال البريطاني قبل شهر، لمقارنتها بما رأيته قبل 23 عاما، يوم قاطع فيه ذلك الرجل البدين حواري مع جدي عن معاوية محمد نور، ليبدي تضجره من نسيان الإنجليزي أمر تطوير بقية مدن السودان وصب اهتمام وجهودهم على العاصمة المتنعمة مسبقًا بدور سينما وبارات ونوادي ثقافية ومكاتب بريد ومستشفيات ومدارس وجامعات وأحياء سكنية مخططة وطرق مواصلات معبدة وخطوط سكة حديد وغيرها من الخدمات.

وخلال تسع بعد زواجي، لم آخذ قطار "اكسبريس حَلْفَا" جنوبًا إلا للسفر إلى عطبرة أو شَنْدِي  حيث عملتُ معلمًا، دون أن تراودني فكرة الذهاب إلى العاصمة، بعد نسياني حلمي القديم بأن أصبح صحفيًا مشهورًا، وانشغالي بالإنفاق على عائلتي الصغيرة.

كنتُ أحب قطار "اكسبريس حَلْفَا" أثناء تنقلاتي المهنية تلك، وأتلهف لعيش جمال لحظات مروره بمحطة "أبو حمد" في الرابعة صباحًا، حيث تمتزج أصوات الديكة والعصافير ونداءات المساجد لصلاة الفجر مع أصوات الركاب المتحمسين، وهم يتدافعون نحو الباعة لشراء العجوة الشاي والفول السوداني والتسالي والنبق، متسابقين نحو بائعات الشاي لتناول الزلابية المصاحبة للقهوة بالزنجبيل أو شاي اللبن المقنن بالقرفة.

لكن حبي لذلك القطار وذكريات الجميلة معه طوال سنوات، تحولت اليوم إلى نقمة وحقد وغضب وتشاؤم، وأنا لا أرى فيه سوى ماكينة شؤم تريد اجتذاذنا من جذورنا لتلقي بنا إلى مصير مجهول.  

ولم أدرِ إلى أين أهرب من تزايد رغبتي في اغتيال عَبُّود، وتصاعد ألمي وقهري أمام منظر دموع الرجال والنساء وتدافعهم منكسرين ليتكدسوا داخل قطار الشؤم، يغلف وجوهم الحزن والقهر وكلاحة قلة الحيلة أمام ترحيل قسري وترك أراضيهم التي أجبروا على بيعها للحكومة بثمن زهيد، بعد تخديرهم بوعود تعويضات لن ينالوها أبدًا.

ظللتُ واقفًا اصغي لوالدي يشارك بصوت مخنوق بقية الرجال في الندب على الفدادين الزراعية ونخيل التمور وبيوت الطين التي تشاركوا عجن طين جدرانها بمياه النيل وسقفوها بجريد النحيل الملون، والحسرة على تاريخ سيطمر بمياه الخزان، وتجديد الحداد على أموات لن يستطيعوا زيارة قبورهم لقراءة الفاتحة على أرواحهم، وأخرهم أمي، التي أصابها قرار عَبُّود بفاجعة لم تتحملها فماتت كمدًا.

شعرتُ بقلبي ينفطر أمام عجزي على تهدئة والدي الذي كان ينتحب بحرقة ويكاد يموت كمدًا أثناء مناجاته شواهد قبور والديه وقبر أمي، التي انتزعها ووضعها داخل كيس مملوء بحفنة تراب قبورهم، كغيره من سكان البلدة الذين انتزعوا شواهد قبور أحبابهم، واقتلعوا بعضًا من سعف أشجار نخيلهم، ليأخذوها ذكرى منها قبل أن تغرقها المياه بعد رحيلهم. 

ولما ضعفت مقاومتي، استسلمتُ وتركتُ العنان لدموعي وانفجرتُ في نحيب محموم، أشارك أبي وبقية المنتحبين، رجالا ونساء، البكاء على تاريخ وحضارة بلدة سيمحى بضغطة ذر. لا أدري كم مر من الوقت، مسحتُ فيه دموعي بكم قميصي، واستحضرتُ فيه بوجع حكايات جدي القديمة عن أهله الشجاع المشارك أغلبهم في معارك السودان ضد المحتلين (أتراك وانجليز ومصريين)، وحمدتُ الله أن رحل في موته سعيدًا بعد شهر من حضوره زواجي من أرحيلة واستقلال السودان عن الانجليز، ولم ينتظر ليشاهد هذا الشتات الذي حُكم علينا به. 

 ولما هدأتُ ورفعتُ رأسي لأتفقد حال زوجتي، تفاجأتُ بخلو عينيها الكحيلتين من آثار الدموع، خلافـًا لبقية النساء، واستعجبتُ من اشعاع وجهها النحيل بوميض تفاؤل، لا يتناسب مع تعبها في الأيام الماضية وانهماكها في تحزم الأمتعة رغم انتفاخ بطنها بالحمل، مقسمة ألا تترك وراءها شيئًا لتطمره الماء. ولم أعرف إن كان سر هدوءها وصفاءها هو بقايا رضى البارحة بعد أن رافقتنا للإلقاء الوداع الأخير على النيل والجروف واشجار النخيل؟ أم أنه بسبب رؤية قلبية جعلتها تأمل أن يكون فألها حسنًا في مقرنا الجديد بمنطقة خَشْم القِرْبة في أرض "البُطَانة"؟

عاد الحزن ينهش قلبي، عند استرجاع مشهد البارحة الجنائزي لوداع النيل، المختلط فيه هدير الأمواج بعويل النساء وبكاء الرجال وتمخطهم بصغب في أكمام جلابيبهم البيضاء، اثناء تلويحهم له بسعف النخيل.

دققتُ في وجه زوجتي، فخيل إليَّ بأنها تبتسم بشرود لم أجد له تبريرًا سوى احتمال أنها غارقة في ذكرى لقائها بأمهما خالتي ست البنات، التي جاءت برفقة ابنتها بتول من أسوان الأسبوع الماضي لوداعنا قبل انتقالنا إلى "حلفا الجديدة"، أو في ذكريات سعيدة بعيدة كاحتفالات "عاشوراء" في "أشكيت"، أيام كنا نحرص للذهاب لحضورها عندما نعلم بأنهم سيحيونها بأغنيات الفنان النوبي "حمزة علاء الدين"، فتكون مناسبة للعروج إلى أسوان لزيارة والدتها  التي تتركنا نغادرها مالم نكمل معها أسبوعًا تكون قد حضرت لنا فيه كميات من السمن البلدي والدجاج والبط والفسيخ لنعود بها إلى وادي حَلْفَا.

وأثناء تمزقي بين ألمي من مشاهدة نحيب رجال بشوارب ولحى، وبين استعجابي من حياد وجه زوجتي، كان سمعي يُخترق ببكاء أطفال جوعى وبصيحات نساء حبلات من المقصورات المجاورة واتهن المخاض، ثم بصرخات حياة لأطفال كتب عليهم أن يروا النور في قطار الشؤم.

ولم أفِق من شروي في تأمل تلك التراجيديا، إلا لحظة دوي صرخة زوجتي التي أصابتها عدوى المخاض، أو ربما هي حركة القطار، ما أجبرتها أن تضع حملها قبل ميعاده بشهرين؛ ليموت الطفل بعد ساعتين من اطلاقه صرخة الحياة، ليؤرثني حقدًا إضافيًا على قطار التهجير: بابور كسونا.  

 -----------------------

من رواية "سهام أرتميس"، الصادرة عن دار "مسعى 2023