-
تعال يا حَمُودِي أوريك لي شْنُو البعوض ما قرصك أمبارح!
استوقفتني جدتي وأنا أهم بالخروج
للشارع للعب كرة القدم، اثناء احدى اجازتنا في بيتها.
كان الذهابُ إلى شندي حدثًا ننتظره، أنا وأختي وأبناء عمتي، بفارغِ الصبر.
رحلةُ استمتاعٍ كنا نعيشها ثلاثة مرات في
العام: في العيدِ الصغيرِ (عيد الفطر)، حيث توديع شهر رمضان بالخبائز والكعك
والملابس الجديدة، وفي العيدِ الكبير (عيدِ الأضحى)، حيث الإسراف في أكل الشية
والمرارة و "أم فتفت" وأضلاع الخروف، وشُرب الشِّرْبُوتْ[1]،
وحيث النوم تحت السماء والتلحف بسجادة النجوم.
أما المتعة الكبرى فكانت في الإجازة الصيفية، حيث نستفرد
بجدتي بعيدًا عن كثرة الضيوف الذين يتوافدون في أيام الأعياد، لتمتعنا بحكاياتها
وقصصها عن الأساطير والجن و"تيراب البِنِيَّة" و"البَّعاتي"،
وحيث لا يوجد من يؤنبنا على التصبب عرقاً بعد لعب الغميضة والجري في أفنية البيت
الواسع تحت الشمس الحارقة، أو بسبب السهر حتى الصباح
في لعب الكوتشينة والليدو و"البلييه استيشن" و"الإكس بوكس"،
أو بسبب الخروج يوميًا للعب كرة القدم حفاة
الأقدام، مع أبناء الجيران في الشارع.
فغياب الآباء والأمهات، يعني غياب الأوامر
والنواهي، ويعني الحرية المطلقة، ويعني اللعب دون خوفٍ من أشواك نبتة "الضِّرِيساء"
التي لم تكن تؤلمنا أكثر من الم رؤية فزع أمهاتنا عند رؤيتهن لأقدامنا تنزف.
لكن رغم ذلك الفرح وتلك الحرية، كنت أستشعر بعض الخوف وبعض القلق من أشياء قد
تبدو تافهة، لكنها كانت تغض مضجعي، ألا وهي لسعات البعوض. ففي بيتنا بحي "المنشية"
في العاصمة، ورغم انتشار البعوض في الخرطوم كما في شندي وخاصة في موسم الأمطار، لم
نكن نعاني من هذه المشكلة، ليس فقط لأن جميع الغرف كانت تحتوي على أجهزة تكييف
يغني عن الخروج للحوش والنوم تحت السماء هربًا من حرارة الداخل، ولكن أيضًا لأن
فيلتنا مزودة بمولد كهربائي لا نشعر معه بقطوعات التيار الكهربائي المبرمجة طوال الأسبوع،
كما يحدث مع أصحاب الطبقة الكادحة الذين يعيشون في سلسلة معاناة ويضيعون أوقاتهم
في معامل التحاليل الطبية لإجراء فحص الملاريا، ويهدرون أموالهم القليلة في شراء
أدوية "الكلوكوين" أو "الكينين"، للعلاج من الوباء المنقول
الى دمائهم عبر خرطوم أنثى الأنوفليس.
لكن رغم قلقي من تلك اللسعات، كنت أعد الأيام لكي ينتهي العام الدراسي، تحرقًا
لاستئناف حياة الحرية والسعادة بعيدًا عن العاصمة، في بيت جدتي، لأغرق في حنانها
وتدليلها، واشبع نهمي بقصصها وقصص صديقاتها ضاربات الودع، وقارئا الفنجان، ولأعيش
دهشة جديدة من كرمها الذي لم أر له مثيل.
فقد كان الضيوف لا ينقطعون عن بيتها، وكانت الخادمة تشكو من كثرة غسل المواعين
وتنظيف المطبخ الذي لا تنطفئ ناره، لأن جدتي كانت تقسم أن تطعم أي شخص يزورها من
طعامها، بل حتى وتعطيه أن يأخذ معه لبقية أفراد بيته. فكثيرًا ما تجد نساءٍ خارجات
وفي ايديهن صحون مملوءة بلحومٍ ومرارة وشية وأم فتفت بالشطة الخضراء والدكوة، أو
علب معبأة بالبسكويت والكعك والبتيفور، (في أيام الأعياد)، أو جردل لبن طازجٍ من
لبن غنماتها الكثيرات في الأيام العادية إذا ما صادفن لحظة حلب البهائم قبل صلاة
المغرب.
ورغم كرمها ذلك، لم يكن لديها مكيفات في جميع غرف بيتها الواسع،
لأنها كانت تنفق كل ما يأتيها من مصاريف من أبنائها لإكرام الضيوف.
ومن بين الغرف الخمسة والبرندات الأربعة والصالون والمطبخ، كان هناك مكيفٌ
مائي ماركة "الواحة" في صالون الرجال، وآخر تم تركيبه
حديثًا في برندة المطبخ، الغرض من تخفيف شدة حرارة سقف "الزنكي"
فوق رؤوس النساء أثناء تحضيرهن لوجبات الطعام التي تستمر طوال اليوم على مدار
قرابة أسبوع في عيدي الفطر والأضحى، المناسبتين التي تجمع كامل الأسرة.
ومع هذين المكيفين الهوائيين كانت هناك أوقات للاستراحة من لهيب
الشمس أثناء النهار. أما في الليل فلم يكن هناك أمل لأمثالنا نحن
الأطفال لإيجاد مكان نتكوم فيه وسط تلك الجموع الغازية لبيت الجدة التي أنجبت عشرة
أبناء من بطنها تكاثروا كالأرانب لنصبح نحن أحفادها، عندما نلتقي في بيت العائلة
الكبير، وكأننا تلاميذ في مدرسة.
لذلك لم يكن هناك سبيل للهرب من لسعات البعوض، ليس فقط بسبب صعوبة إيجاد مكان تحت
مكيفات الهواء، ولكن أيضا لاحتمالية انقطاع التيار الكهربائي أثناء الليل، والتبلل
بالعرق ثم الهرب من حرارة الداخل إلى التحاف سجادة النجوم، ومصادفة كلاب أحد
الجيران يتجول في الفناء، ومن ثم تلقي صدمة ارتفاع الأدرينالين. لذلك كنا نفضل، منذ
البداية النوم تحت السماء والتنسم بهواء الليل البارد، والاستسلام لسعات البعوض.
كنت صديقًا مقربًا لمعاذ ابن عمتي ياسمين، ليس فقط لأنه في عمري ويفصل
عيد ميلادنا أسبوعين فقط، ولكن لأن اهتماماته تشبه اهتماماتي، ولا توجد بيننا ذكرى
غيرة واحدة كتلك التي تنقض حياة أختينا، وحياتنا نحن ايضًا عندما تحتدم الشجارات
في النهارات القائظة، أو الليالي حالكة الظلمة أثناء لعبة المطارحة الشعرية، عند
انقطاع التيار الكهربائي، أو لعبتي الليدو أو الكوتشينة بعد عودته.
أثناء الاجازة الكبيرة، كنا نستيقظ كل صباح، ونهرع لنجتمع حول جدتي
لتناول شاي الحليب بـ"جرجوش" اليانسون والبسكويت والكعك، ونتنافس لحصر
أكبر عدد من لسعات البعوض على أجسادنا، قبل حضور جارات جدتي وست الودع، التي تلف
حولها النساء كهالة، تملس تحت نظراتهن الرمال وتضرب "الوَدِعْ" ثم تتفرس
في وجوههن لتقرأ لهن والطالع، فتسعدهن بكلامها أو تتعسهن، ولا تخرج، والنساء في
زيلها، إلا عندما يؤذن شيخ عبد الرحمن لصلاة الظهر.
وفي يومٍ من الأيام، حلَّ ضيوفٌ كثرٌ في بيت جدتي، رجال ونساء جاءوا من
الخرطوم لحضور زواج أحد الأقارب في شندي.
وبعد ليلة ساهرةٍ أخرجنا، أنا ومعاذ، سرائرنا في حوش ديوان الرجال، بعد أن أإرغمنا
على ترك أماكننا المعهودة، بجوار سرير جدتي في حوش الحريم بسبب كثرة النساء. ثم
اضطررنا للتنازل عن أماكنا الثانية التي اعتدنا التوسط فيها جدي ووالدي وزوج عمتي،
في أيام الأعياد، لأولاد الضيوف، لنتقبل على مضضٍ النوم متطرفين في الناحية
الغربية، بجوار أشجار الحناء وأشجار الليمون، لنظل طوال الليل ساهرين، نصارع
مخاوفنا. ونرتعد خوفًا من أن نستيقظ في الليل ونفاجأ بأنفسنا أمام تجوال أحد كلاب
الجيران الضخمة في الفناء، فلا نجد من نستجير به.
فقد كان والدي ثقيل النوم، كزوج عمتي، أما عن جدي فقد كان يخلع جهاز السمع من
على أذنيه قبل أن ينام ويضعهما تحت المخدة فيتحول نومه إلى موت.
لذلك، في فترة الأعياد، كنا نصر على النوم في وسطتهم للتمكن من هزهم في حالات
الفزع الليلي، أو عند الحاجة للذهاب إلى المرحاض الذي نخاف أن نذهب إليه ليلًا
بسبب قصص أختي وابنة عمتي وتأكديهما لنا أن بيت جدتي مسكون بالعفاريت والشياطين
وأرواح الموتى، وبأننا قد نصادف أحد الأرواح الهائمة متنكرة في شكل شبحٍ متخفٍ في
ظلام الليل، سيخرج لنا لا محالة من المخزن حيث تتكدس صواني الأكل، وجوالات البصل
والفول المصري والفاصوليا وعلب والصلصة، وشوالات الفحم وحطب عُواسة الكِسْرة.
كنا في التاسعة من العمر وما نزال نصدق المخاوف من الشياطين، ونخاف الكلاب
الضالة والقطط ولا أحب شيئا من الحيوانات سوى أرانب الجيران التي تتكاثر بصورة
مخيفة وتكاد تسقط جدران بيت جدتي من كثرة حفرها المستمر لإيواء صغارها.
وكانت جدتي تنعتنا باللينين لأننا ولدنا وتربينا في العاصمة ولم نختبر صعوبة
أجواء شندي كحال من أنجبونا: عانوا عواصف الرمال الهوجاء، وقطوعات الكهرباء
اليومية، وتكبد مشاق السير يوميًا عدة اميال للوصول المدارس الثانوية( عبد الله
الحسن، والشيخ مصطفى الأمين)، وسوق شندي، في زمنٍ لم تكن فيه الركشات والتكاسي
"عربات الأتوس" متوفرة، بل عدد زهيد من عربات "البِرينْسَة"، موضوعة
في خطوط المواصلات المعدودة لربط أحياء شندي ببعضها، لا يضيع الناس أوقاتهم في
انتظارها ويتشعبطون بأول "كارو" أو حمار يتطوع صاحبه لنقلهم معه في
طريقه.
في ذلك اليوم نمنا، ولم نصادف لا قططًا تموء وتتزاوج، ولا كلابًا تتنزه في
الفناء، فكان غريبًا. لكن الأغرب أنه عندما اجتمعنا في الصباح بجوار جدتي نتناول
شاي الحليب بجرجوش اليانسون، وتمادينا في مراهنة أخينا بكثرة عدد لسعات البعوض،
خسرنا الرهان. فأصابنا الذهول، ولم نكتشف السبب الا بعد أن انتهينا من تناول الشاي
بجرجوش اليانسون ونهضنا لكي نجلب الكرة من أجل الخروج للعب في الشارع مع أبناء
الجيران.
هنا نادتني جدتي:
-
تعال يا حَمُودِي أوريك لي شْنُو البعوض ما قرصك أمبارح!
فاقتربت منها، فتحسست قميصي، وأخرجت منه صفقات من شجرة الليمون كانت تستريح
بين طيات قميصي وبنطالي، فاحمر وجهي خجلًا عندما مازحتني أمام "سِتْ
الوَدِعْ" إذا ما كنت قد فقدت الإحساس حتى لا أشعر بأوراق الليمون
المختبئة قريبًا من جلدي، ثم أصغيتُ لها وهي تشرح لي وتجزم أن تلك الوريقات هي ما
أنجاني من لسعات البعوض البارحة.
ومن يومها أصبحت شجرة الليمون ملاذنا، نتسابق لحجز أماكننا للنوم تحتها، سباقًا لا ينقذنا منه ومن مؤامرات أختينا، إلا حلول ضيوفٍ رجالٍ إلى بيت جدتي.
***
تسنيم
باريس/ 28 سبتمبر 2020
11:49
[1] الشربوت، مشروبٌ سوداني تقليدي، يُصنع من ثمار البلح، الذي يضاف له بهاراتٍ مثل الهيل (الحبهان) والحلبة والزنجبيل والقرف، ليترك الخليط مدة من الزمن لا تتعدى اليوم الواحد، ليخرج بعدها بمذاقٍ مميزٍ، بعد أن يكون قد طُبِخ على النار حتى نضج البلح تماماً. ويتم تناول هذا المشروب التقليدي، المتوارث منذ القدم (منذ فترة قدماء النوبة حول النيل منذ آلاف السنين) في عيد الأضحى، لكونه يساعد على الهضم والاسترخاء.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق