الخميس، 19 مارس 2020

قِصَّة قَصِيرة- حِكَايَة البِنْت التي طاَرْت عَصَافِيرها

بقلم /بشرى الفاضل


كنت مدية وسط حشد غريب من البشر ، لا تجمعهم سلطة خضروات شحاذين وجزارين وحرامية ، قافزين ومادحين وجنود غلاظ رائحين وغادين ، مترهلين وعجاف ، باعة متجولين ومتشردين وسبابه ، منتظرى مواصلات وجلابه ، متانقين ومتاففين .

ومن بين كل هؤلاء ممثلون منتخبون يطاردون النساء بالعيون والأيدي والاجساد، ومن لم تسعفه الحركة يطارد بالاستجابة المباشرة الحسية او حلم اليقظة.

كنت مدية حادة السنان تشق طريقها وسط الزحام فتجدث الما مفاجئا في كتف هذا مشفوعا (بمعليش) وجرحا في قدم هذه متبوعا(بسوري) ولكمة في وجه تلك موصولة بمتأسف) وكنت

من فرط سرحاني لا انتظر ردا على اعتذاري….

كان النهار اخضر لا كعادة الصيف، كنت ملتويا بالبهجة كعمامة اعرابي يزور المدينة للمرة الثانية، لا العاملات سعيدات مثلي ولا ربات البيوت -اانا ابن المحطة الوسطي العنكبوتي الجيب المشرئب عنقا لحادث حركة او مظاهرة نشال، المستيقظ منزولا، التضور جوعا ، الباحث في خشم البقرة عن عمل .. شغبي مكتوم ومظلوم ابن مظلوم ومع ذلك سعيد.

هل ينتزع الاوغاد سعادتي ؟؟.. هيهات .. وهكذا كنت لا انوي التجول فتجولت والناس مكدسة بطيخ بشري . كل ينتظر وسيلة مواصلات دنوت من احد الاكوام واخرجت ادوات انتظاري .. اخرحت كوعي اولا ثم راحة يدي فعاونا رجلي في حمل الجسد المستهلك يوميا والمتعب علي مدار العام. ومن بعد اخرجت عيني ثم طفقت انظر.. انظر في الاتجاهات جميعها واختزن..

رايت اولا رجلا اعمي ، كأنه وهو ينظر امامه يقرأ من لوح محفوظ..ومضي الرحل لحاله لكن نقودي تناقصت . رأيت ثانيا امراة بدينة لدرجة انها حين تنادي وليدها يا هشام ) تحس بحرف الهاء يطن في اذنيك مليئا بالشحم ، رأيت رجلا عبوسا وطفلا تغازل رجلاه علبة صلصة فارغة.

رأيت اصواتا وسمعت روائح لا حصر لها وفجأة وسط هذا كله رأيتها.

قفز الدرويش مكان قلبي .ورأيتها فارعة الطول من غير ان تتأرجح .. قمحية لا كالقمح الذي نعرفه . ولكن كالقمح حين يكون قمحيا مثلها،اخذت من الضباط اجمل ما فيهم مشيتهم. ومن الناس اخذت البابهم . تراها فلا تشبع قلت لنفسي: هذه بنت طارت عصافيرها كان وجهها مستديرا ويبدو هكذا:

وكان انفها كالخضر الطازج ولها عين: ياالله ! وعنق فرعوني ذو وترين مشدودين انيقين لايبدوان الا اذا التفتت. واذا التفتت هربت جميع البائعات بفولهن المدمس وتساليهن الملوح . وهربت الشوارع من حفرها والروائح النتنة من اماكن بيع اللحوم، وهربت ذاكرتي الي مستقبل اتمناه ، اذا صببت ماء في هامت البنت التي طارت عصافيرها ، انحدر ناحية الجبهة . وكان جسمها اذ تمشي يتماوج، كأنه بريمة تنداح دوائرها في قطعة حشب تنوي ثقبه

اقبلت نحوي فنظرت لحالي واصلحتها، واقتربت اكثر فرايتها تمسك بطفلة صغيرة تشبهها الا من بدانة في الطفلة كانت يداهما تتشابكان كأنهما مصممتان خصيصا لذلك، وكأن كلا منهما تمسك بشرودها. وكانتا تعقدان الحواجب بلا دهش بين كل دقيقة واخري بحيث يبدو ما يحدث لعينيهما مثل برق يغسل عن وجهيهما نطرات الآخرين الجائعة.

قلت هذه فتاة طارت عصافيرها ، ثم التفت لاختها فقلت: هذه تميمة ولا بد جاءت بها لتقيها من شر الآخرين .هذه تميمة طارت راحتها>

ورأيتهما كثيرا جدا حتي تخيات نفسي بالمقابل بشعا، فأجفلت ولكنهما مااجفلتا ونظرت للتميمة .ان فمها دقيق طأنه لا يأكل اللايوق الذي اتلوث به. والتفت الي الناس ثم اليهما مرة اخري ونظرت ثم نظرت،نظرت.. نظرت! حتي انقذ الموقف عربة اجرة دلفت علي حين مباغتة فأفسح الناس للتميمة والبنت التي طارت عصافيرها.علي غير عادتهم مع النساء الاخريات ، فركبتا ومن خلال غبار المنافسة وجدت نفسي ايضا داخل العربة.

تحركنا وكانت العربة معطوبة ناشفة في سيرها .كان جاري يدخن وجاره محشو بالبصل ولولا ان النهار كان اخضر، ولولا البنت وتميمتها وما شذ من جمالها اخبارها مما ذكرت لنزلت من تلك العربة التعيسة غير اسف

وعلي كل تصرمت خمس دقائق حين جأر الذي هو بصيل بالبصل-عندك هنا يامعلم. ثم نزل وضرب الباب كأنه يسقط عليه شجارا بائتا جبن من خوضه في حينه، فأختزنه. تحسس السائق خده الايمن كأن صفعة الباب كانت به. ثم تمتم لنفسه_ناس ما فيها رحمة. ترنح الرجل البصلي وعاد ادراجه ورمق السائق بعين حمراء ثم فجر قنبلته.

ايه قلت شنو؟

صحت فيه امشي يالله يا ابن العم الحكاية يسيطة.

تدحرجت العربة واختلط هدير موتورها بسباب الرجل البصلي ولعناته . وكأن السائق كان يعنينا بمواصلة الحديث الذي يشبه المنولوج حين قال : ناس ذي الحيوانات.

ثم سحب الحال علي البشر كلهم وما لبث يذم ويتنرفز حتي وقعت العربه في حفرة الشارع الرئيسية ثم وثبت كما تثب ضفدعة . ونقت فداس عليها سائقنا فرضخت وسارت قدما مزمجرة.
كأن ظهري من فرط قسوة العربة قد بدأ يؤلمني نظرت امامي حيث البنت التي طارت عصافيرها وتميمتها فاحرزت انهما اتخذتا شكل المقعد.لا تشعران بالوجع ولا ينزلق غضروفهما. واخيرا وصلنا. نزلت البنت وتميمتها ونزلت انا ثانية فلم اسمع صوت ارجلهما بيد ان وقع حوافري كان مسموعا للجميع. واوشكت ان اتحسس اذني هل طالتا؟! سارتا فسرت خلفهما، لا كعادة السودانين ، وكنت من انصار السير بالتوازي قبل رؤيتهما ولكن مشيتهما كانت ايقاع خواطري .
قلت لابد ان ينبثق الايقاع اولا. سارتا امامي موسيقي بالغة العذوبة وسرت لشدة اضطرابي اشترا.

وفجاة التفتتا جميلاً جدا ناحيتى وكان ثمة غضب ملون منقوش على نبيل وجهيهما
قالت الكبرى

- مالك مبارينا ؟؟

قلت: مقللا من وتائر فزعهما

- لا يا ابنة العم ، عندى مثلك . ولا اطارد الجمال بالبنادق فى الشوارع

>قالت: !! قديمة

> قلت : لا صدقينى . وكدت أن اقول ( عندى مثلك احبها وتحبنى ويحب ناقتها بعيرى الف مرة اجيئها غاضباً واخرج من عندها هاشا باشا كان لديها مصنع للفرح ، خرجت فى ذات يوم من لدنها مليئاً بها حتى غازلنى الناس فى الشوارع ).

أنسابت من حنجرة البنت التى طارت عصافيرها أنغام صافية مكان الضحك

ثم سكتت

وسكتُ
دار خاطرى فى ذكرى حبيبتى يا لها من عفريت .

تلك فتاة شديدة الاعتداد بنفسها . شديدة الوثوق بها . قالت : والصيف على اشده ونحن نرجع من حفلة موسيقية جدتى كان يغنى عليها السرور

قلت : اولئك مطربون اوقعهم شعراء المرحلة فى التهلكة فصاروا يتأوهون ويتأرجحون بانتظام

طرباً بمفعول لحن وكلمات هابطة قالت : كيف ؟؟

قلت : - شعرائهم كانهم قصابون ، يبيعون المرأة جزءا جزءا اذ يدنو الرجل من متجر فيه حنجرة تغنى وتصيح : نهد ،، نهد ،، وجنة .. وجنة فيقلب الرجل فى اجزاء المرأة ما طاب وتنبهه الحنجرة لجمال بعض الاجزاء الغائبة عليه ويخرج الرجل بعد ان يكون قد اشترى نهداً بالبصل أو خصراً بالجرجير ومن كان عنده ضيوف يشترى كفلاً

قالت حبيبتى : يخصنى ذلك كلام منك قبيح احشر لسانك خلف اسنانك ، هل نسيت ان بينهم خليل فرح ؟ فالقمتنى حجراً ولابد ان حالة سرحانى عاودتنى اذ ما ان التفت حتى لم اجد البنت التى طارت عصافيرها ولا لشقيقتها اثرً صنعت من حواسي مختبراً للتجسس على البنت وتميمتها الاذنان مايكروفونان والعينان كاميرتان والانف معمل كيميائى واللسان نشرة اخبار وكان المختبر يعمل بكامل طاقته لا كمصانع هذه الايام ، ثم ترصدت مثل فأر يترصد حركات عدوه التقليدي

 ، فيتفاداها ثم ان رادار البنت التقطنى

قالت :- وهى تركض خلفى وانا اوسع من خطواتى خوف ان تشتمنى

 عذبتنى ،، انت داير منى شنوياخ !؟؟

قلت : لاشئ سوى ان اراك .. اغنيك .. احلم بك ، لا دخل للاذى فى علاقتنا ، انه انجذاب وحيد الجانب فانا يعجبنى من هو مثلك ولكننى اشعر امامه بالدونية.


ضحكت مرة اخرى فسقط قلبي فى ثلج الرضا والفرح

سألت : شاعر ؟؟

قلت : يقولون .. ومن اخبرك بامرى؟؟

قالت : سمعنا

قلت : ومن معك حتى تخاطبين نفسك بضمير التعظيم؟؟ الا ان وجهك نور ، وصوتك نور ، وانت مرايا معلقة فى دموعى تضئ وابكى

قالت جميل كنت أسيئ فهمك الان حصحص الحق انت تعرف شباب هذة الايام تافهون ووقحون
قلت : بل اعرفهم ،، أنبشى تجدين نفيس المعادن ، المعادن لا توجد على السطح اصحابي اكثر من النمل ، غالبيتهم يَتفهمون ويَفهمون ويُفهمون ركضت البنت بفرح امامى ،، وكان قوامها يتماوج حتى اختفت ، ورن فى أذنى صليل جرسه العذب . وما انفكت صورة عينيها تضئ وتظلم فى دماغى ، وما برح وجهها يغذى ذاكرتى بالفرح طارت عصافيرها

طارت
طارت
طارت
وهكذا اصبحنا صديقين لشهر كامل استمرت مقابلتي ليها في الشارع العام نركض ، نضحك ونتحاور فلم اصل غورها وخفت ان تكون قد لامست سطحي. وذات اربعاء سألتها

- من تلك التي في يمينك ؟

- اختي اتوكأ عليها وتساعدني علي السير في الاسواق وتحفظني من شرور العربات.

قلت :تميمة؟

قالت: ماذا؟

قلت: رقية. تحفظك من شر العيون ،

ثم قلت لنفسي: (واذا المنية انشبت اظافرها الفيت كل تميمة لا تنفع).

وحدقت في وجه الجميلتين مليا،الصغري ذَبُلت وخارت قواها كما تخور قوي ثور الساقية لابد ان المشاوير قد اشاختها قبل الطفولة ركبت معهما كانت العيون فد بدأت تتطاير من اركان الحافلة كلها وهطلت في افخاذ ووجهي وعيون وجسدي البنتين وغمرتهما العيون التي تشبه المناشير الزجاجية

التفت ورائي وامامي الجميع محاجرهم كالملاحات الفارغة . طارت العيون عن الوجوه واصبحت في كل وجه حفرتان . ومنعت نظارتي الطبية عيني من الاقلاع والطيران وبما انني منحت حب استطلاع غامر ومتعة احصاء فذ، فقد وجدت ان بجسديها تسعة وتسعين عينا مستديرة وعجبت اول الامر للرقم الفردي والتفت ورائي فوجدت ان احدهم كان اعورًا. عدت للبيت غاضبا ونبشت اوراقي فوجدت ضالتي وصممت علي الرجوع في الحين. كان النهار قد انتصف. الشمس قائظة وانا مغتاظ ووجدت باب حافلة مفتوحا ككرش مرتش فدخات وكانت تلك الحافلة كمركب نوح. بها كل الوجوه. اشتات مجتمعات. فيها يسهل السهو والسرحان. وما ان جلست حتي اطلقت خيوليقوية السنابك من اصطبلاتها فرتعت في حقول خيالي وخيدعي.

كأن صوتي ضاع مني. كأنه سقط. تكالبت علي الهموم فلا عيني ولا عيون غيري ايقظتني.ِ اه مني القدح ابن الكرم، يملآونني بالشجن مكان الدخن واللبن واملآهم بالفرح مكان الحزن والبؤس فبئس مصيري، وبخ بخ لمصيرهم كأنني مصنوع لاستمرارهم وكأنهم مستمرون لشقائي. واه مني انا ابن النوم.ابن الانتظارات والمواعيد الكذوبات.

لي حبيبة في الذاكرة والمني فقط. مثلي يتمني مثلها. ومثلها لا يرضي بمثل من هو مثلي. فمثل من انا؟ يا بقرة

- قلت لنفسي يا وحشا. يا رجلا محشوا بالامراض، بالجراثيم، بالصعود، الهبوط. وبالتحولات والاهتزازات، تحيط به الباحثات عن سعادة فيسومهن سوط عذاب والباحثات عن صديق فيعاديهن، وتحيط به الائي طارت عصافيرهن ولا يحيط بشيء ومع ذلك فهو كما يدعي من قبيل يفهم، يعي، يشاكس، يتمرد. رجعت لحال بؤسي وانا مازلت في تلك الحافلة اللعينة فوجدت الناس من حولي تناطح. لا يترك رجل لامرأة من مقعد ولا تترك امرأة لرجل من لعنة قي قاموس فكان لابد من ان انزل قبل ان اصل للمحطة بغيتي فنزلت ورأيت قدامي قطارا من البشر، دفع به الفضول نحو المستشفي ولم يكن فضولي اقل كما ولا نوعا اطلاقا ولكنني كنت مكابرا. ركبن موجة الزحام بعد ان افرغت كل عبارات وتأوهات العجب… في شنو يا جماعة ؟ وتاهت عباراتي السؤالية في لجة عبارات مشابهة وجائتني تفسيرات شتي كل تفسير مستقل عن غيره ملم ببعض التفاصيل متجاهل لبعضها فما ذادتني اجابات المارة الا اندفاعا شديدا نحو الي الامام نجو مبعث حب الاستطلاع ثم كان ان انجرفت بفعل تلاطم الناس نحو الشيمة اكثر فاكثر حتي صرخت: دم! كأن موس حادة قطعت الاشعة عن عيني كأنني مت. مضرجة. مضرجة. خضابها الدماء الصدمة وخضاب تميمتها الدماء والفزع. وخضاب مثيلاتها الحناء. دم في ايديهما كقاتلتين وفي ارجلهما كمقتولتين. وفي مختلف انحائهما بحيث لا تعرف من اين ينبثق، قلت لنفسي حادث حركة ولابد.

صرخ رجل ذو وجه مستدير منفعل:- لا قلت صامتا ماذا اذن ثم استدرت مع جملة المبحلقين قبالة وحه شاب هادئ الصوت حين قال:- مانتا في الشاطئ. منكفئتان هكذا وفاقدتا للوعي وجدهما رجل بدين ذهب الان لقسم الشرطة قلت صامتا: حادث حركة لابد. صرخ جاري الذي تصادف ان كان ضمن دائرة المشاهدين:

 يا راجل انت مجنون؟ حادث حركة في الشاطئ يعني صدمتهن مركب؟ واللا نطت سمكة من البحر ضربنتهن؟ قلت لنفسي حادث حركة ولابد. ثم استدرت نحو الشارع العريض مؤذنا صارخا ضاحكا وخطيبا

_لا لا لا لا طارت عصافيرها طارت عصافيرها طارت عصافير

_هاطارت عصافير هاطارت عصافيرها طارت طارت.

تلفت بعض السابلة وهزوا رؤوسهم ثم تلفتوا من باب التأميد علي كون اني مجنون ومضوا في حال سبيلهم

طارت … طارت … طارت

اوقف رجل عربته. كان ممتلئ الاوداج بالضحك وسألني: طارت ماذا؟

> فقلت: عصافيرها

ضحك حتي ارتج الاسفلت وحتي انبعجت العربة واطلقت ريحا ثم اداء المحرك واختفي…_

>طارت … طارت … طارت..

_ هل؟ لابد ان قوة ما ذهبت بهما الي ذلك المكان.. لابد ان حيلة ما. ارأيت الفزع والخوف علي

جهيهما؟ فزع التميمة وصدمة البنت التي طارت عصافيرها.

- لا_ حطت.. حطت.. حطت..

رأيت قدامي جمهرة وخلفت ورائي جمهرة كلهم ينظرون الي كأنني مرتكب الحادث كدت اصرخ فيهم طارت! ولكنني وجدت السفلت ممتدا امامي فمشيت ومشيت ومشيت ومشيت، ذلك الظهر الكئيب. لا منبع حلمي وصلت ولا دارنا، النهر اقرب وعيون الحبيبات اكثر امنا، فلا اذهب لهذا عسي ان اغتسل ولتلك عسي ان اتوسد سوادها وانام في متن بياضها ملء جفوني وليسهر الخلق وليختصم ما شاء له طالما ان عصافير برية بريئة حصبوها بالحجارة والرغبات المتمركزة حول ذاتها فحطت بمكان قبيح، قسرا في بقعة مليئة بالقسر والاكراه.


**-**

المصدر/الانطولوجيا

http://alantologia.com/blogs/1256/

الأربعاء، 11 مارس 2020

كيف تؤلف كتاباً في 6 خطوات

 


الكتابة بحد ذاتها هي تعبير عن خبراتك وقراءاتك وكل ما تعرفه، وهذا التعبير قد يختلف من شخص لآخر، فمنا من يكتفي بنشر كتابات قصيرة على صورة منشورات على فيسبوك وتويتر، ومنا من لديه مدونة يصب فيها كل ما يتعلمه، ويوجد أيضاً الخبراء أصحاب الكتب.

لكن ربما لا تعلم أنه مهما كان مستوى خبرتك في شيء ما فإنك تستطيع من خلال الكتابة أن تستفيد وتفيد الآخرين بما تعلمته، الكتابة أيضاً ليس لها شروط فقد تكتب في أي موضوع أنت مهتم به، لكن كلما ركزت في موضوع معين وأخرجت كل خبراتك فيه كان هذا أفضل لك ولقرائك.

لتبدأ كل يوم باقتطاع بعض الوقت للعمل على كتاب إلكتروني تبيعه، تفيد به الآخرين، وتشارك الآخرين خبراتك وأفكارك. هذه بعض الخطوات والنصائح الجيدة التي يمكنك إتباعها للعمل على كتابك الأول.

 

كيف تؤلف كتاباً؟

 الخطوة الأولى: الصورة المجملة للكتاب

تخيل أنك تريد أن تبنى قلعة، الخطوة الأولى هي عمل التصميم المجمل للقلعة هل هو كبير أم صغير؟ ما شكله من الداخل ومن الخارج؟ تكوين الصورة المجملة دون تفاصيل، كذلك كتابك؛ يجب أن تحدد صورة مجملة عن هدف كتابك وما الموضوع الذي ستكتب عنه وما حجم الكتاب، هذه الخطوة هي الأهم والتي سيترتب عليها الخطوات التالية.

يمكنك إنجاز هذه الخطوة ببعض العصف الذهني، كأن تسأل نفسك ما هو الموضوع الذي تحترفه أو تجيده ويمكنك الكتابة عنه وتفصيله، إذا كنت كتبت مقالا سابقا عن موضوع معين ووجدت أنه يحتاج لسلسلة مقالات لكى تستفيض في الشرح، وهكذا إلى أن تصل لصورة مجملة وفكرة جيدة تبدأ بها.

 

الخطوة الثانية: التخطيط وتقسيم الكتاب لفصول

هنا ستبدأ التخطيط لكتابك على أساس الرؤية الواضحة الناتجة من الخطوة السابقة، يمكنك استخدام الخرائط الذهنية في هذه الخطوة، أكتب عنوان الكتاب في المنتصف وأخرج الفروع والتقسيمات منه مع عنونة كل فصل، ثم قم بترتيب فصولك على حسب الأولوية وأهميته عند القارئ. حدد وقتاً معيناً للانتهاء من كل فصل وجدولا زمنيا للكتاب ككل، وخذ كل فصل على حدا وأكتب العناصر التي تريد أن يفهمها القارئ، وإذا كانت معرفتك ضعيفة في بعض الفصول فاجمع بعض المصادر لتساعدك مع الإشارة إليها في آخر الكتاب، والانتباه للحقوق الفكرية والملكية لأصحابها.

 

الخطوة الثالثة: البدء بالعمل والالتزام بالجدول الزمني

ستبدأ الآن بالعمل على كتابك الأول ويتطلب منك ذلك التزاماً كاملاً لما خططت له سابقاً، كلما وجدت نفسك تستطرد بالكتابة والخروج عن المضمون والإطار الذي رسمته لكتابك عد لمراجعة الرؤية الأولية للكتاب والعناصر التي حددتها لكل فصل، ربما تأتي لك أفكار جيدة لوضعها بكتابك كحال معظم الكتاب فلا تضيعها أو تتجاهلها، فقط دوّنها في مفكرتك وبعد الانتهاء من الكتاب انظر أي من هذه الأفكار مناسبة ليتضمنها الكتاب بعيداً عن الحشو.

 

الخطوة الرابعة: التصميم والتنسيق

بعد الانتهاء من العمل يأتي وقت بعض الفنيات المهمة كالاهتمام بالتصميم وتنسيق الكتاب، التصميم يجب أن يكون بسيطا ومعبرا عن محتوى الكتاب، والتصميم يشمل غلاف الكتاب والمقدمة والنهاية بالإضافة إلى الفهرس وسهولة الوصول لأي فصل والتنقل بين أجزائه.

تنسيق النص المكتوب أيضاً من الأشياء التي يجب الاهتمام بها، كنوع الخطوط والعناوين، وهل يجب الالتزام بقوانين معينة لها، وعليك أيضاً تحديد أماكن الصور والروابط إذا وجدت في هذه الخطوة.

 

الخطوة الخامسة: مراجعة الكتاب

بعد الانتهاء من كتابة الفصول والتنسيق والتصميم ووضع جميع أفكارك به تأتي خطوة أساسية وهي مراجعة العمل النهائي، وربما تستعين ببعض أصدقائك المهتمين بموضوع الكتاب لإهدائهم النسخ الأولية وسماع آرائهم عنه، وبعد تجميع تلك المعلومات يمكنك الآن أن تقرأ كتابك الأول بعين القارئ لا عين الكاتب، بعد انتهائك من القراءة قد تجد بعض الملحوظات المهمة دونها واجمعها مع ملاحظات أصدقائك وادرسها جيداً ثم قم بتقييمها حسب الأهمية، ويجب دراسة هذه الملاحظات بدقة وبتروي حتى لا تشوه الصورة النهائية للكتاب، ثم بعد تصحيح بعض الأخطاء وإكمال النواقص أنت الآن قد أنجزت كتابك الأول.

 

الخطوة السادسة: التسويق والنشر

هذه الخطوة ترتبط بشكل أو بآخر بالخطوة الأولى والتي يجب أن تكون قد حددت فيها الفئة المستهدفة من القراء، وأين يمكنك نشر كتابك أو بيعه، ولكن الآن فقد قطعت الشوط الأكبر باهتمامك بجودة المحتوى والصورة النهائية للكتاب.

الباقي هو أن تختار مكانا معينا لبيع كتابك، ويفضل أن تكون جهة البيع واحدة لكى لا تشتت نفسك وعملاءك بكثرة الروابط، يمكنك أن تكتب تدوينة في موقعك عن الكتاب وصورة مجملة عن المحتوى لتشجيع القراء، يمكنك أيضاً إذا كنت تعرف بعض الكتّاب الجيدين أن تعطيهم بعض النسخ لقراءتها وتقييمها، وإذا كان كتابك جيداً يلبي حاجة لدى القراء فإن الكتّاب أنفسهم ربما يكتبون عنه في مواقعهم.


الآن انتهيت من كتابك الأول لذا فلا تتوقع نجاحاً عظيماً ولا سقوطاً كبيراً، كل ما عليك هو الاستعداد لكتابة كتابك الثاني والثالث وهكذا، والاستفادة من تجاربك وآراء قرائك عن الكتاب الأول ويمكنك بعد فترة إصدار النسخة الثانية بعد التنقيح والإضافات.

 

**-**

لقراءة المقال من مصدره: 

https://blog.khamsat.com/how-to-make-your-first-ebook/  

السبت، 7 مارس 2020

قِصَّة قَصِيرة: بحيرة بحجم ثمرة الباباي

بقلماستيلا قايتانو



كل شيءٍ فيها كان يذكرني بشجرة الباباي المنتصبة في فناء بيتنا الواسع .. طولها الفارع ، ووقفتها المستقيمة رغم شيخوختها.

لا ألمس في جدتي أي جماليات، كنت أراها قبيحة جداً مثل الغوريلا، شفتاها غليظتان ، رأسها كبير يصلح للجلوس دون أي متاعب .. كان يزين شفتها السفلى ثقب هائل تسده بقطعةٍ من الخشب نحتتها لتكون صالحة لهذا الغرض. عندما تخرج تلك القطعة فإن لعابها يسيل عبره. أشهر شيءٍ قبيحٍ فيها أنفها الأفطس، عندما تسمع تعليقاً عن فطاسة أنفها كانت تقول دون أيّ جهدٍ في التفكير:

-         يكفي أنني اتنفس به..

كنت أرى الأفق عبر ثقب أذنها الهائل أيضاً .. الذي أخذ مساحةً كبيرةً من حلمة الأذن ، و هناك أيضاً ثقبَ في أنفها الأفطس ثم تبرز مساحةَ كبيرةَ من لثتها في الفك الأسفل نتيجة لقلع أربعة أسنان .. أما عيناها فكانتا حمراوتان تجثم فوقهما جفونَ منتفخة.

الشيء الذي عرفته عن جدتي أن لها مقدرة فائقة في تحمل الألم .. ذات يومٍ ذهبت تقضي حاجتها في العراء، عندما عادت تحك كعبها الذي أخذ يتورم شيئاً فشيئاً دون أن يبدو عليها الألم، سألتها في براءةٍ عما بها فقالت:

-         يبدو أن أفعى لدغتني، ثم أخذت مشرطاً وفصدت اللدغة كانها تفصد شخصاً آخر أو كان المشرط يصنع أخاديده المؤلمة في جسم غير جسمها..

ازددت اضطراباً و انا أرى دماً أسود يخرج من تلك الأخاديد .. ليصنع بركةً سوداء .. بركة بلون سمّ ودم ، ثم أخذت ترياقاً مثل حجرٍ أبيض اللون و سحقته بقسوة.. ثم أخذت تملأ تلك الأخاديد بالحجارة الصغيرة ذات الأثر الحارق في الجروح .. حدث كل ذلك و أنا أبحث عن أثرٍ للألم بين خلجاتها .. فجأة نظرت إليّ .. كنت منكمشةً فازددت انكماشاً .. خفت .. أردت الهرب .. و أنا أتذرع بأعذارٍ واهية لأنهض من قربها لأني أعرف عادتها ، إذا أخذت دواء .. أياً كان نوعه فإنها كانت ترغمني على أخذه خوفاً من انتقال العدوى إليّ ، فشلت في الهرب لأنها كانت قد أطبقت قبضتها الفولاذية على معصمي .. و بالمشرط صنعت خطين على ظهر يدي و كذا على قدمي ، لم تعطني حتى فرصةً للصراخ ، أحسست بألمٍ يتسلل عبر دمي ثم قطرات من الدم تنساب عبر الفتحات الثماني .. أخذت الترياق و دعكته بنفس القسوة .. كأنها تريد إدخال تلك القطع الصغيرة عبر أوردتي ، و قالت راطنة وهي تمارس قسوتها عليّ بصوتها الذي بالكاد يشبه صوت النساء:

-         هكذا حتى لا تجرؤ تلك الحبائل المتحركة على لدغك .. إذا رأتك إحداها فإنها لا تقوى على الحراك حتى تذهبي مبتعدة

و هذا ما يحدث دائماً عندما أكون و حدي أو معها .. و منذ ذلك اليوم لم تلدغ أفعى أياً منا رغم أنها كانت تتحرك في كل مكان، حتى في فناء بيتنا الواسع المليئ بالأشجار و الخضروات و شجرة الباباي ذات الأثداء الكثر و الكبيرة .

كانت غرفتنا من القش ذات جدارٍ دائري وبابٍ قصير بحيث يركع من أراد الدخول فيها على ركبتيه ، و عندما تدخل تلاقيك ثلاثة مدرجات لتنزل إلي عمق الغرفة فترى سقفاً مخروطياً بعيداً ، فتصعب عليك المقارنة بين خارج وداخل الغرفة .. وهناك في نهاية البيت حظيرة تضم أكثر من ثلاثين بقرة ، فتزدحم في فتحتي أنفك روائح الروث و الفواكه والخضروات .. ورائحة جدتي ..
كنا أنا وهي ، في كل هذا الصخب ، عائلةَ تتكون من  جدة وحفيدة .. توفيت أمي و هي تلدني .. وتوفى أبي في رحلةِ صيدٍ عندما سحقته جاموسةَ هائجةَ بقرونها ، أما جدي فقد أعدم عندما قتل أحد الإنجليز ممزقاً نحره بالرمح لأن نظرات الإنجليزي لم ترق له .. بقيت مع جدتي منذ عمر يوم ، أرضعتني حتى العاشرة من عمري .. كان ثدياها مثل ثمرة الباباي في الضخامة و ما تحوي من لبنٍ طازجٍ ذي طعمٍ غير مفهوم و لكنه جميل ، كنت أرضع قبل الذهاب بالأبقار إلي المرعى ، و بعد أن أعود فلا أشتاق إلا لثمرة الباباي الموجودة على صدر جدتي .. كنت حينها في الثامنة من عمري ، حضرت ذات يومٍ و لم أجدها في البيت .. أدخلت الأبقار في الحظيرة و أنا أناديها مراتٍ و لكن لم تجب .. أعماني إدماني عن رؤية أي شيئ و ناديتها بأعلى صوتي فردت عليّ من بيت جارتنا التي كان يفصل بيننا وبينها جدارَ من البوص و الأخشاب :

-          نعم .. هل حضرتِ يا ابنتي؟

رأتني في حالةٍ عصبيةٍ و الدموع واقفةَ على جفوني و أنا أقول لها في صوتٍ مخنوقٍ بالعبرة و الغضب:

- أسرعي أريد أن أرضع.

قلتها في صوتٍ حازمٍ و في غيظ ، فتأتي و تجلس على الحصير ، أتناول ثديها في نهمٍ و لهفةٍ غريبين ، متجاهلة تعليق جارتنا و هي تضحك علينا و تؤنب جدتي على كيفية نهمي على الرضاعة و أنا في هذا العمر المتأخر.

لم تكن جدتي ترتدي أي شيئٍ سوى جزءٍ ضئيلٍ من الجلد مكون من قطعتين ، معلق بحبل جلدي لفته تحت السرة يتدلى من الأمام و من الخلف ساتراً عورتيها ، أنا حتى ذلك العمر كنت أتساءل لم تضع جدتي تلك الفروة في هذه المواضع .. لم لا تكون مثلي؟

عندما بلغت العاشرة من عمري حدثت تغيرات أثرت على مجرى حياتي ، صنعت لي جدتي شريحتين من الجلد لأغطي المواضع التي تسترها هي .. و منعتني من الرضاعة .. كانت أياماً صعبة ، كنت لا أنام الليل أشعر بلهفةٍ عارمة لأرضع كما أشعر بنفس الرغبة لأتعرى ، عشت أساماً لأتخلص من هذه المشاعر المخجلة ، كنت أعود إليها كلما سنحت لي فرصة ، مثلاً عندما تسكر جدتي بذلك الخمر البلدي مع صديقاتها العجائز ، كانت لا تدري من الدنيا شيئاً و لكنها كانت تتعبني جداً ، خاصة بعد ذهاب صديقاتها من بعد صخب من الرقص والغناء الفاتر ، كانت تتكلم مع الموتى ، مثلاً كانت تقول لأمي : أنتِ يا ربيكا يا ابنتي .. لولا خوفك من الولادة و ربطك للولادة بالموت لما مت .. و أنت يا ماريو فقد قتلك التحدي رغم خوفك ، أما أنت يا زوجي العزيز فقد قتلك جهلك ، ثم تلتفت إليّ قائلة و قد التوى لسانها في الحديث و عيونها أكثر احمراراً و جفونها متورمة لدرجة الانفجار ، وهي تحرك تلك القطعة الخشبية التي أصبحت جزءاً من شفتها المترهلة أكثر مما ينبغي بلسانها المتحرك في قلق:

-         أتعلمين قصة موت جدك؟

-         لا ياجدتي

رغم أنني كنت أعرف القصة و أحفظها عن ظهر قلب ، إلا أن ردي لا يعني لها شيئاً سواء كان بلا أو نعم ، لأنها كانت ستسردها في الحالتين .. ثقل لسانها و أخذت الكلمات تخرج ملتويةً و مقطوعة ، كنت أسمعها كأنها محشورة في قلةِ كبيرة فيخرج صوتها بعيداً .. قوياً .. ومشوشاً .
لقد قتل جدك أحد الإنجليز في زمن الاستعمار فحكمت عليه المحكمة بالاعدام و هو لا يدري ذلك ، كُتب الحكم في ورقة .. و كان عليه أن يقطع مسافة كبيرة لتنفيذ الحكم في مكانِ آخر .. كان جدك الغبي سعيداً لأن الانجليز أعطوه ورقة و قالوا له إذهب سوف يلقاك أناس هناك .. أعطهم هذه الورقة .. حمل الرسالة وقد حشرها بين شقي عودِ من البوص حتى لا تتسخ .
فصنع لنفسه رايةً صغيرة وهو لا يدري أنها راية موته ، و عندما وصل .. نُفذ الحكم فمات و الدهشة مرتسمة على و جهه الغبيَ ..

ثم تضحك في هستيريا و تعيد القصة مرة أخرى بعد السؤال ذاته ، و بعد دهر من الكلمات و الجمل الملتوية .. ثم تباعد بين الجمل .. و تباعد بين الكلمات .. يليه تباعد بين الحروف .. ثم صمت و انفاس ثقيلة و شخير مزعج يضج في انحاء بيتنا الواسع بعد أن تبكي على موتاها بنفس هستيريا ضحكها حتى تنحدر الدموع على صدرها.

كنت أفرح ويرقص قلبي طرباً ، لأني سأمارس أشيائي التي حرمت منها دون أن اواجه عيوناً حمراء أو صوتاً رجالياً يأمرني بالابتعاد .. أنزع ذلك الغطاء الجلدي الساخن و ألقيه في أبعد مكان ، أقترب من جدتي التي نامت ملقاة أطرافها في كل مكان .. حتى الشريحتان لا تفلحان في تغطية شيئ من جسمها الضخم الممدد على أرضية غرفتنا العميقة .. أتناول ثديها و أشرع في ممارسة رضاعتي في نهم محموم ، عندما امس حلمتها للوهلة الأولى أتذوق طعماً مالحاً ، طعم دموعها .. رغم قبحها لم اكن أتقزز منها فأنا احبها ، أستمر في تلك الحالة و أنا أسمع صوت الرعد بالخارج و أمطاراً غزيرة تضرب السقف المصنوع من القش في إصرارٍ ثائر ، أتجاهل كل هذا الصخب .. صخب الطبيعة المفاجئة ، لأعيش عالمي ، عالم يتكون من بحيرة في حجم ثمرة الباباي ، بحيرة غزتها الشيخوخة فنضبت و ترهلت حتى وصلت السرة.

ذات يوم و أنا أسير خلفها في طريقنا لجلب الماء من النهر ، و نحن نتخذ شريطاً من الطريق الذي صنعته أقدام البشر بين الحشائش التي تغطي نصفنا الأسفل ، بلغت حينها الخامسة عشر من عمري ، كانت تضع قلةً كبيرةً سوداء على رأسها ممسكة بها بيدها اليسرى فيظهر شعر ابطها الأحمر الذي احترق بالعرق ، و أنا ارى الأفق عبر ثقب أذنها ، و أعد خطوط الشيخوخة التي أصبحت واضحة في مشيتها السريعة المتعثرة ، و ترهل بطنها و ثدييها الذان عندما يصطدمان بالبطن يصدران صوتاً كالتصفيق في حالتي المشي و الرقص.

كانت كغير عادتها هائمة صامتة ، كنت أحاول اللحاق بها بين حين و آخر بهرولة خفيفة ، فجأة توقفت لأنَ هناك أفعى ملونة ترفرف حولها فراشاتَ تحمل ذات الألوان الطفيفة ، اندهشت لذلك و قلت مازحة : منذ متى تقف جدتي لرؤيتها أفعى؟ قالت بعد أن تنهدت بعمقٍ ولأول مرة ألمح خوفاً مخلوطاً بالحزن قد جثم على أخاديد و جهها الكثيرة و العميقة ، قالت: هذه الأفعى نذير شؤم .. تابعنا سيرنا دون أن نتحدث ، قالت جدتي بعد أن فقدتُ الأمل في أن تتحدث:

-         أتعلمين أني رأيت جدك قبل أيام؟

-         في الحلم؟

-         لا .. بل في الواقع

-          لكن ياجدتي .. جدي قد مات كيف ترينه مرة أخرى؟

-         رأيته في صورة تمساح ..

ضحكتُ و لكنني سرعان ما صمتّ عندما رأيت الجدية على وجهها .

-         وكيف عرفتِ أنه جدي؟

-     من تلك العرجة التي كان مشهوراً بها و صفات أخرى أعرفها أنا فقط
عرفت أننا لا نموت بل نتحول إلي أشياء أخرى تحمل الصفات التي كنا عليها ، نتحول و لكن دون ذاكرة فجدك لا يذكرني عندما تحول إلي تمساح.

-         و ماذا تريد أن تكون جدتي بعد عمر طويل؟

-         لا أدري إلي ماذا سأتحول ، و لكني أتمنى أن أتحول إلي نسر.

و منذ ان ماتت جدتي و علاقتي بالنسور قوية، كلما ألمح واحداً أتأمله في تحليقه عسى أن أجد بعض صفات جدتي ، ثدياً بحجم ثمرة الباباي .. عيوناً حمراء .. جفوناً منتفخة .. أو لبناً بطعم الملح..



**-**

 المصدر/ الانطولوجيا: http://alantologia.com/blogs/1227/