بقلم/ تسنيم طه
تخيل أنك تجلس بهدوءٍ بجوار النافذة، مستمتعًا بنسماتِ الضحى المحملةِ بشذى
شجيرات الريحان، تقرأ في صحيفتك بانسجام دون أن يشتت انتباهك لا الهتافات الآتية
من الخارج، ولا مذياع الجيران وهو يبث عبر أثير إذاعة "البيت السوداني" صوت
عثمان الشفيع يغني:
"الزهور والوردي،،الشَّتَلُوها جوة قلبي،،،عشان حبيبي".
وبينما أنت في هذه الوضعية المسترخية، حيث ظهرك مرتاح على الكرسي المُنَجَّد
حديثًا بحبال بلاستيكٍ بيضاء وزرقاء، وقدماك ممدودتان بتراخٍ أمامك، تستمرئ عيناك
تمتع التجوال بين أسطر الصفحة الثقافية، السبب الرئيسي في شرائك لصحيفة سياسية،
ستقاوم عدم تصفح بقية صفحاتها المكتظة بأخبار النزاعات والحروب والمجاعات
والتفجيرات الإرهابية والانقلابات العسكرية وغيرها من أخبار الكوارث، حتى لا تنغمس
في فكرة متشائمة بألا سلام يدوم على سطح هذا الكوكب.
واثناء استمراء عينيك لأخبار الثقافة، وبينما منخريك يستنشقان عبير الريحان،
إذا بالتساؤلات تعصف برأسك بحثًا عن عذرٍ وحجةٍ تجعلانك تتغيب عن تأدية جدول حصصك
ليومي الأربعاء والخميس، في وسط شهر فبراير القادم، لكي تذهب لحضور الفعالية
الثقافية في قاعة الصداقة بالخرطوم.
وبينما أنت غائصٌ في التساؤلات حتى أذنيك، تقتحم زوجتك الغرفة كريحٍ عاتيةٍ،
فترغي وتزبد آمرة إياك أن تستعجل بالنهوض لتهب لنجدتها.
لحسن الحظ أنك شخصٌ درَّب نفسه على الهدوء واعتاد التعامل ببرودٍ مع
مواقف الدراما منذ 30 عاما، وإلا لما كنت لتكتفي برمي زوجتك المهتاجة بنظرٍة
جانبية غير مبالية قبل أن تعود لمواصلة قراءتك وتساؤلاتك.
لكن ردة فعلك الباردة، لا تدفع زوجتك للهدوء كما كنت تتوقع، بل تزيد من إضرام
نار غضبها، فتندفع نحوك كسهمٍ طائشٍ، ظنًا منها أن الصمم قد أصاب أذنيك، وإلا لما
كانت لتصرخ فيك بتلك الهستيرية لتكرر أمرها لك بالنهوض لإنقاذ ابنكما الوحيد من
أيدي الشرطة. تصيبك نبرة صوتها الجهوري بالقشعريرة، فترفع عينك خلسة لتراقب سرعة
تعكر وجهها وهو يصبح أحمرًا كحبة طماطم بينما عيناها تقذفان الشرر.
وعندما تشعر أنك ستحترق من تلك النيران المصوبة نحوك، تخفض بصرك باذلًا جهدًا جديدًا
لتحافظ على رباطة جأشك وبرودك المكتسب خلال تلك السنوات الثلاثين، ليس قسوةً منك،
فأنت حنونٌ بطبعك، يرق قلبك لرؤية فرخ حمامة تسقطه الريح الشديدة من عُشه، وقد
تذرف دموعًا غزيرةً وأنت تأخذه لتدفنه بجوار شجيرات الريحان، وتترحم بحزنٍ على
روحه التي غادرت الدنيا قبل أن تختبر الحياة بجمالها وقسوتها.
فبرودك المكتسب، إنما هو نتيجةُ تجارب مع مواقف تهويلٍ ومبالغةٍ دفعتَ
ثمنها الكثير من الخسائر في حياتك. فمنذ مجيء هذا الولد الوحيد بعد رحلة علاجٍ
دامت سبع سنوات، وأنت لم يهنأ لك بال، بسبب هلع أمه الذي سيرافقها طوال حياتها بعد
اكتشافها بأنها لن تنجب بعده أبدًا. ومنذ نعومة أظافره، زوجتك تهرع إليك في كل
الأوقات، تبكي وتنوح وترجوك أن تخرج لتأخذ حق ابنها المظلوم. وكنتَ تتأثر بدموعها،
وتشبع أولاد الجيران ضربًا لإصابتهم ابنك المدلل في لعبة كرة القدم في الميدان
الترابي أمام المنزل، وكنتَ سريعًا ما تدفع الثمن، تارةً شعور بالعار عندما يوبخك
آباء الأولاد المضروبين لتبعيتك لكلام زوجتك وتعاملك بصبيانية مع أمور تحدث لجميع
الأطفال وهم يلعبون معا، وتارة أخرى شعور بالحزن عندما يرجوك ابنك نفسه بألا تتدخل
بينه وبين أصدقاءه.
ورغم اتخاذك لقرار عدم التدخل في شؤون ابنك مجددًا، لن تتركك زوجتك وشأنك، وستزج
بك زجًا لمتابعة ابنها كالظل، حتى بعد بلوغه سن الرشد ودخوله الجامعة، لكي تذهب
وتتبع أثره وتبحث عنه وتأتي به إذا تأخر، ولو نصف ساعة من ميعاد وصوله إلى البيت. وستصم
أذنيها، وهي تزرف الدموع جداولًا، عن محاولاتك اقناعها بأن اللحية النابتة في وجه
ابنها المدلل أكبر دليل على عدم حاجته لحمايتك له بعد اليوم، إلى أن يحين وقت دفع
الثمن الأغلى، عندما تبيت في مخفر الشرطة بسبب تشاجرك مع ابنك عند متنصف الليل على
جسر " شَمْبات"، بعد أن أيقظتك زوجتك للبحث عنه وشككت بأنه يدخن الحشيش
مع اصدقاءه.
أليست تلك أسبابًا كافيةً لجعل أعصابك، التي أبكاها فرخ حمامةٍ، أن تصبح أقوى
من حديد وأبرد من لوح ثلج؟
تتقدم كتلة النار المتقدة من لوح الثلج الهارب ببصره إلى الصفحة الثقافية،
المتسائل متى سيخمد هذا البركان الذي يمنعه في التفكير في إيجاد عذر يتغب به يومي
الأربعاء والخميس من المدرسة؛ ليذهب إلى قاعة الصداقة. يتصاعد لهب البركان مع
اقتراب خطوات زوجتك منك؛ فتراقبها بفضول تُلقي عنها ثوبها الأزرق ذو الورود
الحمراء، لترميه على الأريكة وهي تتقدم أكثر لتقف أمامك، واضعةً يديها على خصرها
في تحدٍ، قبل أن تصرخ بمليء حلقومها:
-
مصطفى قوم فِز، بقول ليك ناس الشرطة ساقوا ولدك!
-
أحسن، خليهو يتربى.
نطقتَ جُملتك ببرودٍ، رغم علمك أن زوجتك لن تحقق حلمك وتبتعد عنك بتلك البساطة لتتركك في سلامٍ. ثم بلعت
ريقك وواصلتَ الضغط على أعصابك، لتسمح لها بالفضفضة دون أن تتفاعل مع نعتها لك
بالمجنون لعدم اكتراثك لمصير ابنكما الوحيد.
ورغم رغبتك الملحة في الهروب من المكان، إلا أنك ستتظاهر بالمطالعة في الصحيفة.
لكن زوجتك التي تعرفك وتعرف حيلك، لن تدعك تواصل ردة فعلك السلبية تجاه سلوكها،
وستجبرك على التفاعل رغمًا عنك عندما تنتقي ما سيستفزك ويحرر من داخلك جميع الآلام
التي كتمتها طوال سنوات، بمجرد نعتها لك بـكلمة "جبان" لبقائك في البيت
في الوقت الذي يشارك فيه جميع سكان الحي في المظاهرات الاحتجاجية على غلاء المعيشة
وارتفاع أسعار الخبز والوقود.
توجعك كلمتها، وتعيد إليك ذكرى نفس الإحساس الأليم القديم، لتكتشف أنك لم تنسَ
مرارة شعورك به رغم مرور ثلاثين عامًا، عندما وصفك زملاءك في الجامعة
بـ"الجبان" لرفضك المشاركة في مظاهرات كلية التربية بجامعة الخرطوم. تنتصب
كأفعى "كوبرا" دون اعطاء زوجتك فرصة تفادي كفك الضخمة، وهي تزيحها من
أمامك بسرعةٍ، كما لو أنك تهش ذبابة.
تتهاوى زوجتك على الأريكة بجوار ثوبها ذو الألوان العجيبة، الذي كم تساءلتَ متعجبًا
من اجتماع لونيه، لتتحسس بيدها المخضبة بالحناء موضع الألم في خدها، بينما عيناها
تصوبان إليك نظرات ذهولٍ وعدم تصديقٍ من أن تمد يدك عليها في يوم من الأيام. تشعرك
ملامحها المصدومة بالنشوة وتدفعك للزمجرة مدافعًا عن نفسك بأنك لو كنت تؤمن بمثل
تلك المناهج المتمردة والمظاهرات الرعناء لأخذ الحقوق، لكانت قد رأتك في الصفوف
الأولى. ثم تلوذ بالصمت عندما يتبدل شعور النشوة إلى شعور تأنيب بسبب نظراتها
الكسيرة اللائمة المتحسرة على سنين العشرة بينكما. لكن ألمك ينزاح سريعًا مع
انحلال عقدة لسان زوجتك أخيرًا لتوبيخك على سطحية تفكيرك ونعتك لمعاناة الشعب
وتسمية تحركاتهم لتغيير واقعهم بالمظاهرات الرعناء.
تعود إلى رشدك وإلى واقعك المرير، فتطالبها بهدوءٍ مصطنعٍ أن تحاول فهم وجهة
نظرك. لكنها تصم أذنيها عن تفاسيرك بأن ما يحدث ما هو إلا مجرد ردة فعلٍ غاضبة لن
تفضي إلى نتيجة. ولأنها تعرفك من تغير ملامحك وتعرف ما يمكن أن يوجعك أشد الوجع،
تتعمد إيلامك بكلمة أقسى من سابقتها، فتصفك بعديم الرجولة لتجاهلك هموم الناس
ومعاناتهم. تشتعل كتلة نار جديدة في جوفك، تجعلك تظن أن خلاصك في رميك بنفسك عليها
لتشفي غليلك منها بإشباعك إياها ضربا مبرحًا قبل أن تطلقها وترسلها إلى بيت والدها
مهشمة العظام.
لكن قراءاتك في كتب الأمام الهروي ومحي الدين ابن عربي وجلال الرومي وابن عطاء
الله السكندري، تذكرك بمقولة "ليس الشديد بالصرعة، وإنما الشديد من يملك نفسه
عند الغضب"؛ فتردعك عن زوجتك ليس فقط خوفًا عليها، وإنما خوفًا من أن تهلك
أنتَ وراء نفسك الأمارة بالسوء وهي تجرك لإرواء شهوة الانتقام لأناك الجريحة. تقبض
على يدك بقوة، بينما أسنانك تصطك من الغضب وأنت تطالع نظرات زوجتك المتشفية
الناضحة استفزازًا واحتقارًا.
ورغم ما أنفذته فيك نظراتها من سموم، إلا أنك لا تنساق وراء رغبتك السبعية
لإفراغ الغضب، وتقرر اشفاء غليلك بطريقة أخرى غير العنف الجسدي. فتتراجع القهقري
لتتبين بوضوح كيف ستكون ملامحها عندما تخبرها بأنك لو كنت تؤمن بردود الأفعال التي
تدفع الناس للتظاهر في الشوارع الآن، لكنت قد طلقتها في التو واللحظة؛ لتأكد لها أنك
لست عديم الرجولة. فإذا ببركان ثورتها يخمد ويتحول إلى رماد تتناثر شظاياه عبر نظراتها الكسيرة
الخائفة، وهي تنكمش بجوار ثوبها كسلحفاة. يعود شعور الانتشاء يغمرك عند قراءتك
للغة جسدها المهزومة، فترجع إلى مكانك بغرورٍ وانتفاشٍ كديك مغرور، وتلتقط الصحيفة
من الأرض قبل أن تجلس وتخفي نظراتك ورائها.
لكن ثورتك الداخلية التي لم تهدأ بالكلية، تحول بينك وبين التركيز في السطور
المتناولة لفعالية الدورة الثامنة لجائزة الطيب صالح للكتابة الإبداعية التي ستقام
في قاعة الصداقة يومي 14 و15 فبراير، فتعود تسترق النظر إلى زوجتك، لتصيبك وخزة في
قلبك عندما تلمح دموعها المنهمرة بصمتٍ وانهزامٍ، ويتملك شعور بالعار وبالتأنيب
لتعمدك ايذاءها دون مراعاة خوفها على ابنها الوحيد. تترك الصحيفة وتنهض، ثم تسير بتثاقلٍ وترددٍ
لتجلس بجوارها. تشيح بوجهها عنك؛ فتنامى شعورك بالذنب. تبذل مجهودًا لتعتذر عن
قساوة قلبك، لكنها تظل تعطيك صفحة خدها. تكرر اعتذارك مرة وإثنين وثلاثة قبل أن
تقبله وتلتفت نحوك لتطالعك بعيون حزينة كسيرة تضاعف من شعورك بالألم. وحتى لا
تستسلم للسقوط في هاوية استمراء تأنيب الضمير وجلد الذات، تتجاسر وتضع يدك على
ركبتها. ولما تشعر بتلاشي انكماشها، تعتذر مرة رابعة. ولما تلمح اللين على ملامحها،
تعود تشرح لها رفضك لمبدأ الصراخ من أجل الحصول على الحقوق، ثم تعقب مستشهدًا
بحديث رسول الله " ما كان اللين في شيءٍ إلا زانه، وما نُزع من شيءٍ إلا
شانه". وإذا بصرختها تخرجك من توهمك بأنك قد تقنعها بوجهة نظرك السلمية للأمور.
تطالعها بذهولٍ وهي تستعيد عنفوانها وتقريعها لك لعدم نهوضك لإنقاذ ابنك
من بين أيدي الشرطة؛ فتعض على أسنانك تحكمًا في رباطة جأشك، قبل أن تنجح في
النطق لتتوسل:
-
أرجوك يا هَنِية، إهدائي!
لكن هنية لا تهدأ، بل تهب واقفةً وتأمرك بالنهوض في الحال، بل وتحاول انهضاك
بالقوة بسحبك من يدك، وانت تقاوم محاولًا التملص من قبضتها، وطرد ذكريات المواقف القديمة التي
زجت بك اليها، واِبعاد جميع وجوه الساخرين من تصرفاتك الصبيانية.
وأخيرًا نجحتَ في التخلص من قبطتها المطبقة، وابتعدت عنها لتطالعها بحيرةٍ
ووجوم، تخرجكَ منهما بسؤالٍ مستفز عما إذا كنت قد فقدت السمع. تتجاهل استفزازها
وتسألها ببرودٍ عما ينقص أبنها ليخرج ويتظاهر مع الناس، في حين أنك تكرس وقتك في
إعطاء دروسٍ خصوصية لتوفر له جميع طلباته، فيجن جنونها فتصرخ مستنكرة:
-
طيب لما انت كُوز[1]كدة،
ما تمشي ليهم يشغلوك معاهم عشان ترحمنا من عيشة الفقر دي!
تشتعل كرة الغضب في جوفك من جديد، وتوشك على الصراخ لتدافع عن نفسك بأنك لست
كوزًا ولست أي شيء آخر. إلا أن شعور بالإحباط يتملكك، ويجعلك توقن بأنك مهما صرخت
وشرحت وحكيت وقصصت، ستكون كمن يؤذن في مالطة؛ لأن زوجتك لن تفهم كلمة واحدة مما
ستقول وأنت تدافع عن نفسك لتدفع عنك تلك التهمة، وتشرح لها رأيك في أن أصحاب
القضايا الحقيقية لا يحتاجون للصراخ، لأن أيمانهم العميق بها سيجعلهم ينجحون
بالطرق السلمية كما نجح غاندي بمنهج السلم في إخراج المستعمر الإنجليزي من الهند.
باستسلامٍ تتفرس في وجه زوجتك
المتأهب، وتواسي نفسك بقول علَّ ثورتها هذه تكون أخر "شدةٍ وتزول"، قبل أن تنهضَ وترافقها.
****
[1] كوز" صفة يطلقها أهل السودان تهكما على المنتمين إلى الحركة الإسلامية -وتشمل الإخوان المسلمين وغيرهم من أتباع الإسلام السياسي -والتي كان يتزعمها حسن الترابي على مدى نصف قرن تقريبا، واتخذت لها أسماء مختلفة مثل "جبهة الميثاق الإسلامية" و"الجبهة الإسلامية القومية" و"المؤتمر الشعبي العربي الإسلامي" وأخيرا "المؤتمر الشعبي".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق