بعد تيقني بأنني لن أعبر إلى الضفة الغربية، اتخذت قرار المجيء إلى باريس.
ووصلتها، عبر محطة الشمال"Gare du nord"، غير مصدقٍ أن حيلتي بقضائي
طوال الرحلة في دورة المياه، قد أنجتني من الوقوع في أيدي "كونترول"
شركة " SNCF"، وجنبتني غرامة مالية، لم أكن لأستطيع
دفعها بسبب ركوبي القطار بدون تذكرة.
بأنفاسً متسارعة، خرجت من المحطة،
وأسرعتُ الخطى متلفتًا خلفي خشية أن يلحق بي "الكونترول". ثم انعطفتُ يسارًا
في أول شارع دون أن أستمتع بمشاهدة زحام شارع "دَنْكِيرْكْ-Dunkerque" المقابل للمحطة حيث السياح يملؤون
المطاعم والمقاهي والحانات بجوار حقائب سفرهم الراقية. باغت أنفي خليط روائح من توابل وعفونة أجساد ملابس وعوادم سيارات، ففهمتُ بأنني
دخلتُ أحد الأحياء الشعبية. فتمهلتُ في سيري، وأخذت أتفرس في تنوع الوجوه والسحنات
بانبهارٍ، مستحضرًا آية سورة الروم: "ومن آياته
اختلاف ألوانكم وألسنتكم".
رفعتُ رأسي لتهجي اسم الشارع "فُوبُوغْ
سَانْدُونِي-Faubourg Saint Denis". وأنزلت بصري لما داهمت انفهي رائحة طبخ ببهارات هندية شهية (كاري وقرفة وقرنفل وهيل وجوز طيب)،
لتذكرني بأنني لم آكل وجبة كاملة منذ ثلاثة أيام. وأخذت أتلفت في لافتات المطاعم حولي
بلهفة، قبل أن ينتابني حزنٌ وتمزق، خشية إنفاق كل ما أملكه في أكل وجبة واحدة. فقبل
مدة، وبعد ادراكي اقتراب نفاذ نقودي، أصبحتُ اكتفي بوجبة واحدة في اليوم من خبزٍ
فرنسيٍ حافٍ "Baguette"،
لا يتجاوز ثمنه نصف يورو، لأُسْكتُ به جوعي، وأصبر نفسي بالحديث الشريف:
"بحسبِ ابن آدمَ لقيماتٍ يُقِمْنَ صُلْبَه!".
واصلتُ التلفت بتمزقٍ، فوقعت عيني على مطعم
يُغري ديكوره الفاخر باللون الأحمر المترددين بالدخول. فلاحظتُ في أوله رجلاً
بدينًا يلتهم طبق دجاج وأرز بالمكسرات وبجواره كوب عصير من المشروب الهندي
" لاسي" بالمانجو، فسال لعابي، وأوشكتُ حسم معركتي الداخلية لصالح
غريزيتي البهيمية، وإنفاق مخزون نقودٍ سيكفيني لأكل ست وجبات من خبزٍ حاف، في شراء
وجبة شهية مثل وجبة الرجل البدين أمامي.
لكن في آخر لحظة، أغمضت عيني، وأشحتُ بوجهي بعيدًا.
في تلك اللحظة، وصل إلى مسامعي أحدهم
يقول: " يا زول إنتَ بتقول في شنو؟". فالتفتُ بحركة لا شعورية لأركز في وجه
الشاب الأسمر الطويل بفرحٍ غامرٍ لسماع كلمات أهل بلادي. فأفهمته التفاتتي أنني
سوداني مثله. وشجعته للرد على ابتسامتي بمثلها. لتتسع ابتسامتي، لتتدفع للتقدم
نحوي، ليمد لي يده بثقة وأريحية ليعرفني بنفسه "مصطفى"، ثم برفيقه (شابٌ
قمحي قصير، في ملاحه سحنة أهل شرق السودان): مجتبى.
وبعد تكرار التحية والسلام (الله
يسلمك، الله يبارك فيك) سألني في أي الأحياء الباريسية أقيم، فأجبت بترددٍ وأخبرته
بوصولي للتو إلى باريس، تاركًا ورائي بلا حسرة، مدينة "كاليه-Calais""، وما عشته فيها من
بؤسٍ وخوفٍ وتشرد. فرمقاني بنظرة عطفٍ، ثم التفت ناحية رفيقه ليمسحا سويًا بنظراتهما
الفضولية هيأتي البائسة: ذقني المشعث ونظارتي المتسخة، وقميصي الرث سروال الجينز
المهترئ وحقيبة ظهري المتسخة وحذائي البالي.
وبعد أن تبادلا نظرات الشفقة، قدما لي
دعوة لتناول العشاء معهما، وأبديا رغبتها الاستماع إلى شاهد عيان ليؤكد لهما ما
سمعاه من أهوال عن مخيم "الأدغال"، على أطراف مدينة "كاليه-Calais"، شمال
فرنسا، المطلة على شرفات بحر الشمال.
بالتأكيد لم أصدق ادعائهما، وتأكدتُ من
احساسهما بفراغ جيوبي من النقود وإلا لما كانا ليلحا على كل ذلك الإلحاح. وبدل أن
تدفعني عزة نفسي لرفض دعوتهما، امتننت للأقدار، وشكرتهما بقوة أقاوم دموع تأثري بشهامة
أولاد البلد الذي يساعدون أهلهم عند الشدائد.
ورافقتهما بصمتٍ، ألهج في سري بدعوات أن
يكون عشاءنا في أحد المطاعم الهندية الجاذبة برائحتها الشهية للزبائن كما تجذب النار
الفراشات. وتشاغلتُ عن حديثهما سويًا عن رحلة هولندا، بتقليب بصري في المحلات
التجارية الخاطفة للأبصار بمعروضاتها القادمة من شبه الجزيرة الهندية (محلات مواد غذائية أمامها يتكدس باعة من مختلف السحنات لشراء الباباي والمانجو
والأفوكادو وفاكهة جوز الهند، وبوتيكات ملابس نسائية تعرض براقة وثياب قفاطين فخمة
وساريات هندية وأسورة ملونة وأدوات مكياج، وصورًا لنجمات أفلام بوليود)، وتساءلتُ
لما اخترقت أنفي رائحة البخور، لو كان بمقدوري الحصول على وظيفة مع أولئك الباعة
من طائفة "التاميل"، ولو عامل نظافة أو حمَّال، تمكنني من استخراج مصروف
يسمح لي بتناول وجبة حقيقية كل يوم في أحد هذه المطاعم، وإرسال بعض النقود لأهلي
في الخرطوم.
سرتُ في أثرهما أتلف حولي في المكان
وأتسمع لحديثهما عن تفاصيل رحلة هولندا، الذي لم يكفا عنه إلا عند مرورنا بجوار
محلٍ تجاريٍ مزدحم وتفوح منه رائحة التوابل والخضروات الطازجة، ليسترسلا في اطرائه
ويقصا عليَّ بحماسٍ، أنهما ترددا عليه هذا المحل طيلة أعوام. فأخذتُ أتفرس في وجوه
البشر المتكدسين عند المدخل، وأصغي لمدحهما للمحل الذي نعتاه بـ"روضة
المهاجرين" لتوفيره وبأسعار زهيدة لسلعٍ استهلاكية لا تتوفر في المحلات
الفرنسية (Franprix وCarrefour)، مثل الخبز اللبناني، والفول المصري المدمس الجاهز للأكل، والجبن الأبيض، وزبدة
الفول السوداني "الدَّكْوَة"، والبصل الأحمر الصغير، والكزبرة الخضراء
الطازجة، والشطة الخضراء والبامية وأوراق الملوخية.
سرحتُ طويلًا، في تنوع السحنات أمامي، بينما
مصطفى يشرح لي أن هذا المحل التجاري، اكتسب شعبيته بفضل موقعه الاستراتيجي في وسط
الطريق بين أهم مكانيين يرتادهما المهاجرين: مكتب "فرنسا أرض اللجوء"، حيث
يبدؤون رحلة الإجراءات الإدارية للدخول في "السيستم الفرنسي"، ومركز
استقبال طالبي اللجوء "كادا-CADA"،
الذي يساعدهم في الحصول على مكان سكن ويعرفهم بحقوقهم القانونية، ويوفر محاميين وأطباء
نفسانيين بصورة مجانية لمن يحتاج.
ثم واصلنا المسير، وعادا لموضع رحلتهما
إلى هولندا، لأعود أنهمك في تساؤلاتي عن كيفية إيجاد عملٍ يمكنني من التبضع مثل
تلك الجموع، ويغنيني عن أكل الخبز الحاف. ولم أنتبه لمغادرتنا الحي الهندي، إلا بعد مرورنا من تحت الجسر الطائر لمحطة ميترو "لاشابِيل-La Chapelle"، واصطدام أنفي برائحة بول، تنبعث
من حديقة جانبية يتكدس فيها متشردين يحتسون البيرة، ويتراشقون بنكاتٍ بذيئة.
فأصابني غثيان واحباط، عند تذكر الرجل البدين وطبق دجاجه بالمكسرات وكأس عصيره
الأصفر، وإدراك أن الله لم يستجب لدعائي بتناول وجبة شهية محضرة بالتوابل الهندية.
وتبعتهما بصمتٍ وغثيان إلى أن دخلنا مطعم أفغاني تفوح منه رائحة زيت القلي.
تقدمنا ثلاثتنا إلى آخر المطعم، حيث
الطاولة الوحيدة الشاغرة، وجلسنا تحيطنا جموع من شبابٍ يتحدثون بأصوات عالية
تتداخل حواراتهم بلغات الأردو والبشتو واللغة الفارسية.
وبعد جلوسنا، أخبرني رفيقاي عن
استعجالهما في تناول العشاء معي لاقتراب موعد قطارهما المتجه إلى أمستردام، حيث
سيلتقون بصديق سوداني ليصحبهما لمحل إقامته في مدينة بوكسميرBoxmeer-" شرق هولندا، لكي يشاركاه الاحتفال
بزواجه بعد يومين من فتاة هولندية. فقلت: مبروك له مقدمًا. فعقب مصطفى:
عقبالك وعقبالنا. فاكتفيتُ بالابتسام، فأضاف بأنني سأكون محظوظًا لو عثرت على فتاة
فرنسية يساعدني الزواج منها على الحصول على الأوراق بسهولة. فوضحتُ له بأن لدي قصة حب في الخرطوم، وبأنني سأتزوج
من حبيبتي، بعد حصولي على كارت الإقامة، وسأجلبها لتعيش معي باريس
فتبادلا النظرات المشككة بصمت. فانتابني شعورٌ بالخوف
دفعني لإغماض عيناي والدعاء في سري أن تتمسك
خطيبتي بحبي وتتصبر على بعدي عنها، فلا تستسلم لضغوطات أمها التي تريد أن تزفها
إلى مغترب غني ينقلها إلى أحد دول الخليج، وتجنبها ضياع شبابها ووقتها في انتظار شابٍ
عاطلٍ مثلي.
جاء النادل ووضع
أمامنا ثلاثة أطباق مكدسة بأجنحة دجاج ورقائق بطاطا مقلية وخبر طازج وطبق صغير
عليه شطة تونسية "هريسة". فانقضتُ على الطعام بنهمٍ، دون اكتراث لنظرات شفقة
أو دهشة من رفيقاي، اللذان راقباني بصمتٍ تام إلى أن أمتلأ طبقي بالعظام. وهنا
ولأول مرة، وجه لي مُجتبى، الحديث ليطالبني بأن أقص عليهما ما رأيته في مخيم
الأدغال. فأنهيت مص آخر عظمٍ بتلذذٍ، وتناولت منديلاً من المحارم الورقية الموضوعة
على الطاولة أمامنا ومسحت به يدي وجانب فمي، ثم استرسلت في الحكي وكأنني أقص إحدى
قصص جدتي التي كانت تبدأها لنا ونحن صغار بجملة "حجيتكم ما بجيتكم، خيرًا
جانا وجاكم":
"في يوم أربعاء من نهاية شهر
أكتوبر، أعلنت السلطات الفرنسية نهاية المخيم العشوائي، الذي كان يؤوي قرابة
ثمانون ألف مهاجر، قَدِمَ أغلبهم (في رحلات محفوفة بالمخاطر) من سوريا والعراق
واليمن وليبيا وإريتريا وأفغانستان ودارفور في غرب السودان.
وفور صباح الخميس، بدأت عملية إزالة المخيم، وشرعت آليات الحفر في
انتزاع المساكن تحت رقابة قوات أمنية انتشرت لمنع دخول المهاجرين وغيرهم من
الفضوليين إلى المكان. وكان، من بين مئات المهاجرين الذين حالفهم الحظ، خمسين
سودانيًا غادروا المخيم فور بدء عملية الإزالة، مع المركبة المتجهة لمركز استقبال
"بورغونيه" بوسط شرق فرنسا. لكن للأسف لم يحالفني الحظ، لأن أكون ضمن لا
المجموعة الأولى، ولا حتى الثانية لعدم امتلاكي لأوراق قانونية تسمح لي بالإقامة
داخل الحدود الفرنسية".
بلعتُ ريقي لما انتابتني غصة، وأخذت جرعة ماء، فسألني مصطفى عن المدة التي
قضيتها في كاليه، فواصلتُ الحكي:
" ثلاثين يومًا أقمتُها في المخيم، دون أن أنجح في هزيمة مخاوفي لأتعلق بشاحنةٍ، تعبر بي بحر
"المانش"، وتحطني على الضفة الغربية حيث أرض أحلام، كما صورتها لي
خطيبتي، وكما يتوهم الشباب الذين اكتووا بنيران البطالة في أوطانهم، التي لفظتهم
وأجبرتهم على المخاطرة بحثًا عن المجهول بعيدًا فيما رواء البحار. فقد كنت أمضي
النهار أتنقلُ بهلعٍ داخل المدينة هربًا من ملاحقات الشرطة المتصيدة لعديمي
الأوراق القانونية، وأنتظر أن يرخي الليل سدوله لأعود إلى المخيم لشحن هاتفي
النقال، الذي سيساعدني في الغد، على أن أتلهى عن مخاوفي وقسوة وضعي تارة باللعب
ألعابًا افتراضية وتارة بمشاهدة صور أهلي وخطيبتي في السودان. في تلك اللحظات حالكة الظلام، كنت اشاهد بدهشة
تسابق المهاجرين للتعلق في الشاحنات من أجل العبور إلى بريطانيا، دون أن أجرب ولو
مرة واحدة أن أفعل مثلهم رغم تشجيع شباب كثيرين، نحج بعضهم في العبور، ومات أغلبهم.
وبقيتُ مع الأقلية التي كبلتها المخاوف من المجازفة، بعد أن لازمتني تجربة الموت
الذي نجوت منه بأعجوبة أثناء رحلتي من ليبيا إلى اليونان عبر البحر المتوسط، غرق
أغلب ركابها قبل الوصول للشواطئ الأوروبية. ولما جاء قرار تفكيك المخيم، وجدتُ ألا
خيار سوى طرق باب جديد. لهذا جئتُ إلى باريس"
انهيتُ قصتي، وأخذتُ جرعة ماء. فطالبني مصطفى بأن أصف لهما ما رأيته في المخيم. فحدثته عما كان يوفره من خدمات للمهاجرين
من دورات المياه وأماكن مزودة بالكهرباء تمكننهم من شحن هواتفهم النقالة. ثم عدتُ للتعبير
عن خوفي الذي منعني المخاطرة بعد رؤيتي لمخاطر الموت التي تعرض لها كثيرٌ من
المهاجرين إما اختناقًا في الحاويات أو سحقًا تحت الشاحنات أثناء محاولات العبور
إلى الضفة الغربية تهريبًا، وأقلها مأساوية الوقوع في أيدي شرطة الحدود.
لاذ مصطفى بالصمت هنيهة، ثم شرح لي أن
في باريس أيضًا توجد مخيمات توفر للمهاجرين خاصة في موسم الشتاء، ذكر منها محطتي "أوستيغليتس-Austerlitz " و"جوغيس-Jaurès "، والرصيف الممتد تحت
الجسر الطائر لخط ميترو (2) بين محطتي "باغبيس- Barbès " و "لاشابِيل-La chappelle". ثم صمت برهة ثانية قبل أن
يعلق بأن الباريسيين أصبحوا يتحاشون هذه المناطق حيث مخيمات المهاجرين لنتانة
رائحتها وخاصة تلك المفتقرة لدورات مياه قريبة. فلم أعقب على كلامه إلا بسؤاله عن
تفاصيل أكثر عن حتى تخزن ذاكرتي هذه الأمكنة التي قد أحتاجها في الأيام القادمة،
قبل أن أطلب منه أن يخبرني عن إجراءات اللجوء.
فتبادل النظرات مع رفيقه المنغمس في
مطالعة هاتفه النقال، ثم أفصح بأنني سأعاني كثيرًا مع طول الإجراءات الإدارية، قبل
أن ينصحني بالبدء فورًا منذ الغد حتى أكسب وقتي، مؤكدًا أن أول ما يجدر بي فعله هو
البحث عن تعلم اللغة الفرنسية، لتسهيل فرصة الحصول على وظيفة فور حصولي على أوراق
الإقامة.
ولما أحس باغتمامي قلقًا مما ينتظرني،
مازحني بأنني سأنسى كل التعب ما أن أستلم بطاقة إقامة بعشرة سنوات، لأبدأ جولتي الاستكشافية،
إن كنتُ عاشقًا للسفر مثلهما، داخل دول الاتحاد الأوروبي دون الخوف من الوقوع في
أيدي الشرطة، ثم نهض وحث صديقه على النهوض من أجل العودة لمحطة الشمال، واللحاق
بقطار (تاليس-Thalyse) ورحلهما إلى
أمستردام.
**-**
بعد مرور شهرين من ذلك اللقاء وتلك النصائح، وبعد مواصلتي الوقوف يوميًا في مع مئات المهاجرين في الصفوف تحت المطر من
أجل الدخول لمكتب "فرنسا أرض اللجوء"، نجحتُ بصعوبة بالحصول على كارت
إقامة مؤقت يُجدد كل ثلاثة أشهر، فاستحققت بفضله سكنًا وفره لي مكتب
"الكادا"، في غرفة صغيرة لفندقٍ متواضع في الدائرة العاشرة تقاسمتها مع
شابين غريبي الأطوار: أحدهما إيراني يعاني من وسواس قهري ويقضي أوقاته في إعادة
الوضوء والصلوات، والثاني كنغولي يصك اسنانه ويتكلم أثناء نومه. وكنتُ
سعيدًا بتلك السكنى رغم غرابة رفيقاي وبساطة الفندق، الذي كنتُ أراه كجنة نسيتُ
تحت سقفه ما عشته من بؤس وشقاء وتشرد في الشوارع طوال أشهر.
فقبل حصولي على ذلك السرير، كنت أقضي
أوقاتي في الاتصال بخدمة سكن الطواري (115)، لكي أناضل مع المناضلين، بسبب كثرة
اتصالات المتشردين، علني أفوز بسريرٍ تفوح منه روائح نتنة من كثرة تناوب نوم
المتشردين عليه، لأنام ليلة واحدة لأعاود الكرة في صباح الغد. وكم أصابني الذهول
عندما اكتشفت بأن هناك فرنسيين أصليين يشاركوننا، نحن المهاجرين، التشرد والبؤس
والنوم في الشارع، ويتزاحمون معنا في الحصول على سكن الطوارئ، وعلى الوجبات
الساخنة التي تقدمها منظمة "Resto du coeur" للمتشردين في شوارع في باريس.
ونسيتُ ذلك الشقاء سريعًا بعد دخولي
الفندق، وهنائي بالنوم مليء جفوني وبالاغتسال يوميًا وتوديع معاناة اضطراري تحمل
رائحة جسمي النتنة بسبب النوم في الشارع، وبإراحة ظهري المقصوم من دوام حمل حقيبتي
والنقل بها في الشوارع المتخشب من النوم جالسًا على أرصفة أحد الشوارع الجانية، أو
في إحدى الحدائق مع متشردين آخرين، أو نهارًا داخل مكتبات باريس المجانية.
وفي تلك الفترة فقط، اكتشفت الوجه
الجميل لمدينة الأنوار.
وبما أن الفندق كان يطل على قنال
"سان مارتان"، القناة التي بناها نابليون بونابرت لتعبر باريس من
حوض "لافيليت-la villette"
وتسمح للقوارب، بفضل هويسات خمس تعدل مستوى الماء، للوصول إلى نهر "السين"،
كنت أخرج يوميًا لأتمشى على كورنيش القناة، وأتوه في صفحة المياه الهادئة متفكرًا
في حالي، متسائلا عن مستقبلي في هذا البلد الذي لا أجيد لغته، مسترجعًا تنزهاتي مع
خطيبتي في شارع النيل بالخرطوم وجلساتنا المعبقة برائحة القهوة، لأستمد منها قوة
تعنيني على تحمل برودة الغربة.
ولم أكن أحس بالوقت يمضي، وأنا أسير
قاطعًا الدائرتين العاشرة والدائرة الحادية عشر، قبل أن أصل لساحة "الباستيل-Bastille"،
الموقع الرمزي للثورة الفرنسية
التي دمرت حصن "الباسيتل" في الفترة ما بين 14 يوليو 1789-و14 يوليو
1790.
في هذه الساحة، كنت أشعر بالانتماء والانصهار
في سمفونية البشر من طلاب وسياح وسكان الأحياء المجاورة، حتى أدمنت القدوم لهذه
البقعة الناضحة وجوه روادها بالحياة والأمل، خلافًا لتلك الوجوه البائسة، التي كنت
أتركها ورائي في أحياء " لاشابِيل" و"ستالينغراد-Stalingrad" حيث أكبر تجمع للمهاجرين وطالبي
اللجوء حديثي الوصول إلى فرنسا. وكنتُ أنتقي أماكن جلوسي في الحانات بعناية لأصغي
لحوارات الناس، حتى وإن كنت لا أفهم منها الكثير.
فقد كان كل همي أن تمتص هالتي من ذبذباتهم المرتفعة أثناء استمتاعي بشرب
الكابتشينو، وتأمل أسراب الحمام حول تمثال
"عمود
يوليو-Colonne de juillet" في وسط الساحة، ونسج خيوط أحلامي:
"قريبًا سأصبح مثل هؤلاء
البارسيين أعمل 35 ساعة في الأسبوع، وأدفع الضرائب دون تهرب أو غش كما
يفعل معظم الأجانب، وسأوفر مبلغًا يساعدني في الحصول على تمويل عقاري من البنك
لأشتري شقة صغيرة في إحدى الضواحي الراقية المتاخمة للعاصمة مثل ضاحية "نويي-Neuilly " أو "لوفالوا-Levallois " أو "فانسين-Vincennes "، وسأذهب وأتزوج
بخطيبتي وأجلبها معي من الخرطوم لنجوب سويًا بلدان أوروبا، وخاصة العواصم الأوربية
اللاتي حدثتني عنهما كثيرًا، حيث يمر "نهر الدانوب" (فيينا وبراتيسلافا
وبودابست وبلغراد)، قبل أن نستقر في شقتنا الصغيرة ونتفرغ لتربية أطفالنا ".
لكن هيهات، هيهات. تأتي الرياح بما لا
تشتهي السفن.
فما أن تلقيتُ خطاب المكتب الفرنسي
لحماية اللاجئين وعديمي الجنسية " أُوفْبْرا OFPRA"، برفض طلبي بالحصول على حق
اللجوء، بحجة انتفاء شرط وجود تهديد على حياتي إذا ما عدتُ إلى وطني، حتى استشعرتُ
بأن أحلامي تلك لم تكن سوى أحلام "ظَلُوط".
وكان بإمكاني الشروع في قضية استئناف
والانتظار سنة أو أكثر لتلقي الرد، ثم البدء في طلب لجوء جديد بقصة أخرى (إذا ما
جاء حُكم الاستئناف بالرفض أيضًا)، لانتظر سنة أخرى أو ثلاث أو عشر. لكنني جَبُنت.
وخشيت أن أصبح يائسًا مكتئبًا أقتل أوقات انتظاري المملة باحتساء البيرة في حدائق
باريس العامة، وأتحمل روائح المتشردين النتنة بجواري، أو أن انحرف عن أخلاقي فأدمن
الخمر أو المخدرات، لأتلهى عن قسوة طول الانتظار.
وهكذا نقضت أخر خيوط أحلامٍ، ظللتُ أغزلها طوال أشهرٍ.
ونسيتُ الشقة الفارهة ورحلة شهر العسل على ضفاف الدانوب، وعدتُ أدراجي إلى السودان، حتى لا أفقد خطيبتي إن طال غيابي عنها، وحتى أشارك في الثورة، التي كانت فتيلتها قد اشتعلت الأسبوع الماضي في مدينة عطبرة، بدل إضاعة عمري وشبابي في الغربة، كآخرين زبلت زهرة شبابهم في انتظار الحصول على الأوراق. والجري وراء أحلام كاذبة.
******