وترصد المجموعة مواقف المرء مع الطفولة، باسترجاع الماضي وقصص الأمهات والجدات، كما وتتميز بغزارة المعرفة التي تعمدت الكاتبة بثها بين السطور.
وتبني تسنيم طه هيكل القصة على الدوام بشكل متصاعد معتمدة على تعريف أولي ببيئة الشخصية وطبيعتها، ومن ثم طرح القضية، ومن بعدها الحوارية فالاحتباس السردي، سيرا حتى النهاية، لكن في قصة "خلف الجسر" كان دورة القصة تدور بالعكس، فالبداية كانت بطرح الاحتباس السردي أولا، ومن ثم بدأت القاصة بتفكيك العُقد.
وبدت المجموعة مشغولة بالحس البشري تجاه القالب الواقعي،
والحدث اليومي المرتبط بعذابات وخوف وفقر الناس، وكذلك المُغرّبين عن أوطانهم،
وطرحت "طه" هذه الأفكار بلغة سردية نقية، تكاد تخلو من الجملة المبطنة والشاعرية،
وقدمت ذلك في عشر قصص على مداد 110 صفحات من القطع المتوسط.
في قصة "شروق" تستهدف الكاتبة العديد من
المعاني الإنسانية المختلطة، حين تصنع مفارقة بين حب أرض المنشأ، وحب الوطن الأصل،
فعاطفة المكان والحدث اليومي، تتجذر في هوية المرأة، ويمكن إسقاط هذا أيضا على
الصداقة التي جمعت بطل القصة، مع عواتي الصديق القديم، الذي ترك مدينة جدة عائدا
للسودان.
وهذا النوع التراكمي من العاطفة يمكن فهمه، لكن العاطفة التي يحملها الإنسان، حين يلامس قطعة من وطنه لأول مرة بعد ربع قرن من نشأته، كانت تحمل أفكارا حسية مختلفة تماما.
وتربط القاصة محاور سردها بحقائق تاريخية تمثل الشعب والثورة في السودان على مر التاريخ، قبل وبعد إجلاء الاحتلال الانجليزي.
وفي الجزء الأخير من القصة، يكتمل نصاب التعلق بالوطن
الجديد، بمخالطة "الكنداكة السودانية" شروق، الشابة الممتلئة بكل أصوات
الثورة والغضب تجاه فصل شمال السودان عن جنوبها، فيكون الحب جسرا جديدا للتجربة
النوعية بملامسة الحب والوطن، ومن ثم التقاء الصديق عواتي، لقاء لم يكن متخيلا أن
يتحقق في الماضي القريب.
وفي قصة "شندي ذات مساء" تعكس القاصة أدوات القصة السردية بشكل أكثر دقة، حيث غموض الحدث، وغرابته، وندرة ارتباطه بالواقع، والصياغة الذكية، فأن تكون مخالفة القانون تغيير اسم شارع في مدينة فرنسية لشابة يمنية مغتربة، وفاءً لصديقها السوداني، بل وتكون عقوبة السجن مستحبة لدى أي مرء، لهو حدث غريب، يستحق التحليل.
ففي هذه القصة ترتفع حدة التوتر
تدريجيا مع الفضول في معرفة المخبأ من قبل القاصة، حول ماهية الحدث، وتكمل تسنيم
طه في الطرق على الحديد الساخن أيضا، بطرح أكثر غرابة، حول فكرة السجن والحرية،
فمتى يكون المرء بحاجة إلى السجن فعلا؟
بينما تتطرق القاصة إلى جوهرية ردة الفعل المختلفة بين
المثقف وغيره في مواجهة الأحداث في قصة "شدة وتزول". وعلى الرغم من
بساطة اللغة السردية في هذه القصة وافتقارها للمواربة الفنية، والمشاغبة التكنيكية
في السرد، إلا أنها تطرح محتوى حيويا يصارعه المثقفون في يومياتهم.
"ورغم ما أنفذته فيك نظراتها
من سموم، إلا أنك لا تنساق وراء رغبتك السبعية لإفراغ الغضب، وتقرر اشفاء غليلك
بطريقة أخرى غير العنف الجسدي، فتتراجع القهقري لتتبين بوضوح كيف ستكون ملامحها
عندما تخبرها بأنك لو كنت تؤمن بردود الأفعال التي تدفع الناس للتظاهر في الشارع
الآن، لكنت قد طلقتها في التو واللحظة لتأكد لها أنك لست عديم الرجولة.
فإذا ببركان ثورتها يخمد ويتحول إلى رماد تتناثر شظاياه
عبر نظراتها الكسيرة الخائفة، وهي تنكمش بجوار ثوبها كسلحفاة، فيعاودك شعور
الانتشاء عند قراءتك للغة جسدها المهزومة، فترجع إلى مكانك بغروٍر وانتفاش كديك
مغرور، وتلتقط الصحيفة من الأرض قبل أن تجلس وتخفي نظراتك وراءها".
أما قصة "خلف الجسر" فتبدو أدوات التشويق
والغموض من خلال طريقة السرد، والتموضع داخل المكان الذي تؤجل وصفه، وهو ما يعطي
للنص هنا جاذبية. حيث تختلق القاصة مكانا قصيا، خارج إطار الزمان والمكان، تصفه
بالأرض البيضاء، التي تبقى لمدة سنوات فيها غير مفعلة، في قطعة برزخية، معلقة لا تعرف
المصير.
وتتخطى القاصة حدود الزمن إلى الخلف، لتستعيد شخصية
الفرزدق، ويكون وجوده هو قفزة الانطلاق نحو الأبدية، والخروج من البرزخ الممل.
"الزمن بطيء جدا لمن ينتظر، سريع جدا لمن يخشى، طويل جدا لمن يتألم، قصير جدا لمن يحتفل. لكنه الأبدية لمن يحب".
**-**
نُشر بتاريخ 17 يونيو 2021
لقراءة المقال من مصدره:
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق