في 18 سبتمبر 1920 أبصرت الأديبة (ملكة الدار) النور في حي القبة بمدينة الأبيض حاضرة كردفان، تلك المدينة الوديعة التي أحبها الكثيرون فأطلقوا عليها تحببا اسم (عروس الرمال) نظرا لكثبانها الرملية الساحرة التي تحيط بها. في هذا الحي الذي يعتبر أحد أشهر أحياء المدينة حيث يقع ضريح الشيخ إسماعيل الولي مؤسس الطريقة الإسماعيلية، نشأت الطفلة (ملكة الدار) وأذانها مشّنفة بترانيم المدائح النبوية وحلقات الجذب الصوفية التي كانت تفعل فعلها في الحضور فاكتسبت في لا وعيها شيء من تلك الجذوة حيث الاستغراق والتأمل. لقد قادها ذلك لاحقا إلى التطلع إلى معرفة كنه الأشياء وغرس فيها حب التعلم والتعليم ، ساعدها على ذلك والدها الذي لم يكن لحسن حظها رجلا متزمتا بل كان رجلا مستنيرا ، حفظ القرآن وأدرك شيئا من علوم النحو واللغة فعلم أن في ابنته نباهة وطموحا فشجعها على التعليم في وقت كان ذلك امرا عصيا بل غير مستحب بأن ترسل الأسر فتياتها إلى المدارس في ذلك الزمان أي في النصف الثاني من عشرينات القرن الماضي، شيء أشبه ما يكون بالسباحة عكس التيار، لكن الأب آزر ابنته وحقق رغبتها، فالتحقت بداية بخلوة الشيخ إسماعيل الولي لحفظ القرآن ثم مدرسة الأبيض الأولية ثم التحقت بكلية المعلمات بأمدرمان لتبدأ حياتها العملية مدرسة للبنات، ثم استطاعت بمجهوداتها الخاصة من أن تحسّن من لغتها الإنكليزية من خلال المراسلة ثم إتقانها لها عبر التخاطب والتخالط مع المعلمات الإنكليزيات اللائي كن يعملن في مدارس الأبيض يومها .
في حقبة الأربعينات
بدأت تتكشف موهبة (ملكة الدار) في الكتابة الأدبية خاصة في مجال القصة القصيرة
كنتاج طبيعي لاهتمامها وشغفها بالأدب وقراءة القصص والادب العربي بشكل عام، لتكون
لها الريادة في هذا المجال كأول قاصة سودانية، في تاريخ ليس ببعيد عن (معاوية
محمد نور) صاحب أول قصة قصيرة مكتملة في بنائها الفني بحسب دكتور / مختار
عجوبة وهي قصة (إبن عمه) التي نشرت في السياسة الأسبوعية في مايو 1930 والتي
أتبعها بقصة (إيمان) التي نشرت في ذات الجريدة في سبتمبر من نفس العام.
في فترة الأربعينات ومع
زخم الحراك الذي أفضى إلى ظهور نواة أول إتحاد نسائي، تدفع (ملكة الدار) بإنتاجها
الأدبي إلى القراء، مجموعة قصصية كتبت بأسلوب شيق وسلس يثبت أن في نفس هذا العمل
روح أديب اريب . تقدم (ملكة الدار) ثلاثيتها : (حكيم القرية) ، (المجنونة) ، (متى
تعودين ).
تفوز (حكيم القريـة)
بجائـزة مسابقة الإذاعة السودانية للقصة القصيرة عام 1947، قصة تنقل في سرد شيق صراع
الثنائيات : العلم والخرافة، الخير والشر والنهاية التي ينبغي أن تكون أي انتصار
العلم والخير، بينما تفوز قصتها الثالثة بالمرتبة الثانية في مسابقة ركن السودان
من القاهرة في وقت لاحق ، غير أنه حري بالقول هنا أن إرهاصات موهبة (ملكة الدار)
الأدبية بدأت قبل ذلك بمقالاتها النقدية الرائعة التي كانت تنشرها على صفحات جريدة
(كردفان) التي يرأسها الفاتح النور . إن موهبة (ملكة الدار) لم تكن يوما موضع شك
فقد أثنى عليها أساتذة أجلاء أمثال الراحلين: محمد عبد القادر كرف ومصطفى شرف
وأمنّوا على امتلاكها ناصية اللغة وعلى إمكانياتها الفنية في الحبكة الروائية ،
إضافة إلى أسلوبها الشيق في السرد وإيراد الصور الفنية المحكمة.
في المقابل وبفضل تنقلها في عملها في كثير من أرجاء السودان: سنجة في
النيل الأزرق ، كسلا في الشرق ، مدني في الوسط ، أمدرمان العاصمة الوطنية، ثم
الدلنج في الغرب ، استطاعت (ملكة الدار) أن تقترب أكثر وأكثر من تفاصيل المجتمع
وأن تفجر طاقاتها المكبوتة من خلال اقتحامها العمل الاجتماعي فأقامت الندوات
والمحاضرات عن العادات والممارسات السيئة في المجتمع السوداني مثل الخفاض الفرعوني
والشلوخ وغيرها ، مبصّرة الناس بأضرارها ونتائجها الكارثية ، فاكتسبت لقاء ذلك
أرضية صلبة ومؤيدون كثر ، خاصة وأنها كانت تخاطب الناس بلغة سهلة مفهومة دون استعلاء
أو صفوية فكان أن ساهمت بشكل أو بأخر في خلق الوعي بين نساء ذلك الزمان. لقد
ساعدها ذلك الاقتراب والالتحام مع مجتمعها من أن يتشكل في ذهنها روايتها القادمة.
(الفراغ العريض)
رواية استوفت كل الشروط والمعايير التي تجعل منها رواية كاملة ومع أن الرواية
تنتمي في ذاتها إلى جنس السير الذاتية ، إلا أنها استطاعت بمهارة ومن خلال السرد
بضمير المتكلم والمخاطب والغائب أن تقدم نوعا راقيا من الحكي المتعدد الأصوات ،
تناولت فيه الوضع الاجتماعي للمرأة في ذلك الزمان والقيود التي كبلتها والعقبات
التي كانت تواجهها ولا حاجة هنا للقول بإن هذه الرواية قد سبقت بها (ملكة الدار)
روادا للقصة والرواية من الرجال امثال (أبوبكر خالد : بداية الربيع ) و (خليل
عبد الله الحاج : إنهم بشر) الذين صدرت أعمالهم في النصف الثاني من الخمسينات
. هنا المقطع الأخير من خاتمة الرواية:
(ومادت الأرض تحت
قدميها فاستندت إلى الجدار السميك وأحست بعزلة قاتلة وحاجة شديدة للبكاء بل للصراخ،
ودت لو تصرخ وتمــلأ الدنيا صراخا فلم تستطع وأرادت أن تجري وراء العربة في الشارع
ولكن قدميها مسمرتان إلى الأرض وهي مشدودة إلى الجدار وبعد لأي وقد تقدم الليل، استطاعت
أن تتحرك وأخذت تسير في اتجاه بيتها بخطى مضطربة والدنيا مظلمة في وجهها والمرئيات
تدور أمام بصرها وتدور ونفسها كسيرة وقلبها مجروح والفراغ عريض) ص 200 .
في تناوله للرواية
يقول محمد الفاتح أبوعاقله في مدونته (مطر وقوس مطر):
(عندما تقرأ هذا النص
تقف شخوص الرواية أمامك بكل مكنوناتها ولا يكون دورك سالبا بل تقوم بردم الفجوات
والمشاركة في تخلق تلك الشخوص استنباطا وكشفا) ثم يواصل (لقد وظفت ملكة الدار محمد
اللغة في رواية الفراغ العريض توظيفا جماليا وتمكنت من المزاوجة ما بين المحكي
اليومي والالفاظ المعجمية المدرسية الفصحى في سبك من السرد السهل الميسور دون
معاظلة وتعقير). لقد قدمت (ملكة الدار) نموذجا فريدا مخالفا لكل التوقعات فقد كان
الفهم السائد يومها أن المرأة لا تستطيع أن تسهم في رفد العمل الثقافي لما تمر به
من ضغوط اجتماعية عصية لكنها خيبت ظن هؤلاء ومن راهن على ذلك الخيار.
يختتم (أبوعاقله)
تناوله للرواية بالقول بأنها لم تجد حظها من البحث والمناقشة والمدارسة وأن الحكم
عليها لم يتعد قوالب النقد الجاهزة بناء على فرضية الحقب التاريخية التي لا ترى في
القديم ما يشي بملمح من التكنيك الذي يمكن أن ينسب إلى الراهن من التاريخ .
إن قصص (ملكة الدار) في الأربعينات وروايتها (الفراغ العريض) في
أوائل الخمسينات تضعها في الواقع ضمن أول عشرة رائدات كتبن القصة والرواية على
مستوى العالم العربي ، مع العلم أن التوثيق للقصة والرواية العربية النسائية عموما
يبدو غامضا وفيه كثير من الالتباس فهناك العديد من الأسماء التي برزت ضمن السياق
التاريخي لهذا النوع من الأدب دون أن يتم التعرض لأعمالها أو التحقق من تواريخ
ظهورها ومن هذه الأسماء : زينب فواز، عفيفة كرم ، لطيفه الهاشم
وغيرهن ولكن مع وضع هؤلاء في الاعتبار فإن (ملكة الدار) ليست بعيدة بأي حال عن هذه
اللائحة الشرفية. صحيح أن إنتاج (ملكة الدار) لم يكن غزيرا لكنه أسس لتاريخ القصة
والرواية في هذا البلد ومهّد الطريق لشيوع هذا النوع من الأدب فكان أن جاء – وإن
كان من بعد غياب-روائيات حملن الراية وأبلين بلاء حســنا أمثال: زينب بليل،
بثينة خضر، نائله فزع وأخريات ربما لا تستحضرهن الذاكرة الآن .
لقد كان إيمان (ملكة الدار) بالأدب كقضية إيمانا عميقا بحيث أنها ظلت
وفية لخدمته في كل محفل وقد قادها حبها للأدب إلى ارتياد الندوة الأدبية التي
أسسها الراحل (عبد الله حامد الأمين) وهي الندوة التي كان يرتادها النخبة من
الادباء والشعراء في ذلك الزمان حيث كانت محل الاحترام والتبجيل من الجميع. هنا
صورة تقريبية رسمتها إحدى تلاميذتها للمعلمة (ملكة الدار) . تقول بدور عبد المنعم
( ورغما عني يقفز إلى الخاطر وجه داكن السمرة تطل منه عينان ما أن تنظر اليهما
برهة حتى يعتريك إحساس غريب هو مزيج من الشفافية ورهافة الحس والطمأنينة ، إنها
المعلمة الأولى – ملكة الدار محمد – التي أرضعتني ورفيقاتي عشق اللغة العربية شعرا
ونثرا ) .
إن موهبة (ملكة
الدار) لم تقف عند كتابة القصة والرواية بل كانت لديها مواهب أخرى مثل تلحين
الأناشيد المدرسية بجانب حبها للغناء، كما أن الكثيرين قد لا يعلمون بأنها كانت
عازفة بارعة على البيانو والمزمار في وقت كان من الصعب فيه إن لم يكن من النادر
العثور على آلة مثل البيانو في ذلك الزمان ناهيك عن التعلم والعزف عليه. لقد ترقت
(ملكة الدار) في عملها حتى وصلت درجة (مفتش تعليم) واستمرت في نشاطها العملي
والأدبي حتى توفيت في 17 نوفمبر 1969، مخلفة وراءها عملا أدبيا ثمينا وضعت به
بصمتها على دفتر الأدب السوداني، أمر يستحث الجهات المعنية إلى تبني جمع وإعادة
طباعة جميع أعمالها القصصية والروائية والنقدية في مجلد واحد حتى يسهل الرجوع إليه
وإتاحة الفرصة للأجيال القادمة للتعرف عن كثب على أعمال هذه الرائدة الرائعة التي
تفوقت في مجالي القصة والرواية.
***-***
نُشر في مجلة جنى،
لقراءة المقال من مصدره: